في مقالته يقدم الباحث التونسي وجهة نظر لغوية وتاريخية فيما يتعلق بعبارة "المرأة نصف المجتمع"، ويقول بأن المؤسسة التربوية هفت إلى صياغة قول معاصر ينسجم مع رؤاها العصرية، إلا أنها وقعت في حبائل محاكاة الأقدمين. ويطرح بديلاً عن هذا التداول عبارة: "المرأة مستقبل الإنسان".

حبائل القدامة

نقد عبارة «المرأة نصف المجتمع»

مصطفى القلعي

هذه العبارة »المرأة نصف المجتمع« رائجة في الخطابين العربيّين الشعبيّ والرسميّ وحتى في الخطاب العالِم. ولا نعثر عليها في الثقافات الأخرى بلفظها هذا ولا بمعناها. وبفعل ذلك الرواج تمكّن هذا التعبير من التسرّب إلى الوثائق التربويّة الرسميّة والوسائل التعليميّة والروائز البيداغوجيّة الموجّهة إلى النشء لتُعلِّمه وتربّيه.

نقرأ، مثلاً، تعريفاً بمجلّة الأحوال الشخصيّة التونسيّة تضمّنه كتاب مدرسيّ يقول:
"أصدرت الدولة التونسيّة في 13 أوت 1956 مجلّة الأحوال الشخصيّة. وتتمثّل أكثر إجراءاتها في منع تعدّد الزوجات زيادة على إقرار الطلاق العدليّ وحقّ المرأة والرّجل في طلب الطلاق وحقّ التعويض عن الضرر. وقد كان الهدف من مجلّة الأحوال الشخصيّة تعميم نمط العائلة العصريّة المحدودة الأفراد. ومضامين هذه المجلّة متماشية مع تأويل عصريّ للنصّ القرآنيّ خاصّة في ما يتعلّق ببندها الرئيسيّ الذي يمنع تعدّد الزوجات ومتماشية كذلك مع المواثيق الدوليّة لحقوق الإنسان ومع مقتضيات مشاركة المرأة بصفتها نصف المجتمع في العمليّة الإنتاجيّة وفي كلّ جوانب حياة البلاد"(1). لقد اتّكأ الرّائد البيداغوجيّ التونسيّ على المجاز حين وصف المرأة بصفة "نصف المجتمع". ولا يمكن بحال أن نرى هذا الكلام على وجه الحقيقة. غير أنّ الجهة التي أصدرت هذا الكلام جهة رسميّة يفترض أن يكون خطابها مدروساً له منطلقات وأهداف لا يؤدّيها المجاز ولا تعبّر عنها البلاغة التي لها مجال آخر تعمل فيه. وعبارة «المرأة نصف المجتمع» ليست عبارة ضامنة لوضوح الخطاب ولإبلاغ الرسالة الحاملة لمحتوى السياسة التعليميّة التونسيّة لأنّها عبارة مجازيّة يحتمل معناها أكثر من تأويل.

ويبدو أنّ المؤسّسة التربويّة قصدت إلى أن يكون كلامها حقيقيّاً من خلال عبارتها. فالكلام تعريف غايته حدّ الحدود. ويبدو، أيضاً، أنّها اختارت أن تكون أكثر واقعيّة بالتصاقها بكلام الناس المتداول بينهم. فرأت أنّه من البليغ استعارة قاموسهم اليوميّ وهي تضع برامجها الرسميّة. لكنّ العبارة المستعملة يبدو أنّها من اشتقاق الخطاب الصحفيّ الذي كثيراً ما يشتقّ العبارات ويردّدها فتروج بين الناس. وتتمكّن من خطابهم. وقد يتبنّاها الخطاب الرسميّ السياسيّ(2) أو التربويّ أو غيرهما. وحينذاك تمتلك تلك العبارة المتبنّاة شرعيّة الحضور والتداول دون أن يضمن لها ذلك الاستقرار في أنظمة اللغة العربيّة كلّها المعجميّة والاشتقاقيّة والإعرابيّة والدلاليّة. إنّ مصطلح "نصف المجتمع" منسجم مع أنظمة ثلاثة (المعجم/ الاشتقاق/ الإعراب) من أنظمة العربيّة الأربعة المذكورة. فهو يتكوّن من لفظين عربيّين فصيحين مستعملين في المعجم العربيّ الرسميّ والشعبيّ والتربويّ والفكريّ. وهما مشتقّان على وزنين سليمين من أوزان صيغتين صرفيّتين عربيّتين. كما أنّهما يستجيبان لقوانين الإعراب العربيّة. ويمكن أن يشغلا محلاّت مختلفة في الجملة العربيّة. إذن، المصطلح من هذه الجهات الثلاث لا ضير فيه.

بقي الإشكال في النظام الرابع أي النظام الدلاليّ. فالأنظمة الثلاثة السابقة تخدمه. ولا يكون إلاّ باستوائها وقيامها سليمة. لكنّه لا يكتفي بها. ذلك أنّه مرتبط بعوامل سياقيّة ومقاميّة وتاريخيّة واجتماعيّة وحضاريّة وغيرها. إنّه نظام حسّاس شديد التوتّر والتأثّر بكلّ ما يحيط بعمليّة إنتاج الكلام. بل إنّه موصول وصلاً وثيقاً بنظام آخر يتنافذ معه هو النظام البلاغيّ. ومتى بلغ البحث في الكلام، أيّ كلام، مستوى الدلالة دخل الباحث منطقة المعاناة لأنّه دخل إلى أشدّ مناطق اللغة عتمة وكثافة وإلغازا. وعندها كثيراً ما يفقد الباحث أدواته المنهجيّة والعلميّة لأنّه سيجد نفسه يتحرّك في فضاء متحرّك ذي دوائر لولبيّة متوّهة كلّما توهّم أنّه أمسك بطرف إحداها وجد نفسه في متاهة جديدة. لقد توسّلت المؤسّسة التربويّة الرسميّة التونسيّة تحقيق غايتها البيداغوجيّة بعبارة مجازيّة قد لا تكون مطواعة بما يفي بغرض الوضوح والبيان المطلوب في مثل هذا المقام. والعبارة تصرّح بأنّ النصف ليس دليل وحدة. فنصف التفاحة نصف، وليس تفّاحة كاملة. وهو لم يصر نصفاً إلاّ بعد شقّها بالسكّين. ثمّ إنّ إثبات نصفيّته أمر عسير مهما كان حرص الشاقّ على الميزان. وعندها قد يكون نصف أحد النصفين أكبر من الآخر. فكيف سيفعل الشاقّ للموازنة بينهما؟ أيسلخ الزائد ليرقّع الناقص أم يفرغ اللفظ من معناه فيسمّي القطعة نصفا دون أن تكون نصفاً؟

فالنصف، إذن، لفظ دالّ على الانشقاق. فهو لا يتأتّى إلاّ عبر شقّ الواحد اثنين كما رأينا. إنّه لا يكون بالضمّ بل بالشقّ. وإذا شُقّ الواحد اثنين فإنّ النصف لا يمكن مطلقا أن ينضمّ مجدّدا إلى النصف الثاني المنشقّ عنه على النحو الذي كانا عليه من جهة. ولا يمكن للنصف المشقوق أن يعيش نصفاً أبداً من جهة ثانية. لقد أفسد الشقّ وحدة الشيء. وأنتج نصفين غير قابلين للحياة. العبارة، إذن، في عمقها حمّالة دلالات سلبيّة لا تخدم نوايا مستعملها. بهذا المعنى فإنّ عبارة «المرأة نصف المجتمع» تفترض، بدءا، في ذهن المتلقّي، شقّ المجتمع اثنين للحصول على امرأة نصف ورجل نصف، أيضاً. وعمليّة الفصل الجراحيّة الاجتماعيّة هذه ستتطلّب عمليّات تجميليّة كثيرة لتدارك التشويهات الحاصلة في النصفين الشقيقين بفعل حدث الشقّ. والثابت أنّ المؤسّسة التربويّة التونسيّة قد كانت غايتها من وراء استعمال هذه العبارة عكس هذه المعاني تماماً. لقد كانت تنوي أن تقول إنّ الرجل والمرأة يشكّلان وحدة معاً. لكنّ الإشكال ماثل في العبارة المستعملة رغم النوايا الطيّبة للمؤسّسة التربويّة.

نعود إلى النصّ التعريفيّ مادّة هذا المقال ونقرأ الكلام الوارد في نصفه الأخير. يقول النصّ: "ومضامين هذه المجلّة متماشية مع تأويل عصريّ للنصّ القرآنيّ خاصّة في ما يتعلّق ببندها الرئيسيّ الذي يمنع تعدّد الزوجات ومتماشية كذلك مع المواثيق الدوليّة لحقوق الإنسان ومع مقتضيات مشاركة المرأة بصفتها نصف المجتمع في العمليّة الإنتاجيّة وفي كلّ جوانب حياة البلاد". نؤكّد أنّنا نكتفي، في هذا المقام، بقراءة بلاغة الكلام من مداخل لسانيّة ودلاليّة. ولا نناقش، هنا، برامج سياسيّة ولا مناهج تربويّة. ولا ندرس تاريخيّة مجلّة الأحوال الشخصيّة التونسيّة ولا ريادتها. وسنختزل هذا الكلام فيما يعنينا في هذا السياق. وهو: "ومضامين هذه المجلّة متماشية مع (...) ومع مقتضيات مشاركة المرأة بصفتها نصف المجتمع في العمليّة الإنتاجيّة وفي كلّ جوانب حياة البلاد". إذا اختزلنا هذا الكلام اختزالاً أخيراً في لفظين رئيسيّين فيه، هما: "مشاركة" و "نصف"، وجدنا أنفسنا أمام إشكال دلاليّ حقيقيّ؛ كيف يشارك النصف وهو ناقص؟ إنّ المشاركة حدث تاريخيّ يقتضي الوعي والمتانة والقدرة. فهل تتوفّر هذه الخصال في النصف؟ إنّ المتعلّم الذي إليه يوجّه هذا الخطاب يعي بالتجربة والمعاينة أنّ من ينقصه جزء صغير من جسده عُدّ معاقاً ناقصاً غير قادر على إنجاز أعمال كثيرة، وأنّ من تصيبه حمّى عابرة وترتفع حرارته قليلاً يلازم الفراش ويحتاج إلى الرعاية. فكيف يقتنع بفكرة أنّ من ينقصه نصف بمجمله قادر على المشاركة لا فقط "في العمليّة الإنتاجيّة" بل "وفي كلّ جوانب حياة البلاد"؟

تبعاً لذلك، لابدّ من البحث في الخلفيّة التي استندت إليها المؤسّسة البيداغوجيّة التونسيّة أثناء وضعها هذا التعريف. لاسيّما أنّ التعريف عمل فلسفيّ تجريديّ. إنّ ما يقوله النص التعريفيّ صريح. وهو أنّ المرأة نصف. لكنّ ما لا يقوله هو أنّ الرجل نصف، أيضاً. وهو صريح كذلك بما أنّه من البديهيّ أنّ للنصف نصفاً آخر حتى يكون نصفاً. وهو ما يعني أنّ هذه المؤسّسة استندت في وضع تعاريفها إلى رؤية مثاليّة أفلاطونيّة معروفة تفسّر الاجتماع البشريّ على أنّه تجسيم أرضيّ لما كان في السماء. فالأرواح تلتقي في الأعالي. وعندما تُخلق الكائنات في الأرض أو تُنزَّل إليها تلتقي تلك الأرواح من جديد بعد أن تكون قد تلبّست أجساداً. هذه الرؤية الأفلاطونيّة نفسها التي استكان لها الخطاب البيداغوجيّ الرسميّ التونسيّ كانت قد تسرّبت إلى الفكر والأدب العربيّين القديمين بفعل عوامل حضاريّة، ثمّ ثقافيّة تاريخيّة معروفة أنتجها وأثبتها عصر الترجمة. من ذلك ما شهدته كتابة الحبّ في الأدب العربيّ القديم شعراً ونثراً من ترويج لهذه الرؤية المثاليّة. فقد قال جميل بن معمر (40ﻫ-82ﻫ/ 659م-701م) شعراً:

تعلّق روحي روحها قبل خلقنا * * * ومن بعد ما كنّا نِطافا وفي المهد

فزاد كما زدنا فأصبح ناميا * * * وليس إذا مُتنا بمنتقَض العهد(3)

ونقرأ ما قاله ابن حزم الأندلسيّ (384ﻫ-456 ﻫ/ 994م-1064م) في المعنى نفسه متحدّثاً عن الحبّ نثراً، في مكان وزمان آخرين: «وقد اختلف الناس في ماهيته وقالوا وأطالوا. والذي أذهب إليه أنّه اتّصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع (...) وقد علمنا أنّ سرّ التمازج والتباين إنّما هو في الاتّصال والانفصال. والشكل دأبا يستدعي شكله. والمِثل إلى مثله ساكن. وللمجانسة عمل محسوس وتأثير مُشاهد. والتنافر في الأضداد. والموافقة في الأنداد...إلخ»(4). هكذا نرى المؤسّسة البيداغوجيّة الرسميّة تهفو إلى صياغة خطاب معاصر يعبّر عن رؤاها التقدميّة حول بناء مجتمع عصريّ ينهض على جملة من القرارات والتشريعات والقوانين الرّائدة تضمّنتها جميعا مجلّة الأحوال الشخصيّة. لكنّ اللغة خذلت طموح منتجي الخطاب. وذلك راجع إمّا لضبابيّة الرؤية وإمّا لفقر لغويّ وإمّا لغياب الاختصاص وإمّا للحماس الزائد وانعدام الرويّة. وهو ما أدّى إلى سقوط الخطاب في حبائل القدامة. فوجدت المؤسّسة المنتجة للخطاب نفسها تعدّ الأرض للقدامة لتأتي مظفّرة وتستلب الخطاب من معاصرته. من القدامة الإغريقيّة تحرّك الخطاب. وتوقّف عند القدامة العربيّة. وظلّت المعاصرة مجرّد شعار.

تشطر المؤسّسة الرسميّة العربيّة المجتمع. وتشقّه نصفين لتظفر بمصطلح قَداميّ يعود بالفكر والمجتمع القهقرى، كهذا المصطلح: "المرأة نصف المجتمع"، فيما تنتج الثقافة الغربيّة عبارة جميلة تعلي من شأن المرأة وتسمو بها إلى ذرى عالية كهذه: "المرأة مستقبل الإنسان" «la femme est l’avenir de l’homme»(5).

 

كاتب من تونس

Mustapha.kalii@yahoo.fr

 

هوامش
(1) كتاب التاريخ الموجّه لتلاميذ السّنة السّابعة ثانويّ في تونس (البكالوريا في النظام التعليميّ التونسيّ القديم)، ط أوت 1994، ص518.
(2) يمكن أن نذكر، على سبيل المثال، مصطلح »مناطق الظلّ« الذي راج كثيرا في تونس منذ أواخر ثمانينيّات القرن الماضي. وهو مصطلح من إنتاج الصحافة اشتقّته لتعريب المصطلح الفرنسيّ «les zones d’ombre»، وهي واقعة تحت إلحاح الضرورة الثقافيّة التي تقتضي متابعة الفعل السياسيّ. وقد استعار الخطاب السياسيّ الرسميّ التونسيّ هذا المصطلح، وتبنّاه لوصف المناطق الفقيرة في البلد المحتاجة إلى السند والتنمية. لكنّ المصطلح، وإن كان سليم اللفظ ملائما لأنظمة العربيّة، فإنّه لم يرتح للمعنى المراد منه أن يؤدّيه كما في لغته الأمّ. وذلك بفعل اختلاف العوامل المناخيّة بين الفضاءين اللسانيّين المقرِض والمقترِض. فالظلّ مذموم في مناخ ثلجيّ بارد أين ولد المصطلح. بل إنّه يكون أحيانا صنو الموت. أمّا في المناخ الحارّ أو الصحراويّ أو المتوسّطيّ الذي استعار المصطلح فإنّ الظلّ نعمة مطلوبة. والمنطقة الظليلة كثيرا ما تكون منطقة مرفّهة سيّالة مياهها كثيفة أشجارها كثير خيرها. ولا تكون في حاجة إلى تدخّل سياسيّ عاجل.
(3) جميل بن معمر: الديوان، دار صادر، بيروت، 1966، ص42.
(4) ابن حزم الأندلسيّ: طوق الحمامة في الألفة والألاّف، حقّقه وقدّم له: صلاح الدين القاسمي، طبعة مزيدة ومنقّحة، الدار التونسيّة للنشر، ط5، 1993، ص49-50.
(5) هذا عنوان أغنية ألّفها وشدا بها الفنّان جون فرّات (Ferrat, Jean) (1930-2010)، وهو مؤلّف موسيقيّ وملحّن ومغنّ فرنسيّ شهير. وقد اشتهر بأداء قصائد الشاعر السريالي الكبير لوي أراغون (Louis Aragon) (1897-1982).