يرصد الناقد اللبناني كتابا يعالج قضايا اللغة حيث يمضي في رحلة نحو اكتشاف معنى النثرية و دلالاتها. مفككا لغة الإسناد الذي يحرر النص من مصادره وقائله، مخلخلا مفهوم السرد الأدبي العربي المعاصر محررا اللغة من الوهم الذي كان يستبد باللغة ومعانيها.

السّوبر نثريّة في مُواجهة السّوبر لغويّة

حسن عجمي

يعالج الكاتب و الناقد التونسي محمد خريّف قضايا اللغة و اللغو في كتابه " في النثرية العربية". يمضي الكتاب في رحلة نحو اكتشاف معنى النثرية و دلالاتها.  فالنثرية بالنسبة إلى خريّف هي مفهوم افتراضي ممكن حيث هامش الخطاب يخلخل محور الخطاب كما أن توابع أو لواحق الخطاب تخلخل عمدة إسناده. النثرية بهذا المعنى تنسف صرامة الإسناد التي تعتقل النص في اعتقادات مُسبَقة. يفكك محمد خريّف مفهوم الإسناد كما جاء في لغتنا العربية. فبينما الإسناد التقليدي هو المسؤول عن صياغة خطاب مفيد من خلال إرجاع الخطاب إلى مقاصد قائله و التمييز الجذري بين المتن و الهامش أي بين العمدة و الفضلة، يثور الإسناد المعاصر على هذه المعادلة فيحرر النص من مصادره و قائله و يرينا أن الهامش أصل من أصول المتن على نقيض مما كانت تظن البشرية لآلاف من السنين. هكذا يجتاح الهامش المتن و يدك قلاعه. على هذا الأساس، يستنتج خريّف أن السرد الأدبي المعاصر يتحرر من بؤس الراوي فينعم في فوضاه التي تمثل فوضانا و ذواتنا الحقيقية. من هنا، نتخلص من الوهم اللغوي الذي كان يستبد باللغة و معانيها ( محمد خريّف : في النثرية العربية.  2010  . كتابات الأقواز).

بالنسبة إلى محمد خريّف، لا تفاضل بين المتن و الهامش. بينما المتن يقدّم مفاهيم على ضوئها يصوغ أجزاءه و يكتمل خطابه، يقدّم الهامش مفاتيح حلّ و فهم المتن و مضامينه. من هنا، يستنتج خريّف أن المتن و الهامش يتبادلان الأدوار، و بذلك  تزول التفرقة بين الأصل و الفرع، و بين ما كنا نظنه أساسياً و ما كنا نرفضه على أنه غير ذات أهمية. من هذا المنظور  يغيب الفرقان الفاصل بين نصوص اللغو و نصوص العقل. فبما أن المتن يتحوّل إلى هامش و العكس صحيح، إذن من المتوقع أن يمسي نص العقل نص لغو و أن يصبح نص اللغو نص عقل. هذا لأن المتن الذي من المفترض أن يعبّر عن العقلانية و يدافع عنها صار هامشاً معبّراً عن الآليات اللاعقلانية التي أنتجت النص- المتن. بكلامٍ آخر، بما أنه لا  يوجد  فرق بين المتن و الهامش، إذن لا فرق بين نص العقلانية و نص اللغو. من الممكن أن نرى صدق هذا الموقف على النحو التالي : حين يدعي أي نص أنه النص العقلاني الحاوي على المعاني و الحقائق الحقة حينها يقع النص في اللغو لأنه يغدو حينئذٍ غير موضوعي و غير علمي علماً بأن العلم عملية تصحيح مستمرة و بذلك هو خالٍ من أية يقينيات. و عندما يدعي النص أنه نص اللغو فهو في الحقيقة يمارس الكشف عن لامعقوليات النصوص الأخرى و ينقدها و بذلك يتضمن عقلانية أن يشك في مسلّماتنا و معتقداتنا المُسبَقة و التقليدية. هكذا يتحد نص العقل و نص اللغو ما ينسف كل التاريخ البشري الذي ادعى العقلانية و قاتل الشعوب و استعبدها باسم العقلانية و العقل ( المرجع السابق ).

الآن، بما أنه لا يوجد ما يميّز بين المتن و الهامش  كما  لا  يوجد  ما  يميّز بين نص العقل و نص اللغو، إذن من الطبيعي أن تتحوّل الكلمات و الأفعال اللغوية إلى نقائضها كما يؤكد خريّف. هذه الفرضية تفسّر التحولات التي أصابت السرد العربي المعاصر. فمثلاً، حين يقول حنا مينة في  حكاية بحّار  " سيلقي بنفسه في الماء الآن "، فهو هنا يحوّل المستقبل إلى حاضر مرهون بالماضي. مفهوم " الآن " لا يشير إلى الحاضر فقط  بل يشير أيضاً إلى المستقبل و الماضي. ولقد سيطر هذا النموذج   اللغوي على الرواية العربية المعاصرة لأن حاضرنا ماضٍ يعيد تحقيق ذاته في المستقبل أي أن الحاضر كما المستقبل ليس سوى ماضٍ مكرر. هنا، الآن التي من المفترض أن تكون في الهامش أصبحت هي المتن نفسه. فبفضل تحولاتها اللاعقلانية تتمكن من التعبير عن لاعقلانيتنا بالذات. نثر النثر أي النثرية بالنسبة إلى خريّف تحقق للذات لهوها الحر عن طريق الخربشة الطليقة. هكذا النثرية علم ما بعد النص بل علم التمرد. تحررنا النثرية من لغتنا التقليدية لأنها تفضح وهم المتن و المرجع و المرجعية. فلم يعد أي نص قادراً على ادعاء ملكية الصدق و البيان ؛ فأي نص  كما يقول دريدا  نتيجة لاعقلانياته المدفونة في الهامش ( المرجع السابق ).     

لكن لا بد من التمييز بين النثرية و السوبر نثرية ما قد يجعلنا نصل إلى نتائج مختلفة. بينما النثرية تنتج نصوصاً محدَّدة، السوبر نثرية تنتج نصوصاً غير محدَّدة. تشكّل النثرية إما نصوصاً عقلانية و إما نصوصاً عبثية. لكن في كلتي الحالتين تتحكم فيها قوانين ومبادىء معينة تجعل نصها إما عقلانياً و إما عبثياً. وبذلك تبقى النثرية سجينة قوالب ونماذج محدَّدة. فمثلاً، إذا اعتمد النص على مبدأ جمع ما لا يُجمَع من مفاهيم كجمع مفهومي العدد خمسة و الزواج في عبارة " العدد خمسة متزوج "، فحينها النص نص عبثي لكنه يتشكّل على ضوء مبدأ معين. أما إذا كان الخطاب يتبع مبدأ عدم الجمع بين المفاهيم التي لا تُجمَع فحينها الخطاب خطاب عقلاني بسبب اتباعه لمبادىء معينة تضمن له عقلانيته. من جهة أخرى، النص السوبر نثري متحرر من أية قوانين ومبادىء ما يكفل لا محدديته. فمن غير المحدَّد ما إذا كان النص السوبر نثري عقلانياً أم عبثياً. و بينما النثرية تدل على معانٍ وحقائق في عالمنا الواقعي أو في الأكوان الممكنة أو المستحيلة، السوبر نثرية تدل على لا محددية نصها أي أنه من غير المحدَّد ما إذا كانت تشير إلى عالم ممكن أم إلى عالم مستحيل. عندما يدل النص النثري على عالمنا الواقعي أو على عوالم ممكنة فهو نص عقلاني لخلو العالم الممكن من التناقض. لكن عندما يشير النص النثري إلى عالم مستحيل، فحينها يغدو النص عبثياً بسبب أن العالم المستحيل متناقض ذاتياً. هكذا النثرية تُعنَى بصناعة الأكوان الممكنة والمستحيلة فتصوغ خطاباً ذا معانٍ و دلالات واقعية أو ممكنة أو مستحيلة. لكن السوبر نثرية لا تعنَى بهذه الصناعة بل دورها كامن في إنتاج اللامحدَّد واكتشاف تجسداته المختلفة.

مثل على السوبر نثرية قول أبي حيان التوحيدي   " إن الإنسان  أشكل  عليه   الإنسان ". تصف  هذه العبارة أكواناً ممكنة و مستحيلة عدة فتؤكد على لا محدديتها. تتضمن عبارة التوحيدي السابقة معانٍ مختلفة منها : أولاً، لا يفهم الإنسان طبيعة الإنسان. ثانياً، أصبح الإنسان مشكلة الإنسان ؛ فالإنسان منتج مشاكل الوضع الإنساني. ثالثاً، الإنسان الآخر تهديد لإنسانية الأنا. رابعاً، الفرد يشكّل تهديداً لإنسانيته. خامساً، الإنسان الحي في الواقع لم ينجح في تحقيق الإنسان الحقيقي الذي تسعى البشرية إلى خلقه ؛ فالإنسان الأول في عبارة التوحيدي هو الإنسان الحي في الواقع بينما الإنسان الثاني في عبارته فهو الإنسان الحقيقي الذي يسعى الإنسان الأول إلى تحقيقه. كل هذه المعاني تصدق في أكوان مختلفة وعديدة ما يجعل عبارة التوحيدي غير محدَّدة في أبعادها كافة فتكتسب صفة السوبر نثرية. أما نص النثرية فيصدق في عالم محدَّد لأن معناه و مقصده محدَّدان سلفاً. من المنطلق نفسه، من الممكن التمييز بين الشعرية و السوبر شعرية. بينما الشعرية تصوغ شعراً محدّداً، تبني السوبر شعرية أشعاراً غير محدَّدة المعاني و الدلالات. مثل على السوبر شعرية قول الحلاج : " لي حبيب حبه وسط  الحشا \  إن  يشا  يمشي على خدي مشى ". يصف هذا البيت الشعري عالماً مستحيلاً حيث الحبيب يمشي بالفعل على خد حبيبه فيغدو شعر الحلاج هنا شعراً عبثياً. كما يصف هذا البيت الشعري عالماً واقعياً حيث المحبوب ليس سوى دمعة على خد الحبيب فيصبح شعر الحلاج واقعياً. و يصف هذا  البيت الشعري عالماً ممكناً حيث تتحقق وحدة الوجود بين الحبيب و محبوبه فيمسي شعر الحلاج  شعراً عقلانياً. هكذا شعر الحلاج السابق غير محدَّد  في  مضامينه إلى أقصى درجة ما يجعله يتصف بصفة السوبر شعرية.

من الضروري أيضاً أن نميّز بين اللغو  و السوبر لغوية. قد  يتخذ اللغو أشكالاً مختلفة لكن أنواعه المتعددة تتفق في أنها تصوغ نصوصاً ظاهرها  لغة و مضمونها خالٍ من أية لغة. هذا لأن اللغو هو الذي يقدّم خطاباً حول أمور أو مفاهيم من دون أن يعرّفها. حين يتناول النص أو الخطاب قضايا معينة من دون أن يعرّف المفاهيم و المصطلحات التي يستخدمها، حينئذٍ يكون النص أو الخطاب مفتقراً إلى محتوى لأنه لا يقول لنا عما يتحدّث. فمثلاً، إذا عبّر هذا الخطاب أو ذاك عن تاريخ نشوء الديموقراطية و أكد مثلاً على أنها النظام الأفضل و أنها  مفيدة لكل فرد  و شعب إلخ من دون أن يعرّف لنا ما هي الديموقراطية، حينها لا نعلم عما يتحدّث هذا الخطاب و بذلك يكون لغواً. فهو قد يعبّر عن حقائق و قد  تكون عباراته ذات معنى، و رغم ذلك هو لغو صرف لأنه لا يحدّد  دلالات مفاهيمه و مصطلحاته. أما  السوبر لغوية فهي نقيض اللغو  لأنها تحدِّد كل مفاهيم وعبارات الخطاب و أبعاده فتقتل أية إمكانية لتفسير أو تأويل نصها. هكذا تغتال السوبر لغوية تفكير القارىء لأن نصوصها  لا تحتاج إلى أي تفسير أو تأويل. هنا تكمن رذيلة الخطاب السوبر لغوي ؛ فهو خطاب لا يحفز على القراءة و التفكير و الاستنتاج. يهدف النص السوبر لغوي إلى تحديد كل شيء و كل كلمة و مفهوم بينما النثرية تحدِّد مقاصد نصها فقط . من هنا، تختلف السوبر لغوية عن النثرية. و بينما النثرية  تسجن القارىء في محددية نصها، السوبر لغوية تسجن المتلقي في عملية تحديد الظواهر كافة.

بما أن السوبر لغوية  تسعى إلى تحديد كل الظواهر و الأشياء و المفاهيم، إذن إما أن تتسلسل عملية التحديد إلى ما لا نهاية و هذا مستحيل، و إما أن تدور عملية التحديد  فتقع في الدور المرفوض منطقياً كتحديد الماء بالماء. على هذا الأساس، تخسر السوبر لغوية  قدرة  اللغة  على الإفصاح و إيصال المعاني و المعلومات. فرغم أن السوبر لغوية تريد لنصها أن يكون مكتملاً في مضمونه من خلال تحديد المعاني كافة، تسقط  السوبر لغوية في إفراغ المعاني من مضامينها لأنها تهدف إلى تحقيق المستحيل. المعرفة الكاملة معرفة ناقصة. من يعرف  كل  شيء لا  يعرف شيئاً. الآن، بما أن السوبر نثرية  تبني  نصوصاً غير محدَّدة بينما السوبر لغوية تحدِّد  كل شيء في نصها، إذن المواجهة دامية و واقعة لا محالة بين السوبر نثرية و السوبر لغوية. من سينتصر في النهاية؟ هذا يعتمد على قرارك أنت.

 

·        محمّد خريّف : "في النّثرية العربيّة" الطّبعة الأولى- كتابات الأقواز- تونس 2010

·        مفكّر لبنانيّ يقيم في الولايات المتّحدة الأميريكيّة