يؤكد الأكاديمي اللبناني أن انهيار الطغم الحاكمة في العالم العربي باغت حليفتها السعودية، مما وضع هذه الأخيرة في بؤرة القلق من سلب الفعل الأميركي، فقررت الإمساك بزمام الأمور والترويج لسياسة التمزق الطائفي والانحيازات الدينية، وطرح مشروعها المدمر أمام جدل تحقق ديموقراطية الوحدة الوطنية للبلاد العربية.

الثورة العربيّـة المُضادّة: هجمة آل سعود

أسعد أبو خليل

لم تتطرّق الصحافة العربيّة السائدة إلى الخلاف الحادّ الذي نشب بين الملك السعودي وإخوته، وبين إدارة أوباما بعد سقوط مبارك. هال آل سعود ما بدر عن الحكومة الأميركيّة نحو حسني مبارك. ليس أنّ إدارة أوباما دعمت مبارك إلى اللحظة الأخيرة، وإن أرادتنا اليوم أن ننسى ما فعلته للتمسّك بنظام مبارك للحفاظ على اتفاق السلام المُشين مع إسرائيل. لكن الملك السعودي ونتنياهو (لا نعلم إذا كانت اتصالاتهما اليوميّة مع أوباما مُشتركة، وهذا جائز بناءً على الغزل الإسرائيلي ـ السعودي المُستمرّ) كانا يحثّان أوباما على تبنّي خيار القوّة العسكريّة غير المحدودة، للحفاظ على نظام مبارك. تردّد أوباما: أراد أن يدعم صديق إسرائيل، لكنّه تلقّى مشورة خبراء حوله عن بطلان جدوى القوّة بوجه ملايين مصر. مثلما توصّلت أميركا إلى اقتناع بأنّ الشاه لا يستطيع أن يبقى في السلطة بواسطة القوّة، توصّلت إلى اقتناع بأن الغضب المصري العارم لا يُباد بالقوّة.

عندها، حزم النظام السعودي أمره. هذا النظام القمعي والمُتزمِّت (الذي لم يسمح لنفسه عبر السنوات إلا القيام بدور الوكيل الذيلي بالنيابة عن أميركا، إن في اليمن أو الصومال أو أنغولا أو جنوب أفريقيا أو نيكاراغوا أو لبنان أو سوريا أو فلسطين أو أفغانستان أو فرنسا أو إيطاليا) وجد ضرورة ماسّة للتحرّك من دون مشورة واشنطن، أو حتى من دون الحصول على إذنها، أو موافقتها الكاملة المُسبقة. رأى آل سعود أنّ خطراً داهماً يهدّد نظام الطغيان العربي الذي رعته السعوديّة (وأميركا) منذ وفاة جمال عبد الناصر. شكّل سقوط مبارك ضربة قاسية للنفوذ السعودي في العالم العربي، خصوصاً أنّه أوكلت إليه مهمّة خدمة إسرائيل وقضاياها، بالإضافة إلى الإسهام في الفتنة المذهبيّة السعوديّة المنبت، التي أسهم فيها حتى وزير خارجيّة مبارك، أحمد أبو الغيط (كان ضيفاً شبه يومي على محطة «العربيّة»، حيث برعت رندة أبو العزم في تلميع صورة النظام المصري، وإن تصنّعت المهنيّة والجديّة). كما أنّ مبارك كان ضابط الإيقاع في جامعة الطغاة العربيّة، حيث أفنى عمرو موسى سنوات في الخدمة والطاعة.

اهتزت صورة راعي الطغاة العرب الأميركي ـ في أعين الطغاة أنفسهم، كما اهتزت من قبل عندما سقط الشاه. الحلف السعودي خاف أن يخذله الراعي الأميركي في ساعات الشدّة، وأن يحرمه لذّة قتل الآلاف ومئات الآلاف، إذا ما تهدّد النظام. ضرب النظام السعودي عرض الحائط بكلّ الضوابط اللفظيّة (وتصنّع الحياد والكلام المُجترّ عن كون «المملكة على مسافة واحدة من جميع الأطراف»، فيما هي في الحقيقة لا تترك صراعاً إلا تدخل فيه مُموِّلة ومُسلِّحة لطرفٍ ضدّ آخر ـ وها هو سفير الفتنة السابق، عبد العزيز الخوجة، في «ويكيليكس» يحثّ على تسليح 14 آذار ويتحدّث عن «شر» حزب الله). الحكم السعودي خاف على نطاق هيمنته، في المملكة وخارجها، وللمرّة الأولى قرّر أنّه لا يثق بواشنطن للدفاع عن مصالحها ومصالحه. وقد وجد في تحليله خير معين ومُتفهّم في إسرائيل ـ وهي أيضاً لم تكن راضية عن عدم دعم أميركا لخيار القوّة العسكريّة المفرطة ضد ميدان التحرير، وكان صهاينة الكونغرس صريحين (وصريحات حتى لا ننسى إيلينا روس ليتنن، وهي من أكثر كارهي العرب والإسلام تعصّباً في أميركا، وإن كانت تحبّ آل الحريري حبّاً جمّاً) في تناديهم للمحافظة على نظام حسني مبارك بأي ثمن، مهما كان باهظاً. إن التفجّع السعودي ـ الإسرائيلي المشترك يُفسِّر الزيادة في الحميميّة بين الدولتيْن. قرّرت السعوديّة أن تضرب وحدها في كلّ الدول المعنيّة وأن تشنّ هجوماً لإجهاض الثورات العربيّة المُستمرّة.

أوّلاً، قرّرت السعوديّة أن تضع جانباً كل الخلافات (المُستحكمة) بين دول مجلس التعامل الخليجي وأن تتصالح مع قطر (أو أن تتقدّم في المصالحة الباردة مع قطر). أرادت السعوديّة أن ترصّ صفوف المجلس، وأن تتجنّب خطر الجزيرة الذي قضّ مضاجع الأمير نايف (الحاكم الفعلي في السعوديّة). حوّلت السعوديّة دول مجلس التعاون إلى حلف حديدي لا يقبل الانشقاق أو الخلاف: أصبح الإجماع فيه واجباً. والحلف الخليجي يقوم على معارضة الديموقراطيّة (أذكر أنّ أمير قطر ذكر لي في الصيف الماضي أنّه يرفض أن يتقدّم التطوّر السياسي في قطر على ما هو عليه في دول الخليج). أيّ أنّ أعضاء المجلس الذين تناحروا قبل إنشاء المجلس وبعده، قرّروا أن يتوافقوا على أمر استراتيجي: مناهضة الديموقراطيّة في الخليج والانضواء تحت عباءة القيادة السعوديّة.

ثانياً، قرّرت السعوديّة تشديد العمل من أجل تأجيج الصراعات والفتنة المذهبيّة في تلك الدول العربيّة التي لا تدور في فلكها. لذلك قرّرت محاربة القذّافي بشتّى الوسائل وعقابه على معارضته السابقة للسعوديّة، وتبنّت (بالاتفاق مع حلف شمالي الأطلسي الذي يُدعى إلى اجتماعات تعنى بتحديد المستقبل الليبي) المجلس الانتقالي الليبي الذي يتزعمه من خدم القذّافي سابقاً مصطفى عبد الجليل، واكتشف قبل أسابيع أنّ قائده طاغية ـ هو راسخ في القانون والعدل، يقولون. كما أنّ قرار الحرب الأطلسيّة على ليبيا حظي بمباركة جامعة الطغاة العرب بأمر من السعوديّة. السعوديّة قرّرت أنّ القوّة ضروريّة لإسقاط خصومها وللحفاظ على أعوانِها المخلصين. وفي هذا الصدد، أطلقت السعوديّة خيار استخدام أدواتها في المعارضة السوريّة ضد النظام (وكان الإعلام السعودي واضحاً في مراميه مع أنّ الإعلام السوري لم يتوقّف عن اتهام «جهات خارجيّة» غير محدّدة، خشية أن يوجّه أصابع الاتهام إلى السعوديّة، فاكتفى باتهام جمال الجرّاح، وكأنّ الأخير يتحرّك من دون أمر عمليّات سعودي). طبعاً، لا يعني هذا أبداً أنّ كلّ تحرّكات المعارضة والاحتجاج في سوريا كانت بإيعاز سعودي، لكن هناك عناصر عملت لخدمة مصالح المملكة، كما لهم عملاء ووكلاء في كلّ الدول العربيّة.

السعوديّة، بعدما خسرت مصر وتونس، أرادت أن تعيد تشكيل منظومة الطغيان العربيّة (ما تسمّيه كتلة الحريري «العروبة») من أجل:
1) احتواء أو السيطرة على الأنظمة العربيّة الجديدة من خلال التعامل مع القوّات المسلّحة ومن خلال التحضير للسيطرة على نتائج الانتخابات الديموقراطيّة. 2) تقويض تلك الأنظمة التي لا تتماشى بالكامل مع المصلحة السعوديّة ولا تخوض غمار الصراع العربي الجديد ضد إيران «بعد نعي الصراع ضد إسرائيل في مشروع السلام العربي المُذلّ، الذي وافقت عليه الدول العربيّة جمعاء». 3) مباشرة حروب سريّة ضد حركات مقاومة إسرائيل في المنطقة العربيّة. 4) تسريع وتيرة التحريض المذهبي. 5) الارتقاء بالعلاقة مع إسرائيل إلى مستوى استراتيجي.

ثالثاً، رفع وتيرة المواجهة مع إيران، وخصوصاً بعد توصّل السعوديّة إلى الحقيقة المؤلمة ـ لهم ـ أنّ لا إسرائيل ولا أميركا في وارد شن حرب على إيران. هذا يُفسّر مثلاً خطاب سعد الحريري ضد إيران (والحريري هذا يتلقّى أوامره وشعاراته من مكتب الأمير مقرن ـ تذكر وثيقة واحدة من «ويكيليكس» أنّ السنيورة في لقاء واحد مع مسؤول أميركي قطع اجتماعه ليتلقّى اتصاليْن، أحدهما من مقرن والآخر من بندر، كما أنّ السفير الخوجة يذكر أنّ الحريري هذا يردّ على أوامر الملك السعودي بالقول: «حاضر سيّدي»). أرادت السعوديّة أن تصيب هدفيْن في آن واحد: أن تسعّر المواجهة المذهبيّة وأن تقصي كلّ الشيعة في العالم العربي عن دولهم وعروبتهم، وتصويرهم كدخلاء على طريقة العقيدة النازيّة ضد اليهود، وأن تخدم مصالح إسرائيل من حيث رفض أيّ تأييد للقضيّة الفلسطينيّة وتصويره على أنّه سياسة محض إيرانيّة، وأنّ لا مصلحة عربيّة فيها. هاكم نصير الأسعد «الذي أحرج اليسار عندما كان يساريّاً، ويحرج اليمين في يمينيّته» يقول في موقع «ناو (وإلى الأبد) حريري»: «في الوقت نفسه، فإنّ عدم حضور عنوان القضية الفلسطينيّة والصراع مع إسرائيل، يعني أنّ الثورات العربيّة تتواصل خارج التأثّر بأحد جوانب الأيديولوجيا الإيرانيّة». يفتي مسؤول التثقيف في تيّار الأمير مقرن أنّ مناصرة القضيّة الفلسطينيّة أصبحت أيديولوجيا إيرانيّة فقط. أيّ أنّ السعوديّة لم تقرّر مواجهة إيران وحلفائها فقط، بل قرّرت أيضاً مواجهة كلّ أعداء إسرائيل في المنطقة العربيّة. ولو عاد الحزب الشيوعي إلى مقاومة إسرائيل وشن عمليّات ضدّها، لصوّر الإعلام السعودي (والحريري الذيلي) موقف الحزب بأنّه يتبع موقف الوليّ الفقيه.

رابعاً، قرّرت السعوديّة احتواء عمليّات التغيير أنّى تحدث. وهي اليوم ناشطة في مصر. وكما سارعت أميركا إلى الإعلان الصفيق عن رصد أكثر من 150 مليون دولار من أجل دعم أحزاب «مُناسبة» للسياسة الأميركيّة واتفاق السلام مع إسرائيل في الانتخابات النيابيّة المُقبلة، فإنّ السعوديّة تكثّف زياراتها وتعاطيها مع المجلس العسكري المُعيّن (في كلّ أعضائه) من الطاغية مبارك نفسه. وسعود الفيصل زائر مُتكرّر في المجلس العسكري، كما أنّ أموال الأمير مقرن التي ابتاعت الانتخابات النيابيّة الأخيرة في لبنان لعيون إسرائيل (لم يلحظ زياد بارود ولا «اللجنة الوطنيّة لنزاهة الأمير مقرن في لبنان» الكمّ المالي السعودي ولا تدخّلات البطريرك العروبي ليوم واحد) ستكون جاهزة لشراء موالين للسياسة السعوديّة ولاتفاق السلام بين مصر وإسرائيل. وقد تنبّه الصحافي المصري الشجاع عبد الحليم قنديل (الذي لم يهادن، هو وقلّة من الشجعان مثل حسام حملاوي ومنى عشماوي وحمدي قنديل، يوماً نظام حسني مبارك)، لموقف الحكم السعودي الجائر (الذي يحرص عليه الديموقراطي اللبناني، فؤاد السنيورة، شديد الحرص) ضد الثورة الديموقراطيّة ـ غير المنتهية في مصر ـ فقال في ندوة في القاهرة: «إنّ من كان يتوهم أنّه يمكن المصريين القيام بثورة ديموقراطية دون الصدام مع أميركا وإسرائيل والمرجعية العربية متمثلة في السعودية، قد سقط عنه هذا الوهم». يخشى النظام السعودي أن تتحوّل مصر إلى مركز ثقل عربي مستقل، على غرار ما كانت عليه أيّام جمال عبد الناصر الذي قضّ مضاجع كلّ أمراء آل سعود، باستثناء الذين انشقّوا عن الحكم «مثل الأميريْن بدر وطلال اللذين عوقبا بعد عودتهما إلى السعوديّة عبر حرمان مجلس العائلة إيّاهما إلى الأبد من المناصب الوزاريّة». مثلما تمنع الإمبراطوريّة الأميركيّة بروز مركز قوى عظمى مُنافس، تريد السعوديّة أن تمنع بروز مركز قوّة إقليمي منافس لها «خارج إسرائيل الحليفة».

خامساً، تعمد السعوديّة إلى الاستحواذ على تنظيم الإخوان المسلمين في كلّ أنحاء العالم العربي لسدّ الفراغ الرجعي في الانتخابات النيابيّة بعد سقوط أنظمة موالية للسعوديّة. وكم هو سهل شراء الإخوان: يكفي أن تنظر إلى حالة الفرع اللبناني للتنظيم، لترى كيف تحوّلت «الجماعة الإسلاميّة» من تنظيم يرفع شعارات مقاومة إسرائيل إلى تنظيم متحالف مع أعوان إسرائيل عبر العقود، وكلّ ذلك بفضل المال الحريري ـ السعودي. والانتهازيّة السياسيّة سمة تاريخيّة لتنظيم الإخوان: هؤلاء الذين تركوا مصر ولجأوا إلى أكثر الدول العربيّة رجعيّة، وخدموا سياساتها الموالية لأميركا وإسرائيل أثناء الحرب الباردة. وقد بدأت الأنباء تتسرّب عن صفقات سياسيّة بين الإخوان وعمر سليمان أثناء عهد مبارك، بالرغم من التنكيل الذي تعرّض له الإخوان. كما أنّه من اللافت أنّ التنظيم الذي أقام الدنيا ولم يقعدها ضد نظام عبد الناصر، بقي مهادناً لنظام حسني مبارك طيلة حكمه.

والإخوان سيقومون بدور الأداة المطيعة على الأرجح في السياسة العربيّة: في البلدان المُحرّرة وفي البلدان الرازحة تحت نير الطغيان العربي. ويوسف القرضاوي سيتقرّب من مصلحة آل سعود أكثر، بعد وضوح ووثوق التحالف السعودي ـ القطري، وخصوصاً أنّ القرضاوي الذي لا ينفكّ عن التصريح والإفتاء لم ينبس ببنت شفة ضد أنظمة النفط، ولا حتى عندما تعرّض للإذلال والترحيل من حكومة الإمارات. والتحريض الطائفي للقرضاوي ينسجم تماماً مع الوهّابيّة السعوديّة، وخصوصاً في تحريضها المُستعر بعد اجتياح البحرين. وكعادتهم تاريخيّاً، يسهل الاستعانة بالإخوان من جهات رجعيّة (النظام الأردني ونظام السادات) لضرب حركات اليسار والمقاومة والليبراليّة (ليس هناك من دلائل على تجذّر الفكر الليبرالي في المجتمعات العربيّة الحرّة ربّما لأنّ الليبراليّة العربيّة تحوّلت منذ اندلاع الحرب العربيّة الباردة إلى أداة بيد السعوديّة الوهّابيّة، كما أنّ لها سمعة تستحقّها من مهادنة إسرائيل والمناداة بالتطبيع معها ـ يكفي أنّ مروان المعشّر أصبح ناطقاً شبه رسمي في الغرب باسم تلك الليبراليّة). ستتعاون أميركا مع السعوديّة ومع إسرائيل من أجل قولبة نتائج الانتخابات النيابيّة في أيّ بلد عربي على هوى أميركا وإسرائيل. هذه هي قصّة الانتخابات النيابيّة الأخيرة في لبنان، وقد أصبح مفهوماً كيف أنّ السنيورة شكر رسميّاً في واحدة من وثائق «ويكيليكس» دايفيد بتريوس على مساعدته «الأمنيّة» التي كانت أساسيّة في إنجاح فريق 14 آذار ـ العروبي طبعاً.

سادساً، ستصرّ السعوديّة على تجاهل الموقف الأميركي (المُتردِّد أحياناً بسبب تضارب التحليلات بين الديموقراطيّين والجمهوريّين وبسبب الانشغال الكلّي بملفّات العراق وأفغانستان و... معركة التجديد لأوباما) إزاء تهديدات تواجهها الأنظمة المُوالية لأميركا (وللسعوديّة وإسرائيل أيضاً، إذ إنّ كل دول التعامل الخليجي أقامت علاقات متشعّبة مع إسرائيل بدأت بالاستخبارات ولم تنته بالتجارة) كي تفعل المستحيل للحفاظ على الأنظمة. لا حدود للقمع ولاستعمال القوّة ورفع الشعارات. كانت القوّات السعوديّة تجتاح البحرين الخاضعة لحكم ديكتاتوري أقلّوي، فيما كان الإعلام السعودي يندّد بالتدخّل الإيراني وحتى العربي (حزب الله) في شؤون البحرين. أصبح للعروبة معنى آخر (تعبّر عنه بيانات كتلة المستقبل وحتى كتلة «القوّات اللبنانيّة»): تعني الطاعة العمياء لآل سعود، وقياساً بذلك يصبح كلّ أعوان إسرائيل وحلفائها في عدوان تمّوز على لبنان من عتاة العروبة (الحضاريّة، كما يسمّيها فؤاد السنيورة).

إنّ الموقف السعودي في البحرين لم يفاجئ أميركا، كما زعمت الأخيرة. اعترف بعض المسؤولين الأميركيّين الذين ناقض واحدهم الآخر في الإعلام هنا، بأنّ السعوديّة أبلغت أميركا نيّتها اجتياح البحرين قبل نحو يومين من تحريّك القوّات. طبعاً، هذا السلوك جديد في تاريخ العلاقات السعوديّة ـ الأميركيّة وينمّ عن نيّة تمرّد أقلقت واشنطن بعض الشيء، لا لشك بنوايا السعوديّة المُتماشية مع النوايا الصهيونيّة في المنطقة العربيّة، بل لشك أميركي قوي في قدرة السعوديّة على إدارة شؤون المنطقة بمهارة. تركت حرب اليمن الأخيرة طعماً مراً في الفم الإمبريالي: لم يؤدِّ إشراف الأمير خالد بن سلطان (راعي الليبراليّين العرب الزائفين) على الحرب السعوديّة على الحوثيّين إلا إلى مزيد من الهزائم والإذلال علي أيدي قوّات لا تتمّتع بمعدّات حديثة. شاهد الأميركيّون، مثل غيرهم، صور الجنود السعوديّين يفرّون مذعورين بوجه النار الحوثيّة على موقع «يوتيوب». كما أنّ سيرة خالد بن سلطان التي كتبها باتريك سيل، وهي غير السيرة التي كتبها عن حافظ الأسد وأخرى عن رياض الصلح، دخلت في باب الفكر الكوميدي.

هذا لا يعني أنّ السعوديّة ستدير ظهرها لراعيها الأميركي الذي يقبل منها ما تريد من الوحشيّة ضد مواطنيها للبقاء في الحكم (يعمد الصهاينة، مثل إليوت أبرامز، إلى الانبراء للدفاع عن أنظمة الخليج هذه الأيّام، وللتمييز بين الطغيان الخليجي والطغيان العربي غير الخليجي، كما فعل الكاتب في «واشنطن بوست»، ديفيد إغناطيوس). وهؤلاء إما ينسون أو يتجاهلون ـ لا فرق ـ تاريخاً من الوحشيّة لدى تلك الأنظمة ضد مواطنيها. هل نسي هؤلاء حرب السلطان قابوس على الجبهة الشعبيّة لتحرير عمان، أو القمع الوحشي لمُضربين ومُحتجّين في السعوديّة في الخمسينيات والستينيات وما بعد، أو تاريخ القمع في البحرين ضد حركات يساريّة وقوميّة قبل أن تولد الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران؟ يجب العودة حالاً إلى الكتاب المرجع، «الجزيرة العربيّة من دون سلاطين» للخبير الراحل، فريد هاليداي، وقد صدر في طبعة إنكليزيّة جديدة. لكن السعوديّة قد تتشجّع مع حليفتها إسرائيل للقيام بأعمال سريّة (إرهابيّة) من وراء ظهر أميركا لضرب أهداف مُعادية للحليفيْن (حزب الله وحماس وأهداف إيرانيّة).

سابعاً، ستركّز السعوديّة على حزب الله للنيل من سمعته (ولكسب رضى الكونغرس وإسرائيل على حدّ سواء). ويبدو أنّ الحزب وقادته لا يدركون مدى نجاح التعبئة المذهبيّة التي مارستها السعوديّة على مرّ السنوات في العالم العربي ـ لا في لبنان فقط. إنّ الهتاف ضد حزب الله في بعض التظاهرات السوريّة (مقروناً بهتافات طائفيّة على وزن «بدنا سنّي يخاف الله») يحمل بصمات وهابيّة (طبعاً، لا يمكن وصم كلّ المعارضة السوريّة بالصبغة الطائفيّة أو المذهبيّة). كم كان سهلاً على أعدائنا الصهاينة في الغرب إصدار الأحكام القاطعة عن العرب وعن رفض المسلمين والمسلمات للديموقراطيّة. ما عادت الحيلة تنطلي. شهدنا كيف تُقاوَم الثورات الديموقراطيّة الحقّة في العالم العربي، وكيف يهرع الغرب لإجهاضها. كانت أحزاب اليسار والقوميّة العربيّة تُتهم بالمبالغة اللفظيّة عندما كنا نلوم إسرائيل أيضاً في مسألة سيادة الطغيان العربي. لا نحتاج إلى برهان بعد اليوم. الدموع الصهيونيّة على حسني مبارك خير دليل.

الثورة العربيّة المضادة جارية بهمّة ونشاط. لكن اندفاع الجماهير في تونس ومصر كفيل بأن يُحبط المؤامرات الخبيثة. إنّ بثّ الشريط الصوتي لحسني مبارك في محطة صهر الملك فهد عزّز شكوك المصريّين عن قيادة السعوديّة للثورة المُضادة. إذا كانت الثورة المُضادة قد بدأت بوحشيّة في البحرين، فمن واجبنا أن نسأل عن موعد اندلاع الثورة العربيّة المضادّة للثورة المُضادّة. متى؟