أتساءل: ما الذي شدني بقوة إلى هذه الرواية؟ وكيف تمكن هاشم غرايبة بعد هذه السنوات الطوال، أن يهز الذاكرة بقوة، فيعيدني إلى ماضٍ بعيد تجاوز الثلاثة عقود ويكاد يقارب العقد الرابع؟! في سبعينيات القرن الماضي عشنا التجربة سوياً، وفي الرواية يرسم صورة تتغلغل في الروح الإنسانية وخباياها، في تلك المرحلة التي جمعتنا فيها المعتقلات والسجون، كل في إطار، لكن وحّدتنا المرحلة، عشناها معاً تكاتفًا وصراعًا، صراعاتنا الداخلية في الأنا لكل منا، صراعات القوى مع بعضها، وصراعنا مع الإدارات المختلفة التي تناوبت إدارة السجون.
هنا الحديث كان عن سجن إربد، تشابه كبير بينه في الرواية وبين سجن المحطة، ألقاب المساجين المدنيين، لقب الرفيق للمعتقل الشيوعي، أسماء أقسام السجن كالدار البيضاء والقبو، شبك الزيارة الذي زرع لكل من عاش التجربة الكثير في تلافيف الذاكرة، الإنسان في داخل كل معتقل، معاناة الإنسان ولحظات الضعف والقوة، المعاناة في التحقيق الذي يهدف لتدمير الروح، التعذيب إلى حد يكاد يصاب فيه المرء بالجنون.
هذه الرواية صورت الإنسان، الإنسان في كل مكان وكيف تعتمل بداخله الفكرة حتى يعتنقها، وكيف يتحمل المعاناة في سبيل الفكرة، يرفض أن يتنازل، يتحمل الألم والمعاناة لأنه يحلم بغد أفضل لغيره، لكي لا يعانوا ما عاناه، بحيث تتوحد فكرة المقاومة في الزنزانة ومقابل المحقق بين أصحاب فكرين متناقضين لا يمكن أن يتوحدا في الواقع أبداً.
الرواية صورت حياة المعتقل السياسي، من الإدارة التي تسعى بكل جهدها لإسقاط المناضل، إلى مجموعات كبيرة لا علاقة لها بالنضال، هم السجناء المدنيون بأشكالهم وقضاياهم المختلفة، معظمهم ضحايا الفقر والمعاناة، ومنهم من هم كانوا أسياداً في الخارج، ويبقون داخل السجون أسياداً، فالمال يلعب دوره، العشيرة تلعب دورها، فتكون الطبقية في المجتمع الخارجي موجودة في مجتمع السجن، وهذه الصورة التي وصفها هاشم غرايبة في داخل السجن، كانت تعبيراً فعلياً عن المجتمع خارجه.
الرواية وصفت الكثير، طرحت كماً كبيراً من التساؤلات، ففي السؤال الذي يقول: (لماذا تحملت ثلاثة شهور من العناء في زنازين المخابرات؟)، يكون الجواب الذي سيستنتجه القارئ؛ إنه الحلم بالطيران، وهو العنوان الذي حملته الرواية (القط الذي علمني الطيران)، والقط هنا لقب لسجين احترف السرقة، هو نتاج للمعاناة التي حولته إلى منحرف، لكنه يمثل بشكل أو آخر معاناة المجتمع، فكان هو المعلم ليس كفرد، ولكن إشارة إلى أن المناضل يتعلم من الشعب ويقدم إليه ما تعلمه، من خلال عملية نضالية من أجل فكرة، الهدف منها هو الوطن الحر والشعب السعيد.
في الرواية يصنف هاشم غرايبة السجناء إلى خمس طبقات، ولو دققنا فيها لوجدنا هذه الفئات تمثل الشرائح نفسها في المجتمع، وفي الوقت نفسه يتحدث عن أحلامه المتكررة كل صباح، الحصول على عفو ونيل الحرية، وهو الحلم الذي لا يفارق السجناء بغض النظر عن قضاياهم، فالحرية هي الحلم الذي يعيش عليه السجناء حتى ينهوا محكومياتهم، وفي الوقت نفسه لا يغفل دور السياسي المعتقل في تثوير أفكار السجناء وقيادتهم لتحقيق بعض من الانفراج في المعيشة الداخلية وتحسين ظروفها ولو بالقليل، وتتحقق كثيراً من هذه المطالب ويدفع ثمنها المناضل بعقوبات الإدارة.
فالمناضل خلف القضبان كما يقول هاشم بالرواية: (الآن هنا لا تراوده الأحلام الكبرى حول الحرية والتحرر، ويتراجع إحساسه أنه فاعل في تغيير الكون، وأنه جزء من مشروع إنساني يوحده مع أحرار العالم في كل مكان، ويكتفي بالإشفاق على أحوال المساجين)، وبغوص في نفسيات المساجين بغض النظر عن قضاياهم التي سُجنوا بسببها، فهم بشر أيضاً يفكرون ويحلمون، لكنه رغم كل هذه الأحاسيس يتحدى المحقق، المحكمة، إدارة السجن، وضغوطات المجتمع، والأحاسيس العاطفية التي تعتمل بداخله، فالمناضل هنا هو أولاً وأخيراً إنسان صوّره هاشم كما هو، ولم يضف عليه هالات الجبروت والعظمة، فهو لا يريد أن يكون بطلاً، لكنه يريد العيش بحرية وكرامة، إنسان يحلم ويعشق، فتشده زائرة للسجن فيعشقها وتصبح الحلم الذي يحلم به، حتى أنها لولعها به تنتمي إلى حزبه، ثم تختفي عن شبك الزيارة، ليتبين أن الحزب منعها من زيارته، فلا يكفي ظلم السجن وظلمته، فيحرمه حزبه حتى من محبوبته، حتى تغادر وطنها مع أهلها وهي تحلم به ويحلم بها، تتحدى الأسرة والحزب وتزوره لتودعه قائلة: (راجعة حبيبي. سأزرع لك شتلة ياسمين أينما ذهبت).
هذه الحالة التي وصفها هاشم بدقة وحقيقة، عايشتها في حالات متعددة ومختلفة مع آخرين، وما زلت أذكر ذلك المناضل الذي صمد وحكم عشرة سنوات، حين تخلت عنه خطيبته المناضلة بالحزب نفسه ورمت له خاتم الخطوبة وغادرت، وكوفئت على موقفها وأصبحت ذات شأن في قيادة حزبها!، وأذكر كيف رسمت أنا لوحة زيتية ذات مرة فأصدرت قيادة التنظيم الذي كنت محسوباً عليه في المعتقل قراراً بإتلاف اللوحة لأن القائد (الجاهل) والذي لم يقرأ في سنوات سجنه إلا كتاباً عن الجنس، رأى في اللوحة أنها تخالف أفكاره المتخلفة.
تناول هاشم غرايبة في روايته الكثير من القضايا، ربما مَن لم يعش التجربة قد يستغربها أو يعتبرها ضرباً من خيال كاتب، لكن من عانى منها وعايشها يستطيع أن يدرك قيمة الرواية ومحتواها الكبير، فهي من القلة من الروايات التي قرأتها أو القصص والتي يطلق عليها أدب السجون، لم تتحدث عن البطولات والجبروت، لكنها تعاملت مع الإنسان وروحه، فالرفيق المعتقل حين يهرب له الحزب منشوراً سياسياً ويقرأه، يشعر كم أن هذه القوى بعيدة عن شعبها ولا تلامس قضاياه ومشاكل معيشته، وتحلق بتحليلات سياسية ربما من كتبها كان يحتسي الفودكا ويدخن سيجاراً كوبياً وهو يكتب، ولكنه لا يعرف كم أصبح ثمن كيلو الخبز، ومع هذا يوجد دوماً (يهوذا) يبيع المسيح بدراهم معدودة، فيتعرض المناضل لحملة تفتيش شرسة من الإدارة بحثاً عن المنشور، الذي جرى تهريبه له في الوقت نفسه الذي يكون فيه (يهوذا) يبلغ عن الحدث.
من يقرأ الرواية يشعر بكم المعاناة الإنسانية، فقد أبدعت روح هاشم غرايبة في الرواية، جال في الروح الإنسانية بدقة وتفاصيل، وثّق مرحلة مهمة، وكانت النهاية المفتوحة بفكرة (القط الذي علمني الطيران)، إشارة واضحة إلى أن الحكاية لم تنته بعد، ولا أحب الحديث مطولاً عن تفاصيل الرواية، فمن سيقرؤها سيرى الكثير فيها، وحين أعدت القراءة للمرة الثالثة، كنت قد عرفت بدقة لماذا شدتني الرواية، فقد وجدت نفسي فيها عبر سنوات طويلة عشتها في مرحلة وأد حرية، قرأت فيها الكثير، رسمت فيها الكثير، كتبت كثيراً للوطن والحلم والجمال، وفقدت محبوبة كنت أحلم بها، لكنها تبخرت فجأة ولم أكل من البحث عنها في رحلة الزمان والمكان، فشكراً لهاشم غرايبة، وشكراً للقط الذي علمنا جميعاً من عشنا المرحلة والتزمنا بإنسانيتنا (الطيران).
(رام الله 12/3/2010)