يقترح الكاتب المغربي خالد البقالي القاسمي مسارا يتسم بالجدة في تناوله لعلاقة الإسلام والثقافة انطلاقا من تيمات شكلت مثار أبحاث فلسفية عدة من قبيل الجنون، المرأة، الرق، الشورى، التأويل، وهي محاور تتميز باختلاف موقعها من حيث علاقتها بالمؤسسة، حيث ينتمي بعضها إلى الثقافة العالمة بينما ينتمي البعض الآخر إلى الهامش والمسكوت عنه. وهذا الكتاب الصادر عن منشورات سليكي إخوان في طبعته الأولى، والذي يمتد إلى أزيد من 110 صفحة، تفصح أبوابه المشكلة من الإسلام والثقافة، خطاب العقل والجنون، المرأة وعقلية النساء، الفقهاء والرق، ممارسة الشورى، ثقافة التأويل عن رؤية ابستمولوجية تعيد قراءة التراث العربي الإسلامي في ضوء التحولات التاريخية والفكرية، وارتباطا بمستجدات العلوم الإنسانية مع غوصه الرصين في النصوص التراثية خاصة منها الكلامية والفقهية والفلسفية، وربط الثقافة بالحياة مع التأكيد على الحق في الاجتهاد خاصة في الدعوة إلى الاهتمام بفقه المقاصد وإعادة اكتشافه. ويؤكد الكاتب على أن الإسلام كان بمثابة منعطف حاسم في التاريخ العربي، حيث شكل ثقافة ثورية معارضة للمألوف والمهيمن مؤسسا قواعد جديدة على مستوى العقيدة والشريعة والأخلاق والعبادات والمعاملات ، وبالتالي فهذه الثقافة ترتبط بالإنسان وتسعى إلى سعادته، وذلك بالحث على العلم والتعلم، وعلى الخلق والابتكار، وعلى التفكير بواسطة الاستدلال المضبوط، ويشير الكاتب في هذا الصدد إلى الإحراج الذي عرفه الفكر العربي نتيجة إحاطته بالفكر اليوناني الذي كان يتيح قدرا كبيرا من التفكير الحر في وقت عانى فيه المسلمين من أحادية التأويل الذي تعدد نتيجة الاختلاط بالثقافات الأخرى ونتيجة الخلافات التي دبت في البيت الإسلامي زمن الخلفاء الراشدين ومن آتى بعدهم، فظهرت أشكال من التعصب في صورة فرق وجماعات متعددة لكل فرقة منهم فهمها الخاص للثقافة وللإسلام. فما الذي يجعل الإنسان المسلم مقصيا من الخطاب، ومن له الحق في التفكير في ظل سيادة خطاب العقل الذكوري، وإسناد فعل الجنون إلى قوى غيبية متحكمة في الذات الإنسانية (الجن)، فلم يدرج الجنون بوصفه مرضا يحتاج إلى العلاج كما هو الحال في أوربا ما بعد القرون الوسطى، وهو ما توضحه رؤى ميشيل فوكو في كتابه تاريخ الجنون الكلاسيكي، وإنما أقصي من دائرة الفكر العالم وأحيط بنسق من الغيبيات التي جعلت من المجنون فاسد الرأي والمشورة، واستحالة حصول حوار بين العالم والمجنون في ظل الشروط الصارمة المحددة للعقل لدى المتكلمين والفقهاء على حد سواء مقابل إقصاء المجانين والتندر بحكاياتهم، ومحاكمتهم على بعض أفعالهم في حالات خاصة. ليخلص الباحث إلى اعتبار تاريخ الجنون في الثقافة العربية هو تاريخ للموضوعات العابرة والحاضرة في الوقت نفسه.
إن الخطاب النسائي ظل على امتداد تاريخ الإسلام محروما من حقه في المشاركة في الحياة العامة في ظل مفاهيم مثل الحريم والوصاية وهيمنة الطابع الذكوري، مما نتج عنه بقاء المرأة في دائرة المغيب والمصادر. وقد أسهم بعض الفقهاء في تكريس هذا الفهم وبتضييق مجال المساهمة النسائية في حركية المجتمع، يمكن الإشارة في هذا الصدد إلى شهادة المرأة في الأحكام الفقهية مع العلم أن الثقافة الإسلامية انتشرت في كثير من أوجهها بفضل مجهودات النساء منذ عائشة رضي الله عنها. ويشير خالد البقالي القاسمي في هذا الصدد إلى مسألة الولاية على المرأة في زواجها، رغم أن الزواج يعتبر أمرا مصيريا بالنسبة لها وللمجتمع مما يجعل الولاية موضع تساؤل لأن نتائج ذلك تتخاطى حدود اللحظة لتصل إلى ذاكرة المجتمع ومستقبله. وفي جانب آخر من كتاب "الإسلام والثقافة" تمتد حفريات التفكير في المتخيل الثقافي لترصد ظاهرة الرق في المجتمع العربي سواء قبل الإسلام أو بعده، حيث زاد عدد الرقيق بسبب الفتوحات الإسلامية وتوسع الإمبراطورية العربية الإسلامية منذ الدولة الأموية إلى عصر الخلافة العباسية مشيرا إلى التحايل الذي مارسته المؤسسة الفقهية رغم موقف الإسلام الواضح في عتق الرقاب من أجل ثواب الآخرة، والتقنين الذي لجأ إليه الفقهاء ارتبط بخدمة المصالح الشخصية والحرص على حياة الترف مع ما ينتج عنه من تعارض في الحقوق والواجبات بين الأحرار والأرقاء. وفي السياق نفسه يطرح الباحث مفهوم فالشورى بوصفها نظاما يستمد مشروعيته من قواعد الدين التي تقتضي التكامل والتآلف والانسجام، وهي تهدف إلى تدعيم الأحكام وتخليصها من الطابع الظني، وهي تدخل على حد تعبير الباحث خالد البقالي القاسمي في مجال تدبير وتوجيه السياسية الشرعية، وهي في عمقها عبارة عن إعمال للرأي والعقل، ومن هذا المنطلق فالشورى تمتلك مصداقيتها في حال الممارسة في المجالات الأساسية الخارجة عن نطاق الوحي، كما ترتبط بالاجتهاد كما هو الحال في الحكم على شارب الخمر، وفي هذا الصدد يمكن اعتبار مجلس الشورى الذي أسسه عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد مرضه والمكون من عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والزبير بن طلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاس، مجلسا يؤرخ لبداية الثقافة السياسية في الإسلام. وقد أفرزت ثقافة السجال ممارسات تأويلية متعددة الاتجاهات والرؤى مجسدة في جماعة الفقهاء، وجماعة المتكلمين، وجماعة الفلاسفة، والتأويل بوصفه ممارسة تتوخى فهم النص الديني وإنتاج المعنى والدلالة ارتبط بالاستدلال الموصوف بالظنية لدى الفقهاء وبالجدل لدى المتكلمين وبالبرهان المنطقي لدى الفلاسفة، وهو تأويل وإن كان ينطلق من النص الديني فقد ارتبط بالبحث في الوجود ومعنى الموجودات؛ أي البحث عن الحقيقة، ولعل نوعية التأويل وطبيعته وحدوده قد ساهم في تشكل وعي ثقافي جديد ارتبط بإنتاج الدلالة بشكل خاص على نحو ما نجد لدى ابن رشد الذي يقر بوجود التأويل على صاحب البرهان بوصف التأويل ضرورة من أجل التوفق في النظر في الوجود والموجودات انطلاقا من قصد الشرع..إن إنتاج الثقافة العربية الإسلامية ارتبط بصراع التأويلات، ومعه صراع المرجعيات والرؤى من أجل السلطة، ويسعفنا هذا الكتاب في تلمس الأثر الثقافي للفكر الإسلامي ارتباطا بموضوعات يتداخل فيها التاريخي والديني والفكري على نحو مخصوص، وبذلك يكون هذا الكتاب قد حقق مزيته الأساس في إقامة جسور التواصل بينه وبين المتن التراثي الإسلامي وأعاد إضاءة مسارات مشرقة من المنجز الفكري العربي الإسلامي.