هنا يتناول الناقد منجز الفنانة التشكيلية السعودية، فيقارب خصائصه الجمالية وأسلوبها التجريدي الرمزي، كما ويبحث في صلات فنها مع بناء القصدية التشكيلي في تجربة الكتابة الشعرية التي تمارسها.

ليلى جَوْهر تشكيليّة سَعودِية ذات اهْتماماتٍ أدَبية

فريد أمعضشو

على سبيل البدء
لقد دأب الإنسان على التعبير عن ذاته وواقعه وعمّا حوله جميعاً باعتماد أدوات متعددة ومختلفة. ودافعُه إلى ذلك الحاجة الملحّة إلى تشخيص شعوره، ونقل أشياء الوجود إلى الآخر؛ طلباً للتأثير فيه أو إخباره أو إشراكه فيما هو بصدده. والواقع أن ألوان التعبير في الثقافة العربية عديدة ومتمايزة من حيث ميكانيزماتُ الإبلاغ والأداء، وإنْ كانت متفقة، أحياناً كثيرة، في مرْماها. فالشاعر أو الخَطيب معبِّر بالكلمة، والموسيقي يتخذ من الألحان والنوتات الموسيقية مادةً له، والنَّحّات أو المَثَّال يتوسَّل بالحجارة أو بالطين للتعبير، والراقص بحركات جسده وإيماءاته...إلخ.

ومن الفنون التعبيرية التي أضْحَت تفرض نفسها في مشهدنا الثقافي في اللحظة الحضارية الآنية التشكيلُ الذي يحتاج – على غرار الفنون المتقدمة – إلى وسيلةِ تعبيرٍ تتمثل في الفرشاة والأصباغ أساساً. وقد بدأ تشكيلُنا خَجولاً مُحتشِماً متعثرَ الخُطى قبل أن ينضجَ ويستويَ على ساقه ويتقوّى بفضل جهود ثلّةٍ من الفنانين العرب الكبار الذين شمَّروا عن سواعد الجدّ والبحث إلى أن وصلوا بالتشكيل العربي إلى مصافّ العالمية، وذلك ما عكسته شهرة بعض التشكيليين العرب، مغاربة ومشارقة، على الصعيد الدَّولي. ومنهم على سبيل التمثيل لا الحصْر أحمد بن يسف، المزداد بتطوان عام 1945، الذي "صار واحداً من أشهر الرسّامين العالميين، ولوحاتُه تعدُّ من أغلى اللوحات التشكيلية في أسواق اللوحات. رجل بوهيمي بكثير من الالتزام الفني في طريقة عمله، وإصراره على أن الفنّ عملٌ محترَم جداً، وقبل أن يبلغ بن يسف شهرته الكبيرة، فإنه نام في الحدائق، وتضَوَّر جوعاً، وعانى من فقر الدم، ثم تحول شيئاً فشيئاً إلى رسّام شهير، والتقى بشخصيات كبيرة، واستقرّت إحدى لوحاته على ورقة المائة درهم المغربية، وأصبح أحدُ تصميماته معتمَداً لدى هيئات دولية"(1). وبن يسف، كما قال عنه أحد نقاد الفن الإسبان، "حزين مثل المطر، وعنيف مثل التيار، وخصب مثل الندى؛ ولذلك فهو لا يستقرّ على عمل واحد، بل هو في سفر دائم عن مادته في الإنسان والأرض، المدن والحياة، يترصَّد الجوانب الخفيّة فيها، ملتفِتاً إلى ما غَمُضَ منها، فإذا هي ماثلة للعيون، نافذة إلى القلب جاعلةً فيه أثراً من الوجع ولمسة من الأسى"(2).

ولكن الثابت الذي لا مجال لإنكاره هو أن التشكيل العربي اصطدم في تطوره عبر مساره الحياتي بعدد من الإشكاليات والعقبات، منها إشكاليةُ الهُوّية التي عبّر عنها، بوضوح، أحد الفنانين التشكيليين المغاربة قائلاً: "الفن التشكيلي العربي – كتعبير، ككتابة، وكخطاب بواسطة الفرشاة – واجه إشكالية أساسية التحمت به منذ ميلاده؛ ألا وهي موضوع الهوية، والمتمثلة في كيفية التوفيق في المحافظة على قيمه وعاداته، وفي مواجهة مستجِدّات الحاضر المعقدة والمتجلّية في التمزق الإنساني بكل أبعاده، حضارياً واقتصادياً وسياسياً وروحياً، على امتداد الخارطة العربية، هذه المعضلة جعلت الفنان يعيش مشكلةَ ذاتِه، وقضية إثبات هويته: كيف يتخلص من الرواسب الثقافية – الانبهار والتقليد – التي ورثها من المستعمِر؟ كيف يُظهر لنفسه وللآخر شخصيته من خلال هذا النوع من التعبير؟ كيف يضمن وصول خطابه التعبيري للآخر؟ كل هذه العوامل تشكل القاسم المشترك للفنون التشكيلية المعاصرة في البلدان العربية، مع اختلافٍ في كيفية وشكل طرح المسألة والتعامل معها"(3).

إن الذي يتأمَّل واقعَ الأدب والفن في الوطن العربي الآن يلمس – من كثبٍ – إسهام أقطار هذا الوطن، بدرجات متفاوتة، في أجناس الأدب وفنون التعبير المختلفة. ويلوح من بينها الفن التشكيلي الذي قطع شوْطاً مهمّاً في سُوحِ الفنون العربية، ولاسيما في الآونة الأخيرة بعد الاحتكاك القوي لتشكيليّينا بنظرائهم في الغرب وفي أمريكا اللاتينية وغيرهم، وبعد الاطلاع الواسع على الحركات التشكيلية في العالم بأسره، وثمة مَن يحاول أن يرتادَ بهذا الفن آفاق التجريب والتأصيل. ولا شك في أن للنقد التشكيلي الذي واكب هذا الفن في السنوات الأخيرة إسْهاماً بيِّناً في تحقيق ذلك النمو والإقلاع المُشاهَدَين.

ويُهِمُّنا في هذا المقال أن نسلط ضوءاً على الحركة التشكيلية بالمنطقة الشرق أوسطية، وبالمملكة العربية السعودية بخاصةٍ من خلال الوقوف عند إحدى علاماتها وتشكيلياتها اللائي فرضْنَ أنفسهن في ساحة التشكيل السعودي بفضل ما أبدعته ريشتها من لوحات تنطوي على كثير من مظاهر التفوق والبهاء والصدق التعبيري وغير ذلك مما يَضْمَن للفن – أي فنّ – أسباب الحضور والوجود والتأثير. ويتعلق الأمر بالفنانة والمبدعة ليلى جوهر.

مَنْ هي ليلى جوهر؟
إنها إعلامية وفنانة وأديبة سعودية معاصرة. إذ سبق لها أنِ اشتغلت صِحافية مهتمَّة بما له صلة أساساً بقضايا الأسرة والمجتمع في صحيفة "دنيا" مثلاً، وكانت سكرتارية تحريرٍ لها، ولها مشاركاتٌ عدة في صحف ورقية وأخرى رقمية؛ من مثل مواقع: مدد – منابر ثقافية – الهدف الثقافي – دروب – شبكة الإبداع – أقلام... إلخ. وقد اشتهرت ليلى جوهر، بصفة خاصة، في مضمار التشكيل. بحيث إنها ولعت بهذا الفن التعبيري والشكل الخطابي منذ سنوات بعيدة، وخَبَرَت دقائقه ومسالكه، وتذوَّقت جميلَ نصوصه ومُبْدَعاته الغربية وغير الغربية، وتعمّقت في درْس البورتريه والرسم وفن التصوير الزّيْتي. وتسلك الفنانة في إبداعها سبُل التجريب محاوِلةً الخروج عن التجارب الكلاسيكية والطبيعية الواقعية التي تتأسس على قاعدة "الفن محاكاة للواقع". إن ليلى جوهر عاشقةٌ للتشكيل والتصوير إلى حد الهيام، وإنها لتتنفس أريجَه! وهذا ما نتلمَّسه من قولها مُجيبةً عن سؤال: "ما الذي يمثله الفن والريشة بالنسبة إليك؟"، وذلك في سياق حوارٍ مُجْرىً معها، ومنشور في صحيفة "عكاظ" بتاريخ 15 أبريل 2007، قالت: "يمثل الفن التشكيلي نَبْض حياتي". وقد نظّمت الفنانة عدة معارض تشكيلية فردية في بلدها، وفي مدينة جُدَّة خصوصاً، وشاركت في أخرى جماعية صحبة فنانين وفنانات من السعودية ومن بلدان عربية أخرى، أقيمتْ في القطر السعودي. وهي عضوٌ فاعلة في جماعة نسائية فنية تُعْنى بالتشكيل، تأسست مؤخراً في جُدَّة، وحملت اسم "تشكيليات جدة". وعن غاية هذا التجمُّع المولود حديثاً، تقول رئيسته وفاء العقيل إن مقصودَنا من تأسيس هذه الجماعة هو تحقيق مطلب "التواصل فيما بيننا (أي بين التشكيليات السعوديات) فنياً وثقافياً، وإبراز الإبداعات النسائية محلياً وعربياً متأمِّلةً أن تكون هذه الخطوة نواة للنهوض بالحركة الفنية التشكيلية السعودية"(4). وتضم هذه الجماعةُ، إلى جانب عضوها النَّشِطة ليلى جوهر ومؤسستها وفاء العقيل، الأسماءَ الاثنيْ عشرَ الآتية: فاطمة عمران، وعلا حجازي، وحنان العقيل، وسلوى الحجر، وإيمان حبيب، وهدى توتونجي، وبركة الصبياني، وإيمان المنياوي، وريم عجينة، ومها باعشن، وسامية الجيوبي، وفاطمة باعظيم. وقد شاركت ليلى في مسابقات تشكيلية عدة، منها تلك التي تنظمها وزارة الخارجية السعودية، ويرعاها صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز، وتحمل اسم "مسابقة السفير" (الدورة الثانية/2007)، وهي مسابقة متميزة وراقية، يزيد مجموعُ جوائزها عن ربع المليون دينار سعودي، موجَّهة، خصيصاً، إلى فناني السعودية التشكيليين، ومقصورة على مجال التصوير التشكيلي (Painting)، وتهدف – حسب القيِّمين عليها – إلى "اقتناء أعمال فنية من الفنانين السعوديين ذات مستوى رفيع تخضع لتحكيم نخبة من الفنانين والنقاد التشكيليين ووضْعها في سفارات المملكة العربية السعودية في الخارج"(5).

إن الفنانين التشكيليين العرب ينْضَوون تحت لواء مدارس فنية مختلفة؛ فمنهم مَن يُؤثِر الاتجاه الواقعي، ومنهم من يميل إلى المدرسة التجريدية، ومنهم من يشتغل في إطار التيار التكعيبي. وقد أطْلعَتْني الفنانة ليلى جوهر – مشكورة – على عددٍ من لوحاتها الناضجة والناجحة، فوجدتها منسوجة وَفق طريقة التشكيليين السورياليين التجريديين، ومعبِّرة عن الواقع بما يَمُوج فيه من تقلبات وتفاعلات وغيرها، ولا يمكن لقارئها الاقتراب من حوْمتها وملامسة جوهر مضامينها ما لمْ يبذلْ قُصارى جهْده في فهمها، وفكّ شفراتها، واستجلاء روحها، وإنعام النظر في علاماتها. وحين سألتها، عن الاتجاه الذي يمكننا أن نُمَوْقِع ضمنه أعمالها، ردَّت قائلة: "إن لوحاتي التشكيلية منتمية إلى الاتجاه التجريدي الرمزي، وذات مضمون إنساني معاصر". ولعل هذا أبرز ما يشدّ الناقد والقارئ شدّاً للوقوف – بالتأمل – عند إبداعاتها في ميدان التصوير التشكيلي. فهي آثارٌ مفتوحة توافَرَ فيها عددٌ من عناصر التفرُّد والصدق والبهاء والجاذبية؛ مما يتيح قراءتها قراءاتٍ، والاستلذاذ بها، ورؤية الواقع والذات والوجود العام مجسَّداً فيها.

وعِلاوةً على كون ليلى جوهر صِحافية وتشكيلية، فهي أيضاً أديبة لها إسهاماتٌ في مجاليِ الكتابة المقالية والكتابة الشعرية. فبخصوص وجهها الأدبي الأول، فللأديبة عددٌ من المقالات والدراسات التي يمكننا قراءتها في جملة من المواقع الإلكترونية مثلاً، وبخصوص وجهها الثاني – وهو الذي يَعْنينا أكثر في هذه المقالة المتواضعة – فهي صاحبة مجموعة من النصوص الإبداعية المكتوبة على طريقة ناظِمي قصيدة النثر المعاصرين، منها قصيدتها الغنائية الوُجْدانية الموسومة ب"قصيدة الفرح" التي أهْدَتها للأديب العراقي الكبير سعيد الوائلي الذي رأتْ فيه "مثل الصمود، وعزيمة التحرر من القيود التي تفرضها قوانين بشرية بالية"(6). ولا أخفي أمراً لمسته، شخصياً، في الكاتبة حين قرأتُ لها تعليقاً سَجَّلته على نص شعري تفعيلي كنتُ قد نظمته ذات مساءٍ من الأماسي الغُشْتية سنة 2003 بمدينة "أصيلا" الجميلة. وهو امتلاك من فاهتْ بذلك التعليق ذائقة نقدية قابلة للصَّقل والبلوَرَة، وقدرة واضحة على قراءة ما وراء السطور وملامسة لبّ الكلمة الشاعرة.

مجملُ القول هنا إن الأديبة ليلى جوهر اسم فني متألقٌ في سماء الفن التشكيل السعودي، وواعد في ساحة التشكيل العربي بالكثير. وإن عشقها للتشكيل لم يمنعها من ارتياد عوالم أدبية أخرى؛ فخاضت غمار الكتابة الصحافية التقريرية، وجرَّبت نظْم الشعر وممارسة النقد، فأبانت عن امتلاكها قدراتٍ واستعداداً لاقتحام مجالات أدبية وطَرْق أفانين تعبيرية أخرى غير التصوير والتشكيل والرسم.

ليلى جوهر تشكيليةٌ تَطْرُقُ بابَ القصيدة
أشرْنا آنفاً إلى أن لليلى جوهر عدداً من النصوص الشعرية التي تنبض صدقاً وشفافية؛ منها نصٌّ اختارت له، عنواناً، عبارة "رسائلي إليهم"(7)، وهو واحد من مجموعة نصوصٍ لم ترَ نور النشر بعدُ؛ كما صرحت بذلك الشاعرة نفسُها، وذيِّل بتاريخ 24/09/2007. وتتألف بنية هذه الباقة الشعرية من تسعة وسبعين سطراً "شعرياً" موزعة على ثلاثة مقاطع تترابط فيما بينها دلالياً، وتتقارب كَمّياً؛ بحيث إنها جميعها تتفق على تصوير الواقع العربي المَعيش بما يعتمل داخله من زيف وقسوة واغتراب وغير ذلك، ونقْل جانبٍ من حياة ناسه والصلات القائمة بينهم. ويقع أول هذه المقاطع في ثمانية وعشرين سطراً، وثانيها في أربعة وعشرين سطراً، وثالثها في سبعة وعشرين سطراً، مع معايَنة تفاوتٍ واضح بين هذه الأسطر طولاً وقِصَراً تَبعاً لحالة الشاعرة نفسياً وشُعورياً غِبَّ نظْم قصيدتها هذه. وسنكتفي في هذا المساق بتقديم قراءة سريعة في هذا النص الشعري الجميل الذي يشكل أنموذجاً لشعر ليلى جوهر التي تختزن قريحتها قدرة كبيرة في مضمار الكتابة الشعرية الجديدة، والتي يَنِمّ إنتاجها الشعري عن حيازتها آليات نظم القصيد (ج. قصيدة) وميكانيزماته.

اِستهلت الشاعرة نصها "رسائلي إليهم" على عادة رجالات الفكر والفلسفة معتبرةً الوجودَ بفراغه وسديميته وعدميته أساسَ تشكُّل صَرْح الحقيقة، معارضةً – إلى حدّ مَا – الطرْح الديكارتي الذي رأى في المنحى الشكي طريقا موصِلاً إلى درب اليقين. وأعقبت ذلك برسم صورة تكاد تكون حيّة لواقع حاضر يُعاش آنياً؛ واقعٍ يَسِمُه الكاوس والحزن واختلال المعايير والفراغ والجمود القاسي وسيادة منطق الغاب والاضطهاد. ولا ريب في أن الشاعرة حاولت مستميتةً صنعَ ألفة مع واقعها هذا بكل ما يميّزه من خواصّ، ولكنها أحست بمَضاضة الاغتراب القاسي داخله لتقرر ترْكه مغامِرةً إلى غير رجعة، وكلُّ زادها متاعٌ مزدوج؛ حلمٌ بمثابة أنْجُم متلألئة في كبد الثريّا، ووهْمٌ بمثابة قمرٍ ينير جنبات اللاّشيء! إن الشاعرة، برهافة حسّها وصدق شعورها، لم تستطع خلْق مواءمة نفسية مع ذلك الواقع الموبوء وناسه الذين تمتلئ قلوبُهم بالإذاية والخَنا والاستخفاف بكل حُرّ مستضعَف متسلح بسلطان الكلمة الجميلة الهادفة الملتزمة الثائرة، لذلك نلحظها مُسْتاءةً منه، منتفِضة في وجه من يسيئون لها صُنعاً. إن هذا الذي صوَّرته الشاعرة، وتذمَّرت منه، سبق لشعرائنا المعاصرين الكبار أن اتخذوا منه الموقفَ نفسه أو أكثر. ولنا في أشعار أحمد عبد المعطي حجازي، وبدر شاكر السياب، وصلاح الدين عبد الصبور، وأحمد المعداوي... شواهد قوية عليه. ومَرَدُّ ذلك إلى طبيعة المرحلة المعيشة، ومتغيّراتها الكثيرة، وتحولات الإنسان القابعة وراءها جملةُ عواملَ؛ منها الداخلي، ومنها الخارجي.

وتصف ليلى جوهر في المقطع الثاني من نصها "رسائلي إليهم" حال ثلة من أبناء الوطن العربيّ الذين استغلوا ظروفاً تاريخية مّا، للوَثب إلى مراتبَ ميَّزتهم من سواهم من أبناء مجتمعاتهم، وجعلت مفاتيح التحكم والتوجيه في أيديهم. إن هؤلاء المقصودين بكلام الشاعرة يأنَفون من قيم الجمال، ويسعون، بكل ما أوتوا من قُوىً وحِيَل، إلى إظهار قبحهم وشرورهم، ويستلذون بتعذيب ضمائرهم وضمائر الأغيار، ويعيشون على غير سُنَن الكون المعهودة، ويَطْرَبُون لسماع أصوات مُنَكّرة في شريعتهم. وتوسَلت شاعرتنا بأسلوب الحوار الفني غير المباشر لنقل محادثة، نشتمّ منها رائحة الشجَن والتقزز والأسى والدناءة، بين أطراف يتعاقبون على الكلام إنتاجاً وتلقياً حول أحد أسباب معاناة الشاعرة وتمردها!

وتسترسل الشاعرة، في آخر مقاطع قصيدتها، في الحديث عن "الأسياد" الذين لهم مفاتيح التحكم في الواقع العربي، راصدةً بعضاً من سلوكاتهم الذميمة القاسية. فرُغْم افتضاح أمرهم بسقوط أقنعتهم المصْطَنَعة، إلا أنهم تمادوا في انتهاج السبيل التي اعتادوها، متنكِّرين لأصالتهم ولذواتهم، متطاولين إلى اصطياد حريات غيرهم واستلابها لإخضاعهم وتركيعهم. وقد شبهت الشاعرة الإنسان الطليق بطائر رابض على فَنَن شجرةٍ يحاول من يَتسَيَّد افتراسَه وإيقاعه في شباكه القاسي كما اعتاد مراراً، ومع غير الطير. ولكن رغم توالي محاولاته واجتهاده في الرمي، إلا أنه – لحسن الحظ – أخطأ القذف، ولم يصب مرماه؛ مما بعثه على الغيظ والشعور بالمرارة والانكسار وتعنيف الذات وتعذيبها، لينتهيَ فاشلاً مندحِراً؛ فأصدر دويّه المقزز تعبيراً عن الانهزام، وطار الطائر مفزوعاً، ولكن سالماً ناجياً منتصِراً بشكل من الأشكال. وبهذا، يتبدّى أن قصْدية ليلى حاضرة، بقوة، في نسْج خيوط نهاية قصيدتها؛ إذ إنها تقدم إشارة واضحة إلى أن شوكة الجَوْر والطغيان والقمع - مهما آلمت، واستبدّت - فلا بد من أن تؤول يوما إلى الانكسار والزوال. وهذا يحيلنا على بيت أبي القاسم الشابي (1909-1934م) الشهير النّاصّ على أن ليل المعاناة والأحزان مُنْجَلٍ لا محالة مهما طال أمده، وعلى أن قيود البشر وأغلالهم - مهما ثقلت، وقسَتْ سطوتها - ستؤول إلى انكسار في يوم من الأيام.

إن نص ليلى جوهر بمقاطعه/ برسائله الثلاث، إذاً، يقدم صورة حية لواقع عربي مُفعَم بالمأساة واللاشيء والقسوة، باعثٍ على الضجر والاشمئزاز والاغتراب؛ مما يعجِّل ببزوغ أصوات التنديد والانتفاض واللاَّرضا. وقد توسلت الشاعرة، في سبيل تقديم نظرتها إلى واقعها، بمعجم مناسب خاصّ، وبلغة شعرية تمزج بين التقرير والإيحاء والرمزية والسخرية والبوْح الصادق، وبقالب شعري جديد يتملص من سلطان العَروض الخليلي الكلاسيكي؛ بحيث إنها نظمته على طريقة كتاب "قصيدة النثر" (أو النثيرة) بدءاً من المرحوم محمد الماغوط وأنسي الحاج مروراً بعلي أحمد سعيد ومحمد بنيس... وانتهاءً بشعراء العربية المعاصرين الذين يَرْكَنون كثيراً إلى تصريف مشاعرهم، ونقل واقعهم، والتعبير عن العالم من حولهم، باستخدام هذه الحساسية الشعرية الجديدة التي طَفِقت تفرض نفسها، بقوة، منذ تسعينيات القرن المنصرم، بل إنه وُجدت أصواتٌ نقدية تروّج لها، وتدافع عن مشروعيتها، ومنهم الدّاعُون إلى تنظيم ندوة عربية كبرى يحضرها مبدِعو الشعر المنثور وناقدوه؛ من أجل مدارسة أمور هذا الشعر، وتِبْيان خواصّه، وتدقيق مُلتبَساتها، والبتّ في كثير من قضاياها الخِلافية العالقة(8)، في أفق نَحْت مكانة له في دنيا الشعر العربي الذي رانت على سمائه، أرداحاً متطاولة من الزمن، القصيدة المحترِمة أصولَ عمودِ الشعر المعروفة، والمنظومة على نَوْل الأقدمين. وبعدها القصيدة الحُرَّة الموزونة التي حمل لواءَها فارسا الشعر العربي المعاصر السياب والمرحومة نازك الملائكة (1923-2007م) كما يؤكد أغلب نقاد شعرنا المعاصر. لقد ألْفَتْ شاعرتنا ليلى جوهر في هذا النمط الشعري المتحرر من أغلال الإيقاع التقليدي قالباً مناسباً للبَوْح والتعبير، فركبته من غير تعمُّل ولا تكلف، واختارت لغة مناسبة قريبةً ألفاظُها من فهوم الناس، ولكنها تُضْمِر – في الآن نفسِه – ظِلالاً وإيحاءاتٍ كثيرةً لا سبيل إلى تلمُّسها إلا بقراءة فاحصة متمعِّنة وذوّاقة. ولا بأس من الإشارة إلى أن من نقادنا مَن وقف موقف الرفض والاستهجان حِيال هذه القصيدة الدخيلة التي وَلجت ثقافتنا المعاصرة من جراء احتكاك شعرائنا بالشعر الغربي المعاصر (الأمريكي والت ويتمان – الفرنسي رامبو...)، وتأثرهم به. فمن الدارسين العرب مَن عَدَّ قصيدة النثر قصيدة خُنثى لا هي بشعر ولا هي بنثر (مثل: جابر قميحة وحسن الأمراني)، ومنهم من وَسَمَها بالهَجانة... ولكن، مع ذلك، فهي شكلٌ تعبيري إبداعي واقعٌ، نلمس له حضوراً يتزايد، باطّرادٍ، مع توالي الأيام!

الزواج بين الشعري والتشكيلي في التجربة الإبداعية
أرْفقت الشاعرة ليلى جوهر نصها "رسائلي إليهم" بلوحة تشكيلية راقية ذات أبعاد دلالية وفنية عميقة، وكأنها تجسيم بصريٌّ لقصيدتها باعتبارها شكلا لغوياً، وترجمةٌ حسية لمعاني نصها الشعري. ويحيلنا عملها هذا على صلة الشعر بالتشكيل. إذ من الأكيد أن الشعر قد انفتح، في تاريخه الطويل، على أجناس أدبية و فنون أخرى، كالرسم و التشكيل مثلا، فاستفاد منها وأفادها، واستثمر بعض إوالياتها وأمدّها في الوقت نفسِه ببعض عناصره ومقوِّماته. فقديماً عدَّ أرسطو طاليس (Aristote) الرسم شكلاً شعرياً، مثلما هو الشأن بالنسبة إلى فنون النحت والرقص والموسيقى(9). وجعل أحد قدماء اليونان الشعر رسماً ناطقاً، والرسم شعراً صامتاً. هذا على خلاف من جدّ، آنئذٍ، في وضع حواجز صارمة بين أجناس الأدب، محدِّداً سماتِ كل منها، ومؤكِّداً ضرورةَ حفظ هُوية كل جنس أدبي وخواصِّه من الاختلاط بأجناس أخراةٍ.

وإذا رُحْنا نسْتقري تاريخ الأدب في مختلِف الثقافات، فسَنُلْفي وجود تلاقحاتٍ وتفاعلات – بأشكال شتى – بين الشعر، بوصفه فنّاً لفظياً، والرسم، بوصفه فنّاً غيرَ لفظي أداتُه الريشة والصباغة وغيرهما. ففي العهد العثماني الذي يُصطلَح عليه في أدبياتنا الحديثة "عصر الانحطاط"!، وُجد كثيرٌ من شعراء العربية الذين آثروا صياغة قصيدهم وإخراجه على هيأة رسوم مختلفة وأشكال هندسية متباينة. ونلمَس هذا الشعر المجَسَّم، بوضوح، لدى الشاعر الغربي أبولينير الذي سعى إلى التملص من لغوية القصيدة وهيكلها اللفظي مستعيناً بالرسم والتصوير المادي. وقد ترك هذا الشاعر أثراً كبيراً فيمن جايَله وتلاه من شعراء الغرب وغيرهم. ولم يسلم الشاعر العربي الحديث والمعاصر من التأثر بما يسمى "القصيدة البَصَرية" المزاوِجة بين الشعر والتصوير اللذين اقترنا بأواصر متينة منذ أقدم العصور، مثلما فعل شاعر الحداثة في المغرب، محمد بنيس، في ديوانه "باتجاه صوتك العمودي" الصادر عام 1979 بالدار البيضاء، والشاعر الراحل بلند الحيدري (1926-1996م). ومن شعرائنا مَنْ كان يُؤْثِر كتابة نصوصه الشعرية التي تجود بها قريحته بيده، ويلحّ على أن تُطْبَع كما خَطَّتْها يده؛ وأستحضر هنا بالخصوص تجربة الشاعر المغربي محمد الطوبي رحمه الله (1955- 2004م). وقد سبق للمرحوم محمد الماگري (ت1994) أن أنجز دراسة رائدة في هذا السياق درس فيها أشكال التعالق بين الخطاب الشعري والشكل التصويري في تجارب عددٍ من الشعراء.

ولا شك في أن أهم صور التلاقح بين الشعر والتشكيل أو الرسم أن يشترك الشاعر بقصائده والتشكيلي بلوحاته عي عملٍ بعينه. ومن التجارب التي نحَتْ هذا المُتَّجَه في مشهدنا الثقافي المغربي مثلا ديوان الناقد والمبدع د. حسن نجمي "الرياح البنّية"(10) الذي ضَمَّنَه عدداً من الصور والرسومات التي برعت في نسْج خيوطها ريشة التشكيلي المغربي المعروف محمد القاسمي رحمة الله عليه، والتجربة التي جمعت بين الفنان عبد الإله بوعود والشاعر أحمد العمراوي، والعمل الذي شارك فيه الشاعر بوجمعة العوفي والتشكيلي محمد قنيبو. إن هذا العملَ الثنائي ناجمٌ عن وعي المبدع بأهمية تجسيم الفكرة الشعرية في قوالب فنية فيزيقية، وبما تضيفه اللوحة التشكيلية من جمالية ورَوْنَق إلى النص اللسانياتي. يقول الناقد المغربي د.حسن لشقر: "من زواج الشعري بالتشكيلي تتحقق رؤية فنية مغايرة، ففيهما تتداخل وتتشابك الرؤية بالرؤيا، وفيهما تستجيب العين لما هو أبعد مدىً، وفيهما يتسع المجاز وينشر خيوطه لاحتواء الممكن واللاممكن، المنطق واللامنطق، ويسترجع هيبته التي ضاعت منه في خضمّ سيْطرة جامحة للملموس على المحسوس"(11).

وفي سياق المواكبة النقدية لهذا التلاقح المثمر بين مجالي الشعر والتشكيل، نظمت مؤخراً ندوة في الدار البيضاء حول العلاقة الكائنة بين الشعري والتشكيلي، مندرجة في إطار سلسلة الأنشطة الثقافية التي نظمها "الائتلاف المغربي للثقافة والفنون" بمناسبة شهر رمضان الفضيل(12). وقد سَيَّر الندوةََ التشكيلي المغربيُّ المتألق أحمد جاريد، وشارك فيها الباحثون حسن نجمي وبنيونس عميروش وإبراهيم الحَيْسَن. فأما الأولُ فقد تناول في مداخلته صلة الشعر بالتشكيل وتعالقهما، ملحّاً على وجوب احتفاظ كل منهما بخصائصه الأثيلة جماليا وفكرياً، وعرض لتاريخ هذه الصلة في الشعر المغربي، مشيراً إلى كونها انطلقت خَجولة؛ لأن المجتمع المغربي كان يقدّس أساطيرية الكتابة وخطيتها، ويصادِر شرعية التصوير، وأشاد بجهود الأطراف التي أشاعت قيم الجِدَّة والتفتح والتفاعل بين أجناس الأدب عامة سواء أكانت جماعات أم أفراداً، وأبرز أبعاد التعالق الشعري - التشكيلي ومقصدياته، ثم قدم حصْراً لصيغ التفاعل والتشارُك بين الشاعر والرّسّام التشكيلي مُجْمِلاً إياها في ثلاث تجارب أساسية... وأما الثاني فقد اختار لكلمته عنوان "أشكال التلاقح بين التشكيل والتصوير"، وتعرض فيها إلى عدد من الإبداعات التي تقاسَمها شعراء وتشكيليون عرب، مبرزاً نقطَ التقاطع بين النص الشعري، باعتباره إبداعاً لغوياً زمني الطابع، واللوحة التشكيلية، باعتبارها إبداعاً بصرياً زمكانياً. وألمَّ بجانبٍ من تاريخ العلاقة بين الشعر والرسم التي تعود إلى مراحل متقدّمة في الزمن. وختم دراسته باستعراض صور الاشتغال بين الشاعر والرسام أو الفنان التشكيلي والتي أجملها في ثلاثٍ؛ أولاها الاشتغال الجماعي، ومثل لها بالدادائيين والسورياليين، وثانيتها الاشتغال الفردي حيث يكون المبدع هو الشاعر وهو التشكيلي في الآن نفسِه، ومثالها تجربة المغربي رشيد المومني، ونضيف إليها – من خارج المغرب – السعودية ليلى جوهر مثلاً. وثالثة الصور هي الاشتغال الثنائي بين الشاعر والفنان عن طريق المحاورة المثمرة والقراءة المتبادَلة، ونمثل لها بتجربة نجمي والقاسمي المومإ إليها مقدَّماً. والمداخلة الأخيرة في هذه الندوة تقدم بها الناقد إبراهيم الحيسن، وقد وقفها على ديوان "الرياح البنية" للمبدعَين المذكورين قبل قليل، وعدَّ هذا العمل المتميز "تجربة جمالية مشتركة ذات مدلول إنساني عميق شكلت الحرب على العراق خلفيتها الإبداعية"، وعدّ الديوان "إنجازاً أدبياً و فنياً يقوم على فعل كتابة مزدوجة؛ كتابة بالكلمة وكتابة باللون. [ففيه] تبادَل كل من الشاعر والرسام رسائل طويلة تجانَست فيها حبْريات القاسمي الانفعالية سريعة التنفيذ، مع النصوص الشعرية التي أبدعها الشاعر حسن نجمي على ضوء تتبُّعه اليومي لوقائع الحرب والتدمير". 

المغرب 

الهوامش
(1) من تقديم حوار أجْراه عبد الله الدامون مع أحمد بن يسف (الحلْقة الأولى)، جريدة "المساء"، الدار البيضاء، ع.324، الأربعاء 03/10/2007، ص7.
(2) مقال "الفنان أحمد بن يسف: أعمال مسكونة بالشمس والمطر" لكارلوس أريان، لوموند ديبلوماتيك (النسخة العربية، وكانت تصدر وتوزَّع مجّاناً مع صحيفة "المساء" المغربية بداية كل شهر)، ع.3، الإثنين 15/11/2007، ص2.

(3) مقال "إشكالية الفن التشكيلي في المغرب" لأحمد ايبورك، مجلة "دراسات ثقافية"، بيروت، س.1، ع.2/3، ربيع/ صيف 1992، ص41.
(4) انظر الحوار الذي أجْرَته معها مي إبراهيم كتبي، ونُشر في موقع "عربيات" الإلكتروني (www.arabiyat.com)، بتاريخ 14/08/2004.
(5) انظر موقع "السفير" (www.assafeer.org).
(6) موقع "الهدف الثقافي" على شبكة الإنترنيت (www.tahayati.com)، 26/11/2006.

(7) نَشرت المبدعة نصها هذا في عدد من المنتديات والمنابر الصِّحافية، ولاسيما الإلكترونية؛ منها "عوالم" (قسم "نبض")، بتاريخ 07 أكتوبر 2007، وذلك تحت عنوان آخر؛ هو "ليس إلا".
(8) عبد الله شريق: في شعرية قصيدة النثر، العلم الثقافي، الرباط، س.32، ع. السبت 22/12/2001، ص7.
(9) القصيدة التشكيلية في الشعر العربي" لمحمد نجيب التلاوي، الهيأة المصرية للكتاب، ط.1998، ص182.
(10) مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، ط.1، 2003، 111 صفحة من القِطْع المتوسط.
(11) مقاله "زواج الشعري بالتشكيلي"، مجلة "نوافذ"، الرباط، س.7، ع.25، مارس 2005، ص102.
(12) يمكن قراءة تغطية مفصلة لهذه الندوة في "العلم الثقافي"، س.36، ع. الخميس 11/10/2007، ص11.