قال الرئيس بشار الأسد في خطبة مجلس الشعب بضرورة الإصلاح كطريق لإخراج سوريا من حالها الراهن. وقدم معادلة قال إن تطبيقها سيحقق هذا الهدف، تقوم على الفصل بين حدود ثلاثة تشكل الأزمة الراهنة، هي: الفتنة، مطالب الشعب المشروعة، والإصلاح، وأوحى بأن محاصرة ووأد الفتنة يكونان بتحقيق مطالب الشعب المشروعة وتنفيذ الإصلاح. في هذه المعادلة، ليست الفتنة غير لحظة يتوقف تناميها على رفض مطالب الشعب وتعطيل الإصلاح. بالمقابل، ليست مطالب الشعب وليس الإصلاح من الفتنة، بل إن الاستجابة للأولى وإنجاز الثاني يقطعان الطريق عليها ويعزلان أنصارها شعبياً ووطنياً، ويمهدان بقوة لدحرها: بوعي الشعب الذي تحققت مطالبه وبتفاعله الإيجابي مع الإصلاح، ولأنه لا يعود لديه ما يأخذه على النظام أو يدفعه إلى التظاهر والاحتجاج ضده، مع بروز مسار سياسي جديد ستتطابق فيه إرادة المواطن ورغباته مع خيارات وأفعال الحكم، فتستقر البلاد ويرتاح العباد، ويجد دعاة الفتنة أنفسهم معزولين مكشوفين.
تكمن الحلقة المركزية لهذه المعادلة في أولوية تلبية مطالب الشعب وتحقيق الإصلاح، وهذان سبيلهما تدابير وإجراءات وقرارات تتخذ وتعلن بقصد تطوير النظام في اتجاه الحرية والمشاركة، كي يجد الشعب لنفسه مكاناً فيه، ويرى مصلحته في الأمن والاستقرار، خاصة إن تمت تلبية تلك المطالب التي ترضي الأغلبية الشعبية، وتتركز على الحرية والعدالة والمساواة، دون أن يتم الالتفاف عليها أو تفسر بطريقة تجافي مضمونها، بينما الإصلاح حاجة يمليها التطور الطبيعي لأي نظام، خاصة إن تغيرت شروط وجوده الأصلية، وعاش حقبة تبدلات تفرض تخليه عن جوانب تقادمت منه، وتطوير جوانب أخرى أثبتت جدواها، وإضافة جوانب جديدة إلى أبنيته وممارساته تمكّنه من التفاعل مع محيطه بالمستوى الذي يطور فاعليته، ويحفظ شرعيته، ويضمن استقراره.
يقول بعض نقاد النظام إن بنيته لا تسمح له بإجراء تغيير جوهري في كيانه. هذه فكرة موروثة عن عقل سوفياتي كان يرى أن كل نظام يكون محكوماً ببنيته التحتية، التي تكون قاعدته وتفرض عليه بنية فوقية حتمية لها مفردات محددة لا مهرب منها، فهو ملزم بالحفاظ عليها، وإلا انهار تحت وطأة التضارب بين مكوناته وبين هذه البنية الثابتة. لا أريد البرهنة على أن هذه الفكرة ليست صحيحة دوماً، وأنها تتعارض مع عديد من تجارب الحياة الواقعية، فلو كانت صحيحة لما تمكنت الرأسمالية من تطوير وتغيير جوانب متنوعة من بناها التحتية والفوقية، وأنها لم تبق من بناها إلا تلك التي تتسم بطابع شديد التجريد والعمومية، التي يعني تغييرها تبدلاً هيكلياً يعرض النظام للمخاطر، بينما يمكن لتظاهراتها البرانية والعميقة/ الهيكلية أن تتغير في سياق يكشف ما كان خفياً من جوانبها، ولم يضع العارفون يدهم عليه، لأن علاماته لم تكن قد تبلورت بوضوح بعد، أو لأنها كانت متداخلة مع غيرها، أو لأن من يتابعون الواقع لم يروها وهي تتخلق، نتيجة فشل إنساني لا يوجد من هو معصوم عنه.
ليس صحيحاً في الواقع أن البنية التحتية لا تستطيع أن تتظاهر إلا في شكل واحد، حتمي ووحيد هو بنية فوقية بعينها، وأنه لا بديل لهذه الأخيرة أيضا فهي حتمية بدورها، وأن النظام يتغير إن وقع أي تغيير فيها. يقال هذا، مع أن تبدل البنية الفوقية يكون بطيئاً وتراكمياً في العادة، والبنية التحتية ليست اقتصادية أو تتعين بالاقتصاد وحده، كما يعتقد معظم الأحيان، وإلا لما كان فريدريك إنجلز قد استنكر في رسالة إلى ليسنج هذا النمط من الفهم، وقال إن من يرى في الاقتصاد محدد البنية التحتية وفي هذه محدد البنية الفوقية يكون قد أساء فهم ما أردته أنا ماركس، فنحن كنا نريد أن نرى هذا المحدد في «إنتاج وإعادة إنتاج الحياة المادية»، وهذان أوسع بكثير من الاقتصاد ومختلفان ومستقلان عنه من جوانب كثيرة، وتدخل فيهما عوامل دينية ومعنوية وتاريخية وجغرافية وفلسفية واجتماعية ... الخ. للبنية التحتية لنظام من النظم القدرة على إنتاج تعبيرات مختلفة عنها، أو هي تحتمل قراءات متنوعة على صعيد البنية الفوقية (بافتراض أننا نقبل هذين المفهومين في صيغتهما هذه).
هل يستطيع النظام السوري القيام بإصلاح عميق وجدي؟ أعتقد شخصياً أنه يستطيع، إن هو مارس السياسة باعتبارها وعي الضرورة، الذي يجعل من تطبيق هذا الوعي فن الممكن. في وعي الضرورة، سوريا بحاجة لا شك فيها إلى إصلاح عميق وبنيوي، يقر أرباب النظام أنفسهم بشرعيته وحتميته، قال الرئيس إن حاضر ومستقبل البلاد يتوقف عليه. وفي فن الممكن، هناك بلا شك بدائل محتملة وواقعية للحال الراهن، تضمر، أو يمكن أن تضمر، طرقاً ووسائل تترجم وعي الضرورة إلى تغيير فعلي لا شيء يمنع أن يتم، في ظروف سوريا الخاصة ووضعها الوطني والقومي والإقليمي، وتوزع القوى الداخلية فيها، ضمن حاضنة تكفل بلورة بدائل تسمح بانتقال متدرج يأخذ الدولة والسلطة والمجتمع إلى تسوية تاريخية من نمط سلمي وتوافقي وآمن، هو مصلحة للجميع أينما كانوا، وبداية الطريق إلى خارج النفق، لأمد لا بد أن يكون طويلاً كي يخرجنا من المأزق الذي يتفجر في فترات زمنية متناقصة، ويأخذ صورة تمزق سياسي واجتماعي عنيف ومدمر، يقوض ما تم تحقيقه قبله، وخاصة على الأصعدة الوطنية والمعنوية.
أعود إلى السؤال: هل يمكن إجراء إصلاح يلبي مطالب الشعب ويوحد قواه في وجه الفتنة (التي تأتي من جهات مختلفة، وينفخ في نارها كثيرون، ويستغلها كل من يريد تحقيق أغراض لا تمت إلى الشعب والوطن بصلة، مهما أكثر من الحديث عنهما)؟ أعتقد أن هذا ممكن، وأنه الحل الوحيد، شريطة أن لا نرى الفتنة في مطالب الشعب المحقة، ولا نفصل بين الإصلاح وبين هذه المطالب، أو نضعهما في تعارض يجعلهما متنافيين لا يتعايش أحدهما مع الآخر أو يشترطه، وأن لا نتلاعب بمشروعيتهما، فنقف في منتصف الطريق بينهما. هذا المخرج، الذي فيه خلاص سوريا، يقابله طريق آخر يسد عملياً سبل الإصلاح ويرفض بالفعل وبالقول مطالب الشعب المحقة، لكونه يربط بينهما وبين الفتنة، أو يرى فيهما حاضنة لها تزودها بالتغطية التي تزيد فرص نجاحها، في حين تخرب، في الوقت نفسه، علاقة الشعب بالنظام وتكشفه وتحرض عليه، وتشجع على التخلص منه. في الطريق الأول، نحن أمام الإصلاح وشرعيته والشعب ومرجعيته، وفي الثاني أمام رفض مطالب الشعب وتعطيل الإصلاح نتيجة لوجود «مؤامرة» تتعرض لها سوريا لا بد من قراءة أي حدث مهما كان هامشيا وثانويا في ضوئها، ومن إدراجه في سياقاتها، مع ما يتطلبه التصدي لها من هوامش عنف واسعة، ضد أي مختلف أو مخالف في الرأي والموقف، والقضاء عليه بالوسائل التي تتكفل بتطهير البلاد منه.
بالعودة إلى خارطة الطريق التي أوردتها في بداية هذا الحديث: وملخصها أن تلبية مطالب الشعب المشروعة، وخاصة منها مطلب الحرية والعدالة والمساواة، وتنفيذ إصلاح جدي هما السبيل إلى وأد الفتنة، يكون من الضروري القول: إن القضاء على المؤامرة، حتى في حال وجودها بالفعل، لن يقود إلى حل الأزمة السورية الراهنة، بل سيضيف إليها مكونات جديدة وفائقة الخطورة، وأن لعنف ليس طريقة ناجعة في التعامل مع شعب يقدم مطالب محقة كان يجب أن تلبى من سنين كثيرة، لو كان أهل النظام يريدون تصحيح ما فيه من عيوب وأخطاء هيكلية غدت بمرور الوقت مزمنة ومنتجة لأزمات خانقة وشاملة، كانت جلية، وتم التنبيه إليها مرات كثيرة، لكنهم أغلقوا آذانهم عن سماع صيحات التحذير التي أطلقت من هناك وهناك، المطالبة بالتصدي السريع والجدي لها، والتي دفع بعض المثقفين من حياتهم سنين عديدة ومريرة للفت الأنظار إليها ودفع أهل القرار إلى إزالتها، لكنهم مالوا إلى معالجة أقوالهم باعتبارها جزءا من «مؤامرة»، فكانت النتائج ما نراه اليوم من توتر وتمزق سياسي مخيف، لا يجوز إطلاقاً أن يكون لأحد مصلحة في استمرار الأوضاع التي أنجبته، ناهيك عن معالجته بالقوة والعنف والحلول الأمنية، في حين توجد معادلة صحيحة بين أيدينا تربط خلاص القاع الشعبي من المشكلات بتلبية مطالبه والإصلاح الذي يعني فعليا التخلص من عيوب النظام، وعلى رأسها تلك العقلية التي تدافع عنها متجاهلة أنها تزيد بذلك الأمور سوءا، وتضع البلاد أمام معادلة خطيرة قدر ما هي خاطئة، حدها الأول القبول بالأمر القائم كما هو، وحدها الثاني العنف والخراب!
من غير الجائز وطنياً استمرار موقف عنيف يقفز من فوق ما يمليه وعي الضرورة وفن الممكن، وإن توهم أصحابه أن بوسعهم اجتثاث روح الحرية والعدالة والكرامة لدى أبناء وطنهم، ومعالجة مشكلات غير أمنية من أعلى طراز، توقف عليها دوماً مصير الشعوب والأمم والدول، بوسائل أمنية وعنيفة من أسوأ نوع، يعتبر مجرد اللجوء إليها سقوطاً في هاوية بلا قاع للوطن بأسره، وفي مقدمه لمن يستخدمونها!
لا بد من محاصرة فتنة يكمن جذرها في جمود النظام السياسي وتدهور حياة الشعب العامة والخاصة، وفي رفض الآخر والمختلف وإنكار حقه في الوجود، وفي أن تكون له حاجات ومطالب. ولا سبيل إلى محاصرتها بغير تلبية مطالب الشعب المحقة والإصلاح، خاصة وأن قهر دعاة الفتنة لا يكون بتقويض الحياة الوطنية بالسياسة أو بالعنف، ولن ينجح دون كسب الشعب بالإصلاح وتلبية مطالبه، التي ستبعث الحياة من جديد في شرايين حياتنا الوطنية المتيبسة، وستطلق عملية تجدد تاريخية نحن بأمس الحاجة إليها، بعد تجربة نصف القرن المنصرم، المأسوية إلى أبعد حد!