مجددا يخص الشاعر المغربي المرموق (الكلمة) بنص شعري يستأنس لغربة الكينونة والغياب. نص يلتقط تفاصيل التشظي ويخطها بشعرية مسكونة بالانكسار، ولأن استئناس الذات بالغربة لا يكتمل إلا بالانعتاق فإن الشاعر يستكمل الصورة بلقاء من الذاكرة في موت مجاور.

الاستئناسُ بالغُرْبة

محمد الميموني

(1)
غريق في تماوج السراب ِ
وتداخل الأبعادْ
في رقعة الشطرنج الأنثوية اللعوب
مخدوع في متاهة البياض والسوادْ
مثل الأصابعِ
التي تخال أنها التي تروض الأنثى
كما تروض البيادق
على مربعات وخطوط متضادة حليفة
قوامها التذكير والتأنيث
وتناسق الأضداد وانتظام الكيفيات.
وبينما أنثى الشطرنج تعبر الخطوط
في تناسق رشيق وانسياب في متاهة التضاد
يخال البيدق المغرور أن الريح ملك لشراعه
 تجري وفق هواه واشتهائه.
يحار بين وهْم الامتلاك وتسلط الأصابع.

كلٌّ منقاد حائرٌ
غريبٌ عن معادلاتِ الرقعة اللعوب،
الأصبعُ المحتار،
والبيادقُ التي تظن أنها تَسير من تلقائها،
واللاعبُ الذي يخوض حرب الافتراض
المجردة الموهومة.
كل ٌّ مُطاع طائع محتالٌ
لكنْ لا يدرك ذلك!

(2)
سجين طوْعاً
غابَ حلمُ الحرية عنهُ
منذ دهرٍ
وتناستْه المواسمْ،
وعاشق يُصغي لعندليبهِ
المحجوب بالظلالْ،
فهل يحتفظ الظل بشيء من أطيافه
في فهرس أو كلمات نعْي ٍ
أو أنشودةِ غفرانْ
وهل تنعكس المرآةُ يوماً
ويصير الانعكاسُ والمنعكس سِيانْ.

(3)
صبور متفائلٌ عنيدْ
يرجو ألا يجيء الثأر ناعماً
حَقودا كالنسيانْ.
ولا يكون رامي السهم قوسُ الانتقام
فربما يأتي الغروب بانتفاء الليل
والأيامُ بانتفاء الابتذال.

(4)
يحُل الموتُ،
ذلك الذي يخشاه لحمُنا،
على مقْربة منا
رحيما متسامحا
يرانا ويَمُر ويصطنع النسيانْ
لكننا نصطنع الغباءَ
ونغض بأبصارنا عن وجهه الذي
نراه في عمق المرآة.
لماذا لا نراه كغروب ذهبي
في بحر من الأحلامْ
أحلام لا نرى لها تأويلا
كتأويلنا المنام!

(5)
فهل تفهمُني؟
أشكُّ،
فأنا أيضا أكاد لا أرى
سوى أيادٍ مُسخرة
تحوم فوق رقعة الشطرنجِ،
والبيادقَ التي تنقاد طوعا
للأصابع الخفية
بلا انتماء جامع نوعي
أو إحساس بقضية
أو خيط نول ناسج
بين الحياكة ورأس خيطها
والنسج والحكاية المروية،
ولا أرى سوى تقاطع الخيوط
في مربعات تتهاوى في الفراغ والنسيان
والعدمِ الذي يُحيل الرقعة فُتاتا
وغبارا في السديم,
ليست معرفة ما لم تر التّماسَ
ما بين السواد والبياض
في نسج متعانق مسالم.
وعبثا تنسج العنكبوت
ثم لا يكون ثوبها
سوى فخ مسموم للذباب
والهوام المتهافت.

* * *

موت مجاور
أخبرني هواء جهْمٌ لَزِج ٌ
يسيل من شقوق بابٍ
صامتٍ حزين،
أخبرني بضيف متطفلٍ
لم يأبهْ بجدار أو بوابْ
واحتل دون دعوةٍ
مقامَ رَب الدار ِ
ومكانةَ الصدارة.
وشْوَش لي الهواء همساً
أن الضيف عابر مقيمٌ
ومُستوحشٌ أليفْ.
حدستُ
قد يكون الضيفُ
ذلك العشوائيُ الجوالْ
لعل ما يسمى الموت
أخطأ العنوانْ
وحط رَحْلَه الثقيلَ في البيت المقابل.
أرى من خلْف السُّجُف الشفافة
نساءً هائماتٍ ورجالا شاردينْ
يصطدمون بالوجوه تارةً
وبالمناكب أخرى
ولا يلتفتونْ،
كراسٍ مبتذلةً ملساءْ
مصفوفة ًبلا حفاوة ولا انتظارْ،
أيادٍ أنثويةً خبيرة
تمتد وترتدُّ
في ظلال ضوء شاحبْ
لعلها تُعِد حُجرةَ عزاء عاجلْ.
أطفال يسألونَ
لكن من يُرضي فضول طفلٍ نابهٍ
بالخبر اليقينْ.
البابُ سِرّ صامت كتومٌ
لا يثير العابرينْ.
وبَعد حِين فاضتْ عنْه أنَّةٌ:
تمنّع المزلاجُ واستعصى
وكان بابَ العمر الطيعَ الوديعْ
لعله أحس أن الراحل الوشيكَ
لن يعود بعد حين،
ولن يُحس لمسَه الأليف
حين يولج المفتاحَ
في نهاية المساء.
فهل تألفنا الأشياءُ
مثلما نألفها
وتبقى بعدنا هناكَ
أم تَغيب مثلما نَغيب؟
وبغتةً بدا من باب الدار
وجهٌ امرأة حزين..
الحدْس الآن خبرٌ يقينْ.
ينصرف الطبيبُ
ويحل في الصدارة
خبير في الأكفان والنعوش.
أفواج المِهْنيين المنشِدين
يتلون برتابة،
وآخرون في زوايا البيت يهمسون.
لم أكترث بنَوْح المنشدين
أو بهمس الأوصياء الأقربين،
ولكني بكيت حين انفلتتْ فتاة
وتشبثتْ بالنعشْ:
لا تمكثْ يا أبي هناك
في الزمان الآخَر،
فلن أنام اليوم، في انتظارك،
من دون أن تحْضنني
وتكْمل الحكايةَ
التي بدأتَ أمسِ
وشوقْتني
بعقدة الألغازِ
وملامح النهاية.

شاعر من المغرب