تمتدُّ البلاد البعيدة
تحت باب البشر،
وأنا أبقى مستيقظاً
غيرَ منفصلٍ عن الأحاسيس
وغيرَ منفصلٍ عن الضَّياع ،
الظلمةُ تحت قميصى، وأنا أمشى تحت خيمة الزحام، أبحث عن نقطة الحلم: كان "التيشيرت" مناسباً لجسدى وفضفاضاً بالشكل الذى أحبُّه، وعلى صدره رسموا غصناً شجرياً يقف عليه طائرٌ محلق، وكنت أنطلق فى الميدان شاعراً بالحرية، وبالرغبة فى العَدْو، ولكن اعذرونى: عقولُنا تهذى، وأقدامُنا تهذى.
كنا نتعمَّدُ أن نتلاصقَ، وكأن هناك حوارٌ بين الجسدين، وكان جسدُها يُذَكِّرُنى بجذعِ الشّجرة، وأحسُّ بأننى مسجونٌ فى الإيحاء، أمتلئُ بالتراجيديا، وباللحظات الحزينة التى تطيرُ بى حتى آخر الشارع.
نحن نرمى أجزاء منا ـ لا مؤاخذة ـ فى سَلَّةِ المهملات، والإحساسُ على حافّةِ اللّونِ الطازَج، نريدُ لُقْمَةَ الحقِّ، ونحن جالسـون، وعلى أكتافِنا تَتَدلّى الأغصان:
اصعدْ أيها الزئبق
لتصلَ حتى المستوى الأعلى
لكى نعلِنَ الوصف
ارتفعْ أيها الزئبقُ إلى المستقبل
اصعدْ ، وارفع الهيكلَ العظمىَّ معك .
نريدُ أن نصلَ إلى الحدِّ الذى لا يُوصَف
نريدُ الفَرَحَ ، ونريدُ أن نعرفَ الأشياء
وأن نتجاوزَ الغَضَبَ والانتظار .
لازلنا تحت الشجرةِ العجوز ، نحسُّ بالشَّغَفِ بالأنثى، أونقفُ قُبالةَ المرآة، ساعين للانتصارِ على الهواجس، بينما يُوغِلُ الكلامُ ويتشعَّبُ، هل نسقط فى أغنية، أم نقِيمُ من الطين حائطاً تحت الأجنحة التى تشطُرُ السماء .
الفتاةُ الجميلة
قادمةٌ من الطريقِ المقابل
وأنا قررتُ أن أبتسم لها ،
ولكنى لم أتمكن ،
كان وجهُها
على الرغمِ من جمالِهِ
صارماً ،
ويبدو أن المرأةَ
هى التى تُعطى
الإشارةَ خضراء .
لقد بَقِيتُ فى التوهُّجِ نفسِهِ ، بقيت عند الأنثى ، و الموتُ العتيقُ فى المسافات ، وفى الخلف تصعدُ الحديقة ، بأزهارِها المطموسة ، وكلُّ كِيانٍ يَتَفَجَّرُ فى تفاصيلِهِ الصغيرة .
كلما مَسَسْنا الحقيقةَ يصعد الندم، والساحاتُ الواسعة ابتعدت، ولكن المرأةَ تأتى ملساءَ القدمين، مهضومةَ الخَصْرِ، فخمةَ الفَخِذين، ناهدةَ الثديين، تأتى المرأةُ حمراءَ الخدين، المرأةُ دائماً تأتى صريحةً بسيطة ، تضعُ يَدَها على المسألةِ برمَّتِها ، والبريقُ خامد فى حناجرنا.
لِسَّه.. لم يحدثْ بعد أن عَبرنا فى الممراتِ الخضراءِ البهيجة، أو مررنا بأصابعنا النحيلةِ على الحنان، وهناك دمٌ مهدر، والعَدَمُ يناورنا، وأنا أمشى أهتز فى الشارع، أتلفَّتُ فى كل الاتجاهات : أصدق كلَّ ما يُقال، ولا أصدقُه .
المعنى الإنسانى العميقُ للجنس يحاصرُ الحساسيات، والإنسانُ محتاجٌ، يدورُ فى العَوَز، والطرقاتُ تمتدُّ على الخرائطِ، والكَفُّ الصغيرةُ لازالت تلوّح، والأبوابُ الخائفةُ تفاجؤنا، وعلى مقعدِ المترو المواجه لمقعدى كانت امرأةٌ تبكى بحرقة، بدونِ شهيق، كانت شديدةَ الأناقة، والدموعُ تتساقطُ حتى شوّهَت ماكياجها، فتحتْ حقيبَتها، وأخرجت المنديل، وأخذت تمسح أسفل عينيها، وعلى امتداد الخدين البضين، لكن الدموعَ لا تريدُ أن تتوقّف.
تحت العماراتِ الكالحةِ طارت عيناى فى الأفق، وفى المقلتين مكانٌ مناسب للاشتعال، وكلُّ شىءٍ يمكن أن يثير الجدل، وعلى الرغم من العمائرِ المسترخيةِ، فالداخلُ ديمومةٌ لا تتوقف، ومن الممكن أن تتأكدوا: انظروا إلى البلكونةِ المقابلة على سبيل المثال، فتاةٌ تنشر الغسيل، وصدرُها شبه عار، وهى تمثل دَوْرَ أنها غافلة، ويمكن أيضاً أن تنظروا إلى الناحية الأخرى: الكتبُ الضّخمةُ خلف زجاج النافذة، ورغم لوحات الجوعِ فوق سـرير الحصى، ورغم النارِ المعتمةِ فى شفاهنا، فالأسئلة تظل داخل القوس، وفى الخروج الإجابةُ كلها.
الإلهامُ عادةً يأتى فجأة .
من فضلكم صالحوا الجسد
لإنه يصاحبكم طوال العمر،
ضعوه فى البريق المتقد،
وتأملوا الصباح
فى المرايا ،
وضعوا الزخارف الملونة
فوق رأس الجندى الورقى
حتى تتراجع المعانى المعنوية ،
ونحس روح المدينة
خلف أضواء الأبواب .
لقد سمعت نداء الانتظار الطويل ، ورأيت الجسد الذى يتلوى فى الفراغ ، فوقفت على الباب أمشط شعرى بأصابعى، متذكراً كيف أن الحروب نفسها كان الجنس من وراءها وكان الجسد يشعلها : هيلينا وكليوباترا، وعشتار وأفروديت.
على كوبرى قصر النيل كانت المرأة تحمل رضيعتها من زوجها الذى لا تحبه ، فجأة ألقت بها فى الماء عامدة ، ثم أخذت تصرخ صراخاً رهيباً أوقف المرور ، وجعل السيارات تتوقف.
أما الأجساد المصابة باللوكيميـا، فهى تظل تنادى الوجود، والوجود لايسمع، أين الحياة إذن؟ لا أحد يستطيعُ أن يحدّدَ الاتجاه، لا أحد يستطيع أن يصاحبَ الروحَ الصافيةَ الشفافه ورغم هذا، تندفع الهرمونات فى النظرة واللمسة والرائحة واحمرار الخدين، ورغم هذا تستضيفنا الحروف، ويبقى الإنسان يتمطى على عرش الحجر.
يرن الهاتف ، والإنسان مشغول لايرد ، يرن الهاتف والإنسان مشغول ، ولايجد وقتاً لكى يجيب ، الإنسان مشغول ، ولكنه لا يعرف فى أى شىء ينشغل ، يلف حول نفسـه ، ويروح هنا وهناك ، لأنه مشغول ، والهاتف لا يتوقف عن الرنين .