عندما يخدع الإعلام الفرد العادي ويستغل حاجته، فتلك خيانة، وعندما يزيف الإعلام الواقع ويصوره علي غير حقيقته، فتلك خيانة، وعندما يتنكر المجتمع لأبنائه واحتياجاتهم، فتلك خيانة، وعندما يعجز الحكم عن تلبية أبسط وسائل الحياة لأبنائه، فتلك خيانة، وعندما تهجر الأم بيتها للتزوج من الأعمي دون أن تنتظر ابنها العائد بخيباته، فتلك هي كبري "الخيانات" التي يراها صفوان عبد الفضيل "الغير شرعية"، وعندما يكون هناك فرصتان لتنفتح الرواية علي النهايات المفتوحة ويسترسل الكاتب لينهيها النهايات المقفولة، فتلك هي " خيانات سمير عبد الفتاح الشرعية". فالخيانة التي يراها صفوان عبد الفضيل في تصرف الأم، خياتة غير شرعية لأنها وإن صح ما يسميها به (كخيانة) هي خيانة مبررة، فلم يكن أمام أم تركها ولدها بعد أن جردها من ذهبها وراح يبحث عن (حلول) فاشلة في بيروت و العراق، بعد أن كان قد: «أخذ منها ما كانت تدخره للزمن: ذهب لم تعد تلبسه، رصيد في مكتب البريد كانت تدخره لآخرتها .. وعدة بطاطين تركها المرحوم، وراديو قديم.. ولم يبق سوى جسمها الهضيم وشعرها الأشيب القليل»(1)، تركها ولم تجد: «لا ابن يرعي، وزوج يستر و لا أخ يخلص، ولا جار لديه ما يمنح! فهل تعمل خادمة؟ حاضنة؟ وهي التي تعاني من آلام الركبتين وتحتاج لمن يرعاها . وينهضها عن الأرض؟!»(2) إضافة إلي أن صفوان ليس بالشخص الطموح ولا أحلام كبيرة له، فهو: «لم يكن صاحب رسالة.. ولا موهبة من أي نوع، ولا يهمه أن يجوز ذلك.»(3) ثم «لقد أتي بالجريدة. ولكنه لم يتصفحها .. ولا يحب أن يقرأ كل ما فيها، فهو لا يحب السياسة، ولا ينحاز لأي فريق، ولا يفهم في الرياضة، ولا يؤمن بالحظ أو يحب الكلمات المتقاطعة، وليس لديه صبر علي استكمال مقالة، او متابعة موضوع، فقد اشتراها لهدف واحد، وهو أن يبحث عن أي وظيفة.»(4) وبعد تجربة كان من الممكن أن تصنع منه بطلاً، يعود مستسلما ليعيش مع تلك التي سبق وأن قال لها: «بأنه لا يحب النساء، وإن قدر له الزواج مستقبلا، فلن يتزوج من عاملة حقيرة مثلها»(5). فهو إذن إنسان خامل، وهو إنسان خائن، خائن لنفسه، خائن لأمه، خائن لبلده .
أما خيانات سمير عبد الفتاح فهي خيانات غير شرعية، حيث أصر علي حبس الجني المارد في قمقمه، تجلي ذلك أكثر ما تجلي عندما ظن فارسه (صفوان عبد الفضيل) أنهم زرعوا له الكاميرات في منزله، فراح يحطم كل شيئ في طريقة وقد اعتورته الثورة التي كانتكفلية بإخراج كل ما في جوف العمل من ثورة علي الواقع المرير ورفض لكل سلبياته، غير أنه سرعان ما صب المياه الباردة علي السطح الملتهب، فلم يخمد ثورة صفوان عبد الفضيل فقط، وإنما أخمد ثورة القارئ أيضا، فحول عمله إلي عمل عادي بينما كان من الممكن أن يكون كرة من اللهب يقذفها علي سطح الإبداع البارد فيشعله .وصفوان عبد الفضيل، شاب من آلاف الشباب المتعطل، حصل علي دبلوم التجارة، طرق كل أبواب العمل، فوجدها موصدة، غير أن الصدفة تطرق بابه، يأتيه عمل غير عادي، فيطرق بابه عدد من العاملين بإحدي القنوات الفضائية الحرة، لم يطلب منه عمل محدد، فقط أن يعيش حياته أمام الكاميرا، مقابل مبلغ لم يحلم به، ألفي جنيه في مقابل أن تسلط عليه الكاميرات في كل صغيرة وكبيرة من حياته العادية، أن تخضع تصرفاته للعرض علي الجميع، لكنه يري في ذالك تكبيل لحريته، يستمر في اللعبة إلي أن يصير نجما، يجد الفرصة لستغلال تلك النجومية فيري حقه قي رفع أجره، غير أن صاحب القناة التليفزيونية يري ضرورة تأديبه، فيأتي ببديل يشبهه ليكمل الفترة المحددة والسابق الإعلان عنها (دوبلير) ولتنتهي رحلة صفوان عبد الفضيل مع التجربة الحلمية بالعودة إلي بيته القذر المتعفن ورفيقته من ذات البيئة (نوال) وليتنسم حرية الحركة من جديد:
«وما كادت المياه الباردة تسقط علي جروحه المفتوحة حتى شعر بسياطها تلهبه، ومع ذالك شعر بارتياح لم يشعر به قبلا، ربما لأنه يشعر بنسائم الحرية، وعبق الإرادة، وربما لأنه يسنطيع – الأن – أن يقول لا.. وأن بتجرد من كل ملابسه – وأقنعته – دون أن يخاف جمهورا، أو يخجل من كاميرا.»(6) وكأني بالكاتب يقرن الحرية بالفقر، فأي إرادة تلك التي مارسها صفوان عبد الفضيل في حياته؟! وأي حرية تلك التي مارسها وهو المهزوم في جولاته، المستسلم للتجربة الساقطة عليه من السماء، المجبر علي تركها دون حتى أن يحصل علي باقي مستحقاته؟! فقد ظل صفوان عبد الفضيل رجل عادي تعرض لظرف غير عادي، ولم يتحقق، ولم يصنع الظرف منه بطلا كان يمكن أن يكونه، والسؤال: هل المناخ والظروف والبيئة كانت مهيأة لخلق ذلك البطل، وخان سمير عبد الفتاح التجربة وأبقي عليه شخص عادي تعرض لظرف عادي؟
الإجابة عندي نعم! فالفقر والاحباطات والفرصة المناسبة تساعد علي خلق بطل، والأمثلة علي ذلك كثيرة، غير أن التركيبة الشخصية التي خلقها سمير عبد الفتاح في صفوان عبد الفضيل، جعلت منه إنسانا غير طموح وغير متطلع، وما فعله صفوان، إنما هو استغلال لظرف طارئ، ولم يستغل أو يستخدم سمير عبد الفتاح معطيات كثيرة كانت متاحة لخلق ذلك النموذج المنشود، ولتظل تلك المعطيات معلقة في الفراغ تبحث عن دور، فوجود قصر عابدين، وما يمكن أن يمثله من دور تاريخي في عهود سابقة، وما يمثله في الوقت الحاضر من دلالة في تحويله لمتحف للعوام، بل، ذالم القصر وذالك الحي الذي تفوح منه كل روائح التاريخ حيث: «ظل عرابي علي حصانه، حين صاح في وجه الخديوي وفيه أيضا نزلت الإمبراطورة أوجيني، وتفيأ بظلاله ونستون تشرشل ومونتجمري، وحاصره رجالات الثورة، وتغني بجماله الشعراء والأدباء والرؤساء، قبل أن يصبح متحفا للعوام»(7).
كل ذلك لم يحرك دوافع كامنة، أويخلق روحا متوثبة تستوحي أي من تلك الفترات التي عاشها القصر وعاشها الحي، ليظل صفوان هو ذالك الخامل المستغل الذي جاءت الفرصة التي يمكن أن تصنع منه بطلا، لكنه ظل مجرد نجم بزغ – بغير إرادته – وانطفأ – بغير إرادته. فإنسان فقير محبط ضائع (صائع)، شئ عادي، أما إنسان متيسر، محاط بكل ما يمكن أن يجعله يعيش الحياة بارتياح لكنه محبط وغير متحقق، فذلك الذي يمكن أن يخلق السؤال، يخلق الصراع ويخلق الحركة التي قد تساعد القارئ ذاته نحو الحركة، وبذالك يمكن أن تصل الرسالة التي يحملها العمل . علاوة علي إشارة أخري في موضع آخر كان – أيضا – من الممكن أن تكون مفتاحا أو مدخلا لقراءة جديدة – لم تتم عندما عدد شيوع استخدام اسم صفوان في كل شئ فيما يشبه الموضة واشارة إلي ذلك الاستخدام الساذج والعبر عن النفاق للروؤساء فذكر من بين ما ذكر «شارع صفوان – أنور السادات سابقا»(8). إلا أن هذه الإشارة – أيضا لم تستغل ولم تستثمر . أيضا جملة ساقها سمير عبد الفتاح في جوانية صفوان كان من الممكن أن تجر العديد من التداعيات وتوسع الؤية وتعدد القراءات لو أنها لم تظل حبيسة جوانيته وخرجت إلي النور، أو حتى فعلت فعلها في تحريك صفوان ليخرج عن فرديته ويتحول إلي البطل متخليا عن بقائه مجرد صفوان: «وعليه أن يعتذر للجميع وعلي الهواء مباشرة. ويحذرهم من غوايات الحل الفردي.. فقد مضي عصر شمشون، وأدهم الشرقاوي، وانقضي عصر الفتوحات الصغيرة، وبات علي من يرغب في تعلم الرقص أن يتعلم المشي أولا ومن يتعلم صيد الغزلان أن يتعلم كيف يقاوم النمور.»(9) فكم هي جملة مشحونة بالبارود غير المنفجر. كذلك «كان صفوان يوقن أننا جميعا نلبس هذا القناع، كل بطرقته»(10). كل ذلك يؤكد أن الرواية زاخرة بالمفاتيح والبؤر التي كان يمكن أن تخرج عملا أكثر إحكاما وأكثر تأثيرا لو أنها وظفت تلك الإشارات، واستغلت تلك الإحالات لتخرج عملا غير إحادي القراءة .
تبدأ رواية سمير عبد الفتاح " خيانات شرعية " بخطين متوزيين هما صفوان عبد الفضيل ونوال، خطان لا يلتقيان، ثم تختفي نوال، ويلعب صفوان عبد الفضيل منفردا، وفي انهاية تظهر نوال من جديد لينتهي التوازي فيلتقي الخطان ولتتكشف الرؤية، وكأننا أمام رواية تقوم علي المراحل التقليدية للرواية – بداية ووسط ونهاية – . وإذا كان العمل الأدبي يقد الأسئلة أكثر مما يقدم الأجوبة، فإن سمير عبد الفتاح يقدم الأسئلة في جزئه الثاني من العمل – إن جاز استخدام ذالك – لكنه يخشي علينا ويشفق، فيقدم الإجابة في جزئه الثالث من عمله . في الوقت الذي كان أمامه أن يتوقف عن الكتابة عند نقطتين كانا من الممكن أن يغيرا من مسير العمل، ومن مسيرة الكاتب. الأولي عندما عاد الدوبلير إلي بيت صفوان وادعي أنه بيته، كل منهم يدعي أن البيت بيته، واختلط علي الناس من فيهم الأصل ومن الدوبلير، من فيهم الأصل ومن الصورة، واشتبك الإثنان، فلو توقف الكاتب هنا لظلت الأسئلة تلح علي رأس القارئ فيجافي جنبه الرقاد . الثانية عندما عاد صفوان من التجربة إلي بيته وداعبته نوال بالتليفون موحية له بأنه تراه، قام صفوان علي محتويات شقته محطما كل ما فيها بحثا عن كاميرات ظن أنهم زرعوها في بيته، فلو توقف الكاتب عند هذا الموقف، لأشتعلت الأسئلة تحرق رأس القارئ وتعددت الرؤي للعمل وتعددت مستويات قراءتها . وذلك ما يدفعنا نحو التسليم بأن سمير عبد الفتاح - رغم شيوع روح التجريب في قصصه القصيرة - كاتب غير مغامر في روايته الأولي " خيانات شرعية ، ليس لما سبق فحسب، وإنما لإستخدامه الجمل والألفاظ كذلك .
فحين يقول الكاتب [حين باع ملابس أبيه وأغراضه القديمة لبائع متجول] نري أن استخدام (بائع متجول) توحي بالتعالي علي اللاستخدام العامي الذي يمكن أن يكون أكثر إيحاء وأقرب إلي روح المعايشة، ولو أنه مثلا قال لبائع روبابكيا، لكنت أقرب إلي البيئة التي أراد أن يصورها لنا في المقابلة المباشرة التي عناها عندما قدم جانبا من حي عابدين [في الميدان الأنيق المحاط بالنباتات الباروكية والمورسكية الشاهقة... الخ.] ثم يقدم الجانب الآخر من الميدان في رغبة من لإقامة المقابلة [وما إن ينعطف نحو عابدين حتي شعر بالبوس والفقر الخ ] وإن كان صفوان ينتمي إلي الشريحة الثانية، فكان الأوقع به أن يستخدم كلمة الروبابكيا بدلا من بائع متجول .
كذلك في لقاء صاحب القناة الفضائية عندما يلتقي بموظفيه ليوبخهم، يقول سمير عبد الفتاح علي لسانه: «لكن قسما عظما (لأدخلنكم) في دوامات، ما حد فيكم يعرف راسه من فاسه.. ولا فانلته من لباسه»(11) فإن استخدام (لأدخلنكم) غير موفق، علاوة علي مجاورتها لباقي الحديث الجاري بالعامية، فضلا عن التعسف في استخدام الجناس في (راسه من فاسه). ويبقي أنه علي الرغم من رفض الكثيرين لمبدأ تقسيم الإبداع إلي أجيال، إلا أننا نري أنه تقسيم لا بد منه للأسباب الدراسية، ولكن ليس علي سبيل القسيم العمري للمبدع وإنما علي أساس الإبداع ذاته إذا ما جد جديد من الظواهر التي تختلف عن سابقها .فإذا كان ما عرف بجيل الستينيات قد ساد إبداعه حول نزعات المشروع القومي و الوحدة العربية، وجاء بعده من فعلت النكسة فعلها فيهم فظهر الحديث عن الجسد والمكان وسادته روح الغربة والضياع، فأن ظاهرة جديدة بدأت في الظهور، وهي الحديث عن المشكل الآنية، هموم الوطن والمواطن ومعانته في ضياع الديقراطية والحرية، بدأت برواية سهير المصادفة الأولي "لهو الآبالسة"، وتبعها محمد هاشم في روايته الأولي كذلك "ملاعب مفتوحة"، ثم تأتي رواية سمير عبد الفتاح الأولى أيضا "خيانات شرعية" لتسير في نفس الاتجاه ولتكون لبنة في بناء كتابة جديدة في الرواية المصرية، ولتكون كذلك إضافة جديدة في مسيرة سمير عبد الفتاح الإبداعية.
هوامش
(1) خيانات شرعية – الطبعة الأولي ص10
(2) ص 9 ، 10
(3) ص 12
(4) ص 16
(5) ص12
(6) ص 123
(7) ص24
(8) ص52
(9) ص90
(10) ص 119
(11) ص 50