يخط المبدع الفلسطيني المرموق بورتريها خاصا لأحد أعلام الشعر الفلسطيني، شهادة إنسانية عميقة تضيء الكثير من تميز مبدع كبير.

يوسف الخطيب «منفردٌ وباقٍ ليس يغلبه سواه»

مراد السوداني

الإهداء: الى سيف فلسطين الأتم الشاعر يوسف الخطيب، وهو يقطف وردة الثمانين، بكامل الوثوقية والنباهة. وقلت لي: "احذر سحابهم اللغوي، غذارون ومغذور بهم يدورون مع الدولار حيث يدور، أو أي شيء كهذا! سليم دولة، في شقيق الورد.

منذ ما يزيد على ستين عاماً والشاعر الكبير يوسف الخطيب يدرز بانتباه عباءة الشعر الوسيعة، ويعشِّب حقل الكلام من هالوك الهجنة، وأوشاب التغريب الغريب... ويستدخل الجماليات الإبداعية إلى حديقة النشيد، ليكون صداح القصيدة عاليا علو السيِّد الشعر... وبإصرار الجسور... يؤسّس شاعرنا الفذ قنطرة المراجعة والاستبصار للنسق الثقافي الشعري والمعرفي بلياقة العارف وعناد الباحث وجرأة الشاعر ليصل إلى سنماره الشعري في خورنق الشعرية العربية والعالمية... مقترحاً الخاص والمختلف والذي يحقِّق الفرادة والتجديد المحمول على الإرث الأعز والأنقى .

من مغترب إلى ضده... ومن شَرْد إلى برد ... ومن ويل إلى هول ... صعداً إلى قيامة الوجع الكوني الذي تمرُّ به الأرواح العالية التي تملك إرادة الانقضاض كنسر وثاب... يشق الشاعر الدرب ويشتق الناجز ، يُحَاصَر أبا بادي من السلطان العربي وبعض المخاتير في السياسة والثقافة الفلسطينية... وهكذا يقصى نصُّه في غير دولة، ويصل إلى فلسطين رشقات شعرية هي غيض من فيض وكأنّها مناشير سريّة... وبمرور هذه السنوات لم يتح لنص شاعرنا أن يخرج في مدونة في فلسطين، المكان والمكانة؛ لأن بعض عبيد الكتابة والأعين العمياء حاولوا إطفاء قناديل الشاعر الوهاجة ، وتتأبى الشعلة إلا أن تطفح عناداً وإقداماً وإبداعاً لافحاً.

يغترف أبو بادي ملء القلب والروح من البدايات الغامرة عطاء وفعلاً جامحاً في فلسطين لتتقاذفه المنتبذات والمنافي بناغريتها اللداغة ووحشتها الناهشة... ويتماسك بمرونة الماء وعناده...ويبقى نسيج وحده ووحدته ليتمدّد في الحياة إيقاعاً وموقفاً ثابتاً يجاهر بالحق غيّر رجّاف، له في الإقدام وهج، وفي المصاولة حيِّز يخصُّه... فاستحق أن يكون رئيس هيئة أركان الشعرية الفلسطينية واسماً وازناً في الشعرية العربية... يضيف إلى نسق الشعرية الحديثة حجرة يضيئها التجريب والتأمل النابه وها نحن جيل التسعينات ننحاز لأبي بادي سياقاً وتجربة وموقفاً يليق بالشاعر النقدي الخروجي الواثق بلحظة الانتصار، التي يضع مداميكها وأسسها المثقف الفذ الرؤيوي الحالم بالتغيير الواجب وتخليق الجماليات الوارفة. ونصر على إعادة هذه الأشعار العالية إلى هذه الفلسطين لتورق إنجازاً شعرياً وتجربة غامرة... حتى يكتمل المشهد الشعري في بلادنا على الرغم من أنوف المتجاهلين والمتناسين، وميليشيات الإنكار... التي تحاول أن تصطاد في المياه العكرة، وتعكر النبع الثّر لترمي شباكها الملغومة... هؤلاء الذين يتقنون اقتناص المواقف المتيسرة وهزِّ الذيول المتكسِّرة في تبسم صفراوي وتلوُّن حرباوي باهت ومدان.

هذه السرخسيات الثقافية التي تظن أن تسلقها وسلوقيتها يمكن أن يمارس بهلوانيته إلى أمد بعيد!!! إنّ الثقافة الفلسطينية التي مَهَرَها الأكرمون الشهداء بالأحمر اللاّهب والمهج الباذلة تمنحنا مساحة للجدير والحقيقي لكي يقترح الحرية واشتقاقاتها والفداء وفضائه والإبداع ومدارجه. لا يكتب تاريخ البلاد إلا الأوفياء والأنقياء الذين يمنحوننا السقف الأعلى ويخطون مقولاتهم بالصبر والفداء وأزهار حناء السادة الشهداء ... ولا يروي رواية البلاد وجراحها إلاّ صنّاع مجدها وعزها ... وأبو بادي الرامي الأشد في كتيبة الفعل الثقافي برياديته ودوره المكين، هاهو يعلي كعب الثقافة بإضافته الشعرية التي تأخر قدومها بفيوضات الأمل والإقدام في أربعة رياح الأرض ويطلق منظومة الشعر والنثر باقتدار حازم ، ومهارة العارف المتمكِّن ...

ها نحن ندفع بالأعمال الشعرية اليوسفية في ثلاثة مجلدات إلى الطباعة ونحن لا نملك غير العزيمة والإصرار وحب الحياة وفضائل الرجال الذين تربينا على شعريتهم وفروسيتهم في زمن التراجع والانخساف والصمت والتجارة ... زمن السلام المتهافت والمتهافتين على موائده ، "ولأننا لا نملك شيئاً فنحن نملك كلّ الأشياء وأكثر". لم يتوان أبو بادي في إعلاء صوته في وجه السلطان العربي والمتسلطين في سياقنا الفلسطيني، فكان جزاؤه الإنكار والمنع وله في سعد بن ناشب المازني أسوة حين أعلن السلطان هدم داره فاضطر إلى التشرّد وقال :
                عليكم بداري فاهدموها فإنها
 تراثُ كريمٍ لا يخافُ العواقبا

وها هو العنبري الحذر من وحوش السلطان يؤكد :
                        لقد خفتُ حتى خلتُ أنْ ليسَ ناظرٌ

                        إلى أحدٍ غيري فكدتُ أطيرُ

                        وليس فمٌ إلا بسرّي محدِّثٌ

                        وليس يدٌ إلا إليّ تشيرُ

إلا أن يوسف الخطيب لم يخف الرقباء وجمهرة الوشاة والكتبة الكَذَبَة والسفالات والمُسْفِلين والملمِّعين جزمة السلطان بالوراثة ... فلم يركض وراء جائزة ولم تغره المواقع والمناصب... وبقي وفياً لقولته ومشروعه وأعلن مواقفه في منازلة الصغار والصغائر وأشباه الرجال. إننا ونحن نفرح لاستدخال نصه إلى ترابنا المحارب فإننا نؤكد أن الشاعر الحق لا يموت مهما تعالت أسيجة المنع والتكالب على أنساغه الخضراء الباقية .

إن يوسف الخطيب يحضر من خلال ثالوثه الشعري كآخر الشعراء الملوك الذين يملكون أزمّة المُنَى والخير العام لبلادنا المفتوحة على الحرية والعناد المقدس والمواجهة.

فإلى أبي بادي وفاء فلسطين وهي تنتبه لأبنائها الصيد وفعلهم المجيد ... ويبقى الرماة على ظهر أحد ...

ويبقى يوسف الخطيب سيف فلسطين الأتمّ .. والمذخّر بالنشيد العامر والكلمة البندقية .. فإليه دائماً نرفع الوفاء إشارة وشارة .

 

رام الله المحتلة  20 آذار 2011