هذه دراسة ضافية عما كان يدور في الواقعين السوري والفلسطيني مسرحيا قبل مايقرب من قرن من الزمان، ما أن نتأمل في وقائعها حتى نكتشف مدى تراجع الواقع العربي بفراسخ شاسعة عن أبسط ما أنجزه قبل قرن.

مذكرات اليومي: تمسرح في المدن الفلسطينية

تمسـرح في المدن الفلسـطينية (1911 - 1914)

أثير محمد على

وكان من نتائج هذه الطفرة الإعلامية والثقافية أن عملت حكومة الاتحاد وا لترقي عام 1909 على إصدار قوانين خاصة بـ "الجمعيات" و"المطبوعات" و"حقوق التأليف".
ليس بخاف أن "فلسطين" كانت واحدة من تلك الدوريات التي عكست حاجة مؤسسيها التنويرية للتواصل مع قطاع واسع من القراء، وللتعبير عن نظرتهم الإصلاحية المغايرة لركود الحياة لدى أنصار "الارتجاع". كرس الصحفي الفلسطيني يوسف العيسى (1870 - 1948) جهده لتحرير الجريدة المذكورة (1)، وكتابة المقالات في السياسة العامة، والبحث في واقع المدن الفلسطينية، ولم يغفل عن التطرق إلى المجريات اليومية للمجتمع وللنشاط الثقافي فيه.

التجاور في المرتبة بين العام والخاص في مواضيع الصحيفة، والتوسع لا التخصص المحض فيها، وتناولها لليومي العابر، يقدم عرضاً بانورامياً للحياة في المدن الفلسطينية. حيث نتعرف على أحوال الفلسطيني في قهوة حيّه، وفي فضاء مدينته، وفي حدود متصرفيته أو ولايته ضمن إطار دولته العثمانية.

بلا مواربة وبلغة صحفية رشيقة الأسلوب وأقرب للمحادثة اليومية حاورت الجريدة قراءها، وجادلت لتلعب دوراً تربوياً بغيته الفرد وهاجسه تكوين أشخاص عقلاء، وأكدت على أن المعرفة أساس لبناء الإنسان الحر الجديد. توجست الجريدة من تنامي الهجرة اليهودية المطرد، ووقفت مطولاً عند المشاعر القومية التي يتقاسمها السكان العرب في المدن الفلسطينية متجاوزين عصبة الدين والطائفة التي ميزت الماضي القريب، حتى أنها طالبت بمشاركة العرب في المؤسسة الروحية الأرثوذكسية في القدس والتي كانت بيد الإكليروس اليوناني.
في أحد أعداد الجريدة عام 1912 تطالعنا مقالة تحمل عنوان "أبو الحسن المغفل". تناول فيها يوسف العيسى معاهدة الصلح التي أبرمتها الدولة العثمانية مع إيطاليا فيما يخص الجزر اليونانية. ما يعنينا في معرض الحديث هنا أن عنوان المقالة، وكما هو معروف، مستعار وقد استخدمه المحرر كتكئة لتعليقه السياسي: "أكثر القراء لهم اطلاع على رواية أبي الحسن المغفل التمثيلية التي كان وضعها الكاتب اللبناني مارون النقاش. فمن جملة ما جاء في تلك الرواية على لسان ذلك الشيخ المعتوه قوله لخادمه عرقوب حين جاء ينبهه من النوم ويقول له أن الشمس قد طلعت، فإنه أجابه : وكيف تجاسرت أن تشرق قبل أن أفيق من نومي !"(2) . كلمات يوسف العيسى، المنتزعة من سياق المقالة السياسي، تشير بلا أدنى شك لشهرة المسرحية المذكورة بين قراء الصحيفة المنتشرة أساساً في مختلف المدن الفلسطينية.

ويبقى السؤال هل تعود هذه الشهرة للعرض أم للنص المسرحي؟.
كما هو معروف، قام نقولا النقاش (1825 - 1894) بجمع نصوص مسرحيات أخيه مارون النقاش (1817 - 1855) وطبعها في بيروت ضمن كتاب "أرزة لبنان" عام 1869، ولهذا الكتاب يعود الفضل في إمكانية مطالعة وتداول النص المسرحي العربي لأول مرة في تاريخ المسرح الحديث. ومن المحتمل أن مسرحية "أبو الحسن المغفل" كانت قد عرضت في المدن الفلسطينية، فالأخبار الصحفيه تشير إلى وجود نشاط مسرحي لفرق الجمعيات المحلية والزائرة إضافة لفرق المدارس المتنوعة، إلا أن محدودية العروض المسرحية لا يدعو للجزم بشهرة المسرحية على نطاق واسع وتحول بعض عباراتها إلى نوادر للتفكه، إلا إذا افترضنا وكما توحي كلمات العيسى إلى أن شريحة واسعة من قراء الصحف كانوا أيضاً من رواد العروض المسرحية، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الصحافة والمسرح اعتبرا من أهم الوسائل النفعية للحراك النهضوي.

نشاط أفندية المدينة الفلسـطينية المسـرحي

يبدو الفعل المسرحي الحداثي لكل من رواد المسرح، مارون النقاش ويعقوب صنوَع ( 1839 - 1912) وأبو خليل القباني (1833 - 1903)، في كل من بيروت والقاهرة ودمشق على التوالي، كتجلٍ لمسؤولية أخلاقية تربوية، لمسيحي ويهودي ومسلم، نحو الفرد في محيطه الدنيوي وإيعاز بعقلانية مساواته مع أقرانه في "مسرح الدنيا العظيم". وصف نقولا النقاش أخاه مارون بأنه "كان غيوراً على أبناء طائفته وغيرها بحد سواء" (3). وتشير الوثائق إلى أنه انتسب لـ "الجمعية المشرقية" المعتدلة التي أسسها الآباء اليسوعيون في بيروت عام 1850 وكان غرضها التوفيق بين علم الناسوت واللاهوت (4). ازدهرت مهنة القباني الفنية خلال ولاية "أبي الأحرار" مدحت باشا، وتعاون في تجربته الدرامية مع عدد من أصدقائه المسيحيين، ومنهم الدمشقي اسكندر فرح (1851 - ؟) والحمصي داوود قسطنطين الخوري (1860 - 1939). وحدتهم دنيوية فعل فن المسرح فتقاسموا موهبتهم وتشاركوا في تحضير النصوص والعروض المسرحية والتلحين الموسيقي إلى جانب تدريب الممثلين وإعدادهم (5). أما صنوَع فقد جاهر صراحة وطالب بلا كلل بالحرية والعدالة والمساواة لمجتمعه في مسرحه وصحيفته "أبو نضارة زرقا".

كان النقاش وصنوَع قد صادفا المسرح في إيطاليا، والقباني سمع به وتخيله أو حتى حضره، في كل الأحوال استعار الرواد فن المسرح من نسق ثقافي أوروبي مغاير في الزمان والمكان وأدرجوه في راهن نسقهم المحلي معبرين عن حق الحرية في الانزياح عن سياق التقليد والمحافظة وممارسة تجربتهم الجمالية كبرنامج واع لما يمكن أن يكون.

إن فعل رواد المسرح العربي نجد له ما يقاربه في نشاط أفندية النهضة في المدن الفلسطينية وتقدمهم لحمل رسالة تنويرية مغموسة بالأمل، تبشر بزمن آخر، ويمتد نطاقها من المدينة إلى الوطن إلى الدولة العلية إلى الإنسانية جمعاء. قام هؤلاء الأفندية بتأليف الجمعيات الثقافية متجاوزين اختلاف المذاهب والنحل والمراتب الاجتماعية، ومارسوا المسرح ممثلين ومتفرجين، ونظروا للخشبة المفترضة كحيز للتمثيل ومنبر للخطابات ومنصة للمحاضرات وما يشبه التخت للغناء وعزف الموسيقى وترتيل الشعر.

في 25 أيلول 1911 قدم شبان غزاويون مسرحية "هملت" في مدينتهم. العرض كان حافزاً لشاب منهم، وهو حبيب خوري أيوب، للتعبير عن هاجس البدايات الذي يسكن شبيبة حاضرته وللإعلان عن زمن جديد، ثقافة الإصلاح فيه هي مشروع وطن ومواطنين. بعد سرد لأمجاد المدينة في تاريخها الماضي انتقل للقول:
"على أن هذه المدينة العظيمة (غزة) قد نزلت على كرور الأيام من أوج المجد والسعادة إلى حضيض الهوان والشقاء، شأن معظم أخواتها من البلدان السورية.

ولما توفرت لكثير من تلك الأخوات أسباب التهذيب ودواعي التقدم في شمالي البلاد السورية وأواسطها وذلك منذ نصف القرن الماضي وأكثر بقليل وكانت غزة لتوغلها في الجنوب قد حرمت من تلك الوسائل نهضت تلك وبقيت هذه على حالها تتخبط في دياجير الجهل والانحطاط. وصار كثير من أبنائها الممتلئين إحساساً وإخلاصاً يتوجعون لها عندما يقابلونها بجاراتها المستنيرات ولاسيما عندما يرون أن ما خيم عليها من الظلام لم يكن بأقل مما حل بها من الظلم. ولما تشخص لهم الداء وتأكدوا أن تعليل النفس بعلات مجد الأيام لا تقدمهم قيراطاً إلى الأمام، وأن (دلالة الآثار علينا) لا تشفي لهم غليلاً ولا تغني فتيلاً من إصلاح هذه الحال الذي هو صائر من سيء إلى أسوأ، انتبهوا وجعلوا يرسلون أبنائهم إلى المدارس المحلية والمعاهد العلمية في القدس وفي بيروت والأستانة. فكانت باكورة ثمارهم الشهية ظهور نخبة من شبان المسلمين والمسيحيين الأدباء النجباء وناشئة جديدة عصرية تتفانى في حب أرضها وخدمة بلادها.

ومما كان له أجمل وقع في نفسي ولايزال اتحاد تلك الشبيبة الموثق العرى رغماً عن اختلاف المذهب والمقام والمعرفة. وقد تناصروا وتوافقوا وآلوا على أنفسهم أن ينهضوا بوطنهم العزيز ويبلغوا به ذروة المجد. وقد نظموا لهذه الغاية لجنة من خيرة أولئك الشبان وضعت نصب أعينها إنشاء مكتب وطني يكون أكبر عضد لحركتهم هذه المباركة. وعندما مثلوا قبل يومين رواية هملت لشكسبير، رب الشعر التمثيلي في العالم (وهو عمل لم يسبق له نظير في غزة)، حضر جمهور غفير من الأهلين ورجال الحكومة والقائممقام الملكي والعسكري، وقد أخذ التمثيل الجميل بمجامع أفئدتهم.

وقام القوم وقعدوا عندما ألقيت عليهم في أثناء التمثيل الخطب العصرية التي لم أسمع مثلها في غزة ألبتة. أما الخطباء فكانوا (وذلك بحسب ترتيب تناوبهم للخطابة): فهمي أفندي المفتي الحسيني، خريج الأستانة المنتهي. عاصم أفندي بسيسو، متخرج في الأستانة. مصطفى أفندي المفتي الحسيني، متخرج في بيروت. رشدي أفندي ابن الحاج سعيد أفندي الشوا رئيس البلدية، متخرج في الأستانة. وكاتب هذه السطور (حبيب خوري أيوب). وجدير بالذكر ما أتاه من التفنن في ضروب التمثيل وإتقان حركاته يعقوب أفندي فرح (الملك) وشكري أفندي ترزي وعاصم ورشدي المذكوران.

وصفوة القول أن في غزة الآن نهضة أدبية وانتباهاً شديداً وإقبالاً عظيماً على العلم والتهذيب في المدارس المحلية هنا والمعاهد العلمية في الخارج. فحيّا الله هذه الروح الجديدة المباركة. وأخذ بيد أولئك الفتيان الغزيين وسائر ذويهم ومواطنيهم، وسدد خطاهم جميعاً إلى ما فيه إعلاء منار وطنهم العزيز والدولة العلية وخدمة الحقيقة والإنسانية" (6).

في أيلول 1912 سيساهم طالب الحقوق عاصم بسيسو بتأسيس "جمعية العلم الأخضر" في الأستانة على شاكلة "جمعية الإخاء العربي العثماني". وبعد مرور أقل من عامين على عرض مسرحية "هملت" في غزة سيظهر اسمي الشابين عاصم بسيسو ورشدي الشوا، من طلبة الحقوق أيضاً، في برقية التأييد والتضامن التي أرسلتها الجالية العربية في العاصمة العثمانية إلى المؤتمر العربي الأول الذي عقد جلساته في باريس بين الفترة الواقعة 18 - 23 حزيران من عام 1913. عكس المؤتمر المشاعر القومية للناشطين العرب وطالب السلطة العثمانية بمنح الولايات العربية حكماً ذاتياً والاعتراف بالعربية لغة رسمية على قدم المساواة مع التركية.

ذيلت رسالة التأييد المذكورة بقائمة تضم أسماء اثنين وثمانين طالباً عربياً، واحد وثلاثون منهم لقادمين من المدن الفلسطينية والبقية من مختلف المدن العربية الأخرى. وهذا إن دل على شيء فيدل على يقظة الوعي القومي العربي بين الناشئة الفلسطينية. كما سينتمي رشدي الشوا إلى "جمعية العربية الفتاة" السرية (7)، وسيعتقل عام 1916 مع قوميين عرب آخرين (8) .

يبدو عاصم بسيسو أو رشدي الشوا كنموذج لأولئك الشبان الفلسطينين الذين لم تتسطح تحولاتهم اليومية وإنما غارت عميقاً في تفاصيل التاريخ العام. مثالٌ للشاب النضهوي الذي انتقل من مرحلة التلمذة والتلقي، إلى مرحلة التواصل مع الجموع وبث رسالة تنويرية حداثية عن طريق التمثيل والخطابة، إلى تأييد حركة العرب القومية ومن ثم إلى ناشط سياسي يقرن ما يفكر وما يشعر به بالعمل. رغم احتفاء الشاب حبيب خوري أيوب بموهبة أفندية غزة في عرض "هملت" المسرحي، إلا أنه لم يشر إلى من قام منهم بأداء الأدوار النسوية فيه. لا تتوفر معلومات جازمة عن تاريخ انضمام المرأة في المجتمع الفلسطيني للتمثيل في العروض المسرحية، ويرجح أن المرأة المسلمة التحقت بوقت متأخر عن مثيلاتها من معتنقات الأديان السماوية الأخرى، كما هو الحال في بقية مدن "الديار السورية" والمدن المصرية رغم الازدهار النسبي للحركة المسرحية في هذه الأخيرة. فيما يبدو أن تاريخ مشاركة المرأة المسلمة في العرض المسرحي العربي مدين للمطربة المصرية منيرة المهدية التي ارتقت خشبة المسرح كممثلة في القاهرة عام 1914، في مسرحية "صلاح الدين" (9).

في هذا السياق تحفظ جريدة "حمص" اسم الممثلة اليهودية رحلو شطاح، وقد جاء ذكرها في معرض الحديث عن النشاط المسرحي في يافا خلال شهر نيسان من عام 1911، ويرجح أنها بدأت مشوارها الفني كمطربة قبل أن تؤدي الأدوار النسوية في المسرحيات التي قدمت على خشبات المسرح الفلسطيني. وصل صحيفة "حمص" من مراسلها في يافا النبأ التالي:
"الشركة الاقتصادية الوطنية تخدم الوطن بكل جهدها وأعضاؤها يودون بذل دماءهم لو كان بها حياة الوطن، وهم يهتمون بترقية المدنية أدبياً ومادياً. ومن جملة فروع الشركة فرع التمثيل، وقد مثل مساء أمس (رواية قيصر والشعب). وكان يطرب الحضور صوت المطرب الأديب الشيخ أحمد الطريفي، وكانت تمثل دور ثامار المغنية الشهيرة رحلو شطاح. وكانت أهم أدوار الرواية مع شبان أذكياء أدباء، فهم عبد الماجد أفندي وجميل أفندي جبر وابراهيم أفندي دباس. وقد ألقى خلال التمثيل خطاباً ارتجالياً الأديب شبلي أفندي نوفل، فكانت الليلة جامعة بين الجمال والأدب. فنثني على همة أعضاء الجمعية ونتمنى لها النجاح، ولا سيما لأن غايتها مقاومة الاستعمار" (10). كما جاء ذكر الممثلة رحلو شطاح في الإعلان عن إحدى العروض المسرحية خلال شهر حزيران عام 1911 في جريدة "فلسطين" اليافاوية:

"رواية تقلبات الزمن بملوك اليمن"

في صالون المحاضرات الجديد قرب لوكاندة المنظر الجميل (فاينكولد). مساء السبت ليلة الأحد الواقع في 15 حزيران سنة 1329 و28 حزيران سنة 1913. تمثل لأول مرة في يافا في (صالون المحاضرات الجديد) الذي قدمته المس بالمر مجاناً، رغبة منها في مساعدة المشاريع الخيرية. يقدم هذه الرواية لجنة التمثيل الخيري بإدارة حسن أفندي الأنصاري ويقوم بأهم أدوارها وتلحينها الست رحلو الشطاح ونمر أفندي ناصر الدين. ويتخلل الرواية محاضرات أدبية اجتماعية تناسب المقام. أما الرواية فتاريخية أدبية ذات خمسة فصول تبحث عن عادات العرب الأقدمين وشيئاً عن وقائعهم المهمة، مما لا يخلوا من عبرة حسنة وفكاهة ملذة.

وسيخصص ريع هذه الحفلة لإعانة جمعية البر والإحسان في أعمالها الخيرية، وأهمها: (مدرسة دار العلوم الإسلامية) التي أسستها حديثاً. فالأمل من مواطنينا الكرام مؤآزرة هذا المشروع الخيري وتعضيد القائمين به، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً" .(11)

يشير الإعلانان السابقان إلى مشاركة الممثلة والمطربة اليهودية رحلو شطاح في عرضين مسرحيين، يطمح الأول منهما إلى "مقاومة الاستعمار"، والثاني ذي غرض خيري لبناء "مدرسة دار العلوم الإسلامية". هل كانت الفنانة اليهودية رحلو شطاح مدفوعة للتمثيل تحت ضغط الحاجة المادية فقط كما هو حال كثير من الفنانات الممثلات، أم أنها كانت محكومة في عملها المسرحي بقانون الجمعيات الذي ربط نشاط أية جمعية بغاية معنوية، أم أنها كانت واعية وموافقة لغرض العروض التي شاركت فيها؟؛ وإذا ما رجحت الحالة الأخيرة يمكن القول أن رحلو شطاح تقدم مثالاً للفنانة التي تخطت حدود "الديني" لتعمل عن وعي لفضاء "الزمني" الأوسع بمختلف تنوعاته، تماماً كما فعل يعقوب صنوع الفنان. يمكن اعتبار جريدتي "حمص" و"فلسطين" من الصحف السباقة في ذكر اسم الممثلة في الإعلان عن العرض المسرحي، فقد جرت العادة حينها أن لا ينوه عن اسم الممثلات، ويكتفى باسم الممثل الأول الذي غالباً ما كان مؤسسس أو مدير الجوق الفني أو مطربه الأهم.

من جهة أخرى، ورد في "مصادرالدراسة الأدبية" ليوسف أسعد داغر معلومات عن نشاط البيروتية اليهودية استر أزهري مويّال (1873 - 1948)، الكاتبة والصحفية، ومترجمة أعمال إميل زولا، ومن أوائل الممثلات الرائدات في المسرح، وناشطة في الحركة النسوية العربية .(12)

ساهمت في نشاط جمعيات تربوية وثقافية متنوعة في بيروت مثل "جمعية شمس البر" التي يعرف من بين أعضائها شاهين مكاريوس وفارس نمر ويعقوب صروف (13). شاركت ولم يتجاوزعمرها العشرين سنة، ضمن الوفد الذي مثل لبنان في المؤتمر النسوي العالمي عام 1893 في شيكاغو. نشرت عام 1912 مقالة بعنوان "صحافتنا"، تنتقد فيها بلهجة لاذعة السجال الدائر بين أنصار القبعة والطربوش في الحين الذي يتحضّر فيه الجيش الايطالي لتثبيت احتلاله على طرابلس الغرب. كانت استر مويّال قد وصلت إلى يافا، برفقة زوجها، عام 1908، حيث أسست منظمة نسائية يهودية فيها. حتى الآن لا تتوفر معلومات عن طبيعة نشاط المنظمة الثقافي، إلا أنه ليس من المستغرب أنه كان يشمل ممارسة فن المسرح، على عادة الجمعيات التي استخدمت مختلف الفنون التي تتأسس على الظاهرة الجماعية لإيصال صوتها للمجتمع.

في هذه الحالة تبقى فرضية ارتقاء استر مويال خشبة المسرح كممثلة في يافا قائمة رغم أنه يعوزها الدليل.
خلال أعوام (1911 - 1914) تشير الإعلانات والدعاية المسرحية إلى توظيف المدارس والمقاهي وبعض القاعات المصممة للنشاطات الثقافية العامة كمكان لعرض المسرحيات.
نذكر منها، في يافا فقط:
     - قهوة الظرافية.
     - قهوة البلور.
     - قاعة مدرسة الفرير.
     - قاعة لورانس.
     - صالون المحاضرات الجديد.

أما ما عرف بـ "مرسح النيوبار" فيبدو أنه المكان الوحيد الذي صممت فيه خشبة مخصصة للأداء الفني من غناء وعزف للموسيقى وعرض للمسرحيات.
إضافة إلى الفرق المدرسية والفرق المغمورة المؤلفة من الهواة الشبان، الذين قاموا بتقديم عروضهم بين الحين والآخر، تبرز فرق فلسطينية محترفة مثل:
     - "الجوق العصري".
     - "لجنة التمثيل الخيري".

و من الجمعيات المحلية التي قامت بنشاط مسرحي:
     - "الشركة الاقتصادية الوطنية"، في يافا.
     - "جمعية مار منصور"، في يافا.
     - "جمعية نهضة التمثيل الأدبي"، في حيفا.

لا بد من التنويه إلى أن قانون الجمعيات الصادر في 2 آب 1909 منع تشكيل الجمعيات السياسية على أساس القومية ومنع كذلك تأسيس الجمعيات السرية ونص على أن لا يكون الكسب المادي هو الغرض من نشاط أية جمعية (14). أمرٌ يفسر التأكيد في إعلانات العروض المسرحية لجمعية ما على الغرض الخيري أو التعاوني الذي يخدم المصلحة العامة، كما يبرر التنويه الدائم في الدعاية المسرحية على أن ريع الحفلة مرصود لجهة ما، غالباً ما كانت رسمية بسبب تأزم الوضع خلال الحرب في منطقة البلقان المعروفة بالروملّي.

في بدايات سنة 1913 نشر بيان صادر عن دار الإفتاء في العاصمة يحدد المسؤوليات التي تقع على عاتق المسلمين أفراداً وجماعات زمن الحروب والأزمات ويدعوهم لرص الصفوف، ونقلت الصحافة العربية البيان وأحذت على عاتقها مهمة المنادي ومنها جريدة "فلسطين": "أذاع سماحة شيخ الإسلام منشوراً على الأمة الإسلامية ذكر فيه بأن الشريعة النبوية تحرم على المسلمين إضاعة أوقاتهم في القهاوي ومحلات الملاهي والوطن في خطر والحزن عام بداعي الحرب المشؤومة، والحداد مفروض عليهم من جراء ما أصاب إخوانهم في الروملّي من البلاء، وإن الذين لا يكترثون بهذه الأحوال المحزنة ويصمون آذانهم عن نداء الوطن يكونون خالين من الشعور الإنساني والغيرة الملية ومعرضين لسخط الله وغضبه في يوم الحساب.

فعليه يرى سماحته أن من فروض جميع الأمة رجالاً ونساءً أن يواظبوا بلا انقطاع على القيام بفروض الشريعة المطهرة في الأزمة الحاضرة، وأن يواصلوا التوسلات إلى الله سبحانه وتعالى لينظر بلطفه الخفي إلى المملكة، وأن يقتدوا بخليفة نبيهم الدائب على السهر والعمل والطالب مساعدة العناية الإلهية، وأن يبذلوا العطايا والمساعدات لإخوانهم المجاهدين أمام العدو" .(15)

بالطبع لا يخفى أن العادة جرت على تقديم كثير من المسرحيات في المقاهي والملاهي المشادة في مختلف مدن الولايات العثمانية التي قصدها شيخ الإسلام. يفهم من التعميم في لغة المنشور أنه توجه إلى عامة المسلمين من زبائن المقاهي وجمهور عروضها دون أن يستثني القائمين على هذه العروض؛ وربط بين مأساوية الظرف المندرج في التاريخ مع "المنكر اللازمني" المفترض. لا يخفى أن المقهى أو الملهى هو واحد من الفضاءات التي يتحرك فيها اليومي بفرده العرضي. فضاء يبدو أنه مذموم، رغم ربط حالة الذم هذه بوضع الحرب وحالة الحداد العام. وكأن المنشور أراد التذكير بأن لامركزية فضاء اليومي تقف حجرة عثرة في صراط انصهار المؤمنين في كتلة الرعية وتماهيهم في خليفتهم. ومن بين سطورالمنشور يمكن تلمس دعوة للرعية كي تزيح الفرد وتمحي تفاصيل وملامح فضاءاته اليومية من ملهى وغيره.

إن الموقف السلبي من الملاهي ومحال الترفيه ليس بجديد في الثقافة العربية، حتى في أنصع أوقات السلم والاستقرار، ولم يكن حكراً على أنصار النزعة الدينية. ما ينفرد به المتعصبون المتزمتون، أن رؤيتهم للحياة ومظاهرها يشوبها تجانس لاعقلاني صلد، فهم يتوسدون أخلاق اليقين الساكنة الغابرة التي لا ينتابها شك الأزمنة المتغيرة العابرة. مع هؤلاء لا يمكن أن يكون المسرح المقدم في الأماكن العامة من مقاهي وملاهي عرضاً تعليمياً تهذيبياً يعود ريعه لخدمة الوطن على سبيل المثال. ومهما كانت غائية المسرحية لن يعدو العرض أن يكون أكثر من ممارسة لعبية تقدم في أوكار مقامة لإضاعة الوقت مهما اختلفت تسمياتها.

لم يعثر ضمن الوثائق الصحفية المتوفرة بين اليد على مقالة أو دراسة تتناول بشكل مباشرالملاهي في المدن الفلسطينية، ولذلك تمت الاستعانة بمقالتين انتخبتا في هذا السياق لتلقيا الضوء على مفهوم اللهو عامة ومقاصفه في المدينة العربية دون أن يفوتنا أن رأي كاتبيها يعكس القلق الثقافي والتوتر الأخلاقي الذي تميز به كثير من رجالات النهضة ونسائها من الطبقة الوسطى ونظرتهم للحياة كورشة عمل وانضباط في سبيل مدينتهم "الفاضلة" التي ينشدونها. بالعودة خلفاً لسنوات ماضية، وتحديداً لعام 1886، نشرت مجلة "اللطائف" (16) خطاباً لنقولا شحادة، كان قد ألقاه في "جمعية الاعتدال" في مصر، عالج فيه تأثير "التمدن الجديد على الشرق"، ومن بين التغيرات التي فندها في أسلوب الحياة لدى معاصريه ذكر:

"التفنن في الملاهي: وهذا ضرره عظيم جداً، لأنك أينما جلت في أسواق المدن وشوارعها ترى القهاوي والمراسح وأماكن الرقص والخلاعة ولعب القمار. وعمر الإنسان كما لا يخفى محدود، وعليه أن يمضيه في أربعة أمور: العمل، والنوم، والأكل، والرياضة؛ فإذا تعلق في الملاهي اضطر أن يتعدى على وقت العمل أو النوم أو الأكل أو الرياضة ... ولهذه الملاهي أضرار أخرى منها أنها تفسد الآداب في نفسها وفي ما تقود إليه، وإنها أكبر داعٍ إلى إنفاق الدراهم على غير فائدة ولا سيما محلات القمار والسكر والفجور" .(17)

الفرد الجديد في خطبة الأفندي نقولا شحادة يجد خلاصه بالخضوع لشريعة مثلٍ أعلى في الحياة متمثلة في أركان أربعة (18). من الملفت للانتباه أن محاولات دمج الفرد في الجماعة التقليدية القديمة أو الحداثية الجديدة، وتذويب اليومي والمؤقت في عامة التاريخ، كثيراً ما رافقه خلط بين "أماكن التمسرح" و"أماكن الخلاعة" وغيرها من نشاطات الترفيه والمتعة. خلط وقع فيه الكثيرون، رغم التأكيد منذ العرض المسرحي الأول مع مارون النقاش على دور "لعبة" المسرح التربوية والتعليمية والتهذيبية وما شاكل هذه المفاهيم.

في عام 1909، نشرت جريدة "الأمة" مقالة بعنوان "ملاهينا"، من المعتقد أنها لمحررها أحمد كرد علي، تناول فيها الأماكن الترفيهية العامة في مدينة دمشق والتي يفترض أنها لن تختلف كثيراً عما هو مألوف في المدن الفلسطينية: "كلما قطعنا شوطاً بعيداً في مضمار المدنية، لا بد وأن تكثر الملاهي، وذلك لما يرافقها من كثرة الأشغال، لأن المرء بعد أن يكون قد عمل كل نهاره لا بد له من بضع ساعات يصرفها باللهو ترويحاً للنفس من عناء الأشغال.

إلا أن الملاهي يجب أن لا تخلو من:
- فائدة مادية، وأعني بالفائدة المادية ما يعود بالنفع على الجسم كلعب الكرات (البيلياردو)...
إلا أنه في هذه الديار خرج عن هذا الحد وأصبحنا لا نرى أحداً يلهو بمثل ذلك في القهوات إلا بقصد المقامرة التي ينهى عنها الدين والأخلاق ويحظرها القانون.
- أو معنوية. كالتخلف إلى مسارح التمثيل الأدبي وقاعات الموسيقى...
و مما يؤلم أن مدينة كدمشق يوجد فيها أربع مسارح ولكن من حيث الستور والهيئة لا بمعناها الحقيقي. لأن جل مسارحنا هي أشبه بماخور عام تسرح فيه الراقصات المجردات عن كل فضيلة. ومن جال نحو الساعة السابعة من الليل في جهتي المرجة والسنجقدار يرى أن كثيراً من الشبان زرافات سكارى خارجين من المسارح ومعظمهم يميلون ذات اليمين وذات الشمال وهم يغنون الأغاني البذيئة التي تشمئز منها الطباع السليمة وتنبو عنها الأخلاق الكريمة...
نحن في حاجة اليوم إلى مسارح تمثل فيها الروايات الأدبية، تلك التي تغرس في القلوب حب الوطن والفضيلة وتنهض بالأفكار من كبوتها.

نحن بحاجة إلى قاعات للموسيقى... يمتزج فيها الطرب بالحماسة لتقوى هذه الروح في نشئنا، والطرب بالحكمة حتى لا يخرج المرء من محل كهذا إلا وامتلأ وطابه بالفوائد وسري عنه مما ألم به من جراء كده في النهار... فعسى تصح عزيمة من يهمهم أمر ترقي هذه الأمة على تأليف جمعية غرضها السعي في توفير الأسباب للقيام بتمثيل الروايات الوطنية التي نوهنا عنها" .(19)

اعتباراً من العقد الأول في القرن العشرين تتحدد بقوة فضيلة المسرح الأخلاقية بالمثال الجمالي النفعي للمشروع الوطني وللمشاعر القومية في المدن العربية. خلال الأعوام التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى عاشت المدن العربية الآسيوية أجواء اليومي الذي ينذر بتحولات التاريخ الكبرى. فقد انتقلت القوات الايطالية إلى ضفة المتوسط المقابلة محتلةً ليبيا وقصفت قراصنة بوارجها بيروت، وأخذ عقد مقاطعات البلقان ينفرط من مسبحة السيطرة العثمانية بعد قتال دام، وبرهن تفوق الأسطول الجوي والبحري الاستعماري على حاجة الدولة العلية لدعم آلتها العسكرية الدفاعية.

خلال طوفان التاريخ الهادر، الذي كانت تتغير معه ملامح السلطنة العثمانية، لم يتوان الفنانون العرب في فلسطين، هواة ومحترفين، عن ربط عروض مسرحياتهم في أمسيات تلك الأيام بـ "الواجب" أو "الالتزام" التربوي أو الاجتماعي أو الوطني العربي في إطار العثمانية. إضافة للعروض التي قامت بها الجمعيات وتم التطرق لأغراضها فيما سبق، نسرد أمثلة عن فرق مسرحية تماهى لديها فن المسرح مع "الالتزام التاريخي" للدفاع عن المتبقي من كيان العثمانية. قدم في يافا عرض مسرحية "الشقاء في الحب" في تموز 1912 بغرض تمويل طائرة حربية: "سنرى قريباً، إنشاء الله، بين الاسطول الجوي الذي تهتم دولتنا العلية بإنشائه طيارة باسم (يافا)، فقد أضيف إلى المبلغ الذي جمع لهذا القصد من بلدتنا مبلغ آخر وهو ريع رواية (الشقاء في الحب) التي مثلها مساء الاثنين جوق التمثيل العصري على مرسح (النيوبار)، وكان الإقبال عليها كبيراً وأضيف إلى هذا المبلغ أيضاً قيمة ما وصل إليه المزاد العمومي على رسم الدراعة رشادية الذي بيع بمبلغ ستمائة وعشرة فرنكات. فنشكر لحضرات الذين اهتموا بهذا المشروع وللمتبرعين صدق وطنيتهم" .(20)

و أعلنت جريدة "فلسطين" عن مسرحية "ناكر الجميل" لمؤلفها أبو خليل القباني المزمع تقديمها في 26 كانون الأول 1912. نوه عن خبر العرض تحت عنوان "إلى أهل الحمية والمرؤة" على النحو التالي:
"تحت رعاية سعادة قائمقامنا المفضال سيمثل فريق من الشبان رواية (ناكر الجميل) في قهوة (الظرافية)، إعانة لفقراء عائلات المجاهدين وذلك مساء الخميس (غداً) فنحث أصحاب الغيرة والحمية على الإقبال على حضور هذه الرواية النفيسة ولهم من الله الأجر ومن الإنسانية الشكر الجزيل" .(21)

بيـن مـدنتين (حـيفا ودمشق)

في شهر تموز 1913 تقدمت "جمعية نهضة التمثيل الأدبي" الحيفاوية بطلب للجهات المعنية في مدينة دمشق لمنحها تصريحاً يمكنها من توسيع نشاطها في المدينة المذكورة، إلا أن الطلب قوبل بالرفض. في أوقات مبكرة من تاريخ المسرح العربي كان القباني قد منع من متابعة احترافه المسرح في دمشق، مما دفعه للهجرة إلى مصر عام 1884. و في عام 1913 مُنعت في دمشق أيضاً "جمعية نهضة التمثيل الأدبي" الحيفاوية من افتتاح فرع لها لتقديم المسرحيات وإعداد وتدريب الممثلين، وفي نفس العام منعت فرقة جورج أيبض الزائرة من تقديم عرض "جريح بيروت" المسرحي. ما الذي كان يجري في دمشق 1913، وما الذي دفع السلطات العثمانية للتوجس من لعبة المسرح العربي في تلك الأيام قبل أن يعلو صوت الحرب؟.

تبنت بعض الصحف قضية "جمعية نهضة التمثيل الأدبي" وتدخلت الأطراف المعنية مدلية بدلوها، باستثناء الجهات الحكومية التي أصدرت الحظر والتزمت الصمت. بين الأخذ والرد على صفحات الجرائد يمكن تلمس مدى الانفتاح في التعاطي مع فعل المسرح في كل من مدينتي دمشق وحيفا (22) عام 1913، حيث يظهر أن المناخ الفني والثقافي في حيفا استطاع أن يفرض، بشكل من الأشكال، حضوره على الإدارة السياسية مقارنةً مع نظيره في دمشق.

في يوم الأربعاء 27 آب 1913 ورد في صحيفة المقتبس الدمشقية الخبر التالي: "اتصل بنا أن جمعية نهضة التمثيل الأدبي في حيفا ستمثل في دمشق في عيد الفطر المبارك رواية يحبس ريعها لإحدى الجمعيات الخيرية في دمشق. فلها الشكر على هذه الأريحية، ولا سيما على ما تفعله في نهضة البلاد الحقيقية" .(23) يبدو أن طموح الجمعية المذكورة كان أبعد من مجرد تقديم عرض مسرحي واحد، ففي العدد التالي في 28 آب 1913 نشرت "المقتبس" رسالة من محمد فهمي أبو السعود، أحد أعضاء "جمعية نهضة التمثيل الأدبي" الحيفاوية، جاء فيها: "قرأت في العدد 1363 من المفيد الأغر فقرة أرسله بها (الهاتف) (24) الدمشقي تحت عنوان (ماذا في دمشق؟). جاء فيها أن بعضاً من شبان حيفا جاءوا دمشق ليؤسسوا فيها فرعاً لجمعيتهم (نهضة التمثيل الأدبي) فرفعوا بذلك استدعاءً لحضرة الوالي عارف بك انجلى (على زعم الهاتف) عن ممانعته لهذه الفكرة وعدم تسييره الأوراق. ولما كان ذلك لم يبد من حضرة الوالي المشار إليه بتاتاً جئت بكلمتي هذه أقول: مذ قدم الاستدعاء لمقام الولاية أخذ يسير بمحوره القانوني وقد أمر هذا اليوم حضرة الوالي بحوالته لمجلس الإدارة لينظر فيه ويتم المشروع.

هذا وأني مع رفاقي على يقين تام من أن حضرة والينا حاشا أن يمانع بمثل هذا المشروع الخيري الذي إنما قصد من تأسيسه إعانة الفقير وإغاثته، ولم يكن لمؤسسيه أقل فائدة مادية أو معنوية غير ما ذكر، ولذلك أرى أن ما قام به حضرة الهاتف كان من قبيل التسرع ليس إلا. و عند انتهاء معاملة الأوراق أذكر لكم ما يبذله حضرة الوالي من المساعي المشكورة في هذا الشأن" .(25)

رغم محاولة "جمعية نهضة التمثيل الأدبي" محاباة الوالي وعدم استباق الأمور حتى تنتهي المساعي البيروقراطية الحثيثة لتأسيس فرع لها في دمشق، إلا أن عدم التمكن من الحصول على التصرح والإذن بالعمل كان يتعزز أكثر مع مرور الوقت. لنتابع ما حفظته الصحف في هذا الشأن:
"في (تصوير أفكار) (26)أن أمانة المدينة في الأستانة خصصت مبلغ خمسة آلاف ليرة ... تنفق على مدرسة التمثيل ...، وذلك لتخريج الممثلين والممثلات في خلال ثلاث سنوات، وبعدها يفتح مسرح وطني. المقتبس: هذا هو نفس المشروع الذي قرر مجلس إدارة ولاية سورية منعه في دمشق. وخلاصة الخبر كما عرفه القراء في حينه أن نخبة من الشبان الناشطين تراءى لهم، بعد المفاوضة مع جمعية نهضة التمثيل الأدبي في حيفا، تأسيس فرع لها في دمشق، إذ جمعية حيفا أصبحت على استعداد لايستهان به في هذا الشأن، حتى إذا ما سمحت لهم الحكومة فتحوا ناديهم لإعداد الممثلين وتمثيل الروايات الأدبية الوطنية من حين إلى آخر. فعوملوا بما عوملوا فعسى أن يدرأ مجلس إدارة الولاية عنه هذه الوصمة التي أقل ما يقال فيها (وصمة عار)، فيعيد النظر بما كان قرره فيسمح للجمعية بالتأسيس فالتمثيل. حاذياً حذو الأستانة" .(27)

تعليق مؤسسي فرع "جمعية نهضة التمثيل الأدبي" الحيفاوية في دمشق: "سؤال نطلب الجواب عليه من حضرة والينا وأعضاء مجلس إدارة ولايتنا السورية وكل غيور له اطلاع على قانون الجمعيات. ما الحكمة بمنح حكومة بيروت وحماة (28) وحيفا الإذن بتأسيس جمعيات تمثيلية بمناطقهم، وحرمان جمعيتنا من نيل الرخصة بعد أن حاز كل مؤسس منا شروط اللياقة التي نصت عنها المادة الخامسة من قانون الجمعيات وصادقت عليه...الدوائر المخصوصة .(29)

ألم يكن جدير وأحرى بمن بيدهم الحل والعقد أن يمنعونا بادئ الأمر عند تقديم الطلب لمقام الولاية، فيكفوننا مشقة وعذاباً مدة شهرين كاملين في حين أن المقصد خيري محض، كما هو مشروح بقانوننا المتقدم مع الأوراق؟... هذا ما نرجو الجواب عليه ونسلف المجيب شكرنا، والله الموفق والهادي إلى سبيل الرشاد والسداد" .(30)

رد جريدة المقتبس على تعليق أعضاء الجمعية:
"نحن نظن هذا المنع خطأ من مجلس إدارة الولاية، نؤمل منه تصحيحه بإصدار قرار آخر يأذن لهذه الجمعية بالتأسيس، لا لأن له الحق بمنع ذلك ومنحه، بل غسلاً لما وصم به هذا المجلس. إذ المتأمل في قانون الجمعيات يرى أن لا شأن للمجالس الإدارية في تأسيسها بل الواجب على أكبر موظف ملكي أن يعطي بعد التحقيق من العدلية عن هوية المؤسسين، الرخصة القانونية" .(31)

ثابرت جريدة "المقتبس" على متابعة تطورات قضية افتتاح فرع الجمعية المذكورة في دمشق، ونقلت ما أوردته صحيفة "الكرمل" (32) الحيفاوية في الباب المخصص لأقوال الصحف:
"طلب إلينا الكثيرون أن لا نترك يوماً ينقضي دون أن نكتب شيئاً في التمثيل الأدبي ومنعها. وإجابة لطلبهم وإيقاظاً لمجلس إدارة الولاية أحببنا أن نسمعهم مع قولنا أقوال الصحف في هذا الشأن، مما عدته في باب الغرائب، فإليك اليوم ما قالته رصيفتنا الكرمل تعليقاً على هذا النبأ:
قرأنا في احدى المجلات أن رجلاً غضب من أولاده فأوصى بماله لكنيسة وانتحر فوضعت الكنيسة في الحال يدها على المتروكات فادعى عليها الورثة فسأل وكيل الكنيسة هل صليتم على جنازة الفقيد فأجاب كلا لأنه انتحر. قال إذا كانت الكنيسة لا تجيز الصلاة على جنازته فالأولى أن لا تستحل ماله وتتركه للورثة. و جمعية نهضة التمثيل التي يراد تأسيس فرع لها في دمشق تأسست في حيفا ومثلت روايات أرصدت ريعها إعانة للحرب ولجرحى الحرب، وقبلت منها الحكومة هذه الإعانات ومثلت أيضاً روايات إعانة للفقراء ولم تمنع الحكومة أحد عن تناول الصدقات منها. فكيف نوفق بين منعها من تأليف فروع لها وبين قبول عطاياها؟!

هل خاف مجلس إدارة دمشق من محاذير التمثيل والتمثيل كان العامل الأكبر على تربية أخلاق الأمم الحية على الفضائل؟. إن الذين يخدمون التمثيل في أوروبا تقلدهم حكوماتهم أوسمة الشرف والألقاب ويحترمهم الشعب وتعاونهم البلديات. ومجلس إدارة دمشق، قاعدة البلاد العربية، يضع العراقيل في سبيل خدمة التمثيل؟. كتاب كشكسبير في نظر الانكليز هو بالدرجة الثانية بعد الإنجيل، حتى أنهم يقولون كل شيء في شكسبير، وما شكسبير إلا روايات أخلاقية وحماسية وأدبية وحقوقية لتمثل كل يوم على المسارح في سائر أقطار العالم.

إن كان لا يجوز تأليف فروع لنهضة التمثيل يجوز إنشاء مدارس للتمثيل في الأستانة وغيرها من عواصم الدنيا ولا ينبغي أن يسمح للأجواق بالتمثيل على المسارح في البلدان. لعل مجلس إدارة ولاية دمشق يريد أن لا تشهد دمشق غير فصول (عيواظ وقره كوز) رعاية لقاعدة بقاء القديم على قدمه. فكوا يا قوم عقال هذه الأمة ودعوها تسير في معارج التقدم ولا تقفوا عثرة في سبيل نهوضها فالأخطار تهددها من كل صوب والشعوب تنازعها البقاء فلا تمنعوا عنها الحياة" .(33)

مع جريدة "الكرمل" إرادة الفعل الثقافي النهضوي هي مسألة وجودية لحياة الأمة أو مواتها. تابعت تطورات قضية "جمعية نهضة التمثيل الأدبي" كل من صحف "المقتبس" الدمشقية لمحمد كرد علي (1876 - 1953)، و"المفيد" البيروتية لعبد الغني العريسي (1891 - 1916)، و"الكرمل" الحيفاوية لنجيب نصار (1865 - 1948). ثلاث جرائد وثلاثة أسماء تنويرية من دعائم القول والفعل القومي العربي. عبد الغني العريسي أحد منظمي المؤتمر العربي الأول. بينما محمد كرد علي من موقعي رسالة التأييد الدمشقية، ونجيب نصار من موقعي رسالة حيفا المناصرة لمطالب المؤتمر في الإصلاح واللامركزية. لعل هذه الأسماء تقود البحث عن أسباب منع "جمعية نهضة التمثيل الأدبي" من افتتاح فرع لها في دمشق ليتخذ منحى يتعلق بمشاعر القومية العربية التي كانت تتأجج بين سكان "الديار السورية" العرب. لماذا اهتمت الصحف السابقة بقضية الجمعية الحيفاوية؟.

أصرت الاقتباسات السابقة على أن مقصد الجمعية خيري لإغاثة الفقير، ولإعانة جرحى الحرب، ولم تنكر رغبتها بتمثيل "الروايات الأدبية الوطنية" حسب ما أوردته جريدة "المقتبس".
في سياق تلك المرحلة كانت "الوطنية" في "المرسح" تعني تقديم ما هو عربي، ومكتوب بلسان عربي، وغالباً ما كان مقتبساً من التاريخ العربي، ويؤكد على العادات العربية. وفي تلك الأيام نفسها قال عبد الغني العريسي في المؤتمر العربي الأول: "نحن عرب قبل كل صبغة سياسية" (34)، وجاهر الأحرار العرب بتمسكهم باللغة العربية كسمة أساسية لشخصيتهم القومية في المجتمع العثماني الأوسع. تبدو المساعي الحثيثة لأنصار القومية العربية كحركة للجزء وللمختلف في مواجهة كلية السلطة التي تسعى لتتريك العلامات الفارقة لمكونات الدولة في بوتقة وحدةٍ متجانسة. عندما تكون "الروايات التمثيلية الوطنية" المقدمة على خشبات المسارح تعبر عن تميز ثقافة هذا الجزء العربي، أو تطمح للتعبير عنها، فإنها تغدو فعل مقاومة وإلحاح على شرعية ما هو جزئي بالوجود.

و كأن هذا الشعور القومي المتنامي يلتقي مع توسيع مجال عمل الجمعية من حيفا إلى دمشق.
أمر يفترض هنا أنه أحد الأسباب التي دفعت والي دمشق للحدس بأن للجمعية هدفاً "وطنياً" مثيراً للقلق، مما دعاه للتخوف من انقلاب المسرح إلى أداة سياسية، خاصة أن الأجواء العامة لم تكن تستقر على حال، فمع اقتراب نهاية عام 1912 أسس بعض "الشوام" المقيمين في القاهرة "حزب اللامركزية الإدارية العثماني" وافتتحوا له فروعاً في أغلب مدن "الديار السورية" بهدف توحيد العمل العربي السياسي المعارض لنظام الحكم المركزي. وفي 8 نيسان 1913 حلت الحكومة في بيروت "لجنة الإصلاح" التي كانت قد أصرت على الاعتراف باللغة العربية. وفي حزيران 1913 عقد المؤتمر العربي الأول في باريس .(35)

كان لمتنوري المدن الفلسطينية، من القدس، يافا، حيفا، نابلس، عكا، جنين، إلخ، حضور بارز في كافة أوجه العمل القومي العربي المعارض لمركزية لا تعترف بذاتية حركة الأطراف وتشدها للتماهى في فلك المركز. أما فصل المنع التالي فكان كما سبقت الإشارة مع عرض "جريح بيروت" الذي سيتم تناوله لاحقاً. كتب خليل السكاكيني في مذكراته يوم الأربعاء 25 شباط 1914 : "لتنبيه الشعور الوطني في الأمة العربية عدة وسائط" (1) المدارس، (2) الجمعيات، (3) الجرائد، (4) التمثيل، (5) المعابد" (36). ستبرهن الأيام في السنوات القريبة القادمة أن التوجس المفترض لوالي دمشق من المشاعر القومية العربية لم يكن بعيداً عن جادة الصواب، وكان على الأغلب السبب في منع افتتاح فرع لـ "جمعية التمثيل الأدبي" الحيفاوية ومنع عرض "جريح بيروت" في عام 1913.

مع الأيام اللاحقة سينقلب فعل المسرح إلى تظاهرة سياسية. فمبررات أحكام الإعدام التي صدرت بحق الأحرار العرب عام 1916 تشير بلا أدنى شك لإستخدام خشبة المسرح من قبل بعضهم للتواصل مع الجمهور عن طريق إنشاد الأغاني الوطنية والأشعار الحماسية أو إلقاء الخطب أو التمثيل أو المساهمة في تحضير العروض أو التأليف للمسرح. و بينما كانت الجهود مستمرة لكسب معركة الفنانين وأنصارهم مع الحكومة، تابعت "جمعية نهضة التمثيل الأدبي" نشاطها في حيفا، وقدمت عرضاً مسرحياً يوم الأحد 28 أيلول 1913 تحت رعاية الحكومة المحلية ممثلة بالمتصرف العام، وأرسل الخبر سريعاً إلى من يهمه الأمر في دمشق:
"مثلت الجمعية الناهضة ليلة أمس رواية (القيصر والشعب) ليرصد ريعها على المكتب الإعدادي في عكا وكانت الحفلة تحت رعاية متصرفها شاكر بك الحبلي الذي حضر خصيصاً لهذه الغاية إلى حيفا. فنحن نشكر للمتصرف سعيه على ترقية شأن المعارف ضمن متصرفيته.

ونذكر جمعية النهضة بخير إلا أننا ننتقد عليها تمثيلها مثل هذه الروايات المعربة، ونود لو تمثل لنا روايات وطنية تذكر العرب والعثمانيين بأمجادهم وتبث في عامة القوم وأواسطهم روح النشاط والعمل" (38). يبدو أن أعضاء الجمعية قد فقدوا الأمل بتوسيع عملهم إلى دمشق ومع الخبر السابق لعرض "قيصر والشعب" تحولت المحادثات الصحفية إلى هموم تقديم مسرحيات ذات شخصية عربية.

يستكتب أعضاء الجمعية أحدهم لنشر رأيهم في المموضوع ويرسلونه من حيفا إلى صحيفة "المقتبس" في دمشق:
"قرأت في العدد 1300 من جريدة المقتبس ما كتبه مراسلها عن نهضة التمثيل الأدبي بحيفا.
فباسم الآداب والتمثيل وبلسان إخواني أعضاء النهضة أقدم لحضرة المكاتب خالص الشكر لاهتمامه وغيرته لها وعليها. وأخص بالشكر انتقاده اللطيف الذي مهد لي الخوض في هذا الموضوع. قال ما ملخصه (إلا أننا ننتقد تمثيلها الروايات المعربة، وكنا نود أن تمثل لنا روايات وطنية تذكر العرب والعثمانيين بسابق مجدهم فتبث روح النشاط، إلخ). نحن ياأخي أشد حزناً وأسفاً منك وأكثر انتقاداً لأنفسنا في هذا الصدد وثق أن كل فرد من أفراد النهضة يتطلب ما انتقدته علينا، ولكن من أين لنا الروايات الوطنية الحماسية التي تزيد الشعب نشاطاً وتقدماً. إن الروايات المعربة تعد على الأصابع فما بالك بالروايات الوطنية!

قبل أن أقرأ عبارتك كنت أطالع قصة افرنسية تأليف الفرد دي موسيه واسمها (اعتراف فتى العصر) وقد ختمها المؤلف من الحكم النادرة والمواعظ المفيدة ما يثلج الصدور ويفرح النفوس فقلت بنفسي : كثيرون من يجيدون التعبير عما يخالج ضميرهم أو يخطر في بالهم والمفكرون ليسوا أقل عدداً منهم. فما بالنا لا نرى من بين هؤلاء من ينظر إلى هذا الوطن التعس نظرة فاحص مدقق، فيكتب لنا أسفاراً مثل هذا السفر الجليل الذي أقرأه، فيعرف الشاب مقامه ومكانته في المجتمع الإنساني ويتعلم منها واجباته نحو عائلته وقرينته حتى حبه أيضاً؟ قلت ذلك في سري وقد أجابني صوت الماضي المظلم فكتمته عن نفسي وسأكتمه عن هذا القرطاس إذ ليس له (الآن) علاقة في هذا الموضوع. إن الأجواق التمثيلية التي نراها تنتقل من بلد إلى بلد لا تقدر على الإقامة في سياحتها أكثر من شهر وذلك لأن الشعب لا يلذ له التفرج على الرواية اكثر من مرة وهي لا تستطيع تمثيل روايات عديدة لفقدان القصص المخصوصة بهذا الفن الجليل.

اتفقت الحكومات المتمدنة على أن التمثيل هو من أهم الأسباب التي تهذب أخلاق الشعب وتبث به حب الوطن والجد والارتقاء. ونحن على ما نحن عليه أمام هذه الواسطة التهديبية الجميلة نعاكس ونناضل كل من يريد رقيها ونجاحها. فقل لي بالله عليك أيها الأديب ماذا تصنع غذاً نهضة التمثيل الأدبي بعد أن مثلت أكثر الروايات المعربة؟ لدينا الآن رواية عربية وطنية وهي (السموأل). وسنمثلها إن شاء الله في القريب العاجل، ولكن ما الفائدة في تمثيلها وهي قد كتبت بلغة لا يفهمها إلا الراسخون في علم اللغة؟

على صفحات هذه الجريدة الوطنية الحرة أطلب من كل مفكر وأديب أن يلاحظ هذا النقص الذي هو عار على مؤلفينا وكتابنا. وقد سمعت الكثير من فتيان هذا العصر يقولون (أين اللغة العربية فصاحة الافرنسية في الروايات التمثيلية ومن أين لنا الكتاب المفكرين؟).

فلأجل تكذيب هذه الطبقة أرجو أن نرى في القريب العاجل أسفاراً خصوصية تمثل لنا عاداتنا الوطنية. وهكذا نكون في مأمن من انتقاد أمثال ذاك المراسل المحترم" .(39)

لا تتوفر معلومات حتى الآن حول عرض "جمعية النهضة الأدبية" في حيفا لمسرحية "السموأل"، إلا أن هذه المسرحية كانت قد لاقت سابقاً إقبالاً وشهرة بين صفوف الجمهور والفرق المسرحية الفلسطينية على حدٍ سواء، فخلال شهر واحد، آذار 1913، تركت صحيفة "فلسطين" ثلاث زوايا للإعلان والدعاية لهذه المسرحية، نذكر منها:

"رواية السموأل"

كان لتمثيل رواية (السموأل) ليلة الأحد الماضي استحسان كبير بين الحضور لإجادة الممثلين أدوارهم و حسن إلقائهم و استكمال معدات ملابسهم. ولذلك طلب إليهم الكثيرون إعادة تمثيلها. و إجابة لرغباتهم ستمثل مرة أخرى ليلة الأحد القادم في مرسح قهوة البلور. فنحث محبي هذا الفن الجميل على حضورها" (40). خلال البحث وتعقب أخبار" جمعية نهضة التمثيل الأدبي" في حيفا عثر على نبأ كان قد بعثه مراسل "المقتبس" في حيفا عن نشاطها في شهر شباط من عام 1914، ويظهر النبأ بوضوح ارتباط هذه الجمعية بالبعد بالوطني للمرحلة:

"جاءنا من حيفا أنه لم تقصر نهضة التمثيل همها على خدمة محيط حيفا بتمثيل الروايات الأدبية، بل فكرت في الاهتمام بتربية الصغار لاسيما أبناء الفقراء وتعليمهم وتغذيتهم بلبان الوطنية، وقد صحت عزيمتها على فتح مدرسة وطنية وستمثل بحيفا رواية (ربيعة وعنترة العبسي) وتخصص ريعها للمدرسة، فوفقها الله" .(41)

قبل الانتقال لتناول الفرق المسرحية الزائرة لا بد من ذكر الفلسطيني محمد عزة دروزة الذي كتب مسرحيات تحض على النهضة العربية، ونشرت له مسرحية "وفود العرب على كسرى أنوشروان" عام 1911 ومسرحية "السمسار وصاحب الأرض" عام 1913.

الـفـرق الـزائـرة

أما أهم الفرق الزائرة للمدن الفلسطينية فهي "جوق التمثيل العصري" بإدارة سليم وأمين عطا الله في كانون الثاني عام 1913 و"جوق جورج أبيض وسلامة حجازي" في نفس العام. دون أن نغفل عن الفرق الأجنبية الزائرة، والتي لا بد أن الدافع الأساسي لقدومها كان وجود جاليات أجنبية متعددة من ألمانية وروسية وفرنسية وانكليزية ويونانية وايطالية.

فرقة الأخوين سـليم وأمين عطا الله

في حقيقة الأمر إن الأخبار الصحفية التي ذكرت شيئاً عن فرقة الأخوين سليم وأمين عطا الله في المدن الفلسطينية تثير الحيرة، لأن الشك ينتاب قارئ المعلومات عن هويتها، وما إذا كانت هي نفسها الفرقة المعروفة التي قدمت القناع المسرحي (كشكش بك) أم لا. عثر على أخبار متفرقة عن زيارة جوق الأخوين عطا الله إلى يافا، و يعرف من سياق المعلومة الصحفية أن هذه الزيارة لم تكن الأولى من نوعها إلى المدن الفلسطينية، حتى أن زيارة 1913 توجت بإعلان نية أمين عطا الله على الزواج من فتاة حيفاوية، و لا ندري إن تم المشروع أم لا. من جانب آخر نعرف من الصحافة في فترات زمنية متقدمة أن زوجة أمين عطا الله الذي قدم (كشكش بك) السوري هي الممثلة ابريز استاتي.

إذن من هو أمين عطا الله في الخبر التالي:

"جـوق التمثيـل العصـري"

فاتنا أن نذكر خبر قدوم جوق التمثيل العصري الذي يديره الأفنديان سليم وأمين عطا الله إلى بلدتنا، وما يقوم يه جوقهما من تمثيل أحسن الروايات وأجملها مما لايزال يذكر بذلك كل من حضره. وفي هذه المناسبة يسرنا أن نذكر خبر اقتران أمين أفندي في 13 الجاري بالآنسة كاترين ثابت من حيفا فنهنئه ونرجو لحضرته الرفاه والبنين" (42). ما يعزز الشك بهوية الفرقة أن المسرحيات التي قدمتها لم تكن من النوع الكوميدي الذي اشتهرت به الجوقة، وها هي بعض الأنباء المنشورة في جريدة "فلسطين":

"ليلة تمثيليـة"

نحث قراءنا الأدباء على اغتنام الفرصة وحضور رواية حمدان التي مضت مدة طويلة على بلدتنا بدون أن تشاهد تمثيلها من جوق متقن نظير جوق الأفندية عطا الله إخوان. أجاب الجوق المذكور رجاء فريق من عشاق التمثيل ووعد أن يقدم هذه الرواية نهار غد الخميس مساء الجمعة، فاستعد لها استعداداً خاصاً و انتقى محلاً خلاف المحل الذي يمثل فيه عادة وهو قهوة (الظرافية) لتوفير راحة الحضور. فعلى المواطنين الأفاضل مناصرة هذا الجوق العامل المجد في خدمة الفن والأدب" .(43)

و نقرأ في خبر التالي:

"بيـان"

دعت بعض الأسباب لتأجيل تشخيص رواية (روميو وجولييت) (التي كان بالنية تقديمها ليلة الثلاثاء الماضية (44) والتي سيصرف ريعها على منكوبي عائلات الريف) إلى ليلة الجمعة القادمة والتذاكر التي جرى توزيعها مقبولة في هذه الليلة، وسينشد حضرة الشيخ أحمد أفندي الطرفي تبرعاً منه بعض قصائد جوق التمثيل العصري" (45). إن مسرحيتي "حمدان"، و"روميو وجولييت"، الأولى من تأليف نجيب حداد والثانية من ترجمته، ليستا من الأنواع التي اعتاد أن يقدمها أمين عطا الله، إلا إذا كانت بداياته الأولى في التمثيل لم تكن في مجال "الملهاة الهزلية".

فرقة جورج أبيض وسلامة حجازي

أما بالنسبة لزيارة جوق أبيض وحجازي في تموز 1913 فهي زيارة العمل الأولى لكلٍ من منهما للمدن الفلسطينية، رغم أن الفنان الشيخ زار مدن بيروت، دمشق، حلب عام 1908، و 1909، و عام 1910. والآن يترك المجال هنا للمتابعات الحيوية التي أجرتها جريدة "فلسطين" ورصدها لتفاصيل الزيارة و تحولات المدينة وما يجاورها بقدوم الزائرين. وكيف تحدثت عن العروض ومجرياتها، معبرة عن احتفالية المدينة الفلسطينية الاستثنائية بالتمسرح نساء ورجالاً في فضاء اجتماعي منفتح :(46)

"الأجـواق الثـلاثـة"

وقد عرف القراء أنها أجواق جورج أبيض والشيخ سلامة حجازي وعبد الله عكاشة التي ستمثل لنا في يافا روايتين في ليلتين متتابعتين وهما ليلة الأحد القادم وليلة الاثنين في 12 و13 تموز الجاري. أما الرواية التي ستمثل ليلة الأحد مساء السبت فهي رواية لويس الحادي عشر. و الرواية التي ستمثل ليلة الاثنين مساء الأحد فهي رواية أديب الملك. وكلتا الروايتين مشهورة في العالم الروائي شهرة ممثليها في عالم التمثيل. وأما أسعار الدخول فهي عشرة فرنكات في الدرجة الأولى وخمسة فرنكات في الدرجة الثانية عن كل ليلة. فلا تنس أن تغتنم هذه الفرصة التي لا يسمح بها الدهر أكثر من مرة" .(47)

"ليلتـا التمثيـل"

وصلت الأجواق المصرية إلى بلدتنا (يافا) أول من أمس الإثنين مع الباخرة الخديوية، فنزل منها إلى البلدة نحواً من 50 ممثلاً وممثلة مع الشيخ سلامة وجورج أفندي أبيض وداوم البقية وعددهم 30 السفر إلى بيروت برفقة الشيخ عكاشة. وفي مساء اليوم نفسه مثل الجوق رواية لويس الحادي عشر وكان الإقبال عظيماً، ونصف من بالقاعة وقوفاً، لأنه ليس فقط قد بيعت أوراق أكثر من اللازم بل أن الذين وكل إليهم أمر المحافظة على الباب وردع الناس صاروا يدخلون خلسة الذين يطلبون مقابل إكرام يضعونه في جيوبهم، هذا فضلاً عن الألوف التي كانت محتشدة في الشوارع والأماكن المجاورة لقاعة التمثيل. وقد دام الهدوء حتى نهاية الفصل الثالث إلى أن علم الحاضرون أن الشيخ سلامة لا دور له على المرسح. فقام قائمهم واستولت الضجة على القاعة وفقد النظام وصمّ الهتاف الآذان.

فاعتذر الجوق بمرض الشيخ تلك الليلة وأنه سيرضي الجميع ويمثل في الليلة القادمة، فلم يقنعهم هذا بل آل فريق من الحاضرين على أنفسهم مقاطعة كل ممثل وكل خطيب يريد اقناعهم، واتصلت القحة بهذا الفريق أنه عندما رفع الستار عن الفصل الخامس أقاموا القاعة وأقعدوها وأنزلوا الستار، ومنعوا التمثيل، فخرجت السيدات وأكثر الحضور، وساد اللغط وبقي الناس في انتظار بلا جدوى مدة ساعتين. فتكدر الجوق وقلع ملابسه وذهب جمع كبير قرب الساعة الثانية بعد منتصف الليل وأقاموا الشيخ من فراشه وأحضروه إلى المرسح فغنى بعض أبيات، ورفض الجمع دون إتمام الرواية.

أما الرواية الثانية فمثلت بها رواية غانية الأندلس، وكان الشيخ سلامة بطل الرواية فسحر الألباب بألحانه، ولعب بالعقول وأدار على النفوس أحب نشوة من نشواتها وتلطف لإرضاء الجمهور بأن ظهر مراراً على المرسح وبذل أكثر ما في وسعه حتى خشينا على صحته. وقامت بدور غادة الأندلس الآنسة فكتوريا بحوس فأبدعت بما أتت وعلى الأخص في موقف قراءة التحرير، وإذا اعتنت هذه الآنسة بفنها الذي كما علمنا أنها قريبة العهد به، وكان لها من يرشدها فيه كان لها شأن. هذا وقد كان أهالي البلدة أرسلوا وفداً منهم للإعتذار لجورج أفندي أبيض عمّا حدث في الليلة الماضية. ولما حضر في المساء كمتفرج قامت له القاعة وطال تصفيق الاستحسان. ثم تقاطر إليه الراجون واحداً بعد واحد ليتم الفصل الخامس من رواية أول أمس، فتلطف ولبّى الرجاء، وكان فيه كما كان بالأمس أعجوبة من عجائب الزمن كما وصفناه في مقالنا الأول .(48)

والذي علمناه في آخر ساعة أن أجواق جورج أفندي أبيض والشيخ سلامة حجازي وعبد الله عكاشة (49) سيمثلون ليلتين أخريين في يافا لأن الباخرة الافرنسية التي كانوا يقصدون أن يسافروا بها لا تذهب إلى بيروت رأساً بل تعرج في طريقها إليها على حيفا وعكا" (50).

"جـورج أبيـض"

ما رأت بلدتنا حركة أضياف كرام كحركة اليومين الماضيين. فقد فارق نابلس في الأسبوع الماضي فريق من أعيانها ووجهائها. والقدس قسم من أفاضلها وأدبائها. وغزة البعض من سراتها وخيرة أبنائها. وأمَّ الجميع بلدتنا بمناسبة وصول جوق التمثيل المصري المؤلف من ثلاثة أجواق : جوقي الشيخين سلامة وعكاشة وجوق الممثل جورج أبيض. وصف الحفلة يراه القارئ في محليات هذا العدد أما هنا فسنحادث القرآء فقط بالحديث الذي تعودوه منا في كل مسألة يشترك فيها الجمهور ويلغط بها الرأي العام. فننظر من وجهته الأخلاقية ونمثل للناس حقائق يعرفها جميعهم ويكتمها أو يتجاهلها بعضهم. إن الحادث المكدر الذي جرى في أول ليلة لهو حادث يشترك بمسؤوليته الجمهور أولاً، ومقاولوا الجوق ثانياً، والجوق بدرجة خفيفة أخيراً. أما الجمهور فلأنه مع أحقية طلبه سماع صوت الشيخ سلامة تهور أفراد من بينه بضجيجهم حتى جرحوا إحساسات ممثل أقرَّ له الشيخ نفسه أنه نابغة الشرق في هذا الفن ومنعوه من اتمام فصل الرواية الخامس، وهو عمل مهما تلطفنا في تسميته لا نجسر أن نجرده من معنى الفظاعة. وأما الأدباء المقاولون فلأن الإقبال بهرهم فأغراهم شيطان الطمع وتساهلوا في آخر ساعة بإدخال من يريد غير مراعين صغر القاعة ووجود السيدات بكثرة، فضاعت الكراسي المرقمة على أصحابها وضاعت معها الأقدار، واختلط الحابل بالنابل، وجلست رجال ووقفت سيدات. وتقدم في قعوده من دفع بضع بشالك في آخر ساعة وتأخر من بذل الذهب سلفاً في مشتري تذاكر منمرة له ولعائلته. وخاب أمل من ظنَّ أنه ذاهب إلى حفلة منظمة لا إلى قاعة شركة تجارية يهمها الربح ولا يهمها الترتيب والنظام. فهذا التساهل والطمع هما اللذان سببا في اعتقادنا هذا الحادث إذ أدخل من جرائهما من كان لا يجب إدخاله إلى القاعة. لأننا نتأكد بأن الأفاضل الغرباء مع كل ما تكبدوه من المخاسر والأتعاب في سفرهم وفي انتظارهم وفي تعطيل أشغالهم قبلوا عذر الشيخ عن أول ليلة بداعي مرضه وامتنعوا عن كل حركة مشينة. فما جرى والحالة هذه صدر عن اللذين تساهل معهم بائعوا التذاكر في آخر ساعة فضايقوا الناس وشوشوا الحفلة وسببوا الحادث المكدر.

أما مسؤولية الجوق فهي كما قلنا في درجة خفيفة، ذلك أن مديره الفاضل نسي أن الشيخ سلامة ما علا حتى الآن مرسحاً في فلسطين. ولا سمع له صوت في هذه الأنحاء قبل هذا اليوم فحال الجمهور هنا معه يختلف عن حال أهالي بعض البلدان السورية التي سمعته فيما مضى. فإن هي تحرم من صوته في أول ليلة لا تهيج كما هاج الأهالي عندنا. ونحن نعتقد بأنه لو ظهر الشيخ في أول ليلة وارتاح في الثانية لسرَّ وأرضى، وقبل عذره، وكفينا مؤونة ماجرى.

حصرنا المسؤولية في ثلاث ونسينا الحكومة مع أن لها نصيباً غير في هذه المسؤولية. فقد كان من واجبها أن تفعل ما تفعله أمثالها في البلدان الأخرى فهناك متى نظر مأمور المحافظة أن ما يطلبه الجمهور غير مستطاع وأن عناد بعض أفراد يحرم مئات الحاضرين من رؤية وسماع فصل الرواية الأخير يخرج حالاً بالقوة المشاغبين ويسمح للبقية أن ترى نهاية رواية دفعت ذهباً لحضورها. وبعد أن تتم الرواية فهو حرّ أن يرجعهم ليصرخوا ويصيحوا ما استطاعوا ومن طاب له البقاء يبقى ومن يقنع بما تمّ أمامه يذهب في حال سبيله. والآن لنتكلم عن جورج أبيض.

تمعنّا في الرجل جيداً في أثناء تمثيله دور لويس الحادي عشر. وتابعنا جميع حركاته وسكناته. وجلوسه وقيامه. وتنقله ماشياً. وتقلبه ملقياً. وراعينا نبرات صوته وتمتمة شفتيه وتلاعب عينيه وملامح وجهه التي يقرأ عليها في كل دقيقة شأن. وإشارات يديه التي تغني عن نطق اللسان، فوجدناه أعجوبة في ضبط قياد النفس. ونابغة في تكييف العواطف. وتسييرها كما يريد إلى ما يريد. من يرى الأبيض ممثلاً يرى رجلاً يمتلك المرسح حتى اعتقد أنه بيته الخاص فتناسى القاعة ومن فيها. وحُصرت الدنيا عنده تلك الساعة بالأخشاب التي يعلوها، والسكان بالممثلين الذين يشاهدهم أمامه. فخرج عن كل شيء، عدا الحادثة التي يمثلها وتجرد عن ذاته ليحيى في البطل الذي أخذ دوره. رأيناه كما قلنا في دور لويس الحادي عشر. فأسمعنا تدفق الكلام في أفواه شيوخ الفرنسيس. وأرانا "لويساًً" تاريخياً بكل دهائه. وقسوته. وحيله وخوفه من القتل. وكرهه للموت. ونقلنا إلى الأعصر الوسطى أعصر المتاجرة بالدين واستثمار رجاله سذاجة الناس وجميل تقواهم. أعصر الاعتقاد بأن إرضاء الله بالكلام والكهنة بالعطايا يمكنان الناس من الاتفاق مع السماء (51). وقد كان بجانبنا صديق حضر فيما مضى "سلفان" الممثل الفرنساوي الشهير في نفس الدور، فشهد لنا بأن جورج أبيض لم يقصر عنه في شيء، لا بل هو يفضله لأنه يمثل الدور في لغة لم يخلق فيها.

خلاصة ما يقال أن جورج أبيض نابغة الشرق في هذا الفن وسيزيد قدره رفعة كلما تقدم هذا الشرق في الرقي، وعرف قيمة الفنون الجميلة. أما جوقه فهو مؤلف من ممثلين وممثلات بلغوا نهاية ما يمكن إتقانه في هذا الفن خارج مدارسه الخاصة" (52). رغم الفوضى وسوء تنظيم الحفلة المسرحية ألا تعتبر المتابعات الصحفية السابقة مثالاً صارخاً لذائقة الجمهور الفنية ولأهمية عنصر الغناء والموسيقى في العرض المسرحي العربي في تلك الفترة؟. من المعروف أن عنصر الطرب كان جزءاً مهماً يدرج بين الفصول دون أن تكون له وظيفة درامية تتعلق بموضوع المسرحية المقدمة كذلك الأمر بالنسبة للمنولوجات وللفواصل الفكاهية.

في كل الأحوال النصوص التوثيقية السابقة تدل دون أدنى شك على حيوية مميزة للجمهور العربي في المدن الفلسطينية. جمهور يتقاطر إلى المكان المسرحي، يعرف، دون أن يمتلك تراثاً مسرحياً حاجاته وحقوقه الفنية التي دفع ثمنها قبل الدخول، ويصرّ على إبداء رأيه في مسار العملية المسرحية. يمكن تخيل جموع المتفرجين وهي تتقاطر إلى المكان المسرحي وانتظارها الطويل ريثما يوقظ المطرب/الممثل الشيخ سلامة حجازي من فراشه ويقاد لخشبة المسرح كي يصدح بصوته هناك، كذلك يمكن تخيل أصوات المتفرجين في مقاعدهم وهي تطالب وتصر على إتمام المسرحية واستعادة التمسرح مجدداً في فضاء المكان. من يقرأ الوثائق التي تدون مجريات هذه الأحداث لا بد أن يتسائل عن الوقت الذي يصرف بين الانقطاع، والمطالبة، والمحاولة، والانتظار وكأن التوق للتمسرح ينصر زمن الوهم المسرحي فوق الخشبة على حساب زمن الواقع العياني. من جهة أخرى ألا يشير ارتياد النساء أو الرجال مع عائلاتهم صالة مسرح شيدت كي تكون مخلطة في المدينة الفلسطينية المشار إليها سابقاً إلى انفتاح اجتماعي مقارنة مع غيرها من مدن "الديار السورية" كدمشق مثلاُ، والتي تشير الوثائق إلى اقتصار مسارحها على روادها الذكور وفي أحيان قليلة مع نهاية العشرينيات قدمت حفلات مسرحية لجمهورمكون من النساء فقط.

"جورج أبيض والشيخ سلامة" في القدس

جاءنا من مجلس القدس البلدي صباح اليوم أن جوق الشيخ سلامة أفندي حجازي وجورج أفندي أبيض سيحي ثلاث ليال تمثيلية فيها الأولى مساء الثلاثا والثانية مساء الأربعا والثالثة مساء الخميس في 9 و10 و11 تموز شرقي .(53) أما الروايات التي يمثلها الجوق فهي "غانية الأندلس"، "نابليون"، و"جنحة الغواية". وسيكون دخلها إعانة للمهمات الوطنية. وتباع تذاكر الدخول بعشرين فرنكاً للمحل الممتاز، وعشرة فرنكات للمحل الأول، وخمسة وثلاثة للمحلين الثاني والثالث" .(54)

رواية (روميو وجوليت)

مثل هذه الرواية ليلة أمس جوق الشيخ سلامة أفندي حجازي فأبدع الشيخ وأطرب وساعده أفراد الجوق، فأظهروا براعة نالت استحسان الجمهور. وكانت القاعة غاصة بالمتفرجين فيهم عطوفة متصرف اللواء وسعادة القائمقام وأركان الحكومية وذوات البلدة من سيدات ورجال. ومساء اليوم سيقدم جوق جورج أبيض رواية "المارسيلية الحسناء" وإذا ساعدنا حسن الحظ يسمعنا "منولوغاً" بديعاً. فنحث الأهالي على اغتنام هذه الفرصة وحضور هذه الليلة الأخيرة لأن الجوق سيبارح ثغرنا غداً الأحد إلى القدس حيث ارتبط على ثلاث روايات يقدمها في ثلاث ليالٍ متتابعة تكون آخرها ليلة عيد الدستور (55) وعائداتها لإعانة المهمات الوطنية" .(56)

الشـيخ سـلامة حجـازي

لا ينبغي من هذا العنوان التكلم عن صوت الشيخ سلامة حجازي وتفننه في ألحانه، لأن ذلك فوق مقدرتنا. وجل ما يمكن قوله في هذا الباب أننا وحاضري ليلة أمس كنا نتلقف صوته بأفواهنا لا بآذاننا. فتسري لذته في جسم كل منا سريان الصحة في جسم العليل وتنقلنا بريهة من هذا العالم إلى سواه. فمحاولة الإتيان على وصف ذلك تعسر على قلمنا، لأن الشيخ، فسح الله في أجله، نسيج وحده في هذه العطية التي منَّ بها عليه الرحمن. وهيهات أن يبار به مبارٍ أو يجود بمثله الزمن. إن ما نبغيه في هذه العجالة هو التكلم عن الشيخ والتمثيل. وقد فتشنا عن الكلمة التي يمكن أن تنطبق عليهما. وتفصح جلياً عن علاقة أحدهما بالآخر، فلم نجد أصح وقعاً في الإفهام، وأصدق وضعاً على القرطاس من نفس الكلمة التي أطلقها عليه الجوق في الإعلانات التي وزعها في البلدة. إذ دعاه ب "عماد التمثيل العربي".

عماد التمثيل العربي. هي والله حقيقة لا يجسر على إنكارها أحد. فإن الشيخ، متعنا الله بطول بقائه، كبير فضل على نهضة التمثيل العربي. يكلل هامها ما دام لها في هذه البلاد مراسح. ويقرّ له بها كلما وقف ممثل على أحد هذه المراسح. ذلك لأنه هو الذي أبدل ثوبها وقد كاد يخلق. ورفع قدرها بعد أن كانت تظن صناعة شائنة. وألف أول جوق منظم بعد أن كانت الأجواق فوضى. وزاد في أجرة الممثل ففتح بذلك الباب لدخول أدباء آمنوا بهذه الزيادة معيشهم... ثم افتقده الله بلطفه وألم بجسمه ما ألم. فلم يثن ذلك عنان همته، ولا أوهن من عزمه، ولا منعه عن متابعة أمنية قلبه وعشقه لهذا الفن. وقد نظرنا كيف كان أول أمس على المرسح يغالب الطبيعة في جسمه، فيتغلب العزم على الضعف. وشاهدنا كيف أن الجمهور كان يكبر هذه الهمة. ويقابل عراك الشيخ مع الطبيعة بقلوب جعلت له فيها هيكلاً، حتى أن هتاف الاستحسان الخارج من أكثر من ثمانمائة فم كانت هكذا: "عافاك الله وشفاك يامولانا الشيخ". و مما لا يجب أن نغفل في كلامنا عن هذا الرجل العجيب أنه خسر على التمثيل من ثروته الخاصة أكثر مما ربحه منه حتى الآن. فالتمثيل العربي مديون إذن للشيخ سلامة حجازي. فهو وإن كان لا يتقن التمثيل إلى درجة أرباب الفن فيه إلا أنه يحبه حباً يشبه العبادة ويغار على رجاله غيرة الأب على أولاده وكم له على ما سمعنا من نوادر في هذا الباب. فلا عجب إذا دعوه والحالة هذه بعماد التمثيل العربي. ختام القول أن الشيخ الفاضل يعشق هذا الفن لخدمته لا لربحه. ولا يريد أن يفرق بينهما غير الموت. فهو من هذا القبيل يشبه ذلك القائد الذي رجع إلى الحرب بعد أن فقد فيها ذراعه الأيمن، فقيل له في ذلك فأجاب: إن لي ذراعاً آخر أيسر، وهو أيضاً يخص الوطن" .(57)

أجواق أجنيبية زائرة: الجوق الفرنساوي التمثيلي

قدم الثغر نهار الأربعاء من هذا الأسبوع جوق فرنساوي تمثيلي فمثل على مسرح النوبار ثلاث روايات عصرية صغيرة في تلك الليلة على حساب المنتدى الرياضي سر بها جميع من حضرها من كبار النزالة الأجنبية والطبقة الراقية من الوطنين وعائلاتهم. ولما كان اعجابهم بهذا الجوق كبيراً وكانت مدة إقامته بيننا لا تزيد عن خمسة أيام رأت الجمعية الخيرية الأرثوذكسية وجمعية المرضى وعمدة المدرسة الملية الأرثوذكسية أن لا تحرم الأهالي ولا سيما من لم يحضر منهم تلك الحفلة من حفلة مثلها يصرف ريعها على أعمالها الخيرية فقررت إقامة تلك الحفلة مساء هذا النهار الساعة الثامنة ونصف وهي تحث الجميع على اغتنام هذه الفرصة الثمينة" .(58)

ليخشتنشتين: رواية المانية تاريخية غرامية

تشخص في مساء الأربعاء القادم الواقع في 9 تموز ومساء السبت الواقع في 12 منه في قاعة لورانس وهي ذات 9 فصول من تأليف الشاعر الألماني الشهير ولهلم هوف. وقعت حوادثها منذ 400 سنة في دوقية وارتمبرغ وهي تمثل جميع عوائد الشعب الألماني وأزيائه في ذلك الحين. تباع تذاكر الدخول بجانب قاعة لورانس والأسعار كما يلي:
الدرجة الأولى: عشر فرنكات.
الدرجة الثانية: 5 فرنكات.
الدرجة الثالثة: 3 فرنكات.
فنحث من يهمه الاطلاع على آداب القوم وتاريخهم أن يغتنم هذه الفرصة" .(59)


1- أسس يوسف العيسى جريدة فلسطين بالمشاركة مع ابن عمه عيسى داود العيسى.
2- فلسطين، س 2، ع 182 - 81، يافا، 23 تشرين الأول 1912.
3- النقاش، نقولا: مقدمة أرزة لبنان، المطبعة العمومية، بيروت، 1869، ص 10.
4- اعتبر الأب لويس شيخو (1859 - 1927) الجمعية المشرقية كـ "دليل ساطع على أن المرسلين اليسوعيين منذ رجوعهم إلى القطر السوري في العشر الرابع من القرن التاسع عشر لم يفصلوا العلم عن الدين بل جمعوا بينهما كالأخوين الشقيقين وكفرسي رهان جروهما في حلبة التمدن". كان لمارون النقاش مكانة مميزة في الجمعية فقد تم انتخابه فيها كنائب للرئيس عام 1852، إلا أنه اعتذر عن قبول هذا المنصب بعد ثمانية أيام "لزيادة أشغاله" كما ادعى. راجع الأب لويس شيخو، الجمعية المشرقية في بيروت، المشرق، س 7، ع 1، كانون الثاني 1909.
5- راجع شاكر، مصطفى (اعداد): المعلم داوود قسطنطين الخوري، تراثه الكامل في الرواية والشعر والأدب، دار اليقظة، سوريا، 1964.
6- فلسطين، س 1، ع 72، يافا، 27 أيلول 1911.
7- أسست في باريس عام 1911، وكان من بين مؤسسيها السبعة عوني عبد الهادي من جنين ورفيق التميمي من نابلس.
8- اعتقل مع شكري القوتلي ومعين ماضي ويوسف سليمان حيدر وابراهيم هاشم. 9- راجع كل شيء والعالم، ع 236، 7 حزيران 1930.
10- حمص، س 2، ع 22، حمص، 16 و19 نيسان 1911.
11- فلسطين، س 3، ع 249 - 46، يافا، 28 حزيران 1913.
12- راجع داغر، يوسف أسعد: مصادر الدراسة الأدبية، الطبعة الألفية، مكتبة لبنان (ناشرون)، بيروت، لبنان، 2000.
13- راجع سليمان، سهيل: أثر البنائين الأحرار في الأدب اللبناني (1860 - 1950)، نوفل، بيروت، 1993.
14- راجع الحكيم، يوسف: سوريا و العهد العثماني، ذكريات (1)، دار النهار، بيروت، ط 4، 1991، ص 175.
15- فلسطين، س 3، ع 215 - 12، يافا، 22 شباط 1913.
16- أصدرها في مصر اللبناني شاهين مكاريوس عام 1884.
17- اللطائف، مج 1، 1886.
18- بالنسبة للنهضوي الفلسطيني خليل السكاكيني هي: ممارسة الألعاب الرياضية، الاستحمام بالماء البارد، التغذية الجيدة، النوم، تحديد ساعات العمل، السياحة والسرور والضحك.
راجع السكاكيني، خليل: كذا أنا يا دنيا، الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، سلسلة إحياء التراث الثقافي الفلسطيني (8)، ط2، 1982، ص 142 - 144.
19- الأمة، س 1، ع 11، دمشق، 15 كانون الأول 1909.
20- فلسطين، س 2، ع 156 - 55، يافا، 24 تموز 1912.
21- فلسطين، س 2، ع 200 - 99، يافا، 25 كانون الأول 1912.
22- كانت يافا وغزة والخليل وبئر السبع تابعة لمتصرفية القدس. بينما تبعت حيفا وعكا لولاية بيروت.
23- المقتبس، س 5، ع 1280، دمشق، 27 آب 1913. تاريخ كتابة الخبر توافق 25 رمضان 1331، ويصادف أول يوم في عيد الفطر الثلاثاء 2 أيلول 1913 حسب التقويم الغربي.
24- "المفيد" هو اسم الصحيفة أما "الأغر" فهي صفة لها. اعتادت الدوريات أن تنعت احتراماً بـ "الأغر" أو "الغراء" إذا كان اسمها مؤنثاً. أما "الهانف" فهو المراسل الصحفي.
25- المقتبس، س 5، ع 1281، دمشق، 28 آب 1913.
26- تصوير الأفكار هو اسم لصحيفة.
27- المقتبس، س 5، ع 1295، دمشق، 18 أيلول 1913.
28- المقصود "الجمعية الأدبية التمثيلية" التي سمح بتأسيسها في حماة، ورد في جريدة المقتبس، س 5، ع 1278، دمشق 9 أيلول 1913.الخبر التالي: "ليلة تمثيليـة، في مثل هذا اليوم من السنة الماضية (1912) تأسست في حماة جمعية خيرية نسائية برآسة إحدى الأوانس المسيحيات مبدأها جمع الدراهم وغايتها انفاق ما تجمعه على الأيتام من الفقراء. وقد جمع في مدة سنة ما يربو على الثمانين ليرة عثمانية. وبمناسبة عيدها السنوي طلبت من الجمعية الأدبية التمثيلية في حماة تمثيل رواية ففعلت ومثلت رواية (جزاء الشهامة)، وأغدقت ريعها على جمعية (نور الهدى النسائية) المذكورة.
و قد قام عند انقضاء الرواية خطيباً عبد الحسيب أفندي الحموي وارتجل جملة انتقد بها على الممثلين لحنهم في اللفظ والاشارة، بيد أنه شكرهم على مساعيهم ثم تكلم تفصيلاً عن موضوع أخلاقي في الرواية.
فنحن نتمنى لهذه الجمعية النسائية "نور الهدى" الثبات والنجاح، كما أننا نرجو مساعدتها لتقوم بعملها الجليل"
29- اشترط قانون الجمعيات أن يضم طلب تأسيس الجمعية أسماء القائمين على إدارتها وأن تحصل على موافقة وزير الداخلية في العاصمة أو أكبر مسؤول إداري في مركز تأسيسها.
30- المقتبس، س 5، ع 1297، دمشق، 21 ايلول 1913.
31- المقتبس، المصدر السابق.
32- الكرمل صحيفة أسبوعية أصدرها نجيب نصار عام 1908 في مدينة حيفا.
33- المقتبس، س 5، ع 1298، 22 أيلول 1913.
34- راجع العريسي، عبد الغني: مختارات المفيد، ناجي علوش (تقديم)، دار الطليعة، بيروت 1981، ص43.
35- راجع أنطونيوس، جورج: يقظة العرب، تاريخ حركة العرب القومية، تر ناصر الدين الأسد و إحسان عباس، دار العلم للملايين، بيروت، ط 7، 1982، ص 175 - 203.
36- السكاكيني، خليل: كذا أنا...مصدر مذكور، ص 66.
37- ورد سابقاً أن فرع التمثيل في الشركة الاقتصادية الوطنية قدم نفس المسرحية في نيسان 1911.
38- المقتبس، س 5، ع 1300، 29 أيلول 1913.
39- القبس، س 1، ع 2، دمشق، 1 تشرين الأول 1913.
40- فلسطين، س 3، ع 220 - 17، يافا، 5 آذار 1913.
41- المقتبس، س 5، ع 1418، دمشق، 12 شباط 1914.
42- فلسطين، س 2، ع 202 - 101، يافا، 1 كانون الثاني 1913.
43 فلسطين، س 3، ع 204 -1، يافا، 15 كانون الثاني 1913.
44- الموافقة 22 كانون الثاي 1913.
45- فلسطين، س 3، ع 206 - 3، يافا، 22 كانون الثاني 1913.
46- من المحتمل أن كاتب المقالات المعنونة "ليلتا التمثيل"، و"جورج أبيض"، و"الشيخ سلامة حجازي" هو يوسف العيسى نفسه.
47- فلسطين، س 3، ع 251 - 48، يافا، 5 تموز 1913.
48- وضعت مقالة "جورج أبيض" على التوالي مع خبر "ليلتا التمثيل".
49- من المستغرب الإشارة هنا إلى عبد الله عكاشة، فقد ذكر سابقاً أنه تابع طريقه إلى بيروت مع مجموعة من الممثلين. لعل المقصود هنا اسم الفرقة التي تضم اتحاد الفنانين الثلاثة.
50- فلسطين، س 3، ع 254 - 51، يافا، 16 تموز 1913.
51- لعل يوسف العيسى كاتب المقالة يبطن كلماته هنا بنقد للاكليروس اليوناني الذي كان يسيطر على مقاليد المؤسسة الدينية الأرثوذكسية في القدس.
52- فلسطين،س 3، ع 254 - 51، يافا، 16 تموز 1913.
53- الموافق ل 22، و23، و24 من شهر تموز 1913 حسب التقويم الغربي.
54- فلسطين، س 3، ع 255 - 52، يافا، 19 تموز 1913.
55- تم اعتماد 10 تموز شرقي يوم عيد الدستور. أما العرض الأخير للفرقة في القدس قفد أشير إلى أنه سيقدم مساء 11 تموز شرقي، ولعل التنويه لليل عيد الدستور هو محاولة الفرقة أو المتعهدي البرنامج المسرحي في القدس الربط بين العرض وبين عيد الدستور.
56- فلسطين، س 3، ع 255 - 52، يافا، 19 تموز 1913.
57- المصدر السابق.
58- فلسطين، س 3، ع 227 - 24، يافا، 5 نيسان 1913.
59- فلسطين، س 3، ع 251 - 48، يافا، 5 تموز 1913.