تنطلق دراسة الباحث الجزائري من السيمولوجيا الغربية، وجذورها في النقد العربي، لتكشف التواصل غير اللغوي في الخطاب القرآني، لأن الحركة الجسمية فيه تمثل نسبة عالية من الاستعمال مثلها في الخطاب اليومي، لذلك تحتاج لقراءة دلالاتها ومعانيها المتنوعة باعتبارها أحد عناصر التواصل غير اللغوي فيه.

التواصل غير اللغوي في الخطاب القرآني

استقصاءات لبعض دلالاته

علـوش كمال

التواصل من القضايا التي يمكن القول عنها الشغل الشاغل لعلماء وباحثي هذا العصر بلا منازع، ذلك أن مناهج البحث التي رسمتها المجلات المتعددة للعلوم الإنسانية تحاول بطريقة أو بأخرى تحقيق قدر كبير ممكن منه، إذ لا تقل العلوم اللغوية أهمية وخاصة اللسانيات والمناهج النقدية الحديثة وفروعها من تأويلية وتفكيكية وسيميائية، وعلوم الاتصال بعامة في البحث عن آليات تحقيقه. وما يشكل محور دراستنا في هذا الباب، هو انطلاقنا من إشكالية نحاول الوقوف بها على كل ما يساهم في تحقيق قدر كبير من العملية التواصلية، تتمثل في إمكانية قراءة دلالات الحركة الجسمية في الخطاب القرآني، باعتبارها جزء من النظام الاشاري الذي يشكل حيزا كبيرا من النظام التواصلي غير اللغوي يجري في سياق النظام التواصلي اللغوي.

إن المقصد من التواصل في هذا المقام التواصل بشقيه اللغوي وغير اللغوي، وعلى الرغم من أن اهتمامنا سينصب على النوع الثاني منه، فمن الواجب الوقوف عند أساسيات التواصل اللغوي ما دام الثاني يعمل كمعزز للأول في تحقيق العملية التواصلية، لقد اشترط الباحثون اللغويون كرومان جاكبسون، ودي سوسور وغيره من العلماء المهتمين بهذا المجال، وجود عناصر أساسية وضرورية يجب أن تتوفر في العملية التواصلية، منها طرفا الاتصال كالمرسل والمرسل إليه، والرسالة والسنن، كما أن التواصل اللغوي لا يتحقق في نظرهم إلا بوجود نسق لغوي، تشكله مجموعة من العلامات اللسانية والفونيمات الدالة، التي تتآلف فيما بينها وفق تتابع وخطية كما ينعتها دي سوسور، ووفق نظام نحوي كلي يشترك فيه الجميع مشكلا اللغة كأداة للتواصل، فهي ظاهرة اجتماعية يسعى الأفراد من خلالها إلى تحقيق حاجياتهم وأغراضهم، وقيمتها لا تتأتى إلا من قيمة كل عنصر ساهم في تركيبتها أو بنيتها، وفي هذا الصدد نجده يقول: "فقيمة الكل هي في أجزائه، كما أن قيمة الأجزاء تتأتى من مكانتها في هذا الكل أو ذاك، وهذا فإن أهمية العلاقة التركيبية بين الجزء والكل كأهميتها بين الأجزاء فيما بينها ... صحيح أن اللغة وحدات مستقلة دون علاقات تركيبية بأجزائها ولا بوحداتها الأخرى وأشباه الجمل نعم، لا، شكرا ."(1)

فالملاحظ على زعيم المدرسة البنيوية أنه من الذين يولون أهمية كبيرة لقيمة العلامة اللسانية من خلال تواجدها ضمن وحدات لسانية أخرى في نسق معين، ولذلك فإن فكرة القيمة هي أساس تحقيق التواصل بالنسبة إليه، إذ لا يمكننا أن نتصور نظام من الأنظمة لغوية، أو غير لغوية، كانت كالا شارية مثلا، خالية من المعنى، وإلا لما أطلق عليها نظام، والرؤية هذه تتقارب ونظرة قدماء العربية المطروحة زهاء قرون مضت كعبد القاهر الجرجاني في حديثه عن النظم، وأبو حامد الغزالي، وبالخصوص ابن جني الذي عرف اللغة قائلا: "إن اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم(2) منطلقا من القيمة التعبيرية للحرف في اللغة العربية الفصحى، كالفرق بين قضم وخضم والتي يقابلها قيمة الفونيم عند دي سوسور، وحديثه عن العلاقات الاستبدالية داخل النظام اللغوي. وما يثير انتباهنا أثناء حديثنا عن العملية التواصلية هو حديث رومان جاكبسون عن نظرية الاتصال المستلهمة من نظرية كلود شانون الرياضية، التي مفادها :"أن عملية الاتصال تتطلب ستة عناصر أساسية :المرسل والمتلقي وقناة الاتصال والرسالة وشفرة الاتصال والمرجع"،(3) بالإضافة إلى إشارته للوظائف التي تؤديها هذه اللغة كالوظيفة التعبيرية والندائية والميتالسانية والشعرية والمرجعية والمهيمنة، وغيرها من الوظائف، وتركيزه على فكرة الوظيفة التي يمكن القول عنها أنها تقابل فكرة القيمة عند دي سوسور، إذ لا يمكن اعتبار النظام اللغوي نظاما تواصليا عند كل من المدرستين ما لم تتحقق فيه فكرة القيمة أو الوظيفة.

وعليه يمكن مقابلة مفهوم القيمة أو الوظيفة في مجال تحليل الخطاب، بما يتركه النظام اللغوي أو النسق من أثر دلالي في السامع أو المتلقي، إذ نجد دي سوسور يِِؤكد في حديثه عن الدليل اللساني قائلا:"يتم التواصل بأدلة لغوية وأخرى غير لغوية وتهتم اللسانيات بدراسة الأدلة اللغوية تاركة دراسة الأدلة غير اللغوية إلى الدلائلية أو السميائيات التي تهتم بمعرفة العناصر التي تتشكل منها الأدلة، والقوانين التي تتحكم فيها"،(4) ولذلك فإن التواصل اللغوي لا تكتمل وظيفته إلا من اكتمال وظيفة كل عنصر لغوي ينتمي إلى المجموعة، وهو ما يؤكده حديث سمبسون عن وظيفة اللغة ورؤية الوظيفيين لها إذ يعتبرونها محرك، هذا المحرك لا يعمل عمله إلا بتأدية كل عنصر وظيفته في اشتراك مع العناصر الأخرى، حتى تتم الوظيفة الكل(5). وللإشارة فإن أي خطاب بمفهومه العلمي واللساني يحوي النظامين معا، النظام التواصلي اللغوي وغير اللغوين الذي لا تكتمل قيمته ووظيفته الدلالية إلا باكتمال قيمة ووظيفة النظامين معا، فاستعمال الخطاب القرآني في هذا المقام بإثارة لفظ الخطاب بدلا من النص، جاء على أساس أن القرآن الكريم يحتمل اللفظين معا، لفظ النص كونه مدونة تتجسد في كتاب الله المعجزة الخالدة، وخطابا كونه ملفوظا وينسجم مع السياقات الاجتماعية في كل مكان وزمان، إذ لابد من قراءة علاماته اللسانية ووظيفتها التواصلية، متزامنة مع قراءة الحركات الجسمية المصاحبة له، باعتبارها جزءا من الأنظمة التواصلية الإشارية غير اللغوية الدالة

وقبل التفصيل في الحديث عن دلالة هذا النوع من التواصل في الخطاب القرآني، لابد من إثارة الحديث عن ماهية التواصل غير اللغوي بصفة عامة، الذي لا شك أنه يمثل نسبة عالية جدا من حيث الاستعمال في الخطابات اليومية، سواء كانت سياسية أم إعلامية أم أدبية ودينية، وهو ما أثبتته البحوث النفسية وعلوم الاتصال في دراساتها الإحصائية، إذ يرد في أغلب الأحوال مصحوبا بالخطاب اللغوي اللساني لتعزيز العملية التواصلية، ويؤكد ذلك مقولة الجاحظ :"والإشارة واللفظ شريكان، ونعم العون هي له ونعم الترجمان"،(6) فهذه العبارة تحيلنا على وجوب الاستعانة بالحركة الجسمية كأحد الأنظمة الاشارية التي يتم بها التواصل، وتوظيفها مقترنة بالتعبيرات اللسانية لإتمام العملية التبليغية بنجاح. وإن قلنا أن الجاحظ ومن ولاه في زمنه من علماء اللغة العربية وهم كثر، كعبد القاهر الجرجاني وابن سينا وأبو هلال العسكري كانوا أسبق بكثير من رائد اللسانيات الحديثة في التنبؤ بميلاد علم يهتم بالإشارة، وهو ما يعرف الآن بالسيميولوحيا أو علم العلامة، فليس ذلك من باب الاعتداء على فكر دي سوسور، ثم إننا نجد دي سوسور يؤكد في إشارة له إلى ضرورة ارتباط النظام اللغوي بغيره من الأنظمة الاشارية، باعتبارها أنظمة تواصلية يقول :"إنني أرى مسألة اللغة في جوهرها مسألة علم الإشارات، وجميع تطورات المسألة تستقي أهميتها من هذه الحقيقة الأساسية، فإذا أردنا أن ندرك الطبيعة الحقيقة للغة فعلينا أن نفهم ارتباطها بالأنظمة الأخرى للإشارات."(7)

فالتواصل في جوهره لا يتم بالعلامات والأنساق اللغوية فحسب، وإنما بالإشارات والإيماءات والرموز والألوان التي أصبحت لا تفارق الإنسان المتحضر في خطابه اليومي، لذلك عكفت كل من السيميائية واللسانيات وعلم الدلالة على دراسته في علاقاته بالخطابات الاشهارية وصور الإعلام وما إلى ذلك، وبعبارة أخرى نقول أن المجالات المتنوعة للعلوم اللغوية والمناهج النقدية، تجاوزت في دراستها الخطابات الملفوظة إلى ما هو غير ملفوظ، فالسيمياء مثلا اهتمت بدراسة دلالة الأنظمة الاشارية، ونجد اليوم من مجالاتها قراءة دلالات الحركات الجسمية في الخطابات السياسية لرجال السياسة وما يصحب هذه الحركات من تعبيرات لسانية، أو وجودها ضمن الأفلام السينمائية أو الخطابات العسكرية، أثناء قيام قائد من القواد بخطاب موجه إلى الجند، أو عند علماء النفس في قراءة الشخصيات، وما يختلج صدورهم من عقد نفسية، التي لا تكتشف إلا من خلال بعض الحركات التي تصدر عن أحد أعضاء الجسم. وحتى لا نبدي تقصيرا في الإشارة إلى مجالات المعرفة والثقافة الإنسانية المتنوعة المهتمة بهذا النوع من التواصل، لابد من التنويه بأهمية الأدب واعتنائه بلغة الجسد كما يسميها، إذ وظف كثير من الأدباء والشعراء والكتاب في قصائدهم الرمز والإشارة، وخاصة ما نسميه بالحركة الجسمية كقول الشاعر عمر بن أبي ربيعة :

أَشارت بطرف العين خيفة أهلها     إشارة مذعور ولم تـتكلم

فأيقنت أن الطرف قد قال مرحبا    وأهلا وسهلا بالحبيب المتيم(8)

فإشارة العين في هذا المقام حركة نتجت عن عضو من أعضاء الجسم المستعملة من قبل المرأة، حملت وتضمنت دلالة ومقصود معين، جاءت عوضا عن تعبيرات لسانية ممكنة الحدوث، ولذلك قيل في كثير من المقامات "اللبيب بالإشارة يفهم"، ولو نرجع غير بعيد من هذا الزمن، فإننا نجد هناك من الشعوب والأمم التي وظفت الإشارة، أو لغة الحركات الجسمية بدلا من التعبيرات اللسانية كالشعوب اللاتينية وشعوب البحر المتوسط، ومنها من قللت من استعمالها، إذ يرجع هذا في أغلب الأحوال إلى طبيعة المزاج أو المناخ الحار أو البارد، فالشعوب التي تقطن المناطق الصحراوية مثلا تستعمل الحركة الجسمية بنسبة كبيرة غايتها الاقتصاد في الكلام، وتفادي كثرته التي تستنفذ طاقة كبيرة من المتكلم.(9) وبالعودة إلى دلالة لفظ (السيمياء) وجذور استعماله في التراث العربي، نجد القرآن الكريم قد وظفه في كثير من السياقات كقوله تعالى: "وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسيمُونَ"(10)، و في آية أخرى قوله تعالى :"سِيماَهُمْ فِي وُجوُهِهِم مِّنَ اَثَرِ السُّجُودِ"(11)، وكذلك قوله تعالى: "يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَهُم فَيُوخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالَاَقْدَامِ"(12)، فمعنى كلمة السمة ينصرف هنا إلى معنى العلامة والأمارة، الذي هو أقرب مما ذكرته له معاجم العربية من معاني ودلالات: "وقد وسمه وسما إذا أثر فيه، سمة وكي والهاء عوض عن الواو، وفي الحديث أنه كان يسم إبل الصدقة، أي يعلم عليها بالكي، واتسم الرجل إذا جعل لنفسه سمة يعرف بها، وأصل الواو والياء واوا والسمة والوسام ما وسم به البعير من ضروب الصور، والميسم المكواة أو الشيء الذي يوسم به الدواب، والجمع مواسم ومياسم، الأخيرة معاقبة قال الجوهري أصل الياء واوا فإن شئت قلت في جمعه ميسام على اللفظ ... واسم لأثر الوسم أيضا كقول الشاعر :

ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي

جعلت لهم فوق العرايين ميسما

فليس يريد جعلت لهم حديدة، وإنما يريد جعلت أثر وسم، وفي يده الميسم هي الحديدة التي يكوى بها"(13) إن المدلول المعجمي للعلامة التي هي بمثابة الدليل على الشيء، يمثل جزءا من المفهوم الاصطلاحي لهذا العلم، كونه يهتم بالإشارة الدالة مهما كان نوعها وأصلها، وهذا يعني أن النظام الكوني بما فيه من إشارات ورموز هو نظام دلالي، إذ يتقاطع كل من علم الدلالة باعتباره فرع عن اللسانيات، والسيمياء في دراسة دلالة الأنظمة اللغوية وغير اللغوية، ويقول الدكتور معجب الزهراني في تعريفه للسيمياء : "ترتبط بحقل دلالي لغوي ثقافي، يحضر معها فيه كلمات مثل السمة والتسمية والوسام والوسم والميسم والسيمياء، وتنتمي السيمياء أيا كانت التسمية في أصولها ومنهجيتها إلى البنيوية، إذ البنيوية نفسها منهج منتظم لدراسة الأنظمة الاشارية المختلفة في الثقافة العامة".(14)

فهذا النوع من العلوم بطريقة ما أو بأخرى، يكشف عن الأنساق الدالة وفق عملية التفكيك والتركيب، أي تفكيك هذه الأنظمة كأبنية دالة، بحيث أن هذه الأنظمة قد تم الاعتراف والتعارف على دلالتها مسبقا كدلالة تراكم السحب، والغيم على التنبؤ بسقوط المطر، وهو ما يتقارب ومفهوم الدلالة على الشيء عند أبي هلال العسكري: "الدلالة على الشيء ما يمكن كل ناظر فيها أن يستدل بها عليه، كالعالم لما كان دلالة على الخالق، كان دالا عليه لكل مستدل به، أما علامة الشيء فهو ما يعرف المعلم له ومن شاركه في معرفته دون كل واحد، فالحجر تجعله علامة لدفين تدفنه فيكون دلالة لك دون غيرك، ولا يمكن لغيرك أن يستدل به عليه، إلا إذا وافقته على ذلك كالتصفيق تجعله علامة لمجيء زيد، فلا يكون ذلك دلالة إلا لمن يوافقك عليه، ثم يجوز أن تزيل علامة الشيء بينك وبين صاحبك فتخرج من أن تكون علامة له، ولا يجوز أن تخرج الدلالة على الشيء من أن تكون دلالة عليه، فالعلامة تكون بالوضع والدلالة بالاقتضاء".(15)

وللإشارة فالنظام الحركي الجسمي عند الإنسان هو نظام إشاري دلالي، تتضمن كل حركة منه دلالة ترتسم من خلال حركة كل عضو مشكل له كالعين، اليد، الحاجب، الرجل، الساق، وفي هذا الصدد نجد إشارة من أبي منصور الثعالبي في كتابه فقه اللغة وأسرار العربية في فصل سماه تقسيم الإشارات والحركات التي تصدر عن الأعضاء الجسمية تتضمن توضيح لتحركات مختلفة شائعة الاستعمال من أعضاء الجسم فقال: "الإنغاض تحريك الرأس، الطرف تحريك الجفون في النظر، الترميز تحريك الشفتين للكلام"(16)، وكل حركة من هذه الحركات الجسمية المذكورة إلا وتحمل مضامين ودلالات متنوعة، تساهم في تحقيق العملية التواصلية والتي تستعمل أحيانا كمعزز للخطاب اللساني، وأحيانا أخرى تأتي عوضا عن تعبيرات لسانية ممكنة الحدوث، ممثلة بذلك النوع الثاني من التواصل وهو التواصل غير اللغوي . وليس من المبالغة في شيء إن قلنا أن المناهج النقدية الحديثة والعلوم اللسانية التي كثفت من قراءتها لأنواع الخطاب بما فيه خطاب الصورة، المتضمن الإشارات والحركات، لن تنطلق إلا مما قدمه قدماء العربية واليونانيين أمثال الجاحظ وأرسطو في تطرقهم للحديث عن دلالة الإشارة والعبارة معا، كما أننا نجد القرآن الكريم قد وظف لفظ الإشارة لما يحمله من دلالات، مثلما وظف لفظ السمة في قوله تعالى حكاية عن مريم البتول :"فَأَشَارَتِ إِلَيْهِ قَالُوْا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا"(17)، بمعنى أنها أومأت بسبابتها إلى الصبي، بدلا من أن تتحدث بلسانها، لأنها كانت قد نذرت للرحمن صوما، والأكثر من ذلك استعمال لفظ الآية والرمز بالمفهوم العام للإشارة، في قوله تعالى :"قَالَ رَبِّ اِجْعَل لِى ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَثَةَ أَيَّامٍ اِلاَّ رَمْزاً"(18)، فجاء لفظ الآية بمعنى الإشارة المتضمنة لحركة الشفتين ألا وهو الرمز، والرمز في العربية: "رمز الرمز تصويت خفي باللسان كالهمس، ويكون تحريك الشفتين بكلام غير مفهوم باللفظ من غير إبانة بصوت، إنما هو إشارة بالشفتين وقيل الرمز إشارة وإيماء بالعينين، والحاجبين والشفتين، والفم والرمز في اللغة كل ما أشرت إليه مما يبان بلفظ بأي شيء أشرت إليه بيد، أو بعين ورمز يرمز ويرمز رمزا، وفي التنزيل العزيز في قصة زكريا عليه السلام: ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا، ورمزته المرأة بعينها ترمزه رمزا غمزته".(19) وعلى أية حال فإن معنى الرمز ينصرف إلى معنى حركة الشفتين من دون تصويت، إذ الملاحظ هنا هو استعمالنا دائما للفظ الحركة الجسمية بدلا من الجسدية، لما في هذا الجسم من حركة دالة تظهر في حركة كل عضو منه، بدلا من الجسد الذي لا حراك فيه، والوقوف على هذا المعنى يستوجب التفريق بين معنى الجسد والجسم في معاجم اللغة العربية وتوظيف القرآن الكريم لهما في كثير من السياقات، فعن الجسد قال ابن منظور: "الجسد: جسم الإنسان ولا يقال لغيره من الأجسام المتغذية، ولا يقال لغير الإنسان جسد من خلق الأرض، والجسد البدن تقول منه تجسد كما تقول من الجسم تجسم ابن سيده، وقد يقال للملائكة والجن مما يعقل فهو جسد، وكان عجل بنو إسرائيل جسدا يصيح لا يأكل ولا يشرب، وكذا طبيعة الجن، قال عز وجل "فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار" جسد بدل من عجل، لأن العجل هنا هو الجسد ... وقال أبو إسحاق في تفسير الآية الجسد هو الذي لا يعقل، ولا يميز إنما معنى الجسد معنى الجثة فقط".(20)

وبالنسبة لدلالة لفظ الجسم:" الجسم جماعة البدن أو الأعضاء من الناس، والإبل، والدواب وغيرهم من الأنواع العظيمة الخلق، واستعارة بعض الخطباء للأعراض، فقال يذكر علم القوافي لا ما يتعاطاه الآن أكثر الناس من التحلي باسمه دون مباشرة جوهره وجسمه، وكأنه إنما كنى بذلك عن الحقيقة، لأن جسم الشيء حقيقة واسمه ليس بحقيقة، ألا ترى أن العرض ليس بذي جسم ولا جوهر، إنما ذلك كله استعارة ومثل ؟ والجمع أجسام وجسوم...والجسمان جماعة الجسم، والجسمان جسم الرجل، ويقال إنه لنحيف الجسمان، وجسمان الرجل وجثمانه واحد، ورجل جسماني، وجثماني إذا كان ضخم الجثة، أبو زيد الجسم والجسد وكذلك الجسمان والجسمان الشخص".(21) أما عن استعمالهما في القرآن الكريم فقد ورد لفظ الجسم فيه مرتين، وجاء بمعنى الجسد محتويا الحياة والروح، وذلك في قوله تعالى :"إِنَّ اللَّهَ اصْطَفيَهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْم وَالجِسْمِ وَاللَّهُ يُوْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَآءُ وَاللَّهُ وَسِعٌ عَلِيمٌ"(22)، فهذه الآية تتحدث عن طالوت وتأهلاته ليكون ملكا على بني إسرائيل، وأما الثانية في قوله تعالى: "َوإِذاَ رَأَيْتَهُم تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُم وَإِنْ يَقُولُواْ تَسْمَع لِقَوْلِهِم كَأَنَّهُم خُشُبٌ مُسَنَدَة يَحْسِبُونَ كُلَ صَيْحَةٍ عَلَيْهِم هُمُ الَعَدُوُّ فَاحْذَرْهُم قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤفَكُونَ"(23)، وهي تتحدث عن اهتمام المنافقين بأجسامهم على حساب قلوبهم، فكل من الآيتين استعملت كلمة الجسم مرادا بها جسم الإنسان وهو حي، أي بوجود الروح داخله التي تكون سببا في الحراك.

وعن لفظ الجسد فقد ورد فيه أربع مرات، أولا في قوله تعالى :"وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسىَ مِنْ بَعْدِهِ مِن حُلِّيهُم عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوَاْ اَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُم وَلاَ يَهْدَيهِم سَبِيلاً اِتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَلِمِينَ"(24)، وهذه الآية تتحدث عن وصف العجل التمثال الذي صنعه السامري من الذهب لبني إسرائيل، ودعاهم إلى عبادته مستغلا غياب موسى عليه السلام، وهو بمعنى الجسد الخالي من الروح، وأما الثانية في قوله تعالى :"فَأَخَْرَجَ لَهُم ْعِجْلا ًجَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُوْا هَذاَ إِلَهُكُم وَإِلَهُ مُوسىَ فَنَسِيَ"(25)، وهي تصف كذلك هذا العجل الذي صنعه السامري، وأما الثالثة في قوله تعالى: "وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ"(26)، وهي تتحدث عن ولد سليمان الذي ولد مشوها ميتا جثة هامدة بلا حراك، وأما الرابعة وردت في قوله تعالى: "َومَا جَعَلْنَهُم جَسَداً لاَّ يَأكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَلِدينَ"(27)، وهي تتحدث عن الأنبياء أنهم كانوا أحياء لهم أجسام حية متحركة، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى استعمل الجسد في مقابل السكون والجثة الهامدة، أما الجسم في مقابل الحركة والروح، وهو ما نلاحظه من خلال الآيات السالفة الذكر. وعلى سبيل ذكر الفرق بين معنى الجسم والجسد في هذا المقام، فلا بد من الإشارة إلى الفرق بين النص والخطاب، فالنص لا يقاس بشكله أو حجمه القصير أو الطويل، ولكن يقاس لجام معناه وأثره في المستمع أو القارئ، والنص إما أن يكون صورة أو مفردة أو رمزا أو جملة أو كتابا بأكمله أو قصة أو عملا مسرحيا، أو سينمائيا يحدث في سياق خطابي، (كوجود علامة (قف) أمام مدرسة، أو مستشفى تشكل نصا،(28) فهو بذلك يتراوح بين ما هو مكتوب وغير مكتوب، ومن اللغة إلى الصورة، أما الخطاب، فالمتكلم يغدو فيه تجميعا لوحدات الخطاب ومفاهيمها الدلالية، ليس باعتبار نسقها المعجمي الإفرادي، وإنما باعتبار سياقها الملفوظي التركيبي، الذي تعمل فيه ظاهرة الوقوع والرصف كمعيار لتحويل دلالة المفردات المعجمية، المشكلة لنسق الخطاب من الدلالة المعجمية إلى الدلالة التركيبية، ولا يحصل هذا التركيب إلا بمراعاة انسجام التركيب واتساقه،(29) وفي تعريف دومنيك مانغونو له يقول: "إن مصطلح خطاب من حيث معناه العام المتداول في تحليل الخطابات، يحيل على فرع من التناول للغة أكثر مما يحيل على حقل بحثي محدد، فاللغة في الخطاب لا تعد أبنية اعتباطية، بل نشاطا لأفراد مندرجين في سياقات معينة"(30).

إن كلا من المفهومين للنص والخطاب على الرغم من اتضاحهما عند البعض، فإنهما غير مستقرين لدى الآخرين، كون لفظ النص يرد مرة بمفهوم الخطاب، ومرة أخرى الخطاب بمفهوم النص، والحقيقة أن القرآن الكريم استعمل بالمفهومين معا كما سبقت الإشارة إليه، فهناك من يتعامل معه على أساس أنه نص كونه مدونة تتمثل في كتاب الله المعجزة الخالدة، تشكله مجموعة الرموز اللغوية، والأساليب ذات الدلالات الممكنة فهو مفتوح على التأويل، وهناك من يتعامل معه على أساس أنه خطاب كونه ملفوظا ويحوي جميع عناصر الخطاب وشروطه، وإثارتنا إطلاق لفظ الخطاب عليه بدلا من النص كونه يجمع بين ما هو ملفوظ وغير ملفوظ، أي بين خطاب اللسان وخطاب الصورة. ومن خلال توضيحنا للمفاهيم الأساسية المستوجب الوقوف عند جزئياتها، كالإشارة والرمز والدلالة والعلامة والتواصل بشقيه وعناصره عند الباحثين، والسيمياء ولغة الإشارات الجسمية، والتفريق بين مفهوم الجسم والجسد، وجوهر كل من النص والخطاب، يتيح لنا الفرصة للكشف عن ماهية وحقيقة الأنواع الأخرى من اللغات البشرية أي أنظمة الإشارات ولغة الحركات المستعملة في كثير من الخطابات، وخاصة في حال تعلق الأمر بالخطاب القرآني،

إن الحديث عن الخطاب القرآني يقتضي تفصيلا دقيقا من عدة زوايا ورؤى، طرحتها مناهج نقدية في كيفية التعامل معه وقراءة دلالاته ومضامينه، كونه ربما يختلف عن الأنواع الأخرى من الخطابات البشرية العادية، فهو خطاب رباني مقدس يساير جميع الأزمنة والسياقات الاجتماعية، مما يبقي انفتاحيته على التأويل، كما أن إيصال مقصديته لا تقف عند قراءة دلالات أنساقه اللسانية ووحداته التعبيرية فحسب، وإنما تستوجب قراءة دلالة الحركات الجسمية التي وردت فيه، تصور حقيقة مواقف أصناف من الناس باعتبارها أنساقا إشاراية، تشكل جزءا من خطاب الصورة أو ما يسمى بالتواصل غير اللغوي، وهذه القراءة لا تتأسس إلا على رؤى خاصة تأخذ أدواتها من أنساق معرفية مختلفة، كالمنطق والنحو والبلاغة(31)، فاحتوائه على عنصر المشافهة في كون رسول صلى الله عليه وسلم هو الباث للخطاب، جعله يتضمن كثيرا من أدوات الإيضاح والقصد، التي منها الإيماءات والعلامات الفسيولوجية، كتقطيب الجبين أو انشراح الأسارير...... التي تتركه مفتوحا على القراءة(32). ومن الأمثلة على ذلك اليد مثلا تدخل تحتها حركة الأصابع أو الأنامل، لقوله تعالى :"وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُم لِتَغْفِرَ لَهُم جَعَلُواْ أَصَبِعَهُم فِي ءاَذَانِهِم"(33)، الدالة على رفض الاستماع إلى الحق، أو حركة العين التي يتفرع عنها الطرف، في قوله تعالى: "وَتَرَيهُم يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفٍي"(34)، الدالة على النظر في تستر وترقب اعترافا بالخطيئة، أو حركة الرجل ونوعية المشي، في مثل قوله تعالى: "ثُمَّ ذَهَبَ إِلىَ أَهْلِهِ يَتَمَطَّى"(35)، الدالة على الاستحياء والتستر والاحتشام، أو قوله تعالى :"عَبَسَ وَتَوَلَّى"(36)، الدالة على تقطيب الوجه المتضمن لمعنى التحرج والغضب، والتولي بمعنى الالتفات إلى الخلف الدال على رفض الاستقبال، أو قوله تعالى: "فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا"(37)، الدالة على الندم والتحسر على ما حدث، وفي هذا الصدد نجد إشارة من أبي منصور الثعالبي في كتابه فقه اللغة وأسرار العربية في فصل سماه تقسيم الإشارات والحركات الصادرة عن الأعضاء الجسمية يقول: "أشار بيده، أومأ برأسه، غمز بحاجبه، رمز بشفته، لمح بثوبه، ألاح بكمه"(38) .وفي مقامنا هذا سنقتصر على دلالات حركة عضو العين في القرآن الكريم، باعتبارها أحد أعضاء جسم الإنسان الأساسية ذات الحركات الفرعية المختلفة، وهي من أدوات الإيضاح والقصد التي استعان بها الخطاب القرآني، وكثيرة الاستعمال في الخطابات اليومية، ولا شك أن المقصود من حركتها طريقة النظر بالعينين، واتجاهها مع سرعة حركتها، ومدى ضيق الحدقة أو اتساعها، ودورانها واستراق النظر وزوغان البصر، وسلوك الجفن المصاحب لحركة العين من خفض وإطباق التي تضمنت كثيرا من الدلالات والمعاني، كدلالة الخوف والذعر والتذلل والاحتقار والاستهزاء، ودلالة الخشوع والكره والسخط والحزن والاضطراب، والتعفف والحشمة والاندهاش والتعجب في مصاحبتها لكثير من السياقات اللغوية التي عملت على رسم صورة هذه الحركة والمواقف المصاحبة لها، ومنها على سبيل المثال:

دلالة حركة عضو العين على الخوف والاضطراب

إن حركة دوران العين واضطرابها وعدم تثبتها عند أي شخص في مواجهة موقف ما، تدل على الحالة النفسية التي تنتاب هذا الشخص كالخوف، والذعر، والقلق، وهو ما يتضح في قوله تعالى: "اَشِحَّةً عَلَيْكُم فَإِذَا جَآءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُم يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُم كَالذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ".(39) فسياق الآية يحكي لنا الموقف الذي آل إليه المنافقون الذين كانوا يدعون القوة ومواجهة القتال والحرب، ولكن سرعان ما ذكر لهم القتال أخذتهم الرعشة والرجفة، والخوف والبأس، الذي تجلى من خلال حركات عيونهم المضطربة والقلقة التي تلتفت يمنة ويسرة، وكأن الموت يصارعهم من كل جهة، وقد أورد القرطبي في تفسير هذه الآية :" تدور أعينهم لذهاب عقولهم حتى لا يصح منهم النظر إلى جهة وقيل لشدة خوفهم حذرا أن يأتيهم القتل من كل جهة"(40). وهذه الحركة الناتجة عن عضو العين يمكن لنا أن نصادفها في كثير من المواقف الدالة على حقيقة النفوس التي يتملكها الخوف والقلق والذعر، مثلما يتملك الخوف الإنسان الذي يحتضر، وكأنه في حالة غيبوبة وهو حال المنافقين في هذا الموقف، إذ أن شدة خوفهم من سماعهم الحديث عن القتال الظاهرة من حركة أعينهم أذهبت عقولهم، وفي مثل هذا الموقف المصور لهذه الحركة المتضمنة الدلالات النفسية نجد الشاعر يقول :

تريك أعينهم ما في صدورهم إن الصدور قد يؤدي سرها النظر(41)

دلالة حركة عضو العين على الاستهزاء والاحتقار:

إن موضع حركة العين في موقف الاحتقار والاستهزاء تأخذ شكلا وحركة معينة، كالنظر بطرف العين يمينا، مع التفاتة الوجه شمالا في مواجهة من يحتقر ويستهزئ به، ولعلنا نصادف مثل هذه الحالات في الحياة اليومية، حتى أصبحت حركة العين بهذه الوضعية اعتيادية في كثير من المجتمعات، ولنا أن نستدل على ذلك من الخطاب القرآني الذي يصور لنا هذه الحركة في موقف حدث بين أهل الكفر وأهل الإيمان، دل على معنى الاحتقار والاستصغار في قوله تعالى :" وَلآَ أَقُولُ لِلَذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُم لَنْ يُّوتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً "(42)، فمعنى الازدراء هو الاحتقار والاستهزاء والاستصغار، والسياق القرآني يتحدث عن قوم نوح الذين كفروا وأشركوا بالله، واحتقروا واستصغروا بأعينهم المؤمنين، ونظروا إليهم نظرة احتقار، بدت من خلال طريقة نظرهم، المتمثلة في النظر بطرف العين فقط مع التفاتة الوجه شمالا، فسيدنا نوح عليه السلام يوجه إليهم الخطاب بأن الله أعلم ما في نفوسهم وسيجازيهم عن إيمانهم، وقد جاء في تفسير هذه الآية : "ولا أقول للذين تزدري أعينكم" أي للذين تستحقرهم أعينكم وتستصغرهم. والازدراء بمعنى الإعابة، وبمعنى آخر لا أقول لكم مساعدة لأهوائكم في شأن من استرذلتموهم واستحقرتموهم لفقرهم، أنهم من المؤمنين فالله أعلم بهم"(43) إذ يتبين لنا من خلال تصوير الخطاب القرآني لهذا الموقف المصاحب بهذا النوع من الحركات الجزئية لعضو العين، أن دلالة الاحتقار والاستهزاء والاستصغار، اتضحت من تحركات العين مع التفاتة الوجه التي عززت التعبير اللساني الدال على هذا المعنى، في قوله تعالى:" تزدري أعينكم"، فهي إحدى الروافد المساهمة في صنع المعنى، وتأثيره في السامع أو الملتقي للخطاب، وكأنه يشاهد الموقف بعينه.

دلالة حركة عضو العين على السخط والكراهية والعداء :

تأخذ العين للدلالة على معنى السخط والكراهية والعداء، هيئة وحركة معينة تحمل شحنة عاطفية تتأجج بالحقد الذي يستولي على النفس، ولعل وضعيتها تأخذ شكل العين الثاقبة النظر مع ضيق الحدقة، بالتحديق وإدامة النظر إلى من يكن له العداوة والحقد، وهو ما يتجلى في قوله تعالى :"وَإِنْ يَّكَادُ الذِينَ كَفَرُواْ لَيَزْلِقُونَكَ بِأَبْصَرِهِم لَمَّا سَمِعُواْ الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ"(44) إذ يصف لنا هذا السياق القرآني حال الكفار، الذين انتابت نفوسهم شحنة عاطفية تتأجج بالحقد والكراهية، والسخط، وتحمل معنى العداء لمحمد صلى الله عليه وسلم، وما يتلوه من آيات الذكر الحكيم، لما فيها من فصاحة وحجة وبلاغة، اتضحت من خلال حركة عيونهم، التي كادت تزلق النبي صلى الله عليه وسلم وتصرعه، وفي هذا الصدد قال سيد قطب في تفسيره لهذه الآية: "فهذه النظرات تكاد تؤثر في أقدام الرسول صلى الله عليه وسلم، فتجعلها تزل وتنزلق، وتفقد توازنها على الأرض وثباتها، وهو تعبير فائق عما تحمله هذه النظرات من غيظ وشر وحسد ونقمة وضغن"(45) فالنظر بحاسة العين أو عضو العين نظرا ثاقبا مع تضييق الحدقة، وإدامة النظر تجاه الغير، حملت دلالة الحقد والكراهية الشديدة لمن يحدق فيه، وهي التي جسدها لنا هذا الخطاب عن طريق تصويره ورسمه لنوعية هذه الحركة الصادرة من عضو العين، المتعلقة بحال الكفار، الدالة على هذا المعنى النفسي الباطني الذي أضاف كل هذه الشحنة في إيصال المعنى زيادة على التعبير اللساني "يزلقونك"، ولعل قول الشاعر يؤكد لنا حقيقة هذه المعاني النفسية المرتسمة من خلال حركة العين :

العين تعرف من عيني محدثها إن كان من حزبها أو من أعاديها(46) .

دلالة حركة عضو العين على الخيانة ومسارقة النظر :

يقصد بمسارقة النظر، وهو أن ينظر الناظر بطرف عينه إلى الشيء أو شخص خفية مع سرعة النظر، وتكون هيئة العين وحركتها في وضعية النظر بسرعة خفية مع كسر الجفن، وبعدها طأطأة الرأس والنظر إلى الأسفل، وسماها القرآن الكريم خائنة الأعين، وقد وردت مرسومة في خطاب الله تعالى في قوله: "وَأَنْذِرْهُم يَوْمَ الآَزِفَةِ إِذِ القُلُوبُ لَدَى الحَنَاجِرِ كَضِمِينَ مَا لِلْظَلِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ. يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الاَعْيُن وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ"(47)، فالحديث يدور حول الكفار وتذكير النبي صلى الله عليه وسلم لهم بيوم الآزفة، ألا وهو يوم القيامة، لما فيه من هول فمهما حاول الكفار إخفاء حقيقة نفوسهم، فإن الله يعلم ما تكنه صدورهم، ويتضح هذا من خلال حركة عيونهم التي سرقت النظر مما لا يحل النظر إليه، وقد ذكرت هذه الحركة تشبيها لحالهم الذي كانوا عليه، وهو أنهم تجاوزوا ما حرم عليهم في دنياهم. ويتضح هذا المعنى أكثر عند رسم صورة هذه الحركة الفرعية لعضو العين الخائنة، في حديث بن عباس كأن يدخل الرجل بيت أحدهم، وفيه امرأة حسناء تمر بجانبهم، فإذا غفل أهل البيت نظر إليها نظرة سريعة في خيفة وتستر، فإذا تفطنوا إلى ذلك غض بصره، فإذا غفلوا مرة ثانية نظر إليها، وهكذا هي مسارقة النظر وتستره الناتجة عن حركة حاسة العين.(48) وقد جاء في تفسير القرطبي لهذه الآية: "وقال قتادة هي الهمز بعينه، وإغماضه فيما لا يحب الله تعالى، وقال الضحاك هي قول الإنسان ما رأيت وقد رأى، أو رأيت وما رأى، وقال السدي إنها الرمز بالعين، وقال سفيان هي النظرة بعد النظرة".(49)  فحركة عضو العين المتعلقة بالكفار دلت على حالهم في الدنيا، ألا وهو خروجهم عما أمر الله به، ووقوعهم في العصيان الذي أضمروه في نفوسهم، ويمكن القول أن هذا الموقف تضمن تشبيه صورة بصورة، أي تشبيه حال الكفار في عصيانهم وتسترهم يوم الهول، بصورة حركة عضو العين المسارقة للنظر المتمثلة في "خائنة الأعين"، والتي جاءت عوضا عن كثير من التعبيرات اللسانية الممكنة، كان بإمكانها الإدلاء عن هذه المعاني والدلالات المذكورة آنفا.

دلالة حركة عضو العين على الاندهاش والتعجب والندم:

تأخذ العين حركة مضبوطة للدلالة على الاندهاش والتعجب من موقف ما، إذ تكون هيئة العين هنا وطريقة النظر على وضعية ثابتة، وهو أن تثبت نظرة العين في الشيء المتعجب منه لمدة أطول من دون تحريك للجفن وبدون رمش، أي جمود النظر إلى الشيء، وقد ورد في الخطاب القرآني ما يدل على ذلك في قوله تعالى :" وَاقْتَرَبَ الوَعْدُ الحَقُّ فَإِذاَ هِيَ شَخِصَةٌ اَبْصَرُ الذِينَ كَفَرُواْ يَوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذاَ بَلْ كُنَّا ظَلِمِينَ"(50). فالحديث في هذا المقام يدور حول الإخبار عن يوم الفزع والهول الذي هو يوم القيامة، والذي كذب به أهل الكفر والنفاق والجحود بآيات الله، ولكن سرعان ما أدرك هؤلاء أنهم قد ضلوا السبيل، لأن الآيات والأمارات الدالة على ذلك بدأت تظهر، كخروج يأجوج ومأجوج، عندها يقف الكافر مذهولا مما يراه بأم عينه، ويشخص بصره، متعجبا ومندهشا، وفي الوقت نفسه متحسرا على ما فات، وهذه الدلالة النفسية تجلت من خلال حركة حاسة العين المتمثلة في شخوصها، والمرتسمة الصورة من خلال السياق القرآني، ومعنى شخوص العين أو البصر فتح العين، وعدم تحريك الجفن، بل إبقاءه مرتفعا إلى أعلى، وقد جاء في تفسيرات العلماء لهذه الآية: "(فإذا هي شخصة أبصار الذين كفروا) الضمير للقصة والشأن، أي فإذا شأن الكافرين أن أبصارهم شاخصة من هول ذلك اليوم، لا تكاد تطرف من الحيرة وشدة الفزع ".(51) ويمكن القول أن هذه الحركة في مثل هذا المقام، أضافت شحنة من المعاني النفسية وجاءت عوضا عن تعبيرات وأنساق لسانية ممكنة، وأبانت عن حقيقة الموقف الذي فيه هؤلاء، المتمثل في دلالة التعجب والاندهاش من أهوال القيامة، والتحسر على ما فاتهم وإدراكهم للخسران المبين.

دلالة حركة عضو العين على الحشمة والعفة :

تتمثل حركة العين الدالة على الحشمة والعفة في خفض العين، وقصر النظر على شيء واحد، قصد التعفف والاحتشام، وكثيرا ما تصدر هذه الحركة عند النساء العفيفات، اللواتي يقصرن نظرهن على أزواجهن فقط لعفتهن وطهارتهن، فهذه الحركة حملت معنى التعفف والحشمة والطهارة، وهو من المعاني والدلالات النفسية، التي تبينت من خلال رسم الخطاب القرآني لصورة هيئة العين، ونوعية حركتها عند المرأة المؤمنة العفيفة، لقوله تعالى: "وَعِنْدَهُم قَصِرَتُ الطَّرْفُ عِينٌ"(52) إذ الحديث يدور في هذا المقام حول وصف مقام أصحاب الجنة، والحالة التي سيكونون عليها في ذلك اليوم، بحيث أنهم سيعشون في جنت النعيم، يتمتعون بكل ما فيها من مأكل ومشرب وملبس ومتكأ، ولهم أزواج عفيفات طاهرات جميلات واسعات العيون، قصرن النظر إلا على أزواجهن فقط، وذلك مكافأة لهم على إحسانهم في الدنيا، إذ تظهر عفة نسائهم وطهارتها، من خلال الحركة المرتسمة لعيونهم المقتصرة النظر عليهم، وتذكر التفسيرات لمعنى هذه الآية: "أي وعندهم الحور العين العفيفات اللواتي قصرت أعينهن على النظر إلى أزواجهن، فلا ينظرن إلى غيرهم حياء وعفة، قال ابن عباس (قاصرات الطرف)، أي عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن".(53) وبمعنى آخر أن حركة حاسة العين المرتسمة من خلال هذا الخطاب، شحنت السياق القرآني بكل هذه المعاني والدلالات، وجاءت لتعمل كمعزز في إضافة هذه المعاني، ومن الأمثلة الدالة على هذه الصورة من الشعر لحركة عضو العين قول امرئ القيس :

مِنَ القَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَّبَّ مُحْوِلٌ مِنَ الذَّرِ فَوْقَ الإِتْبِ مِنْهاَ لَأَثَّراَ(54)

ومنه يمكن القول أن الحركة الجسمية في الخطاب القرآني تمثل نسبة عالية جدا من الاستعمال مثلما هي مستعملة في الخطاب اليومي، تحتاج قراءته إلى قراءة دلالاتها ومعانيها المتنوعة باعتبارها أحد عناصر التواصل غير اللغوي، فمن خلال قراءتنا لحركة عضو العين وهيئتها باعتبارها عضوا من أعضاء جسم الإنسان الأساسية تبين أنها تساهم في صنع المعنى العام للخطاب، وذلك من خلال رسم القرآن الكريم صورة هذه الحركة المصاحبة لكثير من المواقف شحنتها بمعاني ودلالات نفسية متنوعة كالخوف، والقلق والاضطراب والحشمة والعفة، والاستهزاء والخشوع والكره، والحزن ومسارقة النظر، مع أننا في هذا المقام لن نستوفي دراسة كل الآيات التي وظفت فيها حركة عضو العين كون ذلك يحتاج إلى تأليف خاص، وما كانت دراستنا لهذا العنصر من عناصر التواصل غير اللغوي إلا لكون التواصل الإنساني لا يتحقق فقط بالكلام المنطوق أو الصائت، وإنما بوجود أفعال وحركات وهيئات جسمية هي ما يطلق عليه باللغة الصامتة، كعبوس الوجه وكسر الجفن أو تنكيس الرجل، وطريقة اللباس، والمظهر العام للإنسان التي لم يستغني عنها الخطاب القرآني، ولذلك فإن للسلوك العيني في التخاطب دور مهم وفعال في إيصال المعنى كون السامع ينظر إلى هيئة عين المتكلم، وفي ذات الوقت المتكلم ينظر إلى عين السامع، فهي بذلك تشكل لغة تواصل خاصة، تكشف عن دلالات ومكنونات نفسية ومشاعر وانفعالات ذاتية، وفضلها في الدلالة والتواصل بين وظاهر، والوصول إلى تحقيق دلالات الخطاب القرآني ومقصد يته والخطاب بصفة عامة، تستوجب قراءة دلالات التواصل اللغوي وغير اللغوي معا، انطلاقا من استنطاق عناصر التواصل الصامت، ولأن حركة عضو العين تمثل جزءا هاما من الإشارات الجسمية كحركة اليد، والوجه والرأس والساق والصدر، والأصابع، فلابد من قراءة جل الإشارات غير اللفظية لأي خطاب للوقوف على دلالاته وتحقيق التواصل منه في أكمل صوره.

 

الهوامش

-  القرآن الكريم، ورش عن نافع

1. مفاهيم لسانية دي سوسورية محاضرات في اللسانيات العامة، عبد الجليل مرتاض، دار النشر للغرب والتوزيع،وهران، -الجزائر- ص:33.

2. الخصائص، أبو الفتح عثمان ابن جني، تحقيق عبد الحميد هنداوي،دار الكتب العلمية للنشر،بيروت –لبنان- ط:2،ت:2003، مج1/87

3. اللسانيات النشأة والتطور، أحمد مومن، ديوان المطبوعات الجامعية، الساحة المركزية بن عكنون، –الجزائر – ط:2،ت:2005، ص:148

4. اللغة والخطاب، عمر أوكان، عبد القادر سلامي، أفريقيا الشرق، بيروت،- لبنان- ت:2001، ص:43

5. ينظر اللسانيات النشأة والتطور، أحمد مومن، ص:134-136

6. البيان والتبيين، الجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون- مصر- ط:2، ت:1921،ج1/78،ومفاهيم الجمالية والنقد في أدب الجاحظ، ميشال عاصي، بيروت- لبنان- ط:2،ت:1981،ص:198

7. علم اللغة العام، دي سوسور، ص: 35 نقلا عن مباحث لغوية، عبد الكريم الرديني، دار الهدى للطباعة والنشر والتوزيع، عين مليلة- الجزائر- 2009، ص:86

8. المرجع نفسه، ص:86

9. ينظر فصول في علم اللغة، عبد الكريم الرديني، عالم الكتب، بيروت- لبنان- ط:1، ت:2002، ص:126- 127

10. النحل:10

11. الفتح :29

12. الرحمن :41

13. لسان العرب المحيط، ابن منظور جمال الدين الإفريقي، قدم له الشيخ عبد الله العلايلي وأعاد بناءه على الحرف الأول من الكلمة يوسف الخياط،دار الجيل –بيروت- ت:1988، مادة (ن – ي)، مج6/927 -928

14. دليل الناقد الأدبي، ميجان الرويلي وسعد البازعي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء –المغرب- ط3، ت:2000، ص: 177-178

15. الفروق في اللغة، أبو هلال العسكري، تحقيق لجنة التراث العربي، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط:7، ت:1977، ص:54

16. فقه اللغة وأسرار العربية، أبو منصور الثعالبي، تحقيق مجدي فتح السيد، المكتبة التوفيقية –مصر- ص:137

17. مريم :18

18. آل عمران : 41

19.  لسان العرب المحيط، مادة (خ - ر)، مج2/1223)

20. المرجع نفسه، مادة (أ-ح)، مج 7 /454)

21. المرجع نفسه، مادة (أ-ح)، مج7 /454 – 460 )

22. البقرة :247

23. المنافقون : 4

24. الأعراف:148

25. طه:88

26. ص :34

27. الأنبياء :7 – 8

28. ينظر مجلة العلوم الإنسانية، مجلة دورية محكمة تصدر عن كلية الآداب، جامعة البحرين، العدد 15، ت:2007، ص: 219

29. ينظر النص بين الدلالة والتأويل قراءة في خطاب التراث الأصولي، منقور عبد الجليل، مكتبة الرشاد للطباعة والنشر والتوزيع، سيدي بلعباس- الجزائر-، ط:1 ت:2004 ص:15

30. المصطلحات المفاتيح لتحليل الخطاب، دومنيك مانغونو، ترجمة محمد يحياتن، منشورات الاختلاف- الجزائر- ط:1، ت:2008،ص:38

31. النص بين الدلالة والتأويل، منقور عبد الجليل، ص :33

32. ينظر المرجع نفسه، ص:52

33. نوح :7

34. الشورى :45

35. القيامة :33

36. عبس :34

37. الكهف :42

38. فقه اللغة وأسرار العربية، أبو منصور الثعالبي، ص:137

39. الأحزاب : 19

40. الجامع لأحكام القرآن،القرطبي، مج 14/153، وينظر البيان بلا لسان دراسة في لغة الجسد،مهدي أسعد عرار، دار الكتب العلمية-لبنان-ط:1،ت:2007 ص :174

41. أدب الكلام وأثره في بناء العلاقات الإنسانية في ضوء القرآن الكريم، عودة عبد عودة الله، دار النفائس للنشر، الأردن ط1،ت: 2005، ص : 115

42. هود :31

43. ينظر روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، محمود الألوسي البغدادي، دار الفكر للطباعة والنشر، (د . ط)، (د . ت)، مج6/ج12/43 – 44، ومباحثات لسانية في ظواهر قرآنية، أسعد عرار،دار الكتب العلمية،-لبنان-ط:1، ت:2008، ص:178)

44. القلم :51

45. في ظلال القرآن، سيد قطب،دار الشروق –بيروت- ط:10،ت:1982، مج6/ج29/3671

46. الإشارات الجسمية دراسة لغوية لظاهرة استعمال أعضاء الجسم في التواصل، زكي حسام الدين،دار غريب للنشر والطباعة والتوزيع –القاهرة- ط:2،ت: 2001، ص :176)

47. غافر :19

48. ينظر مباحث لغوية، عبد الكريم الرديني، ص:6

49. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مج15/ج15/303

50. الأنبياء :97

51. صفوة التفاسير،الصابوني، مج 2/275، وينظر مباحث لغوية، عبد الكريم الرديني، ص:43

52. الصافات :48

53. صفوة التفاسير، الصابوني، مج3/33

54. ينظر مباحث لغوية، عبد الكريم الرديبني، ص:7