أنقل إلى الفصحى، استناداً إلى شريط فيديو متوفر على الـ YouTube وعشرات المواقع السورية، فقرات من شهادة المواطن السوري محمد بشار الشعار، في وصف استشهاد ولده المعتز بالله الشعار، يوم "الجمعة العظيمة": «قبل أربعة أسابيع كنّا في دمّر، وعدنا منها، فأدركتنا الصلاة، ودخلنا إلى جامع الشيخ عبد الكريم الرفاعي. صلّينا، وكانت خطبة هادئة ومرتبة وليست فيها إثارة. عند خروجنا، فوجئنا بأعداد من رجال الأمن كبيرة جداً، وكانوا مسلّحين بعصيّ كهربائية وهراوات وسلاسل. شاهدنا قتل الأبرياء، وكبر ذلك في أعيننا كثيراً، رغم أننا لا ننتمي إلى أي تنظيم أو أي شيء ضدّ الحكومة، لكن رأينا أهلنا يُقتلون. والمعتز بالله، وعمره 22 سنة، طالب في جامعة دمشق، كلية الحقوق، تأثر كثيراً لمرأى الأمن يضربون الأهالي بدون رحمة، بالعصيّ، على الرأس، وأينما وصلت العصا».
ومع ذلك، لم يشارك الأب وابنه في التظاهرات، تلك الجمعة، لكنه يتابع وصف الجمعة التالية:
«كانت أعداد عناصر الأمن أكبر، وكانوا أيضاً قد جلبوا معهم عمّالاً من المحافظة، سلّحوهم بالعصيّ والسلاسل والهراوات، لكي يضربوا الناس ويبطشوا بهم. الشاب المعتز بالله لم تهن عليه هذه المشاهد، ودم الأبرياء الذي يُراق، فقال لي يا أبي هذا لا يجوز. هذه دماء وليست ماء، وهؤلاء أهلنا هنا وفي درعا وكلّ مكان، وينبغي علينا أن نخرج في التظاهرات. فقلت له يا بنيّ، العين لا تقاوم المخرز، وهؤلاء في أيديهم بنادق وأسلحة ولا طاقة لنا عليهم. فردّ عليّ: يا أبي، دعني أموت شهيداً، ولا أكون نذلاً مع أهلي وأقربائي وأبناء بلدي. نحن لا نريد شيئاً سوى أن نقف معاً، وتكون أعدادنا كبيرة، لكي لا يستفردوا بنا، لأنهم مجرمون ولا يخافون الله».
في هذه الجمعة، يتابع الأب:
«صلّينا في جامع الحسن (حيّ الميدان، بدمشق). خرجنا من الصلاة، فوقعت بعض الاحتجاجات، ولم يكن المتظاهرون يحملون أي شيء، غير المسير بصدورهم العارية. مضينا إلى بيتنا في داريا، حيث نسكن، فوجدنا الطريق مغلقاً والناس محتشدة، فقال لي المعتز: دعنا ننزل ونشارك معهم، فالطريق أصلاً مغلقة. وهكذا نزلنا، ووقفنا مع الناس، وكانت شعاراتهم كلها (سلمية! سلمية! حرّية! حرّية)، ولم يردّد المعتز إلا هذه الهتافات، ولم يمسك بيده أي شيء يمكن أن يؤذي الأمن. كان نصيبه هاتين الطلقتين في الصدر، فسارعت لإسعافه، فهجم عليّ عناصر الأمن بالعصيّ، وهذه هي العلامات على ظهري، وعلى رأسي، وعلى رجلي. صرت أهتف: يا جماعة الفتى ينزف! أسعفوه على الأقلّ! ظلّ المعتز ينزف طيلة ربع ساعة، وظلّوا غير مكترثين، وبكلّ دم بارد رفضوا إسعافه، وحين وصلنا إلى المستشفى كان قد فارق الحياة».
ويختم الأب أنّ مشاركة الشهيد المعتزّ بالله انطلقت من باعث وحيد هو «نصرة أهله الذين كانوا يُقتلون، هنا وفي بقية المحافظات. وبالنسبة إلى ما يقولونه عن عصابات مسلّحة، نحن نتابع التظاهرات منذ أربعة أسابيع فلم نر أيّ متظاهر يحمل عصا في يده. العصابات التي شاهدناها بأعيننا، واضحة، وبإذن الله أنا أقول الصدق، هي من المخابرات ونظام الأمن التابع للرئيس بشار. هذه هي القصة بحذافيرها، لا يوجد أناس مسلّحون ولا عصابات مسلّحة ولا مندسون، كلّ هذا كذب وتلفيق على العباد. كلّنا مسالمون، طلبنا الحرّية، وأن يُفرج عن الناس الذين في السجون منذ 40 سنة، هذا هو الكفر الذي كفرناه بنظر الدولة».
جدير بالإشارة أنّ اثنين من أشقاء المعتزّ بالله اعتُقلا أيضاً، الأوّل في الصفّ التاسع (15 سنة) والثاني في الصفّ الحادي عشر (17 سنة).
لستُ أسوق هذه الشهادة لتوفير برهان إضافي على همجية أجهزة الأمن السورية، إذْ أنّ أولئك الذين ما زالوا بحاجة إلى براهين، هم في واحد من صفّين: إمّا أزلام النظام وأبواقه، وهؤلاء لا يقدّم لهم الدليل إلا أحمق غبيّ أهبل؛ وإمّا صفّ العارفين، حقّ المعرفة، لكنهم يجنحون إلى سلوك الصمّ البكم العمي، عن سابق قصد وتصميم. لكنّ شهادة المواطن السوري محمد بشار الشعار، وإلى جانب ما تختزنه من معانٍ جبّارة تمزج الأسى العميق بحسّ المقاومة الأعمق، يمكن أن تخدم في توجيه صفعة أخلاقية، ومهنية أيضاً، إلى أهل صفّ ثالث، فيه ينضوي رهط المتواطئين غير الصامتين، الناعقين بما يوحون أنها كلمة حقّ، وهي في الواقع باطل الأباطيل.
قناة "العربية" مثال فاضح: لكي تدرأ عن السعودية ما تشيعه أبواق النظام السوري حول تورّط بندر بن سلطان في تحريك التظاهرات السورية، فإنّ مراسلها في دمشق، حنا حوشان، يختصر عشرة آلاف متظاهر إلى عشرة أشخاص، ولا تبلغه أنباء مظاهرة في برزة أو أخرى في الميدان، وأمّا نجم القناة، طالب كنعان (الذي يُلقَّب بـ'صاحب الطلّة الهوليوودية'!)، فإنه لا يملك عند محاورة ممثّلي المعارضة السورية إلا الصراخ: يا أخي صبرتم 50 سنة، فاصبروا بضعة أسابيع!
وتلك، غنيّ عن القول، نصيحة بهتان لم تنطلِ البتة على الشهيد المعتزّ بالله، ليس لأنّ مآثر الانتفاضة السورية، إسوة بجرائم أجهزة النظام، جبّت دجل الإعلام ودجّاليه فحسب، بل لأنّ نداء الحرّية والكرامة لا تستصبره ألعاب الحواة!