وأنت تتجول في حي درب السلطان بالبيضاء، وتحديدا بشارع الفداء، تتدحرج قدماك بقصد أو غير قصد إلى ساحة السراغنة، التي انتصبت فيها خيام بيضاء تشير برؤوسها إلى السماء، معلنة عن رغبتها القوية في التحليق خارج الأسوار المرسومة بإتقان، يتساءل الرائي من بعيد لمن تعود هذه الخيام، هل الأمر يرتبط بمعرض للأواني المنزلية؟ وبينما تقترب قدماك من أقرب خيمة منتصبة، تتبدد كل الأسئلة تباعا وتطير في الهواء، تاركة عيناك تبحث في هذه الخيمة أو تلك، عن حرف تائه، أو عنوان مفقود .هكذا ستصدق بعد جولة قصيرة أنك في المعرض الوطني للكتاب المستعمل، فمرحبا بك يا صديقي في معرض الهامش والمهمشين، حيث لا رقابة على عينيك في مسح العناوين أو المشي على الكلمات، لأنه لا مقص ولا بروتوكولات رسمية هنا، في هذا المعرض الذي يفتح ذراعيه للجميع شيوخا وكهولا وشبابا وصبيانا، ستترك رغما عنك كل أصباغ الرطانة، وتقاليد المعارض الفخمة التي توزع فيها الابتسامات الصفراء جنوبا وشمالا، لأنك ستعانق وجوها كانت تسمع عن الثقافة من بعيد، وجوه جاءت من كل فجاج البيضاء تقلب أوجاع المثقفين لتنفض عنها غبار الزمن والتهميش والنسيان. ترتفع الخيام ومعها ترتفع أصوات المثقفين داعية إلى تجاوز الوضع المزري للحياة الثقافية، أصوات ما كانت لتصل لولا أنشطة المعرض المتنوعة، التي فتحت نافدة للضوء فوق الجدار السميك الذي بنته الأجيال المتعاقبة للمؤسسات الرسمية .
إن جولة بسيطة بين خيام المعرض، حيث الثقافة حق للجميع، المارة والبسطاء والذين أكلت أمخاخهم أوراق الحظ، والتائهون، والأشقياء، والجوعى، والمشردين والأطفال الباحثون عن متعة الاكتشاف، تجعلك تدرك حجم حاجة وعطش، المجتمع للمعرفة والثقافة، ولعل هذا ما يستشف من تعبير أحد زوار المعرض الذي قال بعفوية كاملة "متى تتجول الثقافة برجليها بيننا"، كلام عفوي لكنه يفصح عن كل المضمرات، التي تملأ قلوب وعقول المغاربة عبر ربوع الوطن المستباح، في ثقافته ورزقه، وأحلامه. أعرف أن هذا الكلام قد يثير حفيظة بعض الحرس القديم الذين ألفوا إعداد صحونهم، لتلقي الفتات المتبقي من الوليمة الدسمة، غير أنني أضم صوتي جهرا إلى كل شرفاء الوطن وأدعو هؤلاء "الكفرة" بالحقيقة، إلى التوبة من ذنوبهم الكبيرة، في حقنا وحق ثقافتنا المحاصرة.
هل يشكل المعرض إضافة نوعية للمشهد الثقافي المغربي؟ وهل يشك إلا أحمق في ذالك، إن المتتبع ليوميات المعرض سيكتشف لا محالة أسماء لمبدعين، لم يسبق أن عرفهم، وسيسمع عن عناوين، قصصية وروائية وشعرية، لم تفتح أمامها الأبواب الموصدة للمؤسسات الرسمية.
بعد جولتنا يا صديقي أقول لك مجددا مرحبا ووداعا ودام للبيضاء معرضها، ودامت رؤوس الخيام البيضاء، سامية مرفوعة كل عام، حيث الثقافة تعانقنا ونعانقها بعنف ولذة، حيث الهامش والمنسي، يبحث لنفسه عن أمل عن طريق، عن شعاع نور يتسرب متسللا، ولا تنسى أن تشعل شمعة بدل أن تلعن الظلام.