يكتب القاص العراقي عن مشاهد متعددة على شاطئ البحر تتخللها مشاعر وأحاسيس وهواجس متباينة ومتداخلة. ولا يمثل عدم فهم اللغة عائقا فحضور الجسد هنا أبجدية متاحة لمن يحسن التأمل والتفاعل مع ما يراه.

أغاني البحر

محمود سعيد

التفت إلى اليمين. من خلال النّظارات الشّمسية رأى التّاريخ. رقعة بخط يد أرجواني. فسفوريّ كبير:
(نهائي كأس العالم اليوم.11 تموز. 2010) حتى على الشّاطئ يطفح الفرح بمتعة مشاهدة اللعبة. أينما يلتفت. يرى رقعة مشابهة. يأتي المستحمّون. يغادرون. ينظرون إلى الرّقعة. يبتسمون. يتكلمون اللّغة التي لم يفكّ مغاليقها بعد. لكنّه يفهم معنى ابتساماتهم. وأي متعة تنتظرهم. نعم هذا اليوم. في الثّامنة مساءً ستكون اللعبة الأخيرة لكأس العالم. يستمتعون. يرقصون. يستحمون. تجري الحياة. لا يسطيع أحدٌ إيقاف دواليبها قطّ. مشرب. ملهىً. صداقات. عرب. أجانب. شاشة تلفزيون. كتب. سينما. مقاهٍ. أجمل ما في حياة الهارب من جحيم العراق مقهىً منعزل على شاطئ بحر مزدحم. نظارات شمسيّة. سروال قصير. قميص مشجر. قبّعة قش. تنكّر هائل. يستحيل على أحدٍ اكتشافه. قنينة جعة باردة. يبكّر كي يهرب من الكوابيس. يوقظ صفاء. يعدّ له فطوراً كيفما اتفق. يضع صفاء مستلزمات العوم:  نفاختا الذّراعين، نفاخة الصّدر، الكرة، السّطلين الصّغيرين، مجرفة البلاستيك في حقيبة الظّهر.يساعده على تثبيتها. يخرجان من الشّقة. يقضم صفاء فطوره وهو يسير.

يختار الجلوس تحت الشّجرة الوارفة العملاقة. يركض صفاء نحو البحر. ياتيه أرنان بكيس الشّعير، يضعه في جانبه الأيسر. في الصّباح تأتيه زقزقة العصافير. تعيد له طفولته. يمدّ يده إلى كيس الشّعير. يرمي حفنة على الرّمال السّمر. تنزل العصافير فجأة. تحدث عاصفة صغيرة. يشعر بأجنحتها الرّقيقة تغمره بنسائم الهواء. تلتقط بنهم حبات الشّعير. تهجم فوقها موجة حمام كبيرة. تغتصب الحبّ. تهرب العصافير. ينتشر الحمام في كلّ مكان. تحت المنضدة. فوق المنضدة. يقف على فخذه. رأسه. بين رجليه في الفراغ بين المناضد. تنتهي حبات الشّعير. يختفي الحمام.

طفلة في العاشرة، ذات كسوة بحر حمراء مشجّرة بالأخضر، تنحني على الرّمال حين ينحسر الموج. تلتقط المحّارات الجميلة المغسولة بماء البحر. يتبعها صفاء ليرى ماذا يثير انتباهها. تنظر إليه بازدراء. ربما لأنه في الخامسة فقط، أو ربما لأنه يتكلّم معها العربية. يبتعد عنها. يجلس على حافة ارتداد الموج. يخرج عدّته. يبدأ الحفر. تضع الطّفلة المحارات في كيس نايلون. فجأة ينهض أخوها ذو الثّامنة من قرب أمّه تحت المظلّة البنفسجيّة. الأم على ظهرها. فخذاها بضان عاريان مثيران ملتصقان بفتنة تنافس حوريات البحر. ثدياها مضغوطان على الصدر. على عينيها نظاراتان سودواوان. يركض الطّفل بسرعة شديدة كسهم منفلت. يضرب اخته على يدها. يسقط الكيس. تتناثر المحارات الجميلة. تصرخ. تقع محارتان في الحفرة التي خلقها صفاء. تطلق الفتاة دفقة كلمات غاضبة وبصراخ. تلمع أسنانها الصغيرة. تمنى لو يعرف اللغة ليفهم ما قالت. ينظر إليها صفاء. يضحك بتشفٍّ.

يغلي جو الشّاطئ تحت سياط الشّمس. لكنّ الماء بارد. بيضاء تجاوز خصرها بإنج واحد حدّ المعدّل. ثدياها ممتلئان عاريان. تلمع حلمتاها الدكناوان. تمسكها يداه السّوداوان من ساقيها البضين النّازلين على صدره. أما كفاها فتمسكان رأسه ذي الشعر الملفلف القصير. يجتاز المظلّات. يمرّ من أمامه. يقطع المسافة من المتكّاأت حتى بدء الموج بهدوء كي لا تسقط من فوق كتفيه. تدفع صدرها إلى الأمام بانتشاء وهي تقترب من البحر. تفتح ساعديها على وسعيهما. تقهقه بصوت عالٍ. يدخل الماء. يسير فيه. تغطس قدماها في هبّة الموجة. تستند على رأسه وهي تنهض فوق كتفيه. تتأرجح قليلاً وهي تشدّ على رأسه. تنتصب ثابتة على كتفيه. تتنفّس. تلقي نفسها في الماء، ترتفع موجة رذاذ دائريّة قويّة،  تختفي لحظات. تظهر على شكل كرة صفراء فوق سطح الماء. تنفض شعرها. ترتجف كمن لذعتها البرودة. تهجم عليه. تضربه على صدره بقوّة. يرفع يده ليردّ الضربة. تغطس في الماء. يمسك بها من خصرها وأذرعها تتأرجح كضفدعة شقراء، يرفعها إلى مستوى صدره. يسقطها. تنهض. تهزّ رأسها. تتطاير خصل شعرها الأصفر. تنثر رذاذ الماء في الجهات كلها. تزيح خصل الذّهب عن عينيها. يغطس. يظهر. يتنفّس بعمق. شعر رأسه كثيف. يرجعه بيديه إلى الخلف. يعدّله. يفاجأها بدفعة أخرى. يسقطها على ظهرها في الماء. تصرخ بقوّة. تعتدل. تتراجع لتهرب. يغطس. يوقفها. تقهقه من كلّ قلبها. تمدّ يديها نحو وسطها لتبعده عنها وهو تحت الماء. يظهر. يتنفّس.  يعدّل شعره مرّة أخرى. يهجم عليها بعنفوان شديد. يروحان في قبلة عميقة وهما يغطسان كليهما في الماء. مغربيّة كاعب سمراء، تفترش منشفة زرقاء، تضع زندها على عينيها اتقاء أشعة الشّمس. اقترب منها كلب صغير لا يتجاوز طوله قدم واحد، في سلسلة فضيّة تمسك بها عجوز سبعينية ضئيلة، قبعة قش وارفة. خصل شعر الكلب حرير تتدلى حتى الأرض، تلمع في ضوء الشّمس. خصل عسليّة. بيضاء. كستنائية. عينا الكلب تلمعان. وقف. حفر الرّمل بمخلب قدمه الخلفي. ضربات سريعة متتالية. تناثر الرّمل فوق صدر المغربية العاري، غطى الرّمل نهداً تفتّح للتّو. فزّت مرتعبة. صرخت، هتفتْ: "سنيورة." وكلمتين اثنتين، وكلمة عجوز بالعربية. تنبّه رفيقها صرخ على العجوز بصوت عالٍ، ردّد الكلمتين كلتيهما، سبّ بالعربية. التفتت صاحبة الكلب المسنّة، صرخت على الكلب بكلتمتين أيضاً. هرب الكلب. سبق صاحبته. بدأ يشمّم ما أمامه بهدوء ودون اكتراث. كأنه لم يفعل شيئاً. أخذت الشّابة تنفض الرّمل عن نهدها الأيسر بمسّ رفيق هادئ. كأنها تخشى عليه من لمسة هواء تجرحه. بينما أخذ رفيقها ينفخ عليه ويضحك. سألها: هل فعل الكلب ذلك ببراءة؟

يتوقف شاب وشابة في بداية عشريناتهما. الفتاة عارية الصّدر، بيضاء لوّحتها الشّمس، رشيقة. ينظران إلى كلب بإعجاب شديد. يرميهما الكلب بنظرة عميقة أنيسة. يشدّ أحدهما الآخر من خصره باستمتاع. الكلب صغير رشيق جميل بطول خمسة وعشرين سنتيمتراً فقط. ينبح نباحاً خافتاً كأنه يغازل الفتاة. يحرّك ذيله بسعادة. يقهقه الفتى. يتكلّم معه. ينبح الكلب ثانيةً بصوت هامس، كأنه يغني. ينظر إلى الفتاة فقط. يتكلّم الشاب معه ويشير إلى الفتاة. سأله: هل أحببت صديقتي؟ يلوي الكلب رأسه بتفهّم. نظرته العميقة مازالت تضيع في مفاتن الفتاة. ماذا يريد أن يخبرهما؟ صاحبة الكلب أربعينية سمراء محروقة بلهيب الشّمس. تضع نظارة كبيرة سوداء. تمنى لو رأى عينيها. أكانت تنظر إلى الشابين أم إلى البحر أم إلى لاشيء؟

يسرع كهل بحبتي "آيس كريم" مغلفتين بال"شيكولاتا" إلى حبيته الثلاثينة الشقراء. تفرش له خدّها. يقبّلها وهو منحنٍ. تفسح له مجالاً على المتّكأ الخشبي تحت المظّلة الكبيرة. يجلس. يلّف يسراه حول خصرها النّحيل. يقدّم لها الآيس كريم. تضحك. تعتدل. يبدآن بقضم الآيس كريم. يقبلان بعضهما بطعم الآيس كريم، تمنى لو لم تقتل زوجته في بغداد، لو كانت معه هنا، إذن لجرّب القبل بطعم الآيس كريم. ينطلق صوت أغنية جميلة خلفه في إيقاع راقص من مذياع المقهى على بعد عشرة أمتار. ينتشر اللحن في الفضاء، يطغى على الضّوضاء وأصوات أمواج البحر. تبدأ طفلتان بالرّقص على النّغم على بعد خطوتين من خطّ الموج فوق الرّمل. تركض الطّفلة ذات الكسوة الحمراء، نحو أمها، تضع كيس القواقع على صدرها. تهرع نحو الفتاتين الرّاقصتين. تتلوى مع النّغم. يتكاثر الجمع. يضع صفاء مجرفة الرّمل فوق السّطل. ينظم إلى المجموعة هو وبضعة أطفال. تختار كل طفلة من تراقصه. بقيتْ صاحبة الكسوة الحمراء وحدها. انتقلت أمام صفاء. أخذا يرقصان معاً، تتمايل ضاحكة. كفّها فوق شعر صفاء الأسود الكثيف، أهي معجبة به أم تسخر منه لأنه أصغر الراقصين؟

تتكلم التي وراءه بعصبية وسرعة. ترفع صوتها. مرة أخرى آه، وألف آه لو يعرف اللغة! أهي تتشاحن مع مرافقها الشاب؟ يلتفت وراءه، كانت عارية الصدر. نهداها صخرتان بارزتان منتصبتان. سمراء. عيناها نجلاوان. شعرها أسود. تصرخ وتشير إلى صدرها. بينما يدير صديقها لها ظهره. يتكلّم بهدوء. يستلقي على المتكأ. وجهه نحو البحر. ترفع حمالة صدرها من فوق السرير، ترميه بها. تسقط على عنقه. يضحك. يضع الحمالة على وجهه، يخفي تجويفاهما عينيه. تصرخ. تهجم عليه. تضربه على كتفيه. صدره. يثب على الأرض بقفزة رياضية، يعانقها من ساعديها، يهصرها. يندعس النّهدان في العناق. يقبلّها بحميمية. تذوب بين يديه. السّاعة قبل العاشرة بدقيقتين. امتلأ الفضاء أمامه بالمستحمين. بدؤوا بوضع الزّيت المشقّر على أجسادهم.  

تنـزع فتاة في الخامسة والعشرين حمالة صدرها. يبدو نهداها القويان بحلمتيهما الكستنائيتين مثيران. رمانتان يدويّتان توشكان على التفجّر. تمسح صدرها، فخذيها. تتكلم مع صديقها. يبدأ بمسح ظهرها. تضحك. لم تذق زوجته مثل هذه المتعة. أسيعجبها لو كانت معه هنا؟ تصل يدُ صديق الفتاة إلى جيدها. كان شعرها مرفوعاً فوق رأسها ككرة شقراء. قبّل جيدها، نزل بشفتيه إلى أعلى كتفها. بغتةً انتفضت، التفتْ إليه تعصر جسده بوحشيّة.

يغمض عينيه برهة. يفتحهما. تشتدّ حرارة الشّمس. يتوقّف النّسيم كلّية. يبدأ العرق ينزّ من جسده. يقهقه شابان وفتاة في الثّانية والعشرين عارية الصدر. يلعبون الكرة. يرمونها بالتّناوب. يبدو مثلث أبيض ناصع يحدد جزءاً من نهدين صغيرين ذي حلمة صغيرة بحجم العدسة في صدر الفتاة. عندما تقفز لا يترجرج نهدها. يقفز معها كلب أشمط غزير الشعر بحجم قدم ونصف. تنزل ذؤوابات من الشعر على عينيه. كيف يستطيع النّظر؟
يتوقف الشابان والفتاة عن اللعب بالكرة، يتجهون نحو البحر بعد أن يضع آخرهم الكرة تحت المظلّة. يتبع الكلب الأشمط الفتاة، ينبح بشدّة. يعيق قدميها من الحركة. تحمله على نهديها. يلطعهما. تقهقه. ينظر إليه أحد الشابين. يضحك.

تقف كهلة في الخمسين. تعرّي صدرها. نهداها صغيران جداً. لكنّهما منتصبان. تزيتهما بملامح فخورة، ثم تبدأ بمسح مؤخرتها بالزيت بعد أن تنتهي من مسح ثدييها

تجلس الكهلة بعد مسح مؤخرتها على متكأ، تخرج نظارتيها السوداوين، تضعهما على عينيها، تتمدد، تفرج ما بين ساقيها للريح.
تأتي شابة قصيرة ممتلئة جميلة احتلت قطرات العرق جبينها كله. نزلت إلى عينيها. زوتهما. مسحتهما. تحمل كيساً فيه "ساندويجات". تجلس قرب ثنتين يلعبان الورق تحت المظلّة. تهلّلان. ترميان الورق. يتناولان الكيس حالاً. وهما تقهقهان.
تبدأ الشابات الثلاث بأكل السندويشات بنهم. يقطر الخردل الأصفر على نهد أبيض مكوّر ضخم منتصب لإحداهنّ. يضحكن. تمدّ صدرها إلى الأمام نحو الفتاة الجميلة التي جاءت بالسّندويشات. تبدأ هذه بلطع الخردل. يضحكن ملأ أفواههنّ ويأكلن.
متّكآت لا حصر لها أمام شاطئ البحر. يتّسع المتّكأ لواحد فقط، كلّ مجموعة متّكآت بلون يخصّ محلّاً. تحجب مظلّة من قش دكناء أشعة الشّمس. وقفت شابة في السّابعة عشرة مع صديقها. نظرت إلى المتّكأ، فكّرت كيف سيرتاحان كلاهما بهذا الحيّز الضّيق. أشارت له. ابتسم. تمدّد على يمينه. رفع ساقه الأيسر. تمدّدت على يسارها، رفعت ساقها الأيمن، أدخلته بين ساقيه. أنزلت ساقها الثاني عليه. تعانقا. اتسّع المتكأ الضّيّق لهما كليهما. أغمضا أعينهما. فعل الشّيء نفسه صديقاهما. بعد دقائق نعس الفتى. نام. تركت الفتاة المتكأ له. راقبت صديقيها المتعانقين. ابتسمت برضاً. مضت ثوانٍ، شاهدت العرق ينقعها وينقعهما. ركضت نحو البحر. هرعا في إثرها، ظلّ صديقها في مكانه نائماً.
أين أنت يا صفاء؟ بعد ثوانً رآه يلعب مع فتاة القواقع. ابتسم، جاء أرنان، قال "قدّموا الرّقصة إلى السّادسة، سيكون لقاء نهائي كأس العالم في الثّامنة." أي نعيم يتمتّع به النّاس هنا. بحر. رقص. شرب. ضحك. حرية. كهرباء. ماء. لاشيء مثل هذا في العراق؟ سأل أرنان: لماذا وجد البحر؟
"وجد البحر لتبريد النّاس في الصّيف".

ياليت للعراقيين بحراً! يحترقون بالرّصاص أنى توجهوا، مِن الأمريكان، من المليشيات، من الجيش. ومن السّماء أشعة جهنم. أيّ رحلةٍ من سعير كانت حتى وصل إلى هذه الجنّة؟
أيّ شاطئ؟ عشرات آلاف الأجساد عارية وشبه عارية. أوّل مرة يرى فيها أجساداً لنساء في مثل ذلك العدد في البكيني، ومن دون حمّالات صدر. منذ أسبوع وذلك البدين يتمدّد على ظهره. هكذا هم السّياح. لا يغيّرون مكانهم. الشّمس شديدة. تسلق البشرة. الماء بارد. جسده ضخم أبيض. حمّرته اشعة الشّمس. صديقته نحيفة سمراء. في الخامسة والعشرين، ثدياها مدّوران منتصبان، برتقالتان ناضجتان شهيّتان. تسحبه. يرفض. تركض نحو البحر. تختفي. يرفع ذراعاه إلى الأعلى. يفرد سبابتيه. يبقي يديه هكذا حتى يتعب. ينزلهما. يرتاح. يعود يرفعهما مرّة أخرى. لماذا يفعل ذلك؟ تُقبل صديقته من البحر راكضة والرّذاذ يتطاير من خصل شعرها الكستنائي الطّويل بعبثيّة. ترمي نفسها عليه. تدفن وجهها في رقبته كأنها هاربة من وحش. يعانقها. ينهض قليلاً. يستقرّ فوقها. يمنع أشعة الشّمس عنها. يغمض عينيه. لا يظهر من رأسيهما سوى قمة جبل صغير أسود يجلل أرضيّة كستنائيّة.

ينحني أرنان. تتدلى على كتفه الأيمن ضفيرته الخلفيّة الشّقراء. يضع صينيّة الفطور على منضدة صغيرة قربه. يهمس بالإنكليزيّة: "فطور." يغادر مسرعاً. ينظر إلى الصّينيّة. بيضة. جبن. فطيرة سبانخ. مربّى. خبزة صغيرة. قهوة بالحليب. يعتدل. يمدّ يده. فجأة يرفع بصره جهة البحر. ابتسامة تملأ الكون. مراهقة شقراء في السّادسة عشرة. لوّحتها الشّمس. طويلة. بدايّة الامتلاء. بدأ خصرها للتوّ ثورته على الطّفولة. تفتح رجليها في الوقوف. تجسّم الوقفة الجسد يقذف حِمم رغبة تلهب الكون. يغطّي حلمتيها قطعتا حرير ورديتان، بحجم دراقة متوسطة فقط، بدل مثلّث الوسط قطعة دائرية أكبر باللون الوردي نفسه. وقفت تنظر إلى الصينيّة بجوع. مدّ يده نحو الفطور. هرعت نحوه. جلست لصقه. حرارتها لاسعة. تضحك. تندلع الكلمات من فمها. لا يفهم الكلمات. يفهم من الإشارات أن نارين تحرقانها، أشعة الشّمس ورغبة الجسد. تأكلّ بنهم. تتعمد الالتصاق به بين لحظة وأخرى. تقفز مغادرة. يعود إلى متكئه الخشبي، يسند ظهره بارتياح. يرى الجسد الضخم الأبيض المحمّر رافعاً ساعديه من جديد، فارداً سبابتيه. لا يرى صديقته قربه. يشمّ أصابعه. زنخة البيض. ينهض. يغسل يديه في المطعم. يرجع. يرى المراهقة الشقراء متمدّدة في مكانه. شعّت ابتسامتها باستفاضة. نهضت. رجع إلى مكانه. التصقت به. داعبت شعر صدره. قبلته غير قبلة. لم يتحرّك. أغفتْ. ترك مكانه لها. نظر إلى أرنان. جاء مسرعاً وضفيرته الخلفيّة تهتزّ. أشار إليه أن يجيئه بمتكأ آخر.
جلب أرنان لأول مرّة متكأ بلاستيكياً متحركاً على عجلات. أي اختراع عظيم! مقعد كامل. يتسع امتداد الساقين. هلّل شاب أسمر متين ذو عضلات متناسقة. جلس عليه. احتجت صديقته. علا صوتها. جادلته بغضب! ابتسم. هزّ رأسه. مدّ ساعديه. جلست على فخذيه لحظة. حاولت أن تستقر. نهضت كالملدوغة. احتجت من جديد. أشارت إلى المتكأات الخشبيّة. ثم هرعت غاضبة نحو البحر. البحر واسع يمتصّ انفجارات العواطف. قهقه. فقز. تبعها راكضا نحو البحر. أدركها قبل أن تعوم. عانقها. راحا في قبلة طويلة.
عجوز أصلع نحيف في السّتينات. يجلس على الرّمل.تزيت شريكته ظهره المشعر. يستسلم لها. فجأة تسقط كرة على يديها. يطير أنبوب الزيت بعيداً. تبتسم. يقهقه. يأتي مراهق طويل نحيف خجل ينحني على أنبوب الزيت. يأتي به. يفتح ساعديه يميناً وشمالاً. يرجع بالكرة.
بعد الحاديّة عشرة تبدأ الزوارق بأنواعها في ترصيع البحر الأزرق. زوارق بخاريّة. زوارق شراعيّة. زوارق بلاستيكيّة عريضة تتحرك بالأرجل تذهب بعيداً أكثر من كيلومترين. ألوانها مبهجة. يسهل على العينين تتبعها. تحمل أشخاصاً متعددين يغنون. يرقصون. يستهترون. تعمّد أحد الزوراق صدم آخر. سقطت فتاة في البحر. قفز غير واحد لينقذها. فجأة جاءت طيارة مروحيّة. حامت فوقهم. نقلت الفتاة إلى السّاحل.

صفاء يركض نحوه، يرمي نفسه عليه، يضع رأسه المليء بالرّمل على صدره: "جائع.". قال حسين: "الحنفية وراءنا، أزل الرّمل من شعرك، اذهب إلى أرنان، قل له ماذا تريد أن تأكل.". قفز صفاء، التفت حسين. رآه ينتظر دوره أمام مرش الماء. ابتسم. يرى العجوز دائماً في مكانه، لا يغيّره. يرخي قبعته المتهرئة على عينيه تفادياً لأشعة الشّمس المحرقة، جالساً على حافة ستارة فويق الحنفية، الستارة على ارتفاع مترين. رشاش الماء الخفيف ينزل على أجساد المستحمين يزيل ماء البحر والرّمل، دائماً يبتسم العجوز ابتسامة خفيفة مفعمة بالسّعادة. تقف شابة فارعة جميلة بيضاء حليبيّة، ذات شعر أسود فحميّ، تنزل حمالة الصدر. يبدو نهداها الصلبان بلون أنصع من باقي جسدها الذي لونته الشّمس. تغسل الثّديين الممتلئين تحته. تفرك حلمتيها الدّكناوين البارزتين. تزيل الرّمل من التقاء النّهد بالجسد من الأسفل. يرى العجوز كلّ ذلك بسعادة. تبعد الشّابة مثلث البكيني الملّون عن وسطها، تلمع في الأعلى نواة تمرة ساطعة، تفركها جيّداً، تغمض عينيها باستمتاع. يبتسم العجوز. يغمض عينيه. تمدّ يديها إلى الخلف، تنزل البكيني، يسقط رذاذ الماء على مؤخّرتها. تبدو إليتاها ناصعتي البياض. تحرّك أصابعها بينهما باتجاه سقوط الماء. تزداد ابتسامة العجوز فوق الستارة. قبل أن تعطي الدور لصديقها، تدفع نهديها إلى الأمام تحت رشاش الماء. تستنشق الهواء بسعادة، ترفع حمالة البكيني الملوّنة من وسطها إلى مكانها في الخلف والأمام. يدّق العجوز قدميه فوق رصيف الشّارع بإيقاع مرح.

كجندي مستعدّ للمعركة يأتي طفل في الثّامنة مع أمّه وأبيه. كما يفعل صفاء وغيره. على ظهره حقيبة مليئة بمستلزمات قضاء الوقت على الشّاطئ: جاروف. حفّار. ملعقة كبيرة. سطول. نفّاختان تلتّفان على السّاعد. نفّاخة صدريّة تمنع الغرق. نظارات لا يخترقها الماء إلى العينين. قصبة تنفس. كلّ ذلك من البلاستيك. وضع الحقيبة تحت المظلّة. بدا هزيلاً صغيراً جداً بملابس السّباحة. أطول من صفاء قليلاً. لحظ صفاء يبني نفقاً بين حفرتين، ركض نحوه، جلس قربه ليرى كيف ينهي النّفق، كان صفاء يحفر الرّمل بالملعقة بهدوء، قال له بضع كلمات، أجابه صفاء بالعربية، لم يفهم ما قال صفاء، ركض إلى حقيبته، تناول منها ملعقته الكبيرة، رجع إلى صفاء، جلس قربه، أخذ يحفر بسرعة، نظر صفاء إليه، تكلّم بالعربية، لم يلتفت إليه، استمرّ في عمله، انهار النّفق. نهض صفاء، ضربه على وجهه بكفّه. دفع صفاء أوقعه على ظهره، نبعتْ من تحت الأرض صديقة صفاء ذات كسوة البحر الحمراء المشجّرة بالأخضر، دفعته، صرخت بوجهه، أخذت تتكلم معه بعصبية، تلاحما، نهض صفاء ليعاون صديقته، كانت أمّ الطّفل تراقب، هُرعت، سحبت ابنها قبل أن يؤذيه صفاء وصديقته. عنّـفته بشدّة وهي تشير إلى حقيبته الممتلئة. بدا مكسور الخاطر. مدّ يده ليخرج عدّته سمع من يناديه. التفت رأى صديقه وشقيقته ابتهج. هُرع إليهما. تبادلوا بضع جمل. ثم بدآ يركضان ويضحكان. تركض الطفلة وراءهما وتضحك. اختفوا. لم يرجع الطّفل إلا بعد ساعتين. وجد أباه نائماً على المتكأ، أمه تقرأ. تكلّم معها. أشارت إلى الحقيبة. أخرج لفّة جبن وطماطة وخس. بدأ يقضم، ثم نام على الرّمل إلى جانب عدة العوم.
ما إن تخلو بضعة أمتار من الشّاطئ حتى يحتلّها لاعبو الكرة. أكانوا يراقبون الشّاطئ؟ مضرب الرّيشة نفسه. لكن لا وجود للرّيشة. كرة بلاستيك صغيرة ملونة بدلها. فتاة وصديقها يلعبان بكرة بنفسجيّة. زوج آخر يلعبان بكرة حمراء. تجاوزت الكرتان مجاليهما. اختلطت الضربات. امتلأ الجو ضجيجاً، ضحكات. رموا المضارب والكرات على الأرض. تعانقوا جميعاً وهم يقفزون فوق الموجات.
نهض من جانب صديقته الشّابة ناصعة البياض. تركها تغفو في ظلّ المظلّة. جلس قرب الشّاطئ. وضع الرّمل النّاعم الأسود على وجهه. طلا جسده كلّه. بات تمثال رمل لولا عينان زرقاوان. سار بهدوء. جلس قرب صديقته. دغدغها في سرتها المبعوجة العميقة. ابتسمت وهي مغمضة العينين. مدّت يدها. لامست الرّمل فوق ركبته. فتحت عينيها. رأت رجلاً آخر. ارتعبت. صرخت. ضحك. ضحكت. نهضت ويدها بيده إلى البحر.
الشّاطئ فيلم مفاجآت، واحدة بعد الأخرى. ما هذه؟ سيقان مثيرة تخرج من تحت البحر، كرتا قدم خفيفتان، صفراء وزرقاء من البلاستيك. فتاتان في الماء. فتَيَان خارج الماء. يظهر الساقان حدّ البكيني الأحمر المنقط بالأصفر والبرتقالي. تحركان سيقانهما برقصة منعشة. يرمي الفتيان الكرة نحو وسطي الفتاتين. يخطئان. تقف الفتاتان في الماء. تنفضان شعريهما، تتطاير قطرات الماء في دائرتين، تدفعان خصلات الشعر إلى الوراء، تضحكان. ترميان الكرة نحو الفتيين. تغوصان مرّة أخرى، يظهر البكيني المرقط مثيراً، ترقص السيقان بتماثل وهي مفتوحة نحو السّماء. تخطئ الكرتان الهدف مرّة أخرى. ثالثة. رابعة. أخيراً يترك الفتيان الكرتين، يهجمان على البحر. يختفي الأربعة تحت الماء. يظهر بعدئذ كيانان إثنان من شقين ملتحمين، يدوران حول نفسيهما. تتناثر المياه في الجهات كلّها.
أقل من أربع سنوات. تركض من دون اتّجاه. تسرع أمها العشرينيّة الشّقراء وراءها. تنفلت من ذراعي أمها. تصرخ مقهقهة. تدور حول المتكأات. تمسك بها أمهّا أخيراً، تحملها. تدخل بها المرافق. بعد دقيقتين ينفتح الباب. تفلت يد أمّها تجري بقوّة. تلتفت الأم إلى الدّاخل. تجلب حقيبتها. تخرج. لم ترَ الطّفلة. تنظر يميناً. جهة البحر الواسعة. تغربل المتكأات بنظراتها. تنظر يساراً. لم ترها. ترتعب. تتقلّص عضلات وجهها. تكاد تبكي. تلتفت خلفها ترى الطّفلة خلف كوخ المرافق. تدرك أنها لعبت على أمها. تضحك من كلّ قلبها. تهرب من جديد.

*   *    *

لم تتركه المراهقة الشّقراء، ذات السّادسة عشرة، طيلة اليوم كانت قريبة منه، تجلس على متّكئه عندما يأكل. تشاركه، على الرّمل قربه، تسند جسدها على متّكئه، يدها تربت على فخذه، صدره، ساقه. ابتعدت عنه عندما أغفى بعد الغداء. رجعت ما إن صحا. أكانت تراقبه؟ لا يدري. تغيب بعض الوقت بين الحين والحين، لكنّها ترجع. فجأة حلّت السّادسة. جاء أرنان جلس على كرسيّ قربه. عندما سمع الرّقصة أول يوم، سأل أرنان عن معناها، لم يعرف، قال له إنها بالبرتغالية، أغنية برازيلية مشهورة منذ سنين. انطلقت تمهيدات الرّقصة السّبع بموسيقى قويّة ضخمة أشبه بالصّافرة، خرج الجميع من الماء، وقفت الفتيات بانتظار الأغنية. رفعت المراهقة الشّقراء يدها عن فخذه. وقفت أمامه على بعد متر، التفت إليه، لم ترَ عينيه. لكنها كانت متأكّدة أنه يراها، ابتسمت. نزعت حمالة الصّدرين. رمتها على صدره. ثم نزعت البكيني. رمته على وسطه. بدأت موسيقى الأغنية. وقفت معظم الفتيات. ينتظرن رائدة تقتحم السّاحة، تشجعهنّ، ليتبعنها. التفت إليه، مدّت يدها إلى نهدها الممتلئ. مسحته، غمزت عينها انطلقت إلى السّاحة مع أول كلمات الأغنية، اشتعل الجو تصفيقاً، هجمت الفتيات نحوها، كنّ يرمين بالبكيني على متكأاتهن، في طريقهن، على أحبائهن، على الرّمل. صدح الجو. (ديكو باورا. أسو. ريا. دبا. يودوتو. دكن. جاجن.ديور. بورا. باشي. باشي. ما جيا. ليسي. ليسي.). كن يتمايلن إلى الأمام. الخلف، يرفعن سيقانهن. ينحنين. الموسيقى بإيقاعها الرّاقص الجميل تزداد قوّة وعنفواناً والفتيات يزددن حركةً ذوباناً جنوناً. كنّ يتحرّكن وكأنّهنّ جسد واحد، روح واحد. يالقوة الموسيقى عندما تحلّ بالجسد فتسكنه باللحن والإيقاع!. كم أصبح عددهن؟ مئة، مئتين، خمسمئة؟ لا يستطيع أن يخمّن. ما استطاع أن يلاحظه  جمالهن الأخاذ. كنّ خليطاً من البيض، السمر، السود، قصيرات، طويلات، متوسطات، لكنهن كن جميعاً فاتنات، ساحرات، ليس في الحياة أجمل من شابة عاريّة تسفح حيويتها على الشّاطئ برقصة متميّزة!
بدأ صفاء وغيره من الأطفال يرقصون في دائرة أخرى على بعد بضعة أمتار من الرّاقصات الفاتنات، عندئذ أخذت الطفلة صديقة صفاء ذات البكيني الأحمر تتعرى. لحقت أمها بها حالاً، أمسكتها من يدها، أجبرتها على ارتداء كسوتها، أعادتها إلى المتكأ. تكلمت معها بعصبيّة. جلست، جاء أخوها وصفاء، جلسوا قربها وهما يلهثان من الرّقص السّريع. وإذ انتهت الموسيقى انفضت الرّاقصات وهن يعانقن بعضهن وسط تصفيق الرّجال، حملت كل منهن كسوة البكيني، نفضنها، وقفن في صفّ طويل أمام مرشات الماء. كان العجوز ذي القبعة المتهرئة في مكانه يراقبهن من جلسته على السّتارة، ينتظرهن ليتمتع بنضارة أجسادهن واحدة واحدة. تُرى كم واحدةً رأى في حياته من مكانه هذا؟