إحصائيّات تواجهنا كلّ عامٍ بأرقام مُتضخّمة لإصدارات المُبدعات الخليجيّات. أسماء أنثويّة كثيرة تدخل عالم الكتابة على الشّبكة العنكبوتيّة الإلكترونيّة بحثًا عن فُرصة للإعلان عن ذاواتها وأقلامها. تحقيقات وحوارات صحفيّة أسبوعيّة تُحاول مُناقشة إبداع المرأة الخليجيّة في منطقة الخليج عمومًا أو في بلدها على وجه الخصوص، فضلاً عن طرح الإشكاليّات المُتعلّقة بهذا الإبداع وما يُرافقه من نقدٍ "ترحيبي" ونقدٍ "هجومي" بغض النّظر عن أخذ الظّروف التي وُلِد تحتها هذا الإبداع بعين الاعتبار الجاد، ودون مُحاولاتٍ جادّة للبحث في الأسباب الرّئيسيّة التي من مُنطلقها ترتفع مُعدّلات غرق المطابع سنويًا بأعمال أدبيّة سُرعان ما تنحسر عناوينها عن الذّاكرة، فلا يعترف بها تاريخ الأدب مُستقبلاً، ودون أدنى مُحاولة تساؤل عن السرّ وراء كثرة أولئك اللواتي تحظى أسماؤهنّ ببعض الحضور؛ بينما لا يحظى وجودهنّ الفعليّ بأدنى درجات الحضور الفعّال على الصّعيدين الإبداعي والثّقافي مُقارنة بتاريخ الأدب والإبداع الأنثوي في النّصف الثّاني من القرن العشرين الذي يندُر فيه حضور الاسم من دون الحضور الفعلي لحاملته، رغم قلّة أسماء الكاتبات قياسًا إلى عصرنا الحاضر. و رغم تجاوزنا العقد الأوّل من القرن الواحد والعشرين؛ مازال ثمّة مُبدِعات يُجبرهنّ المُجتمع المُحيط أو البيئة الأسريّة على عدم تذييل نصوصهنّ الإبداعيّة بأسمائهنّ الصّريحة، وأخريات يُمنعن من أرفاق صورهنّ بحواراتهنّ الصّحفيّة فضلاً عن حضور التجمّعات الأدبيّة والفعاليّات الثّقافيّة.. أي أنّ الثّقافة التي تولّت مهمّة تحرير أرواح أولئك المُبدِعات في خليجنا العربي ظلّت عاجزة عن أن توسّع من حدود حرّيتهن الإنسانيّة الفعليّة والسّلوكيّة إلى درجةٍ مازالت معها الكثير من المثقّفات والمُبدِعات يُعاملن كقاصرات أو جاهلات بحاجةٍ إلى حصارٍ مُغلق ومُراقبة مُستمرّة قد تصل إلى منع بعضهنّ من الاتّصال الإنترنتي دون وجود مُحْرَم!
كلّ هذا يجعل من العسير على المُبدعة الإعلان عن أعمال تستحقّ المُطالعة بالفعل، ويُقنن وجودها في إطارٍ من العُزلة الإجباريّة التي تُجمّد ثقافتها في مكانها وتحرم شخصيّتها الإبداعيّة من النّمو والنّضج، ومن ثمّ تقديم أعمال أرفع قيمةً وجودة عامًا بعد عام. وهو أمرٌ ليس من السّهل أن يستشعر مداه غير امرأةٍ مُثقّفة زحفت يومًا على صراط الكفاح في سبيل إثبات كيانها ووجودها الإنسانيّ إلى جانب إثبات وجود قلمها وموهبتها. ومن هذا المُنطلق توجّهنا بسؤالنا عن "السبب" و "الحل" لبعض المُكافحات من مُثقّفات الخليج العربي.
بين الحماية.. والتطرّف!
قالت الكاتبة والأكاديميّة القطريّة نورة الفرج من خلال تجربتها الثّقافيّة والإنسانيّة إلى جانب تجربتها الشخصيّة ككاتبة: "هناك اختلاف حتى داخل دول الخليج نفسها، وداخل بعض النطاقات بين حدود الدولة الواحدة، في قطر مثلاً هناك عائلات تسمح بظهور بناتها على مختلف المستويات وعائلات أخرى لا تسمح، وهناك فتيات يخترن هن الكتابة بأسماء مستعارة، ولكنني عشت أيضا في الأردن، هناك بعض النطاقات تعتبر اسم الفتاة عيبا لا ينبغي التصريح به أمام الرجال، وهناك بيئات أخرى متدينة ولكن حضور الفتاة وعملها وظهور اسمها هو أمر طبيعي جدا، بل إن فكرة حظر اسم الفتاة أو صورتها هي الفكرة التي تدعو إلى الاستغراب بالنسبة لهذه البيئات. أمّا الأسماء المستعارة فهي لا تدل دوما على أن الفتاة محرومة من التصريح باسمها الحقيقي، إذ في أحيان كثيرة تختار الفتاة ذلك لأن استخدام الاسم المستعار يضفي عليها نوعا من الغموض، كما أنها ترى أن هذا الاسم يمنح وجودها إيحاءا رومانسيا خاصًا يُناسِب وَضْعها الأدبي، ومن هذه الزاوية أيضا يختار الذكور استخدام أسْمَاء مُسْتعارة أيضا بدل الاسم الحقيقي، وعلينا أن نتذكر أن حتى في العوالم المتقدمة يقوم الفنانون بتغيير أسمائهم لتصبح أكثر (فنية)!".
وعند سؤال نورة عن السرّ في ظاهرة مُصادرة أبسط حريّات المرأة المُثقّفة كان جوابها: " في رأيي أن جزءا من هذه الظاهرة انطلق ليس من فكرة التحكم بالنساء كما يروّج لها، ولكن من باب الحماية لهن، باعتبار أن الوالد أو الأخ هو المسؤول عن حماية الفتاة أو أن يتعرض لها أحد بالسوء على أي مستوى، ولكن الأمر يصل إلى التطرف وإلى الاعتباطية في أحيان كثيرة".
تطوير الذّات.. والحوار
أمّا حلّ هذه المُشكلة من وُجهة نظرها فهو ذو شقّين: "الأول متعلق بالفتاة نفسها، والآخر متعلق بوعي الدائرة الأضيق المحيطة بها، وهي الأسرة أو العائلة الممتدة، إن كانت الفتاة ترغب فعلا بالخروج ونشر اسمها فعليها أن تسعى إلى ذلك (بالحِكمة)، لأنني لا أظن أن الصّدام مع العائلة سيكون ذا جدوى حقيقي، هي ستعلن عن رغبتها داخل العائلة وستتلقى مستويات الرفض ابتداء من الرفض اللفظي أو الحجز أو الضرب حتى في اسوأ الحالات، ولكن ذلك لن يجعلها تخرج من البيت أو تعلن اسمها في الصحف إلى جوار قصة أو مقالة، لذا برأيي أن تعمل على تطوير نفسها خصوصا أكاديميا ومهنيا، مما سيُحقق لها استقلالية إلى حد ما، تتمكن بواسطتها من التحاور مع الذكور في العائلة بما يشبه النديّة، وأن تحاول تغيير إحساسهم بها كأنثى يمكن أن تتعرض إلى الإساءة من قبل الآخرين؛ أو أنثى غير واعية، إلى أنثى تشكل مصدر فخر لهم. الشق الآخر مرتبط بوعي الأسرة أو العائلة نفسها، فلا أظن أن بمقدورنا أن نطلب من ذكور أي عائلة إن كانوا محدودي الثقافة والتفكير أن يعاملوا (نساءهم) من منظور متحرر!!"
أمّا الكاتبة والقاصّة الكويتيّة لطيفة بطي فقد استهلّت طرح وُجهة نظرها بقولها: "يكاد يكون هذا السلوك حقيقة مستهجنا في وقتنا الحاضر وحتى مجرد طرح الرأي فيه لا يعد متناغمًا مع كل ما بلغته الإنسانية من تقدم وانفتاح حضاري" .. ثمّ تستدرك مؤكّدة: "على أن الموهبة الحقيقية لا يوقف تدفقها صورة أو علانية الاسم ، الموهبة تعني الشجاعة والمواجهة لأنها بعث للحياة والأمل، وستظهر عاجلا أو آجلا مهما تم حجبها خلف الأسوار أو جرى التكتم عليها، ولا ننس أن الإنترنت قدم لأبناء هذا الجيل فرصا كبيرة للتواصل وتبادل الابداع عبر الإيميلات و المدونات والمواقع الشخصية ومواقع التعارف و التي لم تمتلك الأجيال السابقة ميزتها ، خاصة المرأة" .
رفض ثقافة الاختلاط:
"المجتمع السعودي - فضلا عن الخليج العربي - أكثر تنوعا وتباينا من أن أشمله بحكم واحد، كما أنني لا أمتلك معلومات وافية عن وضع المرأة في المجتمعات الأخرى".. بهذا بدأت القاصّة السعوديّة زهراء موسى حديثها مُعلنةً عن حصر وُجهة نظرها إزاء واقع المرأة في مُجتمع بلدها فقط، قبل أن تُكمل: "المرأة في مجتمعي، والمثقفة تحديدا كما ينص السؤال، ليست مُستهدفة دون بقية النساء، نحن في مجتمع لا يمنح المرأة الأهلية والثقة خارج نطاق دورها كزوجة وأم، طالما هي تقوم بدورها الفطري فإنهم يولونها الثقة والاحترام، أما إذا تطلعت إلى مناطق أخرى/ أدوار أخرى فإنها تقابل بالارتياب وتجابه بنزع الثقة، قد يصل الأمر حد الاتهام والتسقيط. وربما يتسامح المجتمع قبال اشتغالات أخرى مثل الاشتغال الديني أو التجاري أو الخيري، لكنه يتشدد حيال الاشتغال الثقافي والفني والإعلامي".
وتُضيف: "الوسط الثقافي لا يقبل الفصل بين الجنسين؛ بينما نحن في مجتمع لا يقبل ثقافة الاختلاط. هذا التضاد يشكل أزمة، وعندما أتحدث عن مفهوم الاختلاط فلا أعني به مستوى الحضور في مكان واحد، بل على مستوى التعامل والتواصل الذي تتيحه قنوات الاتصال على كثرتها. فالمرأة المثقفة –الكاتبة تحديدا، الأديبة خصوصا- تتحرك في مناطق وجدانية شعورية، وطبيعي أن الرجل له الحكومة المطلقة على هذه المنطقة، الرجل بقطع النظر عن صفته الشرعية والقانونية، وهذه تهمة في عرف المجتمع. كما أنّ المرأة المثقفة -كحال أي إنسان في العالم- تبحث عن نظرائها، ولن تجدهم في وسطها النسائي إلا نادرا، بينما ستجد وفرة في المجتمع الذكوري. إضافةً إلى أنّ المرأة لا تجد المساندة من قبل نظيراتها، بل تجد المنافسة والغيرة أو عدم الحماس في أحسن الأحوال، بينما تلاقي من المثقفين الذكور كل الدعم والتشجيع –بغض النظر عن دوافعهم- كل هذا يؤدي بالمرأة المثقفة إلى أن تنأى عن الوسط النسوي وتنحاز للوسط الذكوري أو المختلط، ولن يرضى مجتمعنا بذلك. ومن جهتي لا أستطيع أن ألوم هذا المجتمع في موقفه الحذر تجاه الوسط الثقافي، فهو وسط خصب لنمو أشكال جديدة من الارتباطات لم يألفها المجتمع ذاته، منها الحسن ومنها الخبيث".
فخ النّرجسيّة
وأما سؤالها عمّا إذا كانت المرأة المُثقّفة، التي ناضلت باستماتة للتمسّك بحقها المشروع في إثبات ذاتها والقيام بدورها الإنساني والفطري في الوقت ذاته، قد نجحت في ذلك إلى حد يجعلها تستحق الاعتراف والاحترام لكل التضحيات التي بذلتها، كان جوابها: "قلة من النساء نجحت، وقلة من تستحق الإكبار. معظم المثقفات وقعن في فخ النرجسية شأنهن شأن الكثير من أشقائهن المثقفين، معظم المثقفين رجالا ونساء يمارسون الثقافة كترف، الاشتغال الثقافي يؤمن احتياجات عديدة يرغبها الناس: مثل الشهرة والنجومية والأجواء الاحتفالية، والأهم أنه يشعرهم بأنهم أصحاب قضية وأن لهم هوية، قشور الثقافة متوفرة، والراغبون بها من أجل تفصيل ملابس لهم كثيرون. وفي النّهاية لستُ قلقة حيال المثقفة الحقيقية في ظل صعوبة الظروف المحيطة بها في مجتمعنا.. المثقفة ستصل متأخرة، هذا أسوأ ما في الأمر. في اعتقادي أن الثقافة مطلب تقشفي، معادلة سهلة المقادير، يحتاج المثقف إلى بصيرة وهمة وشغف.. مطالب ليست بيد أحد ليمنعها عنك أو يمنحها لك".
لا مُبالاة بالصّعاب
بينما كان للرّوائيّة والقاصّة والباحثة الإماراتيّة سارة الجروان رأيًا مُغايرًا لأنّه: "لطالما هنالك إمرأة مثقفة كفاية بقدر أنها كتبت نصا قصصيا أو روائيا أو ديوانا على سبيل الدلالة، ولطالما إستطاعت تمرير هذا النص بأسلوب أو بآخر إلى التعاطي فهو كفيل بأن يدلل على عدم قمع أو حد لحرية هذه المرأة" على حدّ وُجهة نظرها.
وتسترسل: "عزيزتي نحن في الألفية الثالثة، إن مثل هذه المعضلة بحسبي لم تكن في العقدين الماضيين فما بالك بها اليوم .. ولطالما تعددت الطرق لإيصال النصوص الحقيقية، وإن كان من خلف أسماء مستعارة فقد تكون بالنهاية إحدى طرق التوصيل التي أرمي. الأمر الآخر هو أنه لطالما هذه المرأة ارتقت لمرحلة معينة من الفكر والأدب والثقافة فإن هذا من شأنه أن يخلق منها إمرأة غير آبهة بالصعاب التي قد تواجهها في سبيل إيصال فكرها وأدبها للخليقة برمتها، فالمرأة قد تعضلها أمور عدة من مطالب الحياة؛ مثال الإستقرار الأسري أو الإكتفاء المادي، إنّما أدب يختلج في روحها فلا، إذ هو بحسبي تماما كما الجنين الذي يتشكل في الأحشاء لابد أن يخرج وإن ترتب على خروجه إزهاقا للروح". ثمّ تُضيف مُستدركة: "ولا يمكن أن يتحقق هذا الحد من حرية المرأة عدا في حالة يتيمة ألا وهي القمع السياسي على سبيل المثال، وبحسبي حتى هذا الأمر باستطاعة المرأة التحايل عليه في سبيل إفشاء سريرتها الإبداعية".
الصمود طي الخلود
وردًا على السؤال الذي يستفتي الحل لمثل تلك المُشكلة إن وُجدت؛ جاء جواب الجروان: "في حال أن جاز لي توهم معضلة ما قد تعترض أو تحد من نجاح المرأة المثقفة، فكما يقولون "لا كرامة لنبي في بلده" أنا أؤمن بهذه النظرية فأنا على سبيل المثال لم أنشر إصداراتي في بلدي، وإنما من خلال دار الآداب ودار الشروق الأردنية. لا أدّعي أن نصوصي مقموعة أو ممنوعة من التداول أو غير مرحب بها في بلدي؛ ولكن من خلال معوقات مسطحة تتصدرها جهات فردية تشكلت بالتالي عدم تواؤم في وجهات النظر فحسب، على إثرها تم النشر خارج الدولة وكان ذلك في صالح الإصدار إذ أن خاصية الانتشار تكون أكبر حظا حينها، وعندما ناهضني حفنة من العدائيين لروايتي (طروس إلى مولاي السلطان) الكتاب الأول ـ الحدال ـ فإن من شأن ذلك أن زادني قناعة وإصرارا على أنه إن كان ثمة ظل لرقيب في كتابي الأول "الحدال" فإنه لا شك سيختفي تماما من الكتاب الثاني "البرقع" الذي سيصدر قريبا بمشيئة الله تعالى". واختتمت حديثها قائلة: "أما كلمتي للمرأة المثقفة التي حملها الله سبحانه وتعالى أمانة الكلمة الحرة فعليها أن تزفرها بثقة غير مبالية بما قد يترتب عليها من مشقات أو دحض أو إستلاب، ولكن عليها أن تتذكر أنه ليس كل ما يزفر في ساعة غصة قد يكون أدبا متراص البنيان نافعا للفرد وللمجتمع، ولا كل مخطوطة بإمكانها الصمود طي الخلود للمفردة الأدبية".
أمّا أكثر الرّدود بلاغة فكان إحجام بعض المُبدعات الخليجيّات على مُشاركتنا وُجهات أنظارهنّ، خشية ردود أفعال الأسرة أو المُجتمع المُحيط إزاء صراحتهنّ. الأمر الذي يؤكّد وُجود المُشكلة فعليًا تحت القشرة الظّاهرة من الحُريّة الإبداعيّة أو انتشار الاسم الأدبي لكثيرٍ من الكاتبات والمؤلّفات، والمُبدعات على جميع الأصعدة، والمُثقّفات في مُختلف المجالات. وربّما كان ذلك من أسباب انتشار الأدب الإباحي المنشور تحت أسماء أنثويّة مُستعارة كرد فعلٍ مُعاكس على صفحات عالم السّرد الافتراضي ضدّ قمع عالم الواقع. وإن لم يكُن بوسعنا إيجاد الحل المؤكّد؛ فيكفينا أن نُحرّك المياه الرّاكدة لهذه القضيّة التي تحتاج إلى التفاتٍ حقيقي من الباحثين في مجال علم الاجتماع، والمُتخصصين في علم النّفس، إضافةً إلى تدخّل مُؤسسات المُجتمع المدني المُهتمّة بشأن المرأة ووسائل الإعلام المرئي والمسموع لنشر توعية مُجتمعيّة مُكثّفة، تؤكّد على ضرورة احترام المرأة المثقّفة، والسماح لها بحريّة الرأي العلني واتّخاذ القرار دون وصاية مُبالغ فيها، من أشخاص قد يكونون أقلّ خبرةً وعلمًا ومعرفةً وثقافةً منها.