لم يكن لمنظمي مهرجان اسطنبول الشعري العالمي علاقة، من قريب أو بعيد، بالحكومة التركية، بل ـ على العكس ـ هم، جميعاً، يساريون؛ لا يصوتون لحزب التنمية، ولا حتى للحزب المعارض؛ يقيمون مهرجانهم الشعري للسنة السادسة، على التوالي، بجهودهم الذاتية ودعم بعض المؤسسات الشعبية والمدنية، ويواجهون صعوبات جمة في تأمين ثمن التذاكر والإقامة وتغطية بقية تكاليف المهرجان. لكنهم يتغلبون عليها بصبرهم وتعاونهم وحرصهم على استمرار المهرجان، بعيداً عن ممارسة ضغوطات الحكومة، التي طلبت منهم ـ قبل عامين ـ استضافة شعراء إسرائيليين بعد احتجاج وزارة الخارجية الإسرائيلية على عدم وجود شعراء إسرائييليين، فرفضوا ذلك رفضاً قاطعاً، وأعلن ـ يومها ـ مدير المهرجان، صالح زكي تومباك، أنه لن يقبل، بأي شكل من الأشكال، مشاركة شعراء إسرائيليين يقبلون الاحتلال والظلم المتواصل ضد الشعب الفلسطيني. وبذلك أضاع على منظمي المهرجان تمويلاً محترماً وكبيراً، بيد أنهم ليسوا نادمين على ذلك، وموقفهم هذا نابع من موقف مبدئي حازم تجاه إسرائيل، قبل أردوغان وقبل قضية أسطول الحرية.
مدير المهرجان ونائبه، حسن أورتك، كانا حريصين طيلة أيام المهرجان على استقبال الشعراء، وترتيب إقامتهم ومرافقتهم للأمسيات والقراءات الصباحية، وترتيب لقاءات مع وسائل الإعلام، وترتيب حفلات العشاء في مطاعم وأماكن ثقافية وسياحية تاريخية مميزة، إضافة إلى القيام ببعض الترجمات، ونشر الأخبار بالصحف، وتوزيع المنشورات والبرامج، وترتيب المواصلات والاتصال، وتنظيم الفعاليات وسط مدينة تضج بالحيوية، وصعوبة التنقل نتيجة العدد الكبير من السكان فيها، حيث يصل العدد إلى خمسة عشر مليون، ما عدا السياح الذين يصلون ـ يومياً ـ بعشرات الآلاف.
في يوم الافتتاح، في جامعة المعمار سنان، حرص المنظمون على إدخال الغناء والموسيقى، مع الشعر، وكانت الأغاني التي رددت أغانيَ يسارية قديمة وجديدة، ومنها أغنية عن ناظم حكمت. وبالطبع لم يبخلوا على الشعراء بتعريفهم على أماكن تاريخية من كنائس قديمة ومساجد، مثل مسجد السليمانية، الذي بناه سليمان القانوني، وقلعة قلاطا، وبيت الشاعر الفرنسي أندريه شنيه، الذي ولد في اسطنبول (من أم غجرية وأب فرنسي)، وأعدم شاباً في باريس، عام 1794، على يد روبسبير.
كان شعار المهرجان، هذا العام، ’ربيع العرب‘، احتفاء بالثورات العربية، وكان الشعراء الأتراك والأجانب حريصين على معرفة ما يدور في العالم العربي، والإصغاء للشعر العربي، مع أن عدداً من الشعراء العرب اختفوا من المهرجان؛ لأن اسطنبول مدينة مغرية، ونسوا الهدف الذي جاؤوا من أجله، بل إن بعض المدعوين منهم لم يأتوا أصلاً رغم موافقتهم على الحضور، خشية أن يحسب عليهم مجيئهم للمهرجان على أنه تأييد للثورة في بلادهم. وفي كل عام ـ كما سمعت ـ يقع المنظمون في مقلب أو ورطة من الشعراء العرب؛ ففي العام الماضي، وبعد أن طبعوا البوسترات، رفض أحد الشعراء العرب السفر لأنه تلقى دعوة إلى بلد أوروبي، فقاموا بإعادة طباعة البرنامج والدعايات والبوسترات، من جديد، وكلفهم ذلك الكثير.
أتساءل: لماذا يوافق العرب على الحضور، وينالون الدعاية وترديد أسمائهم ثم لا يحضرون؟ لماذا لا يعتذرون ـ من البداية ـ وبذا يستطيع المنظمون اختيار شاعر آخر، أم إنهم يفعلون ذلك متعمدين؟ إن الثورة التي نسعى إليها ليست ثورة سياسية بقدر ما هي ثورة أخلاقية تبدأ من الداخل، وتمارس الصدق مع النفس قبل الصدق مع البشر، ولعل المثقفين هم أول الناس المطالبين بتطبيق ذلك؛ فهم ليسوا ملائكة يسيرون ويتصرفون وفق مزاجهم الشخصي، من دون مسؤولية.
ومع ذلك ظل الصوت الشعري العربي حاضراً وواضحاً، وقد أعطت الشاعرة السعودية، فوزية أبو خالد، المريضة بالسرطان، والتي أصرت على الحضور، رغم تلقيها العلاج الكيمياوي في لندن، وأكدت إصرارها على المجيء للمشاركة في ربيع العرب، وقدمت صورة مشرقة ورائعة عن المرأة العربية، وإيمانها بالثورة والحرية والعدالة، وقرأت قصائد جميلة معبرة من كتابها الجديد، "شجن الجماد"، وكذلك فعلت الشاعرة المغربية، ثريا إقبال، والشاعر التونسي، خالد النجار، والشاعر المصري، شعبان يوسف. وقد تعذرت دعوة شاعر ليبي ويمني بسبب الأوضاع في البلدين الشقيقين. كما منعت اسرائيل الشاعرة والناشطة الفلسطينة حنان عواد من عبور جسر الملك حسين للسفر من عمان، وقد أبدت الصحافة التركية اهتماما كبيرا بمنع عواد من المشاركة في المهرجان.
لقد كان مهرجاناً غنياً، تعرفنا فيه إلى شعراء كثيرين ـ من تركيا، ومن مختلف دول العالم ـ وقام المنظمون بتنظيم جولة بحرية في بحر مرمرة على قارب كبير، للمشاركين كافة، وكانت القراءات الشعرية تتم وسط البحر. وقد تابعت الصحافة التركية المهرجان، ونشرت عنه الكثير من الأخبار والمتابعات، وكان ثمة اهتمام للصحافة التركية، أيضاً، في ما يجري في بلدانهم.
وتصادف وجودنا، هناك، مع عيد العمال العالمي، وقد شاركنا في تلك المسيرات والتجمعات العمالية الحاشدة، في ميدان تقسيم، والتي تحدث بهذا الحجم للمرة الأولى منذ سنوات طوال. وقد سمعنا الأغاني الكردية والتركية، ورأينا شعارات اليساريين والشيوعيين والمهمشين وبقية القوى السياسية الفاعلة في المجتمع التركي.
كان أسبوعاً مليئاً بالفعاليات والنشاطات، وقد وجدنا ترحاباً مذهلاً من قبل المثقفين الأتراك الذين يميلون للعرب، بحكم العلاقة التاريخية والجغرافية والعاطفية بين الشعبين.
musa.hawamdeh@gmail.com