ينوب شباب "حركة 20 فبراير" عن فئات عديدة من الشعب المغربي في النضال من أجل المطالبة بإلغاء مهرجان «موازين» الذي سينعقد في الرباط من 20 إلى 28 مايو. ووجود غطاء سلطوي رفيع على هذا المهرجان، يجعله أداة سياسية لتمرير خطابات مغرقة في "المخزنية"، تقوم على تكريس الأوضاع وإلهاء الشعب، حتى وإن تَخَفّتْ وراء شعارات التحديث والانفتاح والأبعاد الثقافية والفنية.
وبينما يكثّف شباب مقاومة الفساد بالمغرب من نشاطاته عبر شبكة "الفيسبوك"، من أجل الحيلولة دون إقامة المهرجان المذكور، يُمعن المنظمّون في التحدي والعناد، مستغلّـين نفوذهم على مختلف وسائل التواصل والإعلام، من أجل تقوية الدعاية لفقرات المهرجان ولضيوفه؛ ومتجاهلين السياق السياسي والاجتماعي العام الذي يشهده المغرب حالياً على غرار بلدان عربية أخرى، سياق الحركات الاجتماعية المطالبة بالإصلاح.
في السابق، كان الصوت المعارض لتنظيم هذا المهرجان الغنائي هو صوت "الإسلاميين"، ممثّلَّين بالخصوص في حزب "العدالة والتنمية"، فكانوا تارة يحتجون على استدعاء مُغنٍّ اسباني تعرّى أمام الجمهور على خشبة "الأوداية" المفتوحة عند مصب نهر أبي رقراق، ومرة ثانية يرفعون أصواتهم تنديداً بدعوة مطرب غربي يفتخر بشذوذه الجنسي، ومرة ثالثة يحتجون على إضاعة ميزانية المهرجان الضخمة في ما لا يفيد الوطن والمواطنين. غير أن هذا الصوت المعارض كان يقتصر على مجرد أسئلة في البرلمان وكتابات في بعض الصحف، ولم يكن يجد غالباً مَن يسانده، وفي أحسن الأحوال كانت المساندة تقتصر على "أضعف الإيمان"، أي المساندة بالقلب فقط.
ولكن خصوصية الاحتجاج على "موازين" وقوّته تكمنان ـ هذه المرة ـ في أنهما نابعتان من شباب مغاربة عديدين، أغلبهم لا يحملون انتماء حزبيا أو إيديولوجيا، وإنما يحملون ما هو أهم: عشق المغرب والغيرة عليه وعلى أبنائه والرغبة في المساهمة في التغيير. هذا الموقف الشبابي المؤازر من طرف شرائح عديدة من المواطنين، يعكس خطابا صادما لمُنظمّي المهرجان المذكور، مؤداه أنه: "في الوقت الذي كنتم فيه تراهنون على استقطاب الشباب وإلهائه (خلال فترات الاستعداد للامتحانات الدراسية!)، وصرفه عن الانشغال بقضايا البلاد، وإبعاده عن الانسياق وراء تيارات معينة (يسارية راديكالية كانت أم إسلامية أم غيرها)؛ ها هو ذا الشباب نفسه ينقلب عليكم، ويؤكد لكم بالملموس أنه ناضج بما فيه الكفاية، وغير مستعد ليكون ورقة بين أيديكم، تَسعوْن من ورائها إلى إقناع حلفائكم الغربيين أن الميوعة انتصرت على الوعي والفكر وعلى الصوت المستقل والمعارض"!
*****
الموقف من مهرجان «موازين» ليس موقفا من الثقافة والفن، كما يزعم منظمو هذه التظاهرة، بل هو موقف من المال العام الوفير الذي يضيع خلال ثمانية أيام، دون أن يترك أثرا إيجابيا على البلد، ولا يستفيد منه سوى الفنانين الأجانب الذين يتقاضون أجورا باهظة بالعملة الصعبة، وكذا أعضاء الإدارة الفنية والتنظيمية وشركات تجهيز المنصات ووكالات التواصل والإنتاج وشركات الأمن الخاص وغيرها. وتعالوا نتأمل أجور بعض الفنانين المدعوين لدورة هذه السنة، حسب ما أعلن عنه موقع "كود" الإلكتروني، علماً بأن هذه الأجور لا تدخل فيها تذاكر الطائرات ومصاريف الإقامة الفخمة بالمغرب وأجور الحراس الشخصيين:
200 ألف دولار لعمرو دياب
150 ألف دولار لحسين الجسمي
135 ألف دولار لراشد الماجد
120 ألف دولار لكاظم الساهر
75 ألف دولار لفارس كرم ... الخ
الموقع المذكور أوضح أن جل هؤلاء الفنانين العرب تلقّوا تعويضات أقلّ بكثير من هاته، خلال مهرجانات سابقة بالمغرب. أما بالنسبة لأجور المطربين الأجانب، فيكفي الاستدلال برقمين فقط هما: مليون و200 ألف دولار لشاكيرا و800 ألف دولار لجو كوكير. ورغم أن مصادر من إدارة المهرجان ذكرت أرقاما أدنى بعض الشيء من حجم هذه الأجور، فإن الفضيحة تبقى قائمة، وتعكس أمرين اثنين: هول تبذير المال العام، واستفزاز مشاعر المغاربة... وللإشارة، فإن ميزانية دورة هذا العام فاقت 62 مليون درهم مغربي أي أزيد من سبعة ملايين و800 ألف دولار، فيما تمثل الميزانية العامة للاستشهار 34 مليون درهم أي أزيد من 4 ملايين و300 ألف دولار (المصدر: جريدة "أخبار اليوم").
يحدث هذا، في الوقت الذي ما زالت تعاني فيه مناطق عديدة من البلاد ـ ولاسيما في الأرياف والجبال ـ من الفقر وندرة المراكز الصحية وصعوبة تعليم الأطفال ووعورة المسالك والطرق وقسوة الظروف المناخية وغيرها. وكما ذكر بيان حركة "20 فبراير"، فإن جزءا من الميزانية الضخمة التي تُرصَد لـ"موازين" كل عام، من شأنه أن ينقذ أرواح عشرات الأمهات الحوامل وما يحملنه في أرحامهن، إذ يسلم الكثير منهن أرواحهن إلى البارئ بسبب بُعد مراكز الولادة أو انعدامها في قراهم النائية. وجزء آخر من تلك الميزانية يكفي لبناء مدرسة قريبة من تلاميذ وتلميذات يضطرون إلى الانقطاع عن التعليم بسبب ما يتجشمونه من عناء الوصول إلى المؤسسات الدراسية. وجزء غيرُه يكفي لتزويد مناطق عديدة بالماء الصالح للشرب، عوض الماء الملوث الذي تضطر عائلات معوزة عديدة لشربه... وهلم جرّاً.
*****
قبل بضع سنوات، كتبت صحافية مغربية في جريدة "الاتحاد الاشتراكي" مقالا ربطت فيه بين مهرجان الدار البيضاء الغنائي ومعاناة سكان البوادي انطلاقا من حالة واقعية، وجاء عنوان المقال كالتالي: "إليسا أخذت المليار.. وفاطمة ولدت فوق الحمار"؛ وقد التقط خطيب الجمعة الشهير عبد الله نهاري هذه الجملة ليرددها في خطبة نارية انتقد فيه مفارقات الأوضاع السياسية والاجتماعية في المغرب. وعلى منوال تلك الجملة، جاز لنا أن نقول: "شاكيرا تأخذ المليار وفاطمة تلد فوق الحمار". وتخيّلوا معي ماذا يمكن فعله بمبلغ مليون و200 ألف دولار (المخصص لسهرة شاكيرا التي لن تتجاوز ساعة ونصف فقط) في مناطق تنتمي إلى "المغرب غير النافع" (حسب المقولة الاستعمارية التي ما زالت سارية المفعول إلى الآن، للأسف الشديد)، مناطق لا يتعدى متوسط دخل الفرد فيها 600 درهم شهريا.. سنويا! وقس على ذلك مناطق عديدة من المغرب تشكو من الفقر والبؤس والإهمال، ولا يلتفت إليها المسؤولون إلا مضطرين، أي حين تطأها قَدَمَا الملك. ومن ثم، أصبح لسان حال العديد من سكان القرى والمناطق المنسية: "متى يزورنا عاهل البلاد؟".
أحيانا، ينبري بعض المنظمين (أو بالأحرى المنفّذين) مُدافعين عن الميزانية الباهظة المخصصة لمهرجان "موازين" وطرق صرفها، مُدافعين بالنيابة عن المنظم الحقيقي منير الماجيدي (مدير الكتابة الخاصة للعاهل المغربي) فيقولون: "ميزانية المهرجان تتأتى من مؤسسات خاصة وليس من المال العمومي". وهذا المبرر ينطبق عليه قول العرب: "العُذر أقبح من الزلة"، فضلاً عن كونه يتضمن مغالطة واضحة فاضحة مفضوحة:
* أولا، إذا سلّمنا جدلاً بأن تمويل "موازين" ذو طابع خاص وليس عمومي، فلماذا لا تبرهن المؤسسات الاقتصادية والمالية ـ المساهمة في هذا المهرجان تحديداً ـ عن كونها فعلا "مؤسسات مُواطِنة"، وتفيض بالكرم الحاتمي نفسه إزاء مهرجانات أخرى ذات طابع ثقافي وفكري وتراثي، أو إزاء مشاريع ذات أبعاد اجتماعية تعود بالنفع المباشر على الفئات المحتاجة من المواطنين؟ أم أن دعمها السخي لـ"موازين" راجع إلى مكانة رئيسه منير الماجيدي في المحيط الملكي فحسب؟ وفي ذلك دليل على التحالف التقليدي بين السلطة والمال في المغرب، حيث تلتقي باستمرار مصالح الموجودين في كلا الموقعيْن، وتنتج ما يُصطلح عليه بـ"المخزن".
* ثانيا، ليس صحيحاً أن الدعم المادي والمالي والإعلامي المخصص لـ"موازين" مقتصر على مؤسسات خاصة، فوثائق المهرجان تنّـفد ذلك الادعاء: هناك 44، نعم 44 جهة داعمة، تتوزع ما بين "المساندين الرئيسيين" و"المساندين الرسميين" و"الشركاء" و"المؤسسات الشريكة" و"الشركاء الإعلاميين". وضمن هذه الأصناف تندرج مؤسسات خاصة وشبه عامة وعامة وجماعات محلية وقطاعات حكومية وغيرها. فبالله عليكم، هل يمكن لهذا العدد الهائل من المؤسسات المغربية أن يبسط كفّيه لمجرد جمعية، لا يسمع عنها الناس إلا خلال مهرجان "موازين"، تُسمّى "مغرب الثقافات"؟ وكيف تحولت هذه الجمعية بقدر قادر إلى جهاز سلطوي شبح، يتحرك الكل من أجله، ويقدم الكل خدماته له، ويوزّع مئات آلاف الدولارات على نجوم الغناء القادمين من مشارق الأرض ومغاربها؟ هذا في الوقت الذي تطالب فيه جمعيات أخرى بتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص، على مستوى الدعم المالي والاهتمام الإعلامي وغيره.
يقولون: "مهرجان "موازين" يعمل على تطوير صورة المغرب الثقافية". والواقع أن هذه الصورة لا تتطور باستدعاء مُغنّيين تملأ أغانيهم القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية والأسطوانات المدمجة وغيرها. صورة المغرب الثقافية تتطور من خلال الاهتمام أكثر بمبدعي هذا الوطن في مختلف المجالات وبتراثه الخصب والمتنوع، وليس بالتركيز على صنف واحد في غناء الأجيال الجديدة كما هو حاصل في مسابقة "أجيال ـ موازين". تلك الصورة تتطور أيضا من خلال مهرجانات جادة تؤسس للفعل الثقافي الحقيقي وتستقطب جمهورا نوعيا من داخل المغرب وخارجه وتخدم المدن التي تقام فيها، مثل "مهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة" و"موسم أصيلة الثقافي"... وغيرهما.
*****
وعود على البدء، إذا كان شباب حركة "20 فبراير" قد اختار المساهمة إلى جانب فئات عريضة من الشعب المغربي في فضح الفساد والمطالبة بمحاسبة رموزه، فإن مهرجان "موازين" يشكل اختبارا حقيقيا لهذا الاختيار الشبابي والشعبي. فأي الإرادتين ستفلح: إرادة الإصلاح، أم إرادة الإفساد؟ الجواب على بعد بضعة أيام.
باحث جامعي في سوسيولوجيا المعرفة