يشكل مقالي هذا رؤية آتية من باحث مغربي/ عربي ظل مصراً على قول أفكاره السياسية من زاوية نقدية/ فنية، راغباً في خلق مسافة بينه وبين الفعل السياسي، إيمانا منه بأن لكل مجال أهله ورجالاته، لكن رياح مزعزعة بدأت تضرب في العمق بعض البلدان العربية، رياح وليدة الرغبة في الانعتاق نحو الحرية ودمقرطة أساليب الحكم والعيش والتداول حول السلطة، وتقسيم الثروات بشكل يقرب الفجوة الواسعة بين أسر قليلة تملك معظم مصادر العيش، وأخرى عديدة بل مشكلة للقاعدة الكبرى، أصبح حديثها اليومي مرهون بالبحث عما يسد رمق الجوع. فجوات كبيرة بين الأولى والثانية، بين من يتعلم ويعالج ويترفه في أرقى الفضاءات، وبين من لا يجد مصروفه اليومي البسيط، قابلاً على العيش في أمكنة أقل ما يقال عنها، أنها أمكنة تصلح لأي شيء، إلا أن تسكن من طرف هذا العربي. أوضاع متشابهة في معظم الدول العربية مع استثناءات بسيطة جداً في بعض الدول الخليجية القليلة جداً، والتي هي الأخرى بدأت رياح الخلخلة، تصيب بعض أركانها مكسرة تلك الصورة النمطية المشكلة في وعي/ لاوعي المتلقي لها في وسائل إعلامها المخدومة والحريصة على تبيان عمارات شامخة، لكن بجانبها مظاهر جد مؤلمة تتعلق بفئة (البدون) هنا، وكتم أنفاس الناس هناك، ومظاهر سياسية ودينية واجتماعية بدأت روائحها تترسخ حتى في مجال الإبداع هنالك.
تكاد خريطة عالمنا العربي التي "جرعوها" لنا في المدارس عبر امتدادات تربوية عربية متخلفة جداً، تتشابه على مستوى ممارسة اللعبة "الديموحرامية"، خريطة نخرتها الهزائم العديدة والتطاحنات السياسية، والتواطؤ الواضح والخفي مع الغير، بطريقة لا تضمن ولا تحمي مصالح هذه الدول، كما هو سائد ومصرح به بشكل واضح لدى الغرب. لا زلت أتذكر أنني اشتريت خريطة هذا العالم العربي، لأبنائي وقد علقتها على أحد جدران بيتي، في أفق أن يسأل أحد أبنائي عن طبيعة هذه البلدان. علقتها ورجعت إلى الوراء، وسألت نفسي، ماذا لو توحد هذا العالم العربي؟ التوحد هنا لا يعني الذوبان في دولة واحدة وكرسي واحد الخ. هذا من باب المستحيلات، لكن الوحدة هنا، التخطيط بشكل مشترك عما يمكن أن يفيد هذه الدول في مجالات تنموية وتربوية واقتصادية (مثلاً سوق عربية مشتركة الخ).سألت نفسي، وأنا أتأمل هذه الخريطة العربية وعواصمها، مستحضراً ما قرأته وشاهدته وسمعته، لماذا لم تستطع العديد من نقط الالتقاء أن تشفع لنا نحن العرب، وأن تقربنا فيما بيننا؟. لماذا لم تستطع لغة الضاد والشعر والتاريخ ووحدة الدم والماضي والمستقبل المتشابه والدين في بعده الكلي، دون الغوص في مذاهبه وما تحمله في طياتها من اختلافات، دينية سياسية، لماذا لم نتمكن من تحويل بعض هذه العناصر إلى نقط قوة في حياتنا العربية ككل، في حين أن غيرنا يكاد يختلف في كل شيء، لكنه حقق المستحيل؟.
تذكرت روايات غسان كنفاني وعبد الرحمن منيف، وحنا مينة، ومحمد شكري، ونجيب محفوظ، وتذكرت شعر المتنبي وبدر شاكر السياب ومحمود درويش وأدونيس وفؤاد نجم والمجاطي وموسيقى مارسيل خليفة ورياض السنباطي، وناس الغيوان وتذكرت فيلم توفيق صالح (المخدوعون)، تذكرت مقدمة ابن خلدون وشعر الحلاج وابن الفارض الخ. كاد رأسي ينشق، وقلت ما الذي ينقصنا من أجل صياغة مشروع عربي نهضوي، يخفف عنا ما ترسخ في ذهننا وذهن الغير عنا، من كوننا مجرد شعوب، يقودها السياط، سياط الحاكم، وترويضها وفق ما أراد هو، و"الانبطاح" الكامل لهؤلاء الحكام، أمام حكام الغير، طالبين (حق) التمييز بين شعوبهم وشعوب الغرب التي نضجت وتستحق حق فتح أفواهها، في حين أن الشعوب الأولى، لا حق لها في فتح أفواهها، إلا عند طبيب الأسنان، إن وجد الطبيب أسناناً يعالجها، وإن وجد أصلاً هذا الطبيب المقدم لهذه الخدمات ضمن قطاع عمومي؟
الأصل في الحكاية، هي كون "مجتمعاتنا" العربية، لا زالت تمارس "الديموحرامية"،على مستوى معظم "القمم" السياسية، إن لم نقل كلها. انتخابات مزورة، وأحزاب سياسية مهترئة، شاخت، ولازالت تمارس فعلاً "ديموحراميا"، يتجسد في شراء الأصوات من أجل البقاء الدائم في برلمانات تصيبك "بالغثيان"، إن أنت تتبعتها على بعض القنوات الرسمية التي لا زالت تغني خارج السرب، في زمن عولمة، كل الفضاءات والأخبار أصبحت فيها، من الممكن جداً متابعتها في قنوات ومواقع الكترونية أخرى. نقول هذا الكلام ونحن نعي، أن "الفعل" السياسي في بلداننا العربية متجاوز إلى حد النخاع، فعل يتميز وكما نقول نحن هنا في المغرب بـ"العام زين"، أي أن "الكل" مطالب بأن يتصرف وفق هذه القاعدة. عكس ما نجده في بقية البلدان الأوروبية التي هي في المجمل تمارس أحزابها فعلاً ديموقراطياً حقيقياً، يتميز بالصراحة والتنافس وتجديد النخب والمسؤولين، على الأقل فيما بينهم، بينما نحن هنا في عالمنا العربي، يكاد كل مواطن في بلده يحفظ وعن ظهر قلب، جميع رؤساء الأحزاب السياسية، بعض الوجوه هنا في بلدي المغرب، وجدتها تمارس الفعل السياسي في أحزابها منذ أن بدأت أعي بعض الصور التلفزيونية حينما كانت فقط باللون الأبيض والأسود. بكل صدق الكثير منها لا زال يتواجد إلى الآن. كم كانت الصورة ستكون جميلة لو تم التداول على تدبير هذه الأحزاب في حدود فترتين على الأكثر، العديد من هذه الوجوه، تجاوزها فعل التدبير السياسي من موقع يتساير والطموحات الجديدة لهذه البلدان العربية.
بكل صدق، كنت دوماً أتمنى أن أبقى خارج أي كتابة ذات بعد سياسي و"أنا" المحس بكون اشتغالي في الحقل السياسي يأتي في آخر سلم اهتماماتي، حلمي دوما كان أن أقول وجهة نظري، انطلاقاً من المجالات العلمية والإبداعية التي هي قريبة جداً إلى قلبي، لكن واجب الباحث أيضاً عليه أحياناً أن يلتجأ إلى هذا النوع من الكتابة لقول ما يشعر به، خصوصاً في ظل الأوضاع العربية الراهنة والتي تعيش ليبيا فصلاً من فصولها، حيث "جنون" رئيسها، يجعلني أفكر في كتابة مسرحية عربية تتحدث عن هذا النوع من "الجنون" السياسي، شخصية تحيلك على ما كتبه ابن خلدون في مؤلفه "المقدمة" ومن خلال بعض فصوله ستكتشف طبيعة عمر أي حكم، وأي دولة، الخ، فالدوام لله الواحد القهار. إن الفعل"الديموحرامي"، فعل يجعل المنشغل به في عالمنا العربي، وحده يمتلك "الحقيقة".
لا زلت أتذكر أحد الرسومات الكاريكاتورية، للفنان المبدع المرحوم والشهيد، ناجي العلي الذي اغتالته أيادي الغدر الصهيوني، كيف قدم العربي في صورتين، تلخصان طبيعة الممارسة السياسية ككل عند العربي. في الصورة الأولى يقول حنظلة، "أحلق شواربي إن العرب تقدموا"، وفي الصورة الثانية، نشاهد شوارب حنظلة وقد امتدت إلى حدود الأرض.
أمامنا كعرب العديد من الفرص، إن نحن فعلاً أردنا أن نتخلص من هذا الذل الذي يطاردنا في كل مكان. رتب متدنية في كل المجالات التنموية والتربوية والثقافية والعلمية والرياضية والإبداعية والإعلامية الخ (مع وجود بعض الاستثناءات القليلة جداً). رتب تؤكد مدى ضرورة تخطيط فعل تنموي حضاري حقيقي، تشكل الديموقراطية بمفهومها التدوالي والثقافي العام، مدخلاً جوهرياً لتجاوز الوضع الكارثي الذي نعيشه اليوم.
صورتنا كعرب أصبحت مترسخة عند الآخر ومرهونة ، بتلك الذات الباحثة عن المتعة وتكديس الأموال في البنوك الأجنبية، صورة تروجها بكثرة العديد من الأفلام الغربية المحصلة على أموال دعم ممن يريد أن نبقى هكذا. لا مجال اليوم إلا للكفاءات العربية القادرة على أن تخلص أوطانها من العديد من الأشكال المتخلفة جداً وفق رؤية إصلاحية حقيقية وسلمية. وهذا رهين بمدى جعل الكفاءة العلمية والفكرية الخ، هي المعيار الأساسي لتبوء هذه المواقع التي ومع الأسف الشديد تمنح وفق معايير حزبوية وقبلية عائلية إلخ. أردنا أم كرهنا، لم يعد اليوم مكان لغير المعايير العلمية والفكرية والتخطيطية، وحدها اليوم تشكل المدخل الحقيقي لتطورنا ووفق ممارسة سياسية واضحة وحقيقية طبعاً، هدفها حماية المواطن من كل أشكال الجهل والتضبيع وتوفير الإمكانات المادية والتنظيمية والقوانينية الخ. الكل سيصب في اتجاه واحد، أن نبحث عن مكانة ما تحت سماء عولمة "قوية"، لا مكان فيها لغير الراغب في العمل بطرقها، التي وإن اختلفنا مع العديد منها، لكننا مطالبين بالمشاركة فيها وتكييفها لصالحنا نحن كعرب، وفق خصوصياتنا الثقافية.
باحث مغربي