للمرة الأولى، منذ ثلاثة وستين عاماً، تأخذ القضية الفلسطينة منحى جديداً: ينطلق اللاجئون الفلسطينيون يرافقهم أنصارهم اللبنانيون والسوريون والأردنيون وحتى الأتراك، باتجاه الحدود، ناشدين العودة إلى الديار التي هجروا منها؛ صحيح أنهم متظاهرون سلميون؛ صحيح أنها المرة الأولى التي يحاول فيها الفلسطينون العودة، في وضح النهار، وليس تسللاً أو خفية، بقصد القيام بعمليات فدائية ـ كما فعلت دلال المغربي وغيرها من أبطال دفعوا حياتهم ثمناً لتذكير العالم بقضيتهم ـ لكنهم، هذه المرة، قاموا بالعودة علناً، وعلى مرآى من العالم؛ أيديهم فارغة، لكنّ قلوبهم مليئة بشذى فلسطين، وترابها، والحنين لها، والإيمان بأنها الدار والمنزل، والوطن الذي لا بديل عنه.
لا يملكون سلاحاً ولا دبابات، أو صواريخ تساعدهم على العبور، بل يملكون حقاً قوياً؛ حقاً شرعياً وأخلاقياً ودينياً وإنسانياً. ورغم أن الجنود الإسرائيليين، المدججين بالأسلحة، والواقفين متأهبين للذود عن بلاد ليست لهم، أطلقوا النار عليهم، وقتلوا منهم البعض، وكانوا يملكون سلاحاً كافياً لقتل الكثيرين، إلاّ أنّ الارتباك والهشاشة كانا باديين عليهم، مع أن عدداً من هؤلاء (الضعفاء) عبروا الحدود السورية إلى الجانب السوري المحتل، بسهولة، ومع أن أحد اللاجئين الفلسطينين المقيمين في سوريا استطاع الوصول إلى مدينة حيفا، وركب في أحد الحافلات، بجانب جنود إسرائيليين، لكنه لم يخف، ولم يرتعش؛ فهو ليس سارقاً، ولا متسللاً، بل صاحب حق وأرض يؤمن بهما وبضرورة العودة إلى أرضه. وحينما تم اعتقاله، وتقديمه للمحاكمة، روى ـ بهدوء، وبساطة ـ أنه جاء للبحث عن بيته، في حيفا. فكيف سيرد عليه القاضي الإسرائيلي، الذي لا بد أنه سيتذكر ـ بينه وبين نفسه ـ أنه جاء من مكان آخر ليجلس مكانه.
إنها الإشارة الأولى إلى قوة الحق، وإلى تردد السارق الحقيقي على بلاد ليست له، وعلى أرض لم يملكها، بل إن مأساة اللجوء والنزوح والمنفى عادت، وبقوة، إلى المشهد، ووضعت نفسها أمام المحتل الإسرائيلي، الذي حاول أن يتناسى أنه يجلس في أرض لها شعبها، وفي بيوت لها أصحابها الذين يعيشون في المخيمات، بدل أن يعيشوا في بلادهم وتحت شمسهم. في مهرجان اسطنبول الشعري السادس، الذي عقد أواخر شهر نيسان الفائت، قلت أمام المشاركين، هناك: "إن رحلة عودة أوديسيوس قد بدأت"، ولن ننسى أن الشعب التركي ساهم في هذه الرحلة، ودفع ثمن ذلك من أرواح أبنائه وشهدائه، ولن ينسى أوديسيوس كل الذين وقفوا معه، وساعدوه ضد الأعاصير، وقوى الشر الممانعة لعودته إلى دياره وزوجته العاشقة بنيلوب. وها هم، ثانية، يأتون من بحر إيجة إلى غور الأردن للمشاركة في الرحلة البرية بعد أن ساهموا فيها، بحراً.
لقد تم إحياء الأسطورة، وإن كانت المقولات الصهيونية تردد أن اليهود ظلوا يتبادلون التهاني، في الأعياد، ويقسمون: "شُلَّتْ يدي، إن نسيتك، يا أورشليم"، فإن الفلسطينيين يقسمون بأوراحهم ودمائهم على التشبث بحق العودة إلى بلادهم، من دون اللجوء إلى المؤامرات، والتحالف مع قوى الشر في العالم، واستخدام كل المبررات القذرة لتنفيذ المؤامرة، بل يعتمدون البراءة المطلقة، والحق الصافي، والطهارة المطلقة لتنفيذ حقهم الذي تقره الشرائع الدولية، حتى قرار الأمم المتحدة رقم 191، القاضي بحقهم في العودة؛ فبأي حق ستواجه الآلة العسركية الإسرائيلة القصيدة الفلسطينة الجديدة، الطالعة من رحم المخميات، ورحم المعاناة، ورحم الوجع الإنساني العريق، والمنفى الذي يضيق كل يوم.
نعم كانت العودة، هذه السنة، رمزية، لكن الأساطير والرموز لها قوة سحرية أكبر، بكثير، من آلات الدمار والقتل والسلاح الفتاك. وكلُّ قوة الجيش الإسرائيلي وعتاده وأسطورته لم ترهب الفلسطيني من تنفيذ حق العودة وشرعية هذا الحلم.
musa.hawamdeh@gmail.com