تكتب هذه الرواية المهمة، وهي أول رواية ليبية تعري حقيقة زمن الأخ القائد، النقلة من ألق الوجود البدوي البدئي إلى جحيم الاستبداد المكبل للوعي المنفتح على العالم، ثم إلى غرب جديد لم يكتب من قبل في الرواية العربية. وتطرح الرواية، منذ عنوانها الأسئلة: أسئلة الهوية وأسئلة الوجود تحت إهاب أسئلة الواقع العربي الفظ في ليبيا الاستبداد.

لماذا أنتَ هنا؟! (رواية)

فرج العَشّة

 

                 هذه الرواية ليست سيرة شخصية. وشخصياتها ليست حقيقية.

 

كتاب البراءة

1

انغلقت بوابة معسكر اللجوء، في ضواحي امستردام، خلفك، في نهايات القرن العشرين. زفرت غصص حياة مكلومة منذ ألف خرافة وخرافة، وأخذت نفسا عميقا، مسحوبا من رصيد ما تبقى من احتياط البراءة البَرِّيَّة ـ ما قبل الختان.

ما الذى تفعله ههنا؟!

أي مصير رمى بك؟!

أي هروب أطلقك؟!

من أين؟!

إلى أين؟!

إلى متى؟!

كنتَ راضيا مرضيا هناك في مضارب لهوك الطفولي البرّيّ. في مرقدكَ، في ركن "بيت الشَعر"[1] حذاء زريبة الجديان الوليدة خلف رأسك تماما وأنفاسها الناعمة تشتّف اذنيك وتعبِّق شهيقك وأنت سابح في سابع حلمك الشفيف كبياض حلم رضيع بعدما تكون قد تدثرت وتزمّلت بخرافات الجدة الوثيرة عن كان ياما كان هاذاك السلطان وما من سلطان غير الله.

كان الله في خرافات الجدة خالق كائنات متحولة في كينونة العناصر.

الغولة التي  كانت في الأصل شجرة تين اقتُلعت وهى لاتزال ثماّرة والثعبان الذى كان في الأصل أميراً والشجرة التي  تثمر كل لون من الفاكهة وجزيرة نساء بلا رجال يُلقَّحن من الريح ويلدن نساء مثلهن. وفوق كل ذلك تهيمن الحكاية الكبرى لسيرة بني هلال ـ إلياذة البدو/ نشيد رعاة طفولة التاريخ.

كان يا ما كان في حوزتك كونا من براءات خام مقذوفا في خلاء خيال بلا حدود في حيز "بيت الشَعر" المغزول من شعر الماعز أو  وبر الابل، المنسوج سداة سداة ولحمة لحمة على منوال مسْدة منصوبة في الهواء الطلق في باحة مضارب نجع "عيت[2] حسين" في سفوح "الحَنيّة" التي تنبسط على جانبي "وادي الكوف" حتى تنغرس أطرافه الخضراء في رمال شواطئ البحر. . . .

تنصت إلى غناء النسّاجات الجذلات مستغرقات في التنسيج أوان ضُحى الربيع المشرقة:

حال غايتك يا ذيب الكلب راح والراعي رقد

(يقول المعنى: غايتك أيها الذئب أن الراعي نام، والكلب اختفى)

هو "بيت الربيع" الخيمة ـ الكون في مارس والقمح كارس. خِيط من بقايا الالبسة المستعملة بخطوطها ورسومها والوانها المتضاربة فوق خيش أكياس الحبوب أو  قماشة أكياس دقيق المساعدات البريطانية والامريكية بُعيد نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث كان بوسعك ان تلمح بين رقع الخيمة رسما أو  أكثر ليدين متصافحتين على خلفية علم امريكي وقد كتب تحتهما باللغة العربية:"هدية من الشعب الامريكي إلى الشعب الليبيي"، الذي كان عن بكرة أبيه وأمه أميا تقريبا. خليّك من عدم معرفته أين تقع امريكا هذه؟! لكن شركات النفط الأمريكية والبريطانية كانت تعرف حق المعرفة في أي باطن يقع كنز الذهب الاسود ـ السائل اللزج كمني؟!

{ستلمح بعد عقود، في فيلم وثائقي، شكل الرقعة نفسها برسم العلم الامريكي واليدين المتصافحتين، تغطي مؤخرة عجوز فلسطيني حاك من قماشة أكياس المساعدات سروالا ريفيا، وهو يخوّض في وحل مخيم اللاجئين المطرودين من بيوتهم وأراضيهم مكنوسين خارجها كقمامة بشرية لأن آخرين استولوا عليها بحجة ملكيتهم لها بطابو إلهي. }[3]

واذ اندحر "المِحْوَر" جاء "الحلفاء" بملك عجوز ومساعدات ومعاهدات . . . . .

في الربيع في السماء الصافية بدر بهي منبلج في فضته الساطعة يتسلل ضوؤه خلل فجوات الرواق المرخي وعواء ذئب جبلي يطغى على ما عداه من عواءات تجاوبه وكأنها رجع مشظى لأغنيته الوحشية المبثوثة هناك في دغل شجيرات "البطوم" و"الشماري" و"الجداري". . . . .

عواء متأبد ناء في دغل روحك المتهتكة في شمال غرب العقل الصارم يخربش قلبك نابشا طراوات لذة برّيّة غابرة في طزاجة دهشة الاكتشافات الاولى لعناصر الكون لحظة انبجاس الحلزون البري حاملاً خيمته على ظهره. هناك. خلل مسارب أعشاب ربيع الجبل الأخضر البليلة. الجبل الحصين حاضن اسطورة "سي عمر المختار"وبندقيته المحشوَّة بآيات الجهاد ولحيته الكثة البيضاء حيث يعشّش نجعا فاضلا فيما فرسه البيضاء التي كبت به أسيرا في قبضة الفاشيست تصهل جريحة في فجر بعيد.

واذ تسأل جدتك:

ـصحيح جدي حارب معه؟!

ـصحيح يا وليدي

وأنت لا تعرف جدتك الا تلك الصدوق حتى وهى تسرد أخرف خرافاتها عن الغولة التي  ترضع من ضروعها التي لا تحصى جراء الضباع وصيد الليل ورضّع الجان اليتامى. .

ـ كان معه في الجبل؟!

ـ كلام هو. . وكانو يتغالبو في "السِيزة".[4]

وتعصر ما تبقى في ذهنك الطري من تعقّل بقى بمنجى من طغيان خرافاتها: أيكون بنصفه السفلي المشلول طريح فراش الخيش المحشو بالتبن حارب مع "سي عمر" حقاً؟!

إنك تستنشق من ملجأك الغربي رائحة تبن فراشه وعبق جسده المدهون بزيت الزيتون والمبخَّر بالجاوي والفاسوخ، اذ تؤخذ اليه في خيمته تُلقي بك الجدة بين يديه على صدره لينططك طائرا محلقا في خيالك.

كم تراك تفتقد حضن ذاك الجد معطوب الجسد خارق الروح كثير اللعنات الصاخبة، المبطنة بالبذاءات البدوية الحادة. .

إنك تسمعه وهو يصب جام غضبه على عجزه متوسلا سببا ما لغضبه، غالبا لا سبب. . .

إليك وهو يصيح بصوته الجبلي المدوي مناديا امرأته:

ـذهب . يا ذهب، الله يعطيك ما يأخذك. ذهب. . .

فتفز الجدة باترة خرّافتها، لاعنة بين أسنانها بطريقتها الساخرة الودودة عجوزها المزعج:

ـ ناض باتر الملذات

وتظل مع رهط من صغار أعمامك وعماتك متروكين في ظل ضوء فتيلة الزيت، عالقين في تلافيف مخيال الخرّافة المبتورة التي  حتى وإن خرّفتها الجدة مكرورة لعشرات الليالي تظل مبتورة في انتظار أوبة الراوي في ظل ضوء فتيلة الزيت.

تنتظر أوبتها والحكاية، وبك شيء من الامتعاض من ذلك العجوز الطريح.

لكنك لا تزال تحس بكل كيانك سحر حنوه الطاغي الذى كان يغمرك به وهو يرقِّصك بين يديه على صدره، مُستسلماً لحركة اليدين القوتين السريعتين في الجسد المعطوب، مأخوذاً بتلك الابتسامة الآسرة تشرق بين شفتين فاترتين وسط لحية بيضاء كثة، مشذبة بعناية ومُمشَّطة على الدوام. . .

هكذا، ودائما، تتخيله طريح فراش تبن يتجدد كل حصاد. . .

منذ البدء وإلى الأبد. . .

وهو وقد مات كوجود بشري ودفن منذ زمن بعيد، باق في ذاكرتك ذاك الطريح الحي الابدي بيديه القويتين الراقصتين ولحيته البيضاء تؤأم لحية "سي عمر" التي يعشعش فيها نجعا فاضلا لرعاة الخلاء والعزلة الوثيرة، فيما "غناوة علم" تصدح في تجاويف وادي الكوف:

رباني ونا قزَون اليأس بوي ونا اجنينه

(يقول المعنى: رباني اليأس منذ كنتُ يتيما. . . . إنه ابي وأنا ضِّنْوه)

وهو جدك المشلول طريح فراش القش كأنه قد حارب مع "سي عمر" من فراشه ‍في فراشه. وُلد وتزوج وأنجب أبيك واعمامك وعماتك في فراشه. جاء الطليان ودُحِر الطليان، جاء الانجليز بالتحرير والملك. عاش الملك مات الملك، عاش العقيد؛ وهو هو في فراشه مطروح كوجود لا يريد ان ينقضي. تقلبه الجدة على بطنه ليريّح ظهره تدهنه بزيت الزيتون الدافئ وتكثر منه على مؤخرته. تأتي اليه بطعامه مما يطبخون من كتاب طبخ البداوة: اللبن الرائب وخبزة التنور والأرز باللبن والعصيدة والمقطِّع والزميتة والذوبة، واللحم الممروق والعصبان إذ ما كان هناك من ذبيحة.

كانت تطعمه وتسقيه بطيبة خاطر رفيقة بدوية سليلة عرق الجود والمروءة والمودة في أزمنة النجع الفاضل. ولأنه من سلالة أخر المعاندين الذين بقوا مع "سيدي عمر" حتى قبيل القبض عليه بشهور، عندما كبتْ به فرسه "بنت الريح" في أحد المعارك، فسقط على أرض صخرية، ليجد نفسه مشلولا عاجزا عن خدمه نفسه في أخص خصوصياته البيولوجية.

كان يرفض ان تخدمه أية يد أخرى غير امرأته، أكانت بناته أو  زوجات أبناءه. وكانت الجدة تشرف على قضاء حاجته في قصعة خشب قديمة، صيّرتها قصرية. تُحمِّمه على فترات متباعدة في "طشت" حديدي على كره منه:

ـ " ايش نفع النظافة. . ". . يقول لاعنا فرسه "بنت الريح".

وفي ليالي رمضان تنزل الجدة عند رغبته، فتؤدي الصلوات نيابة عنه بينما يتلو هو ما تيسر من سور قران يحفظها. ليلة القدر يبكي تقرّبا إلى الجبار الرؤوف راجيا تعجيل خاتمته وآخذه اليه من ضجر حياة ملول.

 

2

حين باغت الطلق أمك كانت تُعِد شاهي العصرية في خيمة الجد في انتظار الجدة التي  تكون في مثل هذا الوقت تحتطب في دغل بالجوار.

كظمتْ أمك أوجاع رفسك العَجول في رحمها وترجتكَ بين اسنانها :

ـ اصبر. . اِصبر!

كانت تخشى أن تفضحها إن تماديت في رفسك فتجبرها على الاستغاثة. . .

ألا تعي أنه من الكبائر في أعراف البدو استغاثة حبلى برجل ليس زوجها؟!

هكذا أنت ستظل دوما عجولا ترفس الخيارات قبل نضوجها. . .

فزّت الوالدة متذرعة استعجال الجدة :

ـ ءزعما كَنْها طَوْلَتْ؟! (المعنى: يا ترى لماذا تأخرت؟!)

فيرد الجد مبتسما:

ـ هوني عليك . . . كل أجل بأجله

كان حادسا بفراسة حكيم بدوي، عركته صروف الدهر، بشارة قدومك الوشيك من تململ أمك في مجلسها محاولةً التستر على اوجاع وضعك، علّ الجدة تعود سريعا. . . .

لكنها ما عادت تقوى .

ـ نمشى لها خير (المعنى: من الأفضل أن أذهب إليها)

قالت مُشيّحة بنظرها عن نظره الفضّاح

ـ كان الله في عونك

في طريقها إلى الغابة مرت بخُص المواعين[5] بجوار مدخل خيمتها والتقطت سكيناً. كان مثلوماً صدئاً، وانعطفت في الدرب المؤدى إلى محطب الجدة المعهود. توّغلت في الدرب متحاملة على اوجاعها، حاضنة بطنها بكَ وأنتَ ترفس، كعادتك، في ما بعد، في رحم العالم.

قالت لك سلمى بعد نحو ثلاثة عقود من بروز رأسك اللعين، فيما كنت تدسه بين نهديها طلبا للذة والدفّ كجرو مقرور :

ـ أكيد أمك ولدتك في الخلاء وفي الشتاء كيف ما تولد الحملان والعجول

ولم تكن بعد قد رويت لها حكاية مولدك.

 ضحكتَ من قلبك مندهشا لاستبصارها:

ـ كيف عرفتي

ـ لأنك تبحث عن الدفّ قبل اللذة

رويت لها الحكاية. لم تكن لترفق بها حتى تصل مقصدها. وما عاد لها بك قَبِل وأنتَ تستعجل خروجكَ حتى كدت أن تصرخ فيها باسمها: هنا والان. توارت في دغل ترعى في عشبه الخصب بقرة الجدة الكحلة وعجلتها الحميّرة، داستين رأسيهما في فسحة عشب كثيف داخل أكمة شجيرات بطوم، يلوكان أوائل اخضرار الربيع.

جلستْ تحت شجرة شمّاري عتيقة زفرت وشهقت نافحة انفاسها المتهدجة. ثم نهضت متثاقلة وفكت حزام ردائها، المطوي طيتين حول خصرها. ربطت أحد طرفيه بفرع متين في شجرة الشماري، وجلست ممسكة بالطرف الآخر الذى تدلى ملامسا الأرض باستفاضة. استلقت مسترخية على ظهرها، لافّة طرف الحزام حول معصم يدها ليكون عونا لها، يعلو به جذعها وينخفض تسهيلا وتسريعا للفظك إلى الوجود. كانت قد خلعت سروالها البدوي الفضفاض ووضعته وسادة لرأسها. ثم ضمت فخذيها إلى بطنها، وتهيئت لانبثاقك اللئيم. أخذت أنفاسها تتلاحق وهى قابضة بقوة على طرف الحزام. . ترفع ظهرها وترخيه قليلا ثم تعود ترفعه، محاولة الدفع بالثقل القلِق وسط أحشائها، مفلِّتة صرخات عالية، إذ ما عادت تقدر على كتمها، فيما غناء الرعاة يتصاعد عن بعد، على خلفية الثغاء والخوار والنباح.

تسّاقط وريقات من شجرة الفراولة البرّية وثمراتها الناضجة، بفعل اهتزاز فرعها، حواليها وعلى وجهها وعلى صدرها. . وبين فخذيها.

{لذا ما انفككت تلتذ بعمق كلما شممت رائحة الفراولة!}

كانت الشمس تتأهب للغروب وغرّة قمر هلّت ناصعة في زرقة سماء ربيعي. وفي البعيد عواء ذئاب يجاوبه نباح كلاب الرعاة، تقاطعه "غناوة علم" لراعي سارح وراء شياهه، يتردد صداها في غور الوادي:

شكيت للصّنَبْ م الياس قعد يموج حالي واجعه

{يقول المعنى: شكوت للحجر الصَّوان من الياس. . . فأخذ يتوجع لحالي.}

وحضر " الأشعل ـ لحمرة عينيه " كلب بعلها، الذى ستدعوه، فيما بعد، أبي. أقصد زوجها وليس الكلب بطبيعة الحال. طفق "الأشعل" يتشمم أصابع قدميها ثم أقعى قبالتها باسطا قائمتيه الأماميتين أمامه، مداخلا رأسه بينهما وأذناه مسدلتين، مراقبا الوضع بدهشة كلب يؤدي واجبه الإيثاري الخارق في حراسة وحشة البشر.

علا تدافع الانفاس المتلاحقة في صراخ مديد. لعنتك اذ لعنت زوجها الغائب في سوق القرية الأسبوع، كى يشتري بثمن بيع تيس وعنزة ولود سكرا وشاياً وزيتا وتبغا لجدك، وبخورا ومحرمة موعودة بهما أمك .

لعنتْ النطفة التي  بها حبلتْ كأنها حبلى به لا بك. نادت على أمها الميتة: "يا يام نا دخيلتك"[6]. تضرعت لربها ورسوله:" يا الله . يا رسول الله . يا محمد يا حبيب الله . الصلاة والسلام عليك يا حبيب . . . يا خلاّص الواحلين.". . طلبت عون وليها الصالح الاثير: "يا سي رويفع يا انصاري". وانجذبت في نوبة دعاء إلى الوهّاب الكريم:" يا الله يا وهاب يا كريم يا وهاب يا وهاب يا وهاب"، مُطيِّرة بريد دعائها عاليا إلى العنوان الازلي.

نبح "الأشعل" في غرة القمر وانطلق راكضا في نباحه إلى محطب الجدة. .

. . . وبان رأسك مخترقاً كبسولة المشيمة. ملطخاً بزلالها. منزلقاً إلى الوجود بسلاسة على العشب الناعم، مخضَّبا بالدم والزلال والمخاط .

{ستروي أمك، مرات ومرات، كلما عنّ لها رواية حكاية مولدك المعتادة الحدوث في عالم البدو. لكن غير المعتادة، وهنا إثارتها، حسب أمك، أن الكحيلة والحميرة دنتا منها، فأخذت الكحيلة تلعق وجهها العرقان والحميرة تلحس الزلال عن لحمك الوليد!!}

كان "الأشعل" قد عاد بالنجدة عندما ظهر في المشهد وهو يخب تتبعه الجدة راكضة بقوة بدوية خمسينية. أمتلئت روح الوالدة بنشوة الإفراغ ـ سلام ما بعد الخلق، لحظة انزلاقك خارجا. وتنفست صعداء انقضاء الألم ومسرة التحرر من احتلالك لجوفها. انحنت عليك ـ مولودها الذى جاد به "الوهّاب". قطعت الحبل السري بالسكين المثلم الصديء، وربطته بمزقة من حزامها. ثم أخذتك ـ وليدها إلى صدرها. وكم سُرّتْ إذ سرى في اطرافها خدر الخلاص الجذاب مشبوباً بسطوة النوم الآخاذ، وهى تضمك بكل الحنو إلى حضنها كأنها تستعيدك مرة ثانية لتحبل بك هذه المرة في قلبها إلى الابد. . وقد وصلت الجدة يسبقها الأشعل.

 

3

ما الذى يحدث؟!

ما هذه الجلبة؟!. . . .

النجع يضج هرجا ومرجا. يكتظ على غير عادته بوجوه وافدة من النجوع المجاورة .

صخب أطفال وصبية يلعبون في جنبات النجع. خيل مسرَّجة. ثلة فرسان ينتشرون في أرض بطاح، ينقونها من الحجارة الناتئة كي تكون مهادا ملائما لسباق الخيل المرتقب. وبعض الرجال قائمين على سلخ بضعة خراف وتعليقها إلى فروع أشجار، على مقربة من مواقد الطبخ، حيث تكوّم حطب النار، المجلوب من الأنحاء. . المجاورة.

من ممرات ودروب عدة تفضي إلى النجع جاءت نسوة ملحقات بصغارهن، يرفلن في أزياء المناسبات السعيدة، حاملات فوق رؤوسهن رقع الجلد، المطوية على مونة من طحين أو  سميد أو  قديد، على جارى عرف تقديم الهدية ـ المعونة في الافراح والاتراح .

اليوم الفرح عميم !

إذن هو عرس أو  أسبوع مولود ؟ أم تراه ماذا ؟!

أتراك كنت في الرابعة ؟ أقل بقليل أو  أكثر بقليل ؟! لكن ذاكرتك لا تزال طازجة بذلك المشهد دون أي مشهد آخر في حياتك الماضية. . . ها هي أمك تُلبسك جلبابا أبيض جديدا وتعقد حول رقبتك عقد المحلب المعطر وتغمرك بعاطفة جيَّاشة فوق العادة.

هناك أمر يُدبر. لابد أن له علاقة بكَ. ذلك أن الكل سعيد بكَ، لكنك تستشعر خطرا قادما. سبق لكَ ورأيتَ غيركَ يُلبس جلباب أبيض ويُقلَّد عنقه بعقد المحلب المعطر. أنتَ تدرك في قرارة نفسك الغضة ماذا يعني أن تُلبس جلباب أبيض وحول عنقكَ عقد محلب. لكنكَ كأنكَ إذ تنكر الشئ فلا يكون. كانت هواجسك تتوسل ببراءة عدم المعرفة. وتحاول أن تلهو بفكرة أن كل هذا الحفل إنما هو من أجلكَ كيلا يطالك سوء.

إذن أنتَ عريس هذا العرس ونجم هذا الحفل!

ها هى خالتك "نجمة" الحنون بطبعها تبالغ في حنوها عليك. تأخذك إلى حجرها، وتلف حولك كلتا يديها كأنك هبة هبطت للتو من السماء. تكثر من ملاطفاتها المرحة وهي تمسح شعرك، وتسرحه باصابعها التي  تدب خلل خصله في رقة بالغة حتى تنعس، فيما تروى دعابات جنسية فاقعة وسط ضحكات حلقة النسوة، غامزة من قناة قضيبك المكرَّم، مداعبة قلفتك بين اصابعها. وأنت تستسلم للذة النعاس الخدر :

ـ "أنت رجلنا اليوم"

قالتْ خالتك نجمة، وهي تداعب بنعومة جلدة قلفتكَ، وكأنها أيقظت فيك حقيقة الخطر الداهم. فتفر كالملدغ من حجرها إلى حجر جدتك، مندسا في حضنها، وسط قهقهات النسوة. تهمس لها أن تأخذك إلى جدك، طلباً للأمان بين ذراعيه القوتين.

فى الطريق إلى خيمته كان وقع الخطر المهجوس يصاعد على ايقاع تهيج غناء النسوة ورقصهن وجواب غناء الرجال في خيمة الضيوف الضخمة اذ تنعقد لغة غزل جنسي سرية تتطوَّى في تورية الحوار الغنائي بين الخيمتين متوسلة الاحتفاء بانبجاس غرة العضو المبجَّل.

تتعلق أكثر بعنق الجدة في الطريق إلى مرقد الجد القعيد. تستنشق رائحة الحناء في شعرها، فيما تجتاح مخيلتك صور كابوسية مشوَّشة لمذبحة تنصيبك ابي زيد هلالي مستجد. مذبحة سبق ان شاهدت وقائعها في يوم كهذا اليوم. . الفارق انك لم تكن ضحيتها. كان ذلك يوم صاحبك "العيساوي"، الذي ألبسوه، يومها، الثوب الأبيض نفسه وعقد المحلب نفسه. .

تحطَّك الجدة على صدر الجد. وكما هو الحال دوما يغمرك سلاما وثيرا. قبلك في وجنتيك وجبهتك، وهو يقول:

ـ بارك الله كل طاهر

وضع حول عنقك سبحته الاثيرة متخليا عنها لأول مرة منذ أهداها له "سي عمر". تشبثت بالبقاء على صدره إلى الأبد لو أن الأمر بيدك. صدره الذى يخيّله لك كما تهوى دوما صهوة جواد، هازا جسدك النحيل فوقه، لتلهد في خيالك أيها الفارس الأغْلَف، ممسكا بلحيته البيضاء الكثة سبيبا لجوادك الخرافي، جائلا به في مطارح خرافات عالم الجدة المسحور. لكنك لأول مرة لا تجد ما يغري في اللعبة، فبالك محتَل بما جرى لصاحبك العيساوي، عندما أخذوه من بينكم في غارة خاطفة أثناء إنكبابكم على نصب الفخاخ الطفولية لطيور الحجل الغبية. حمله أبوه، مرتديا ثوباً كثوبك، إلى خيمة الرجال، وهو يرفس بقدميه في حضن أبيه، متشبثا بعناقه، باكياً في رجاء ذليل: "موش اليوم يا باتي".

وعندما وضعوه بالقوة على قصعة الخشب المقلوبة امام الطهاّر ممسكين بيديه وقدميه أخذت أنت وأترابك تراقبون تفاصيل المذبحة من فتحات رواق الخيمة مقهقهين وأنتم تقلدون استغاثته: "موش اليوم يا باتي موش اليوم.". . . وها هو اليوم يتحرش بكَ مع الصبية المختونين، إذ يُظهر لكَ قضيبه مقهقها:

ـ ورينا متاعك. فتبعه الآخرين.

إذن اليوم يومك!

يوم قلفة عضوك الصغير!

 قربان إله الفحولة لانبلاج رأس الذكورة، المحجوب بزائدة جلدية رخوة تُظهر العضو المبجل عند الارتخاء متهدلا منكمشا كخانع ذليل. .

ان ذهنك الشيطاني ليدبر فرارا ما!

ولكن إلى أين؟! إلى أمك؟!

أليست شريكة معهم؟!

فانت لا تراها إلا لاهية عنك، تتحرك بين الخيام وهي منهمكة في الإشراف على تصاريف شؤون الحفل.

إلى أبيك؟!

وهل يلاذ به في يوم كهذا اليوم؟!

لابد من الفرار وقد أقبل الطهاّر.

رأيته ممتطيا بغلته البنية السمينة يقترب من ساح النجع.

انفض من حولك صحبك متقافزين حول بغلته كرهط من الجديان.

ما الذى منعك من التقافز بمعيتهم مثلما فعلت في زياراته السابقة؟!

ألأنك أيقنت انك الهدف المرصود، وعلى الهدف ألا يتحرك؟!

ها هو يترجل من على بغلته ويتجه إلى خيمة الرجال. يبان نابه الذهبي وهو يلمع في مبسمه إذ يبتسم، مُحرجاً مقصه الفضي من جرابه الجلدي بخفة سحرية، ليشهره في وجوه الصبية المتحلقين حوله، مهددا، في مزاح ترهيبي، أعضاءهم الذكورية، فيتفرقون مذعورين في ضحك من مزحته " الدموية" على ايقاع طقطقة مقصه الرشيقة في الهواء، مطاردا بعضهم هنا وهناك.

ثم يتوقف عند اللحظة المنتظرة كما هى عادته كلما جاء، إذ يخرج من جرابه حلوى ينثرها حول محيطه ليتقافز عندها الذكور الشيطانية الصغيرة، متدافعين متصارعين على الغنيمة المنثورة في صخب جذل.

أين كنتَ لحظتها؟!

كنتَ خارج دائرة الجذل!

لم تكن معنيا بالمزاح ولا بالحلوى!

واقف وحدك بعيد تراقب المشهد من موقعك منه كضحية يُعد لها في فرح!

لابد من الفرار إذن!

اختفيت.!

جرى البحث عنك خيمة خيمة. خلف السُدَدٌ[7]. في زرائب الجديان الرضيعة. في المراحات[8]. في حقفة التبن[9] .

كانت حرائق الغروب تنمحى بمسحة ليل يرتسم لمسة لمسة، مُخمدا شيئا فشيئا أضواء عشية صيف رائقة، حين صعدت سلم الحبال المعلق على شجرة التين العجوز العملاقة الآمنة، وسحبت السلم معك لائذا بفروعها الضخمة المتقاطعة وأوراقها العريضة المنبسطة كآلاف الأكف المتصافحة. طارت حفنات من عصافيرها مذعورة.

هنا عشكَ الوارف الظليل كرحم مشدود إلى السماء. حديقتك المعلقة، وملعب عزلتك الخاصة الذي لطالما سلخت شطرا طويلا من نهاراتك متنقلا بين فروعها وأغصانها، تأكل من تينها وتلاغى عصافيرها، وقد تغفو على فراش الاغصان الذى عششته بين فروعها المتشابكة.

من هناك من عليائك خلل فراغات الأوراق والغصون لمحتهم قادمين. رأيت أباك وعمك الأصغر محاطين بثلة من أترابك. لمحت من بينهم صاحبك الحميم "العيساوي" يومئ بيده واشيا بمكمنك، ولم ينزع عنه بعد ثوب ختانه الابيض المتسخ بالطين وبقايا الطبيخ، ولم تزل رجلاه منفرجتين في خطوهما لئلا يحتكان بعضوه المذبوح.

{الا تضحك اللحظة بعد ثلاثة عقود ونيف مرت على ما جرى يوم حفل استئصال غلفتك الرامضة!}

تذكر ولا شك كيف كنت تقطف ثمار التين التي  حرصت ان تكون ثمرات معطوبة منقورة من عمل مناقير شركائك العصافير، لترمى بها المتربصين بك تحت الشجرة {حريصاً ألا تُصيب ابوك}. منشّنا نصيب الاسد من ذخيرتك على "العيساوي" الخائن.

{بعد نحو عقد ونصف ستسترجع و"العيساوي" متهكمين، وقد أصبحتما رفيقين متلازمين في الثانوية والجامعة وكتابة الشعر ومغازلة الطالبات، وقائع تلك الطقوس، مرددا عليه قولة يوليوس قيصر في خيانة بروتس: حتى أنت يا عيساوي!}

نادك الوالد بحنو:

ـ "إنزل، سلم وليدي. خليك راجل!"

أوقفت إطلاق الثمار:

ـ ما نيش نازل نين يمشي الطهّار (المعنى: لن أنزل حتى يذهب الطهّار)

قال عمك الأصغر، عازفا على وتر الرجولة المرتجاة منك:

ـ خليك راجل. . . متخليش العيساوي يضحك عليك

ثم وجّه إليك أبوك إنذاراً نهائيا :

ـ يا تنزل بروحك يا ءنخلي عمك يرقى لَعندك وينزلك بالقوة

فأدركت ألا فرار من المحتوم. أسقطت سلم الحبال ونزلتَ مستسلما لما يُراد لكَ. تناولك أبوك من منتصف السلم في حضنه، وسار بك مشاوراً. ثم أنزلك سائر بك يدا بيد.

وكأنكَ شعرت أنك رجل تسير بجوار رجل، وهو يلاطفك مهدئا من روعك:

ـ كيف ما قال عمك خليك راجل. . . متخليش العيساوي يضحك عليك. . . موش قلت عنه بال في حضن بوه وهو شايله للطهاّر. . أهو أنت تمشي معاي رَجل برَجل .

في الطريق إلى مذبح الذكورة المقدسة كانت صلصلة قصات حادة قاطعة تطرق في دماغك الصغير، وخلفك تعود تجريدة العصافير إلى شجرة التين هاجعة، فيما عضوك المستهدف ينكمش في ذاته ـ ذاتك حتى ليكاد ينقرض.

4

سترحل، الأحرى، يرحل أهلك إلى البلدة الحضرية، أو  "النُقْطة" كما يسميها البدو. حيث تسمية "النقطة" تجد معناها في لسان البدو من حيث دلالتها على المكان. فيقال في لسان العرب: النَقْطة هى قطعة من نخل ههنا وقطعة من زرع ههنا. وهي بهذا المعنى بلدة صغيرة من بيوت محدودة تنقط المكان ههنا وههنا. كما أنها "النقطة" التي  يلتقى عندها بدو الاطراف يوم السوق الأسبوعي. وهى نقطة من أول التمدن. نقطة من أول الحداثة. نقطة مركز البوليس، وذلك الشاويش الضخم الجثة، ونائبه "الانباشى" ضئيل الجسم. وبيت "المتصرف "، وهو الوحيد بطابقين يضم زوجاته الثلاث وعشيرة صبيان وحفنة بنات، والمتجر الوحيد لصاحبه محمد يعقوب بن سحنون، حفيد جد يهودي أسلم، يبيع مواد أغذية، إلى جانب التوابل والفحم والكاز والدرابيك والبخور والاعشاب الطبية، وحتى رؤوس غربان محنطة لعلاج عقم النساء.

إمام الجامع الوحيد مهاجر من بر مصر محفوف بهيبة العالِم الازهري. فكان هو الفقيه والإمام والمؤذن والمأذون، والطهاّر. لكن مهنته الاخيرة ما عادت تعنيك وقد حللت "النقطة" مختونا. وهناك بيوت التمرجي[10]  والطحّان[11] والخرّاز{الذي هو الخياط أيضا}. ثم المعلم الحكومي الوحيد للمدرسة الوحيدة.

عند طرف "النقطة" داخل سور السوق الاسبوعي في ركنه القصي ثمة بيت عتيق بغرفتين وباحة واسعة مفتوحة على السماء. ذلك مسكنك الجديد، حيث يعمل أبوك الافندي محصل ضرائب مبيعات البدو يوم السوق الاسبوعي.

وفي ضواحي "النقطة" ونواحيها تنتشر مزارع المستوطنين الطليان الذين هجروا أملاكهم جماعيا، بمعية جيشهم المندحر في مواجهة جيوش الحلفاء الهاجمين من جهة مصر، فاستولى عليها مشايخ البدو وأعيانهم. في القمة على الهضبة العالية تحت ظلال الصنوبر نزولا إلى السفوح المتدرِّجة، حتى تلامس شاطئ البحر الليبيي، تتناثر أطلال "قورينا".[12]

إذن إلى تلك "النقطة" سترحل.

أمك وبعض نسوة النجع منهمكات في توضيب المتاع البسيط، وأبوك يتفاوض مع شارٍ من أهل النجع على بيع ثلاثين شاة جلّد ونحوها رغوث وثلاثة تيوس وأربع بقرات وعجلتين وثور وأتانة وجحشها وثلاث "بيوت شعر" ومثلها "بيوت ربيع"، بينما بقت فرس جدك "بنت الريح" وبقرات الجدة خارج الصفقة ريثما يجرى اقناعه بالرحيل معكم. لكنه ظل على عناده رافضا ترك مطرحه.

ستُقلع من مضربك ـ مسقط براءاتك الضاربة في عناصر المكان ومآلفه: شجرة التين العجوز الآمنة وأوركسترا طيورها الهاجعة مساءً، وأتراب اللعب البرّي، ورعاة الجديان الوليدة، مطاردو السحالي والقنافذ والجرابيع، ناصبو الفخاخ الخشبية البدائية للحجل الغبي، صائدو الغربان بالمقاليع، ومتعة مراقبة الرعاة "يوم الميراد" [13] من على الربوة المشرفة على المعَطْن[14] حيث البراح الشاسع، حول البئر وساقيته، يغص بقطعان الماعز والضأن والبقر والابل والخيل والحمير والكلاب، والرعاة الذين يُقسِّمون أدوار السقاية بين قطعانهم حسب أولوية الوصول إلى الميراد. فيسرِّبون قطعان ضأنهم ومعيزهم الظامئة المحجوزة على مبعدة من البئر، تتزاحم في حيازات منفصلة حتى لا تختلط ببعضها البعض. وما أن تُطلق دفعة منها حتى تركض في عطشها الملهوف بكل قواها المتبقية صوب الساقية الجارية بالماء البارد الزلال المتدفق بلا انقطاع من دلاء الرعاة المندمجين في العمل والغناء المختلط بالثغاء والخوار والرغاء والنهيق والصهيل والنباح :

إنْصبلها صب وهى تشرب ْ

{المعنى: أصب لها الماء (صباً متواصلاً) وهي تشرب، تعبيراً عن ابتهاجه ارتواء قطيعه}

ـ "اللى يشيلني من هنا يشيلني بلا حول ولا قوة. . . يشيل دودة. . يشيل دودة. . . ايش تريدو فيّ. . ايش فيّ ما ينشال وينحط. . . مانيش في حاجة لحد وحاجتي تنقضي كيفما تنقضي.

كذلك قال لاعنا "النقطة" وأهلها.

قال أبوكَ مُهدئاً من روعه"

ـ ابعد الشيطان يا باتي.

رد جدك متهكما على أبيك

ـ ءبعد أنت وألحق خوتك اللي تموء تموء حضور (المعنى: أبعد أنتَ (لأنك ضمنيا شيطان) والتحق بإخوتك الكبار الذين أصبحوا من أهل الحضر ـ المدينة)

وأضاف:

ـ " ايش خليت؟!. . . بعت كل شئ. . . حتى بنت الريح بعتها

قالت الجدة مُهدئة من روع رجلها الشائط كجمل هائج لسوء معاملته:

ـ بنت الريح في مربطها. . . مايقدرش حد يبعها وأنتَ موجود. . والبركة في الأرض ولدك الصغير قاعد معانا ونحن في رعاية عبد الشفيع.

 ـ حتى أنت عدى معهم. دونك خبز المدينة. . . مانيش عالة على حد. . . هاتو لي عبد الشفيع .

جاءوا إليه بعبد الشفيع أخوه الأصغر وشيخ النجع. قعمز قرب فراش أخيه الكسيح ورفيقه في الجهاد. أنصت إلى غضبه:

ـ ستهدي بالله يا خوي. . . مَهْناك حد يكره قعادك هنا. . . لكن النقطة خير لك. . . قدامك تمرجي وجامع. . . ولك زمان نيتك الصلاة في الجامع

ـ إيّن تمرجي وإيّن جامع يا عبد الشفيع. . . ماعَدْ فيّ ما ينشال وينحط. . وين ما نا هنا وين مرقدي وهُو مدفني. . . بالله عليك وعمري ما إجديت حد احسبني حتى من إكلاب النجع.

فُجع الأخ الأصغر اذ سمع كلاما جللا كهذا يصدر من أخيه الكبير بهيبته الطاغية. فصاح مقاطعا:

ـ استغفر الله العظيم ولا حول ولا قوة الا بالله. . إيش صار لك يا خوي. . هذا كلام ينقال. . . أنت كبيرنا وشيخنا. . واللى يخدمك منا يتبرك بيك

صد الجد إجهاشة بكاء شرسة اجتاحت عروقه وترقرقت في عينيه. شهقها بعنف من أنفه مُوقِفا تسرب دمعها حتى لا يبدو جلابا للشفقة . وكنتَ هناك في المشهد. لكنك لم تكن لتفهم شيئا مما يدور بطبيعة الحال. كنتَ مشغوفا بالرحيل، الاحرى، بركوب تلك الآلة العجيبة المنتظر قدومها في لهفة. .

أخيراً رضى الجد عن قرار أبيك. قبل أبوك يد أبيه:

ـ رضاك عني مطلبي يا باتي. . . ونا مِنتقل لوظيفة كويسة. . . الحال تغير والعيال لازم يتعلمو وموالة السعي ماعدش ءتْكَسِّبْ

وهنا سمعت صوت قرقعة الشيء المتوقع، تتخللها فرقعات متقطعة تأتي من أسفل الوادي. ركضت بمعية الصغار لملاقاة الآلة العجيبة. توقفت النسوة عن أعمالهن للحظة ملتفتات إلى جهة الصوت المتصاعد شيئا فشيئا، دون أن تظهر بعد في هيئتها المحجوبة في الغابة أسفل المنحدر، صاعدة الربوة العشبية.

قال الجد مقهقها في ضحكة متهكمة:

ـ دونكم مركوب النصارى[15].

وظهر ذلك الشئ العجيب الذى سبق ان رأيته لمرة أو  مرتين في ذاكرتك الطفولية الغضة. كان شاحنة من مخلفات جند موسوليني الموليين الادبار من ليبيا أمام تقدم قوات مونتغمري في نهايات الحرب العالمية الثانية. شاحنة حرب متهالكة تعمل بمحرك يسعل فرقعات مدوية، نافثا دخانه الكثيف من عادمها المثقوب. صعدتها متسلقا عتبة بابها المتخلخل وجلستَ بجوار السائق وبجوارك جلس أبوك فأمك حاضنة شقيقتك. وفي المقطورة شُحن ما رشح أخذه من عفش ومتاع وأواني صالحة للاستعمال. امتلأت روحك بزهو بليغ وأنت تنظر، من عليائك، بجوار السائق، إلى صغار النجع اترابك (سابقا) وهم يتحلقون قدام الشاحنة ملوحين لك في غبطة مشبوبة بحسد طفولي. شعرت أنك متعاليا في عالم آخر، في جوف وحش خرافي أليف، كأنه خارج من خرافات جدتك، التي  بقت مع جدك في نجع "عيت بورحيل" الضارب أوتاده في أَوْعار سفوح "الحنيَّة"[16].

أنطلقت الدابة الحديدية تدب في الدرب الترابي.

أنظر إلى من يحركها؟!

سائق مقطوع الكفين عند الرسغين. .

كنتَ طوال الوقت بامتداد الطريق الوعرة، والشاحنة تطرطق وتصرصر وتفرقع صاعدة نازلة ناطة بين الحفر والأخاديد والنتوات الصخرية، مشدودا إلى كفيه المقطوعين، مُستغربا كيف له أن يتحكم في عجلة القيادة التي يديرها بيديه مبتورتي الكفين. يتنقلان ما بين التحكم في المقوَّد والتحكم في تبديل مُغيِّر السرعات، خائضا بها مطبات الأخاديد والحفر.

كان بدويا أقطع. . جسورا وثرثارا. . وواثقا مما يفعل.

يُثبِّت عجلة القيادة بين ساقيه الطويلين، معالجا بضم رسغيه مقبض مغيّر السرعة، حسب وضع الطريق، فيما يواصل ثرثرته الشيَقة عن اندحار جند إيطاليا، وهروب المستوطنين، وهجوم الأهالي على بقاياهم وإغتنام أملاكهم، ومنها هذه الآلة العجيبة التي صارت في حوزته.

كان النجع المُخلَّف وراءكم يبتعد غائبا في مجاهل غابات "وادي الكوف" في سفوح "الحَنيَّة". لتظهر بقايا طريق إسفلتية متهتكة بالحفر والمطبات، بالكاد تسمح بالمرور في اتجاه واحد.

إلى الحداثة إذن؛ ركبتَ مكنة مسلوبة من مخلفات السيشيليين (بدو أوروبا)، يقودها بدوي أقطع، قادر على تبديل إطاراتها وإصلاح عطب محركها، بدون كفين ولوازمهما من أصابع عشر.

 

5

أحد كل أسبوع يحلق أبوك ذقنه ويشذِّب شاربه بعناية ويرتدي بذلة الافندي الوحيدة لديه.

أحد كل أسبوع تبالغ أمك في زينتها وطبخها، وأنت مفعم بالبهجة. فاليوم يوم السوق.

يحتل الأب الأفندي محصِّل الضرائب موقعه المسؤول في حجرة مكتبه الصغيرة عند بوابة السوق، حيث تجمهر البدو، رعاة وفلاحين، منتظرين فتح البوابة باشارة من الأفندي، ليتدافعوا بأغنامهم وأبقارهم وإبلهم وخيلهم وحميرهم ودجاجهم وديوكهم وبيضهم وسمنهم وعسلهم وحبوبهم وخضرواتهم .

يعطي الأفندي إشارة الافتتاح لحارس البوابة الذي يصيح في فوضى تدافع البشر والدواب مبديا صرامة مبالغا فيها لتبيان أهمية عمله:

ـ نظموا أرواحكم وإلاّ مافيش سوق اليوم

أحد كل أسبوع في ساحة واسعة مسوَّرة ببقايا سور يوناني، مرمم بالحجر والطين يشتعل العالم في مخيلتك الغرة، حيث تشتبك أصوات البشر بأصوات الحيوانات. . .

عالم مفروش معروض مُقَفَّص: أرانب برية وطيور حجل وحبارى وطرائد الريم وصيد الليل وروائح بهارات وأعشاب وعطور وفاكهة ولمعان الذهب والفضة والاقمشة الملونة على خلفية أوركسترا الخوار والنهيق والصهيل والقأقة والثغاء واللبلبة وصياح الدلالين وجدل المُماكسين. . .

أحد كل اسبوع هو يومك البهي.

أبوك الأفندي "ملك" السوق يتجول في الأنحاء، يشرف على حركة البيع والشراء، يرافقه حضرة الصول[17] الضخم وتابعه الأومباشي[18] الضئيل.

وأمك "الملكة " تنظف البيت وترتبه وتعد طبخة " الكسكسي " الأسبوعية باللحم الضاني، على عادتها كل أحد.

وأنت الأمير/ الأفندي الصغير تطلق شقاوتك في حراك السوق. تندس بين المشتريين. تتقرفص عند كومة البطيخ الاخضر. تُدحرج واحدة صغيرة تحت جلبابك، دائرا حول نفسك في وضعك القرفصائي، كي لا يلمحك البائع وأنت تحضنها بين يديك. . وهوب تُولي الادبار راكضا بها إلى أمك دون ان تدرك ان البائع كان يسترق النظر إلى تفاصيل مؤامرتك الصغيرة، راسما ابتسامة ودودة متضامنة مع فعلتك، فلم يكن الأمر يستحق كل هذا التخطيط الجهنمي وأنت ابن الافندي المدلل من الباعة والمشتريين. ثم انك ستُرجِعها مكسوفا بأمر صارم من أمك :

- عيب

قالت لك زاجرة بكل حمولة العيب في عرف أخلاق البدو الصارمة:

ـ امشي ردها واِطلب السماح من صاحبها وإلا نقول لبوك

وفعلت ما طلبته أمك. أعدتها إلى البائع دون أن تقول شيئا. تلقاها منك مبتسما. ألتفتَّ عائدا إلى أمك كما وعدتها بالعودة في الحال.

قال البائع:

ـ أرجا (تعني: انتظر). . تعال هنا. تعال نبيك.

ألتفتَّ إليه محمولا على خجل عملتك السودة. فرأيته يمد إليك ببطيخة صغيرة صفراء في حجم كفه:

ـ هذه لك

حاولت أن ترفض. جاء إليك وأصر أن تأخذها. أخذتها ورويت لأمك القصة، فقبلت بها. . ولا تزال تلك البطيخة الصفراء الصغيرة أشهى هدية مغفرة، تُمد لك بابتسامة بائع بدوى تختزل سماحة الخلاءات.

كان عالما ضاجا بكل شئ شهي في حلاوة بطيخة مسروقة.

أكنت تخاف انقضاءه لذا تسرق فاكهته كي تمتلك سحره ؟!

ها هنا الآن على الشاطئ الآخر، وصدام الحضارات الأكثر مبيعاً في عالم السوق الحر، حيث الاعلان كوجيتو الوجود: أنا أشتري اذن أنا موجود. ها أنت تبحث عن صورتك المفقودة في تلك الصورة التي  أُلتقطت لك عندما أقتنصتك كاميرا السيدة البيضاء، بجوار ضريح ولي صالح، وسط أنقاض أعمدة إغريقية منهارة على سفوح قورينا منذ ثلاث عقود ونيف.

كم ترغب أن تستعيد تلك اللقطة. أن تنظر إليك فيها. تتفرس ملامح وجهك المدهوش حينئذ. حين أخذ لك الغرب صورة بكاميرا "ليدي"، ظهرت بغتة وكأنها هبطت من كوكب آخر. كوكب القارة البيضاء حيث الرجال يراقصون النساء.

حكيت لأبيك وأمك ما جرى، مدهوشا كالمصعوق لغرابة مظهرها وآلة التصوير العجيبة. فشرح لك الوالد الأفندي، المتعلم لستة أعوام في مدارس الطليان، مهدئا من صدمتك الأولي بالغرب، ما معناه أنها بشر كالبشر، قادمة من وراء البحر، وتعمل مع زوجها في نبش الآثار. وأنهما ألمانيان سبق أن التقى بهما. وكانا لطيفين، حتى أنهما دعاه إلى دارهما، فشرب الشاهي معهما وتبادل الحديث، معهما، بما لديه من إيطالية وبعض الإنكليزية . ثم بذل جهدا خارقا كي يشرح لك عمل تلك الآلة العجيبة.

كنتَ ترفل في ثوبك القطني، المخطط طوليا بالأخضر والأبيض، خارجا لتوك من ضريح الولي الصالح مُعبَّقا برائحة بخور رهبة الموت، تصارع وطأة الخوف من إثم شنيع أرتكبته. إذ يسكنك هاجس السقوط ميتا في أية خطوة لأنتهاكك المحرَّم، لأنك قبلت تحدي رفيقيك، "بونعامة السمين" و"عوض فم الشوال"، لأثبات شجاعتك، بالدخول الي مقر الضريح وسرقة نقود المتبركين.

جاهدت في سبيل تمالك نفسك وأنت تلج مدخل الضريح لأول مرة كلص. أردت ان تثبت لهما تفوقك الشيطاني عليهما. كنت بذلك وكأنك تسرق الله شخصياً. أنحدرت من ربوة المقام الديني إلى السفح، حيث وقف رفيقاك ينتظران في خوف أشد من خوفكَ، رغم بقائهما على مبعدة آمنة خارج الضريح، كي لا تصيبهما لعنة عملتكَ التي لا تُغتفر.

أخذ رعب الأثم يضأل ويتحول إلى ذنب مكين، وأنت تندفع خارجا من الضريح، فيما زهو النجاة من المخاطرة يرتسم ابتسامة فوز. فتطلق ضحكتك عالية في وجه "بونعامة السمين" و"عوض فم الشوال"، مُلوحا لهما بشمعة، وبكفك الأخرى تقبض على بضع قطع نقود معدنية. فيتقفزان، للحظة، زهوا لزهوك. عندها أقتحمت المشهد سيارة سوداء {ستشاهد الكثير مثلها في أفلام مافيا الأربعينات}. توقفت على جانب الطريق الترابي أسفل الربوة، وهبط منها رجل وامرأة في ملابس غريبة. لم يثيرك لباس الرجل في شيء، فما كان يرتديه يشبه إلى حد ما بذلة والدك يوم السوقي الأسبوعي. كنت مأخوذا بحضور المرأة طولها الفاره وثوبها المزركش بالزهور. طويل إلى القدمين. والابرز بين كل شئ قبعتها الضخمة وكأنها قصعة لأكل ستة بدو منكفئة فوق رأسها حيث يتهدل شعرها الأشقر تحتها وتبرق عيناها الزرقاوان كالأعجوبة.

{لاحظ ان ذلك ضرب من اعادة توصيف للوثيقة في صورة نموذجية لامرأة بيضاء من بلاد الغرب الغريب في ذلك الزمان. فربما لم تكن عيناها زرقاوين. لربما كان شعرها بني كستنائي أو  بلون السمن المحروق. ولتكن فارهة الطول، وفستانها مزركشا بالزهور والدانتيل. وقطعا لن تغيب عن الذاكرة غرابة تلك القبعة السوداء الضخمة كقصعة لستة ضيوف بدو. لكن المؤكد في المشهد تلك الالة العجيبة التي  التقطت لك صورة دون ان تدرك وقتها طبيعة عملها!}

أندثر تماما أثر صعودك وهبوطك الميثولوجي الآثم. إذ ركَّزت ذهنك على حضور المرأة والرجل الغريبين، اللذين طفقا يصعدان الربوة إلى المقام، من نفس الممر الذي تهبط أنت منه. فلم تنحرف عن مسارك لأجتناب الإلتقاء بهما. كان فضولك الشره يحركك لتراهما عن قرب. وحين ألتفتتَ إلى حيث رفيقيك. رأيت "بونعامة السمين" يركض مطوحا قدميه خلفه رغم ثقله كأن غولة ظهرتْ له بغتة. أما "فم الشوال" فقد أخذ يتسلل ببطء مخاتل منسحبا من المشهد، وهو يعود القهقري بظهره عدة خطوات، وكأنه يحاذر أن يفطن الغريبان لهروبه المُبيّت. ثم التفت ناحية القرية. وهوب أطلق ساقاه للريح.

كانت شديدة الرقة واللطف {على ما تتذكر، أو  الأحرى، على ما تود أن تتذكر}. تقدمت نحوك بحذر الإقتراب إلى فلو برّيّ. تطلعتَ إلى وجهها متمعِّنا. لابد أنك استغربت أنه بلا وشم. استسلمت لها وهي تمسك بيدك (قد تكون اليمنى أو  اليسرى). تقول الآن أنك كنتَ مطمئنا فلوجودها أو  أنه الفضول أبقاك. الفضول الذى سيظل رصيدك الباذخ للإنفاق على ذهابك أبعد فأبعد في فض أسئلة الحياة والعالم. دنت السيدة البيضاء منك متودِّدة كأنها تستدرج حيوانا بريا تخشى أن يجفل. فرمت لرغبتها. مسدت شعرك الفوضوي الاجعد. ثم انخفضت لتكون في مستوى قامتك. لا تدري إن كنتَ فكرتَ للحظة في الهرب. لكنك تتذكر تماما السيدة البيضاء وهي تقف بجانبك، ممسكة بيدك الصغيرة (اليمنى أو  ربما اليسرى). ثم طوقت كتفك بذراعها (اليمنى أو  ربما اليسرى). فوجدت نفسك منجذباً برقة إلى جنبها. فاستسلمت لرقتها متطلعا عاليا إلى وجهها. فأنحتْ على وجهك وطبعت قبلة على خدك (اليمنى أو  ربما اليسرى). فسرعان ما سكّنت مخاوفك. فنظرت إليها بكل أمان فيما كانت تنظر إليك مبتسمة بود أمومي مخذول. ثم وأنت تستسلم لكفها وهي تغمر بأصابعها الطويلة الناعمة وجهكَ كي توجهه إلى حيث السيد الأبيض واقفا وراء تلك الكاميرا السوداء الضخمة التي  تكاد تغطي وجهه. ثم تك تك. والتُقطت لك صورة بجانب سيدة بيضاء شديدة اللطف. صورة مع الحداثة !!

أتراك ههنا لاجئا إلى قارتها بعد عقود تبحث عن تلك اللقطة، المُجمَّدة على خلفية ضريح ولي صالح، بين أنقاض قورينا الاغريقية، المتناثرة أحجار قصورها ومعابدها وأسوارها وأعمدتها وتماثيلها، برؤوسها المقطوعة وأطرافها المهشمة، في زمن العقيد. . وحده الماء بقى على حاله، جاريا من نبع "كورا"، المقدس عند الليبيين القدماء، وهو "أبولو" بتسمية المستوطنين الاغريق. عابراً منذ قرون تنطح قرونا، غير عابٍ بالحضارات التي  تأتي وتنقضى، منبثقا من مغارة صخرية بمذاق زلاله الحلو حلاوة تلك اللذة المنقضية.

 

كتاب الانتهاك

1

تتسكع في ليل أمستردام الابيقوري في زمن عولمة السوق الحر وغواية الإعلان، حيث المال معيار الأشياء طراً.

أمستردام فضاء حميم للحرية الشخصية. وحدها بين مدن العالم لا تزال تنطوي على قبسة من جذوة روح الستينات الهيبية الذاوية. لأمستردام مذاق تناول سمكة رنجة نيّة على أرصفة القنوات المائية المنسابة في سماحة. ولها نكهة تدخين سيجارة ماريجوانا في حاناتها المتحايثة في زواريب حي "الدودام"ـ[19]ـ

ـ هل لي أن أخدمك بشيء. ؟!

قال فتى البار السورينامي ذو الشعر الطويل الأكرد، المضفور على طريقة بوب مارلي، المنتشرة صوره في أنحاء الحانة. وكذا موسيقاه الصادحة :

No، woman، no cry;

No، woman، no cry;

No، woman، no cry;

No، woman، no cry

تململتَ في مقعد البار العالي حيث تجلس إلى المشرب. وجدتَ نفسك تتلفتُ يمنة ويسرة. ثم تتحفز كأنك تتهيأ للبوح بسر جلل.

همستَ بصوت خافت، مُقرِّبا رأسك من مسمعه:

ـ هل لديك ماريجوانا؟!

فرقع الفتى السورينامي ضحكة عالية ومال برأسه، قلِّداً طريقتك في الهمس:

ـ بالطبع.

وربت على كتفك مبتسما:

ـ أنت في أمستردام يا صاح!

فتذكرتَ أنك في أمستردام يا صاح. هبطتَ مطارها قبل أسبوع فقط. تسكن في فندق صغير قرب محطة القطارات الرئيسة. وتنوي التقدم بطلب اللجوء السياسي إلى دستورها الفاخر في أقرب مخفر للشرطة. فيأخذونك إلى أحد "الهايمات"[20]. ومن هناك سوف تبتدي حكايتكَ في كتابها الثاني.

عرض عليك الفتى السورينامي "منيو" خاص بأنوع الحشيش والماريجوانا مع قائمة بأسعارها وتشكيلة من أصنافها، محفوظة في أكياس لدائنية صغيرة في حجم نصف الكف. . . ولفافات مبرومة جاهزة للتدخين. أبتعت لفافة وكأس جعة. كرعتَ كرعة "محترمة" من رغوة الجعة الشقراء ومججتَ مجة نهمة من لفافة العشب الملعونة. فأخذت المشاعر تتنمل والحواس تحوس والذاكرة تتقد. فتضطرم الخواطر :

الخاطر إلتمن فيه تمويح دار ورياف وجضر.[21]

أعبر كأسك إذن إيها البدوي العابر. فلا أحد يعبر عن أحد كأسه.

يصدح بوب مارلى :

No، woman، no cry;

No، woman، no cry

وتحضر سلمى. يشرق وجهها. يتلبسك حضورها العارم. طلتها الفاخرة كناقة "فواخر"[22]، في بنطال جينز وبلوزة وردية وشعرها الاسود الفحمي معقود على هيئة ذيل فرس، وهى تطلع عتبات ركح مسرح صغير. كان في الأصل مخزنا للحبوب قديما متهالكا في أطراف المدينة، رممه هواة شغوفين بالمسرح الحديث. وسوف يُغلق ويتفرق شمل فرقة الهواة الصغيرة. ثم يتحول إلى "مثابة ثورية" تُستخدم للتحقيق الأولى مع المعارضين قبل ترحيلهم إلى غياهب المعتقلات.

تقف سلمى عند منبر الإلقاء في تلك الأمسية الخارجة عن الرقابة الثورية. تعدل وضع الميكروفون ليلائم قامتها. تفرد أوراقها على منضدة المنبر. ترتبها بتأنٍ رشيق، مؤنِّثة بحضورها الشعرى الآسر المكان. بمعنى المكان الذي لا يؤنث لا يُعَوَّل عليه، حسب معادلة جدك ابن عربى في مغزاها الأنسي الصوفي.

قرأت سلمى ما تيسر من شعر يتمترس في الغوامض، ويُحضَّر في خيمياء اللغة صورا للفاسد في مستمره القمعي المتفسخ في مزيده المتفاقم:

حين مرّ،

تعثرنا طويلاً حتى إزردتنا حججنا.

وحين استسلمت أحجياتنا،

لم يابه بها، الذي مروره دوَّخنا.

 

حين فتشنا عن أمثولة تحاكينا،

تجشّأت كثافتنا ودمدم حنق تحت الأظافر.

ريح مستعجلة قطعت غناءها ورمقتنا؛

كنّا نُشيّد من كل عنصر هالك نسيجنا،

ونقصقص أجنحة اللهب الي أدعى حراستنا،

 

كانت أمستردام تتبهرج لعام ينبجس من عام يحتضر منقضيا في أواخر قرن ينصرم. ساطعة بالأضواء الملوَّنة وأشجار أعياد الميلاد المضاءة. تموج شوارعها وأسواقها بالعابرين على عجل وبالمتجولين في تؤدة متبضعين هدايا الكرسماس. تموج بالعشاق والسكارى والمخدَّرون والعائلات والعاهرات والمحجبات والمتأنقين والمشردين. بالبيض والسود والسمر والصفر. وقد مرتْ أشهر وأنتَ نزيل هايم اللجوء في "ألكمار"[23]. وسوف تُرحَل إلى بلاد الجرمان التي يحمل باسبوركَ فيزتها. أعترضتَ قضائيا بحجة أن هولندا هي أول بلاد تصل إليها. ومن حقك طلب اللجوء السياسي فيه، حسب قوانين اللجوء. انتظرتَ لأشهر طويلة موعد النظر في قضيتك مُمنيّا النفس المكوث في حضرة الماء والخضرة والوجه الحسن والماريجوانا.

كنتَ تكره خيار الذهاب إلى ألمانيا. . .

تكره وجهها العنصري الذي أشعل حرائق كراهيته الهسترية على نطاق واسع في منازل الأجانب ومعسكرات اللاجئين، وأنتَ المفتون بروحها النقيض: موسيقى موزارت الصافية كحلم رضيع، وجنون هولدرلين النقي، شاعر الألمان المقبلين بتعبير هيدغر، وذلك النجار الذي آواه واقفا على خدمته لثلاثة عقود دون أن يتذمر، وريلكه وخياله المسفلس بالشرق، وكافكا الذي كوْبس العالم، والروح المتعالية في مثالها الهيغلي المفكر في ذاته بذاته، وإليها الروح ـ الشبح الذي استحضره ماركس ليُرعِّب بوعيه الثوري الوعي المطمئِّن للبرجوازية "السعيدة"، فيما لا وعيها الشقي يتداعي على أريكة فرويد الوثيرة، ونيتشه ذلك النقّاب العظيم في جينيالوجيا الأخلاق، نافذاً إلى الروح الإنساني المقيم ما بعد الخير والشر/ العقل والجنون، حيث ائتلاف رؤوس النقائض الكبرى: قيصر/ المسيح/ ديونيسيوس.

على كل حال دعنا من تثاقفك وجرمانييك العظام. ذاك تراث وانقضى. من الواضح لي أنك ستُرحَل من أمستردام، مُبعدا عن قنوات الماء وقوافل الدرّاجين المتداخلة في الطرقات والمعابر الضيقة، ومروج الورود بكل لون، وحقول عبّاد الشمس المنحنية لريشة فان كوخ. .

أردت أن تتأبقر[24] في الأيام الأواخر من نهاية عام، في أواخر نهاية قرن في أواخر نهاية ألفية، قبل أن تُرحَّل من المدينة التي أحببت. اقتطعت ألف دولار مرة واحدة رصيد الخمس آلاف دولار التي هربتها معك في طيّة حجل سروال الجينز المُخيّط، لتغطية مصاريف شؤون هروبك. أطلقت لروحك العنان في ليل أمستردام لأيام متواصلة، لاهيا عابثا بمسراتها المتاحة في البارات ومرابع الرقص ومعاشرة الراغبات.

ـ زانية يرمونها بحجارة من سجيل

قال محمد بن عيسى، هازئا بكلام في كلام، وهو يسير بصحبتكَ في قلب امستردام، ذات مساء ديسمبري، في ذروة أيام "الكريسمس".

كان لأول مرة يخرج بعد أسابيع من العزل في مصحة نفسية، علاوة على أسابيع من الرقابة "الصحية" في "هايم" اللجوء. كان سريره بجوار سريرك في الغرفة نفسها مع ثلاثة أخرين من لاجئي الجنوب إلى الشمال.

كانت شخصيته المتشظية مركَّبة في اسمه محمد بن عيسى، من حاصل مُداخلة محمد بن عبد الله بعيسى بن مريم. قلتَ ممازحا تفكيره المفكك:

ـ من منا بلا خطئة يرميها بحجر أو  بحزام ناسف.

وأنتَ تدرك أنه غير معني بما تقول أو قد تقول. فهو غير معنى بما يقوله. وما كنتَ لتتوقع منه ردا منطقيا. الأحرى أي رد. فهو لا يختار ما يقوله ومتي يقوله. تعبيراته الدينية مجرد أدوات لفظية لخطاب هذيانه.

 "مش مهم مش مهم مش مهم. . . " هكذا دأب على تكرار لازمته المكرورة كلما زنقته الاستفسارات الملحة، فيما يعبث بشعره الكث عاقدا بين الإبهام والسبابة خُصيلات مُضفَّرة. قد يصمت لساعات أو  يفلت لسانه أحيانا بحديث متداعٍ بلا رابط. حكيتَ له كيف أن الني محمد لمّا كان يوم فتح مكة ودخل جوف البيت الحرام أمر بطمس التصاوير المرسومة على دعائم البيت لأنبياء وأصنام وأزلام وشجر وملائكة، لكنه وضع كفيّه على إحدى الرسوم، قائلا: أُمحوا جميع الصور إلا ما تحت يديّ. وعندما رفعهما بانت صورة عيسى وأمه مريم.

كان يسير بجانبك ساهما هنا وهناك. لكنك رويتَ له الحكاية من باب تزجية الوقت في الطريق إلى منطقة "الدو دام"، قبالة القصر الملكي، المكتظة بالحانات ومقاهي الحشيش والمارجوانا وبغايا بملابس داخلية شفافة، معروضات في فاترينات زجاجية، يغازلن المتفرجين من وراء الزجاج، متغندرات، متغنّجات، يقمن بحركات إغواء محترف لجذب الزبائن، كأن يلعقن أصابعهن، أو  يتحسسن نهودهن نزولا إلى ما بين الفخذين، أويرسلن القبل المجانية من وراء الزجاج.

تجول معك على ضفاف الممرات المائية وفي طرق المشاة المتسوقين. أكلتما شاورما في مطعم تركي. ثم

أردتَ أن تزجه معك في صخب الحياة وفسقها. لم يكن ليمانع في شيء. فما عاد من معنى لديه لمحددات الحلال والحرام. كان يراقب العالم حوله ساهيا، وفي دمه يسري مفعول العقاقير المهدئة. كان قطع الاتصال بالواقع. حاضراً معك بجسده، لكنه موجود في عالمه الخاص، بذهانه المكبوح بالعقاقير.

دخلتَ به إلى حانة الفتي السورينامي أياها. جلستما على البار. كنتَ حريصا على توصية الممرضة "جين" ألا يتناول ما يُذهب بعقله المذهوب به أصلا.

ـ ساتحدى ثقتي فيكَ

قالت "جين"، وهي ترافقكما إلى البوابة، بعدما حررت له تصريح بالخروج برفقتك:

ـ اطمئني.

كانت الحانة شبه خالية في مطلع ذلك المساء، ما عدا شابة وشاب جالسين حول طاولة صغيرة يتجاذبان شجون الغرام كفرخي حمام. وعلى المشرب زبون شاب منهمك في تدوير لفافته العشبية.

طلبت له الشاهي الذي لا يمل من إحتسائه طوال اليوم، ولك سيجارة ماريجوانا. نظرت إليه لتبيان ردة فعله على وجوده في بؤرة "شيطانية" في قلب امستردام. أنهمك في ارتشاف الشاهي الساخن بآهات متلذذة، غير مبالٍ أين هو وماذا يدور جوله، فيما صوت بوب مارلي يصدح:

Get Up، Stand Up Get up، stand up، stand up for your rights

Get up، stand up، stand up for your rights

Get up، stand up، stand up for your rights

Get up، stand up، don't give up the fight

كان يرتاح لكَ دون بقية نزلاء الغرفة (تونسي ومغربيين) علاوة على مجموعة الجزائريين في الهايم. ربما لأنك تُحب أن تنصت إليه دون أن تجادله في أفكاره المشتتة أو  تسخر منه، كما يفعل بني جلدته الجزائريون المقيمون في الهايم، بحسبانه درويشاً مهبولاً. كان سريرك يعلو سريره. وكثيراً ما ينط من نومه مفزوعاً حتى يصطدم رأسه بأسفل سريرك، دون أن يصدر عنه أي صوت. وإذ تستيقظ بفعل شدة الصدمة التي تكاد أن تطيّرك، وتدلّي رأسك نحو سريره في الأسفل، تجده غارقا في نومه على ظهره. هادئاً تماماً، مداخلا بين أصابع يديه في قبضة متشابكة فوق صدره، كأنه ميت تماماً. سوف تعتاد على نطاته المفزوعة. أذكرُ لكَ تفهمك لحالته. ليس لأنك شاعر رقيق الجانب؟! فأنتَ تعتقد جازماً في زيف ما يسمونه مشاعر إنسانية، لأن حقيقة الإنسان لم تولد بعد، حسبما تلقيت دروسك على أفكار شيوخك الأفذاذ، من التوحيدي إلى فوكو، دون أن تكون لا أخلاقياً. . . ولكن هل تستدعي علاقتك بلاجئ جزائري هذياني كل هذا التفلسف ما بعد الحداثي؟! قد تقول أن رواية ما حدث، من منظور شخصيتك المكوَّنة، تملي تصوراتها في سياق سردها المتشكَّل. وتلك نقطة لصالحك. بحيث أن محمد بن عيسى، هنا، هو "أنا الآخر". بمعنى مدّ يدكَ (اليمنى أو  اليسرى، لا يهم) أمام وجهك. تأملها (لا أن تنظر إليها). أقض وافرد أصابعها. امسح بها وجهك كما يفعل المسلم بعد قراءة سورة الفاتحة. إنها آخر وعضو فيكَ. . . عملياً: فكرت في محمد بن عيسى بطلا لرواية هذيانية، لاسيما وقد مزقتَ مخطوطة الرواية التي جئت بها معك، خجلا من رداءتها. وهي التي هرّبتها معك كأنها شيء لا يقدر بثمن.

كان يجالسك غالبا حيث تكون. في المطعم. في المقهي. في المكتبة. ساهما، غالبا، كالعادة، تحت وطأة الأدوية المهدئة، لاسيما بعد تناوله الأبرة الأسبوعية، دون أن يمنع ذلك من انفلات سرديات تياره اللاوعي المتداعي في هلاوسه المشوَّشة، في أوقات غير متوقعة.

فهمت من شتات تعبيراته أن أمه متوفيّة. ولم يلبث والده أن لحق بها بعد نحو أسبوع، بينما كان أخواه، اللذان يكبرانه، يقاتلان مع الجماعات الأصولية المسلحة، اللائذة بجبال الأوراس [25] الوعرة، بعد خراب الدولة بسبب صراع الجنرلات والشيوخ. وكان يسكن مع شقيقته الكبرى الأرملة وأطفالها الخمسة في بيت العائلة بغرفه الثلاث الضيقة. توقف عن الدراسة في التعليم الثانوي وأنضم إلى جيل "الحيطست"[26] المتبطل، ليتاجر بالأقراص المخدِّرة. وما لبث أن درج على تعاطيها، فوقع تحت تأثير هلاوسها وتوهماتها. أذهلته تصورات تخالط بين العظمة والإضطهاد، وناوشته أصوات داخله بألف هاجس وهاجس. تحثه على القيام بأفعال تصورها له. هرب منها إلى الجامع. فسيطرت عليه فكرة اللحاق بأخويه في الجبال. وفيما كان يهم بصعود "الأوراس" مع حفنة من المجنَّدين الجدد وراء دليل أصولي، قبضت عليهم زمرة من القوات المحلية الموالية للحكومة، وسلمتهم إلى قوات الجيش، ليزج به مع الآلاف غيره في معتقلات الصحراء.

وبعدما علمت اخته الصغرى بخبر اعتقاله من زوجها الرائد في القوات الخاصة، ألحت عليه كي يتوسط لإخراجه من المعتقل، خصوصا في الفراش، في ليال الجمعة. . تتطيب وتتعطر، وتبخر غرفة النوم بالجاوي والفاسوخ.

خرج من المعتقل متهدما متبلدا، وقد خففت صدمات التعذيب الكهربائية من وطأة أعراض اضطرابه العقلي. فاختفت تلك الأصوات الأمرة المهدِّدة. وحلت بدلها أصوات رفيقة مسالمة. تكلمه فيكلمها في عزلته المغلقة على ذاته، سواء كان مستفردا بنفسه أو في حضور آخرين. مستغرقا غالبا في تلفيف عقد خصلات شعره ما بين السبابة والوسطى فيما يُحرِّك شفتيه في صمت، قد يقطعه في فترات متباعدة مفاجئة بتعبيرات صائتة على نحو:"أش أش اش". أو  يطلق تعبيراته المتداعية في كلام في كلام.

كان زوج اخته الرائد يريد بأي طريقة ابعاده عن الجزائر ليرتاح منه، ومن "نق" الزوجة. قرر تسفيره إلى امستردام حيث يقطن أخيه الكبير المغترب هناك منذ سنوات طويلة. أمَّن له فيزا هولندية أصلية، بفضل نفوذه في شبكة مافيا الجنرالات وحواضنها الأمنية في المطارات والمواني والسوق السوداء.

يوم تسفيره حلقت أخته ذقنه وضغطت عليه كي يتحمم ويرتدي ملابس جديدة، بينما استعان زوجها بطبيب صديق لتزريقه بأبرة مهدئة قبل تسفيره بساعات، لضمان عدم هيجانه المحتمل داخل الطائرة.

أشرف على تسفيره حتى صعوده إلى الطائرة من خلال أحد أصدقائه في أمن المطار. وأوصى عليه شابا جزائرياً عائداً إلى أهله في أمستردام بأن يساعده في التخلص من جواز سفره في حمام الطائرة قبل هبوطها. ودلّه على طلب اللجوء في المطار على أنه ليبي.[27] كان قد أتصل بأخيه في أمستردام وأبلغه بموعد وصول أخيه الصغير. وطالبه بإلحاح أن يلاحق قضيته ويوفر له محاميا ويعتني به بعد حصوله على حق اللجوء. لكن الأخ الأكبر أستقيظ بعد الظهر على جاري عادته كمروج كوكايين محترف في المراقص الصاخبة حتى الصباح، وبجواره إحدى زبوناته المدمنات. تذكر أمر طائرة أخيه، التي كانت قد هبطت منذ ساعات. نظر إلى ساعته برأس مثقل بصداع انقضاء تأثير جرعات الليلة الفائتة. وأطلق لعنته الدارجة في مثل هكذا مواقف:"يا زبي"[28].

هكذا هبط محمد بن عيسى في مطار أمستردام بعدما نام جلّ الرحلة، حتى أن مرافقه الشاب أستل من جيب سترته جواز السفر وقام بتمزيقه في مرحاض الطائرة. . . ودلّه بعد الوصول إلى ممر العبور الأمني للأجانب، وذهب للالتحاق بممر حاملي الجوازات الأوروبية.

عندما جاء دوره، عند نافذة المرور الأمني، سأله الضابط الهولندي بتهذيب: "جواز سفرك سيدي". فأعلن عن نفسه في لغة فرنسية متعثرة أنه عيسى المسيح، وقد جاء مبشراً بمجيء نبي قادم اسمه محمد بن عيسي. ودون أن يفهم الضابط الهولندي ما يقول القادم، أدرك على الفور أنه أمام لاجئي مضطرب نفسياً. طلب منه أن ينتظر في القاعة حتى يُنادى عليه. لكنه استمر في بيانه الهذياني. ضغط الضابط على زر خاص. فظهر شرطيين. أخذاه معهما إلى مركز أمن المطار. ومن هناك نقلته سيارة طبيّة إلى مصحة عُصابية. تلقوه بعناية طبية فاخرة. عالجوه بأفضل الأدوية. أخضعوه لجلسات التحليل النفساني على يد طبيب جزائري الأصل، يفهم لغته العربية ولهجته الوطنية. وبعد نحو شهر نُقل إلى هايم اللجوء مع وصفة مبرمجة لمواعيد مراجعة طبيبه وأوقات تناول دوائه تحت إشراف عيادة "الهايم".

أنهى ارتشاف كوب الشاي الثالث بلذة ارتشاف رحيق، مستطعما الحثالة في القعر، متمطقا مذاقها الأخير بين شفتيه. ثم وضع الكوب ونظر فيه بانشغاف. وإذ طلبت من النادل فاتورة الحساب، ألتفت إليك، ضاربا الكلام بالكلام، في خضم تلاطم دخان الماريجوانا والحشيش، الذي عبَّق أجواء الحانة، التي ازدحمت بالمسطولين وأحاديثهم المسطولة.

تكلم مُؤلِّفا "كولاجا"[29] ذُهانيا كيفما أتفق:

لست ولد الله!

سيكلوب[30] يعيش في قاع الارض يخيف الناس لا يسكن المقبرة!

الجيش يسكن المقبرة.

قصر قائم بالمقلوب كل شى بالمقلوب!

النهاية تقترب تنطبق الشمس على الارض!

طائفة من أهل الطريق الصحيح تبقى!

لست الخاسر في النهاية، لما يتوقف العالم كل شيء سيتوقف!

أنا سأحيا إلى يوم الدين!

الجزائر بلادى لو لدى مال أذهب إلى امريكا أتكلم في التلفزيون!

أغير كل الديانات قبل فوات الاوان لأنها تفسد الآخرة!

خلقت الانس والجن ليعبدون الآخرة وعد حقاني دار دوام للمجاهدين!

يهود أرادوا قتلي هربت إلى الحواريين، قلت لهم سيأتي بعدى أحمد؛ سلام عليه يوم ولد ويوم يموت يوم يبعث حيا!

أريد ان أكلم العالم أرشده إلى الطريق الصحيح!

جئت في زمن السحرة، ليس عندي معجزة اذا متّ سيتوقف العالم!

كنت جنديا تركت الجيش بحثت عن عمل.

سأكون إلى يوم الدين السلطان عبدالله بن عيسى.

توجد شرطة تصلي جمارك تصلي شيخ كبير يصلي.

تتزوج بها وتعلمها قتلها حرام!

قبل 1830 جالسة عند البحر عارية قبل دخول فرنسا!

غيروا ما بأنفسكم لأنه لا يوجد عمل!

المرأة خلقها الله، أصبحت فتنة، لا تريد الزواج. جسدها في دار الزنا تفسد القوم!

فرنسا ترقد مع زوجة الرجل بالقوة، اذا تكلم يموت، اذا مات في تلك اللحظة يدخل الجنة!

أنا لا أخاف الموت!

فى "أرقان" يسقط الأكل بالطائرات. المساجين يتمنون الموت، يطلبون الموت للذهاب لدار الدوام!

أنا سجين عسكرى مشكلة أوراق عسكرية!

طلبت الخروج من الجيش قلت لهم أنا عيسى بن عبد الله قالوا هذا خيال!

 

2

كنت قد بلغتَ الحلم لتوك عندما زعق ذلك الملازم أول في ميكرفون الإذاعة ببيانه الانقلابي: «تنفيذا لإرادتك الحرة وتحقيقا لأمانيك الغالية، واستجابة صادقة لندائك المتكرر الذي يطالب بالتغيير والتطهير، ويحث على العمل والمبادرة، ويحرض على الثورة والانقضاض، قامت قواتك المسلحة بالإطاحة بالنظام الرجعي المتخلف المتعفن الذي أزكمت رائحته النتنة الأنوف، واقشعرت من رؤية معالمه الأبدان، وبضربة واحدة من جيشك البطل تهاوت الأصنام وتحطمت الأوثان فانقشع في لحظة واحدة من لحظات القدر الرهيبة ظلام العصور».

كنتَ مراهقا ابن محصل ضرائب يحب عبد الناصر حبا جما. أنخرطت مع بني سنك في مسيرات التأييد التي عمت المدينة كغيرها من المدن والبلدات ابتهاجاً بالانقلاب حتى قبل أن تُعرف هوية القائمين به. كان ابتهاجك، وكذا بني سنك، بما يحدث مرده إلى توقف الدراسة أكثر من أي شيء آخر.

وقع الانقلاب في العام الذي بدأ فيه شغفك بقراءة ما توفره مكتبة أبيك الصغيرة: السيرة النبوية لإبن هشام، وفتح الباري بشرح البخاري للحافظ شهاب الدين أبي الفضل العسقلاني المعروف بابن حجر، وليبيا الحديثة/ دراسة في تطورها السياسي للدكتور مجيد خدوري، والسفور والحجاب/محاضرات ونظرات: مرماها تحرير المرأة والتجديد الاجتماعي في العالم الإسلامي للآنسة نظيرة زين الدين. وبعض من مؤلفات طه حسن وعباس العقاد ومصطفى المنفلوطي ونجيب محفوظ. والكثير من الكتب عن عبد الناصر والقومية العربية. . . والصحف والمجلات التي يأتي بها الوالد.

كانت العائلة قد انتقلت إلى مدينة بنغازي، وطلع لك شعر في الذقن، والتقيت بالعيساوي الذي انتقل مع أهله من النجع إلى "بنغازي" قبلك بسنوات. اجتمعتما من جديد في حضن "رباية الذائح"[31] أواخر القرن الفائت. أستأنفتما رفقتكما القديمة في طور فتوة طالبين ثانويين. يسرقان الكتب من المكتبات. يدخنان خفيّة عن العائلة. يدمنان ارتياد دور السينما. ويولعان بقراءة الكتب الماركسية دون أن يبلغا كنهها حتى بعد سنوات طويلة قادمة. في المرحلة الثانوية قرأتما في الترجمة العربية: " مبادئ أولية في الفلسفة" و"البيان الشيوعي". . . وحتى "الآيديولوجية الألمانية" و"بؤس الفلسفة"[32]، من طريق أستاذ التاريخ، ذلك العراقي الأربعيني، الذي كنتَما من بين قلة من تلاميذه، المتعلقين بشخصيته ودروسه، وبأحاديثه الخاصة خارج الدرس عن التاريخ المزور في مناهج التعليم. وقد تطور شغفكما بقراءة الفكر الماركسي دون أن تكونا، الأحرى، أن تكون (أنتَ) مستوعباً تماما لما تقرأه. أما العيساوي فقد كان صاحب وعي استثنائي بالنسبة لطالب ثانوي. كانت له قدرة مذهلة على تفسير أسس الاختلاف بين فلسفة ماركس وإيديولوجية لينين. والمعنى الماركسي لخروج تروتسكي على ستالين. والمغزى الثوري لتحالف السريالية مع الفلسفة الشيوعية. وغيرها من الأفكار التي كان يستفيض أستاذ التاريخ، خلدون الياسري، في شرحها، بعدما تعمقت علاقتكما به، وصرتما صديقيه خارج المدرسة. وكثيراً ما كنتما تزوراه في بيته أثناء الإجازة الصيفية.

لم يكن متحزبا. كان ماركسيا رغم أن ماركس لم يكن ماركسيا كما كان يحب أن يُكرر. كان يعشق روزا لوكسمبرج،[33] ويعتنق بيان تروتسكي ـ بريتون[34]. كان قد ترك العراق إلى سوريا، كارها ما آل إليه حاله بعد انقلاب البعثيين 1963. ثم واتته فرصة جيدة للعمل في ليبيا الملكية فأنتهزها. لكنه هو الفار من انقلابيي العراق وقع في قبضة انقلابيي ليبيا. أُعتقل ضمن هوجة الاعتقالات الجماعية على إثر إعلان الأخ العقيد[35]ـ عن قيام ثورته الثقافية في تقليد للثورة الثقافية الماوية. ولكن طريقته الخاصة، داعيا باسمها إلى "تعطيل كافة القوانيين المعمول بها" بحسبانها قوانين رجعية، والقضاء على كل المنتمين إلى الأحزاب باعتبارهم "أعداء الثورة" مما يستوجب، حسبه، تطهير البلاد منهم باعتبارهم "مرضى سياسيا". وبذلك غُيّب الأستاذ خلدون الياسري مع المئات من الحزبيين والكتاب والمفكرين والإعلاميين والمثقفين في غياهب معتقلات "المرضى سياسيا". وداهمت زمر التفتيشيين المكتبات الخاصة والعامة لمصادرة كل كتاب يُشتم منه صلة ما بالشيوعية، حتى أن المصادرة طالت كتب دوستويفسكي وتولستوي وتشيخوف. أليسوا روساً؟! إذن هم سوفيتيون!

لأسابيع عشتَ والعيساوي في كابوس كافكاوي خشية أن يقبضوا عليكما في أي لحظة. حرقتَ، في "تنور"[36] الوالدة المنصوب في حديقة البيت، ما في حوزتك من مطبوعات ماركسية أو  تشي بها، وحتى بضع صور فوتغرافية تجمعك والعيساوي مع أستاذكما في رحلة جماعية للفصل. وكذلك فعل العيساوي الشيء نفسه في تنور أمه. وكان لابد أن تمر شهور متعاقبة قضيت أيامها والعيساوي قلقا على قلق، حتى تلاشى هاجس الخوف من الاعتقال. ثم ما عدتما تذكران أستاذكما وصديقكما إلا لماما. . . وبأسف عابر.

كان تأثير العيساوي حاسما في مقتك لـ"الثورة العظيمة" التي كان يصفها بالانقلاب البدوتاري الرث. إنكَ لتفتقده رفيق طفولة نصب الفخاخ الطفولية للحجل الغبي ذاك، وأخ الدم على مذبح الختان، الذي كنت وإياه في مدرج الدرس الجامعي، في كلية الآداب، عندما انبثق ذلك المشهد الهمجى في صباح يوم خميس ربيعي مشمس. أُخرجتم من مدرجات الدرس، تحت وقع اقتحامات الطلبة الثوريين، مسلحين بهراواتهم ومسدساتهم وهتافاتهم الدموية:

نصفيهم بالدم يا قائد! سير ولا تهتم يا قائد!

داهموا غرف السكن الداخلي والمكتبة العامة والميز والكافتريات. كانوا يُجمِّعون كل من تواجد آنذاك، فيما تسلل معظم الطلبة هاربين خارج الجامعة، متسلقين أسوارها أو  نافذين عبر فتحات أسلاكها المتهتكة. غير الكثير منهم الذين لم يحضروا عمدا ذلك اليوم، بعدما شاهدوا في اليوم السابق عمال النجارة وهم يُجهِّزون منصة شنق جماعي في موقف السيارات الواسع بعد إخلائه وإحاطته بحراسة أمنية مُشددة.

تعمدت والعيساوي الحضور ذلك اليوم:

- على الأقل يجب الا نخاف من الفرجة على جرائمهم!

قال العيساوي. لم تكن من رأيه. لكنك لم تستطع إلا أن تكون مع "بو رفيق"[37]. أما رفيقكما غيث، الذي سيأتي ذكره، فقد كان غائبا في إجازة عند أهله في "قصر ليبيا".[38]

رأيتَ فيما رأيتَ رهطا من الطلاب الثوريين المتهيجين يرتقون منصة الإعدام للتأكد من إحكام أناشيط الشنق ومتانة حبالها. بغتة أقتحمت المشهد شاحنة عسكرية مسرعة. فرملت في وسط الساحة بطريقة سينمائية مثيرة. قفز منها بضعة ثوريين مسلحيين، وقفوا في وضعية الاستعداد، وبنادقهم الرشاشة معلقة فوق أكتافهم. وسرعان ما توالى إنزال المحكومين بالإعدام من جوف الشاحنة، واحداً يلو الآخر. كانوا خمسة حيوات معصوبي الأعين ومقيديّ الأيدى خلف ظهورهم. أربعة طلاب وأستاذ جامعي. يُدفعون بعنف هستيري من قِبل عصبة ثورية هائجة تحيط بهم من كل جهة وتجبرهم على الهرولة في عمائهم نحو منصة الشنق. فيتلاطمون بعضهم ببعض.

رأيتَهم وهم يتخبطون في ظلمة أعينهم المعصوبة. يصطدم أحدهم بزميله فيفقد توازنه ويسقط. عندها تحيط به حفنه من الأقدام الثورية الهائجة. تركله بعنف أينما كان. ثم تُنهِّضه ليهرول موجَّها للالتحاق بجماعته، مدفوعا بالصفعات واللكمات والشتائم، في صخب الهتافات الدموية:

نصفيهم بالدم يا قائد! سير ولا تهتم يا قائد!

أربع طلاب. أربعتهم في السنة الرابعة اقتصاد. وأستاذهم الحاصل على دكتوراة اقتصاد من جامعة "ستانفورد" بامتياز مع مرتبة الشرف. تعلم على حسابه الخاص كابن عائلة ثرية. وكانت أمامه فرص مغرية، ماليا وعلميا، للعمل بالتدريس في جامعات بارزة بطول ولايات أمريكا وعرضها. لكنه فضّل العودة إلى موطنه لتعلقه بعائلته. حبذ أن يزاول التدريس الجامعي على الضد من رغبة أبيه في أن يدير عنه مشاريع العائلة التجارية (لم يكن الأخ القائد قد قرر تأميم جميع أنشطة التجارة والأعمال الحرة بعد). أربعة طلاب {عيسى ومحمود وهشام وعبد المولى} لطالما صادفتَ وجوههم، غالباً كشلة واحدة، في الكافتريا أو  المكتبة أو  الطرقات الجانبية، المؤدية إلى مدرجات الدراسة. وكثيرا بصحبة أستاذهم ـ صديقهم الدكتور "عمر القريتلي": الأربعيني، نجم الجامعة اللامع بلا منازع، بوسامته "القريتلية"[39] المائزة، بطوله الفاره، وشعره الأشقر الطويل الناعم. كان يساريا ليبرالياً، على الطريقة الأمريكية، بروح هيبية تحكم سلوكه في مخالطته للطلبة في الكافتريا والممرات والحديقة العامة. وحتى في غرفهم في المسكن الجامعي. يجادلهم كواحد منهم في أفكارهم وهمومهم بمودة صديق، ويعبر عن آرائه الفكرية والسياسية المناقضة للآيديولوجية الحاكمة. كان يدرك أن الأخ القائد بات في منزلة "أنا ربكم الأعلى". لكنه لم يكن ليتصور أن ملاحظاته الانتقادية العابرة سوف تؤدي به أن يكون في دفعة أوائل ضحايا شعيرة قتل جماعي، تُقام لعبادة شخصه في أحرام الجامعة أو  ساحات المدن والقرى أو  الملاعب الرياضية، إحتفاء بالمناسبات الثورية المُبجَّلة، التي كادت أن تكون أكثر من ايام السنة.

كان الطلاب الثوريون الذين يراقبونه يدبجون فيه التقارير الأمنية، بوصفه شيوعي، على رجعي رأسمالي، على فوضوي متغرب (متأمرك). خلطة من الأوصاف المنبوذة بمنظار ثورة القائد الثقافية. أما بقية معظم الطلبة العاديين فكانوا يأخذونه على أنه درويش علم. كان يتفلت بجنتلة راقية من مغازلة الطالبات الجريئات له. فكارين تنتظره في البيت. لا تعرف من بنغازي إلا بيتها، وبيت أهل زوجها وشاطئ "جليانة" ونزهات غابة وادي الكوف. كانت قد حاولت أن تثنيه عن العودة دون جدوى. فجاءت وطفلها الرضيع معه بعدما تخلت عن عملها المرموق في مكتبة جامعة ستانفورد، حيث تعارفا وتحابا. وعندما قُبض عليه مع طلبته المقربين، بتهمة تكوين تنظيم حزبي سري يدعو لتعدد الأحزاب، كانت في زيارة لأهلها في "سان خوزيه". حاولت بكل السبل تدبير عودتها لتكون بجواره في بلاده، حتى وإن لم تستطيع أن تفعل لأجله شيئا ملموساً ينقذه. كانت بلادها قد قطعت علاقاتها الدبلوماسية الكاملة مع جماهيرية القائد. ذهبتْ إلى الكونغرس تستجدي أعضاءه كي يفعلوا شيئا. راسلت الرئيس في بيته الأبيض دون ردّ. ثم استسلمت لما يأتي من أخبار عنه من أهله. ولا أخبار. لم يبق لها ما يبقيها متشبثة بمعنى الحياة سوى "سامي" وقد صار يمشي، فيما أبيه يُدفع إلى المشنقة بمعية طلابه الأربعة، معصوبي العيون ومقيدي الأيدي إلى الخلف. أوقفوهم أمام مشانقهم. فوقفوا مستسلمين لمصيرهم. كان معظمهم متماسكين، عدا هشام الذي أنهار ساقطاً على الأرض. فأوقفه حارسان ثوريان، من بين الحراس الثوريين الواقفين بكثرة على منصة الإعدام. ظلا ماسكين بجسده كي لا ينهار من جديد، بعدما وضعا حول عنقه الانشوطة. تلى زعيم الجلادين نص حكم الإعدام. فهتفت جوقة الثوريين في هستريا متهيجة:

الثورة مستمرة ! . . والخائن يطلع بره!

مانبوش كلام لسان!. . . نبو شنقه في الميدان!

تبى والا ما تبيش!. . . من غير القائد ما فيش!

تجرأ بعض الطلبة على التسلل من وسط الجمهرة، لائذين بغرف المبيت الداخلي، أو  هاربين خارج الجامعة، في غفلة انغماس الثوريين في الاحتفاء بالقرابين المُقدَمة لنيل رضى "القائد" الكائن في رسوليته المتعالية فوق التاريخ والبشر.

لم تعد تحتمل. أردتَ أن تتسلل مع المتسللين. شدّ العيساوي على يدك بقوة:

ـ خليك. . . ليش نهرب. خلينا نشهد على المشهد

ـ قول خلينا نشهد على جبننا

ـ ليكن

بقيتَ. شاهدتَ الأناشيط توثّق حول أعناقهم، وعيونهم معصوبة وأياديهم مغلولة إلى الخلف. اجتاحت جوفك نوبة غثيان جارف من رعب المشهد. كدتً أن تخر متقيئاَ. لكنك تماسكت بكل ما يمكن أن تقوى به في داخلك. تتفل عدة مرات بين رجليك. ألتفت إليك العيساوي. كان وجهه مصطبغ بحنق صارم.

ـ امسك نفسك

وعاد مشدود النظر إلى منصة الشنق، حيث الأناشيط معقودة حول أعناق أولئك الفتية الأربعة وأستاذهم، فيما هتافات الثوريين تتصاعد في استمنائهم المتهيج:

الموت للخونة الموت للخونة الموت للخونة!

نصفيهم بالدم! يا قائد سير ولا تهتم! يا قائد!

مانبوش كلام لسان! نبو شنقهم في الميدان!

كان المشاهدون واقفين واجمين عابسين، يكادون يتلاصقون، التماسا للتوحد في كتلة صماء، متواطئة، سرا، على الخوف والسكوت.

رأيتَ مع مَنْ رأى المقاعد الخشبية تحت أقدام أربعة طلاب أغرار وأستاذهم الشاب. رأبتَ أعناقهم مشرئبة إلى أعلى ما أستطاعوا (عدا هشام الذي كان خائر القوى كجثة تقريبا، محمولاً تحت جناحيه على كتفي ثوريين، لضمان إعدامه في الوقت نفسه مع البقية). رأيت آمر مجموعة التصفية الثورية يرفع الراية الثورية الخضراء إلى أعلى امتداد ذراعه، متأهبا لإسقاطها إشارة على تنفيذ الحكم. وما أن هوت ذراعه بالراية إلى الأسفل في سرعة خاطفة، حتى سقطت المقاعد الخشبية من تحت أقدام المحكومين في ضربة واحدة من أقدام خمسة ثوريين في توقيت واحد، مذهل في دقته. (لابد أنهم تدربوا جيداً على إتقان أدائه)، وسمعت مع مَن سمع صرخة مخنوقة، أجمع معظم الحاضرين فيما بعد أن البروفيسور عمر هو مَنْ أطلقها:

ـ تحيا ليبيا حرة من الفاشيين.

تدلت الأجساد الخمسة وهي تنتفض في أرواحها إلى أن انتكست رؤوسهم على صدورهم. فتطأطئ رأسكَ خجلا من تواجدك بصفة مشاهد مجلوب. أطبقت رهبة الموت على المكان، وعلى شهود العِيان. فساد سكون مُطبِق كسكون الجثث الخمس. طال السكون حتى عصبة الثوريين لثوان! وكأن على رؤوسهم الطير. ثم ما لبث أن لعلع صخبهم وهم يحثون الحاضرين على التفرّق، والعودة من حيث أتوا، وكأنهم لم يكونوا هم من جلبهم عنوة. تفرقت والعيساوي مع المُفرَّقين. عدتَ معه في سيارته "الفيات" العتيقة إلى المدينة، صامتين طوال الطريق. وراءكما خمسة جثث كانت لأرواح مشتعلة بالحياة، متدلية من مشانقها في موقف السيارات العام في مدخل المدينة الجامعية. الحق لم يتركوها معلقة في مشانقها لثلاثة أيام على طريقة جدهم "الحجاج". لكنهم أبقوا، بدلها، منصة الشنق قائمة لثلاثة أيام، عبرة لمن يعتبر من الطلاب الذين قد تزين لهم أنفسهم التشكيك في صوابية "الصائب الأوحد".

خمسة أرواح تحوم في فضاء المدينة الجامعية بعد شنقهم بأيام وأسابيع طويلة. رائحة موت ممزوجة بمذلة مُرّة، تُشبِّع كل شئ: الهواء، المدرجات، غرف السكن الداخلي، شراشف الأسرّة، مذاق الطعام، طعم القهوة، وملامح الوجوه الكئيبة بنفوسها الكسيرة وهي تتبادل تحية الصباح على مضض.

كنتَ والعيساوي مع الكثيرين الذين اختاروا التغيب لأيام. لكنك عدت دون أن يفارق ذهنك، معظم الفصل الجامعي، سيما عندما تلج بوابة الدخول العامة، مشهد الأجساد المتدلية، مُطوحة الأطراف، منزوعة الحياة، بمقتضى مشيئة القائد.

 

3

إلى بيت حمدان يتردد حفنة "مثقفين". بين ظفرين على رأي حمدان. لأن انتماءهم، حسبه، محسوباً، في أفضل الاحتمالات، على أنفسهم:

ـ وتلك نقطة لصالحنا

 يقول حمدان. ويضيف:

ـ الاعتراف بالعجز أكثر مصداقية من ملابسة البطولة

فيقول العيساوي:

ـ غرامشي فضحيتنا

يرد حمدان:

ـ فكونا من التبجح. لنترك غرامشي للطليان وغربه

تقول سلمى:

ـ لنكن متواضعين ونعرف قدر أنفسنا. لم يتكون لدينا مجتمع بعد، حتى نتحدث عن المثقف العضوي فيه. ما لدينا مسخرة من مساخر الطغيان الشرقي. لا زالنا لم نفارق تشخيص الشيخ الكواكبي قبل قرن مضى.

فتقول أنتَ:

ـ ليس لدينا أي معنى إلا في تزجية الوقت. يليق بنا مسرح العبث، ولكن على صورتنا الخاصة. صورتنا في صورة جدنا جحا .

ضحك البعض، ونظرت سلمى إليك بطرف لحظها، في التفافة ودودة، فيما كان زوجها يتحدث، مُعقِّبا بطريقته السريالية المتهكمة:

 ـ اللون وحده هوية نفسه. مائع ومتحول في مركّباته بما هو لغة سائلة لا ضوابط لها إلا طبيعته العضوية.

كانت سلمى تتردد بين وقت وأخر على بيت حمدان، المنزوي في زقاق مترب بلا اسم، مع زوجها، المأخوذ بدالي خطوطا وأصباغا، وإن ببصمة ليبية خاصة في تشكيلاته اللونية المنقوعة في المخيال الشعبي، بحيث تحل سلمى بوجوهها المتعددة محل "غالا"[40] موسمة بعلامات الوشم البدوي ودلالاته السيمائية الموغلة في القدم، مُرصِّعا جبينها بتميمة "خميسة وحويته وقرين"[41]. والخلفية تتسربل أساطير بني هلال وبني سليم.

كنتَ آخر المنتسبين إلى العشيرة الحمدانية. شاعر شاب اثارت قصائده الانتباه في الأمسيات الشعرية المُختلَّسة هنا وهناك. كنتَ تتوق إلى معرفة حمدان الذي انجذبت إلى عالمه الأخاذ في روايته القصيرة "الليبو الأخير"، المنشورة باللغة الانجليزية على حسابه الخاص، أثناء إقامته في بلفاست، في مطبعة مخصصة في الأصل لطباعة كروت دعوات الزفاف والمآتم.

كان حضور سلمي، إذا حضرت، موزعا على الجميع لطفا ورقة، دون نقصان أو زائدة. ويحضر من يحضر من بقية العشيرة: شعراء عدد 3. هم أنفسهم قصاصون تقريبا. وروائي لم يكن من الممكن نشر روايته الوحيدة في وجود الأخ. عيسى أوحيدة: مخرج سينمائي عاطل عن العمل في بلاد بلا سينما، منذ تخرج من تشيكوسلافيا قبل عشر سنوات مضت، ومعه سلفيا، زوجته التشيكية الشقراء الطويلة الفارهة، وقد تليبت تماماً.

وتحضر ربيعة الشاعرة النزارية، بخصوصيتها الأنثوية ونكهتها الليبية المعتقة في ذاكرة "للاات" المدينة القديمة، مع زوجها اليوسفي، مهندس الطيران، لا يُضاهى في تتْبيل اللحم وشيّه، فيما تحوم هي حوله، غامرة حضوره بالعناق والقبل، كلما عنّ لها، وكثيرا ما كان يعنّ لها. ثم قد يحضر الصالحين المخبر المفضوح عند الجميع منذ أن قدمه حمدان في حضوره للعشيرة الذين كان معظمهم موجودين وقتها:ـ صديق طفولتي ورفيق مدرستي الابتدائية والإعدادية، وأفضل من قد يكتب تقارير عنّا، لأن المخبر الذي تعرفه خير من المخبر الذي لا تعرفه. علاوة على أنه مزود فوري بالويسكي المهرب والحشيش الفاخر، ومجاناً. ومعها أحدث النكات عن الثوريين. .

تنظر إليه فتلفاه يبتسم ابتسامة لا عنوان لها:

ـ أوكي اعتبروني كما قال حمدان المخبر الذي تعرفه خير ممن لا تعرفه. فلا تخافوا مني. فلا ضرر منكم ولا ضرر عليكم . ولن تكون تقاريري عنكم إلا بما أنتم عليه: شلة مثقفين لا ضرر منهم ولا ضرار.

ويقهقه في صخب.

فيقول حمدان:

ـ سمعتم. نعم نعم. مثقفو لا ضرر ولا ضرار. هذا تعريفنا الدقيق. مثقفو لا ضرر ولا ضرار. ونسيت أن أقول أن الصالحين بدأ شاعرا قبل أن يصبح مخبراً.

يرد الصالحين:

ـ شاعر غزليات تفعيلة رديء وكنتَ تصحح لي الأخطاء الإملائية

يضيف حمدان ضاحكاً:

ـ والنحوية والعروضية. . .

كانت سلمي تحرص دوما ان تكون بين الجميع، بحسبانها محسوبة على نفسها فقط، حتى في وجود زوجها. كنتَ تحسده. لم تكن لتستطيع التهرب من إحساسك بالغيظ نحوه، بعد تخليص المسألة من ادعاء الرفقة. تراه مُبدِّدا في زمن مستنسخ من ساعة "دالي" المندلقة في اللاوجود كحساء بارد. تلمح في عينيه، أو  قل تود أن تلمح تلك النظرة المتزعزعة بإحساس خسران وشيك.

 لو سمحت

ـ تفضلي

ـ شكرا

ـ كما تريد!

ـ أعتقد الوقت متأخر!

ـ خلينا شوية!

ـ كما تريدين!

كان الكلام يجرى بينهما على شيء من هذا النحو. وباحترام مدروس في كلمات محسوبة. وكانت النظرات بينهما، تبان، ظاهريا، محايدة تماما، محمولة على لغة منطوية على أسرارها، يرجع لهما وحدهما فقط فك مدلولاتها. عبرها كانا يتحاوران عبر الجميع بتفهم الجميع، محافظين على رغبة مشتركة، شديدة الإتقان، في الإبقاء على مسرودات حياتهما الخاصة خارجاً.

راهنك العيساوي على زجاجة ويسكي، متهكماً بطريقة التقّازات (ضاربات الودع) أنها سوف تهجره بعد ثلاث شهور، أو  ثلاث اسابيع، أو  ربما بعد ثلاثة أيام. فتقبل رهانه المتهكم:

ـ مستعد لصندوق كامل

ـ لا، تكفي زجاجة واحدة

ولحسن حظك سيكسب العيساوي بعد شهرين وأسبوعين زجاجة ويسكي جوني ووكر مُهرَّب.

لم تكن سلمى تشرب الخمر أو  تدخن. كان مزاجها رائقاً على الدوام، ما دامت حاضرة بين آخرين تحبهم. كانت ضد تدخل المؤثر الخارجي في شؤون مزاجها الطبيعي ـ كما اعتادت القول ممازحة. لكنها لم تكن لتقاوم نفخات الدخان المخّدر التي قد ينفثها حمدان في وجهها، صائحا:

ـ"بخروا قرة العين"

فتصد، ضاحكة، الغارات الدخانية، مشتتة غيومها بكلتي يديها.

كان زوجها في مثل هذه الحالة يبتسم. أما لأنه ليبرالي قح. أو  لأنه لا يملك حق التدخل في شروط وجودها، وهي الممتلئة بتمام نفسها، وعلامة ذلك عندما تطفق تغني بصوتها الناعم بروحية صوفية كأنها خارج المكان:

يمامة بيضا ومنين اجيبها

طارت يا نينا عند صاحبها

ها هنا تنظر من منبذك، جالسا لصق مشرب بار صغير، في قرية ألمانية، تحتسى بيرة مختلسة من ألق الشمس، حسب وصف رامبو الجهنمي، تشاغل ذاكرتك وتشاغلكَ بصور مُتفلِتة متداخلة لوجوه تلك العشيرة في ذلك البيت العتيق، على الطراز الاندلسي، المنزوي في زقاق مترب مظلم بلا اسم في أطراف العاصمة الكئيبة، حيث الضجر إلياذة اليوم المعتاد في الزمن الراكد، لولا روح حمدان الباذخة في المرح والخيال. خيال حكايات تنثال مبدّدة على هدىّ سردها. كنتم تلقبون سرده المنطوق بمثلث حمدان الرهيب: طرابلس/ غرناطة/ بلفاست، حيث تتبدد المدن على لسانه وتتحلل في خياله الأزمنة. إذ بمقدوره أن يظل يروي بلا انقطاع حوليات الزمن الليبي الضائع في ذهنه، حتى تتوقف الأرض عن الدوران، أو  تنطق الآذان طالبة المغفرة، سيما إذ ما خالطت الثمالة الانسطال، فيصبح ما يرويه فوق طاقة الإنصات. عندها تأخذون في استرجائه، ممازحينه بتودّد، علّه يرأف بآذانكم البريئة، فيبقي لكم فيها فسحة لسهرة أخرى. وهنا قد تنهض سلمي لترقص هازة خصرها كأفعى مروَّضة على إيقاع الموسيقى المبثوثة في تلك اللحظة من المُسجَلة المتهالكة (قد تكون أغاني ليبية شعبية أو  حتى السيمفونية التاسعة) في صالة البيت مفتوحة السقف على السماء . . . تُقبِل على حمدان بصدرها الراقص وتنحني بظهرها إلى الخلف، مُسقطة رقبتها بحذاء كتفه، وهو يبتسم بود لمشاكستها المعهودة. ثم يطلق قهقهقة صميمية صاخبة، واضعا يده على فمه إشارة على إلتزامه الصمت نزولا عند إشاراتها الراقصة بطلب المغفرة لآذان الرعية المُجهَّدة.

وإذ تنهي نمرتها وتفك حزام الرقص المقشوط حول خصرها، الذي قد يصادف أن يكون شالها أو  شال غيرها وربما حتى رابطة عنق أحد الحضور المتهندمين (ليس بينهم زوجها صاحب رابطة عنق الفراشة)، ترمي به، حسب قواعد رقصة المرسكاوي التبادلية، في حجر أحد الحاضرين أو  الحاضرات، كأمر بالرقص لا يُردّ.

أكثرت من النظر إليها في مودة تلك الليلة. كان زوجها الجالس بجوارها يحادثها أحياناً همساً، وهي تصغي إليه باهتمام، دون أن تبادله الحديث إلا لماما. وفي الهُنيات التي تلتقي فيها عيناك بعينيها، بحكم تقابلكما في الجلسة حول نافورة المياه الأندلسية، تبتسمان لبعضكما بروح الرفقة الظاهرة. لكنك تصرّف نظرتها إليك بما تستشعرها مضمورا فيها. حتى تشعر أنها مطلعة على داخلك. كان زوجها، إذا لم يكن يحادثها، منشغلاً غالباً في تنظيف غليونه وحشوه من جديد، أو  يتحادث مع مروان الجالس بجواره من الناحية الأخرى، أو  يتابع حركة الراقصين وسط الدائرة بينكما، ونافورة ماء يفيض من جرة منكفئة على جنبها وقمر صيفي مكتمل يراقص النجوم في درب التبانة في رقعة السماء، بمقتضى سقف ذلك البيت الأندلسي المفتوح. وفي اللحظة التي قطعت عيناه مسار عينيك إلى عينيها، ارتبكت كأنك اقترفت آثما شنيعا. فرفعت كأسك نخبه للتغطية. فرفع كأسه وهو يُفتّر على جانبي شفتيه ابتسامة مجاملة، حمّالة ريب مشتبكة بينكما. نظرتما إلى سلمى، في اللحظة نفسها تقريبا، كأنكما تتقايضان عندها، لكنها كانت قد تركت مجلسها، في تلك اللحظة، قاصدة الحمام أو  المطبخ، كأنها تتنصل من عبث الذكور بالتاريخ.

رأيتَ فيه، منتشياً بويسكي الصالحين المهرَّب، ذلك الرجل الأربعيني الأنيق. بوجهه الرجولي الوسيم المحوَّط بلحية خفيفة مشذبة بأناقة بالغة. قليل الكلام إلى درجة تثير الأعصاب. لم تكن لتمنع نفسك من السؤال ما الذي يعجبها فيه؟! فقط كونه وسيما؟! لا بد أنه يحوز على شيء خاص. وربما استثنائي، كي يحوز عليها عدا أنه رسام متميز، ووسيم بشكل لافت كرشدي أباظة، بدون شنب. ألأنه ثري؟! ـ لا تظن. أحقاً يروق لها حرصه المفرط على أناقته بتسريحة شعره المفروق في الوسط على طريقة مافيا نيويورك في الأربعينات، وبذله المتنوعة، وربطة عنقه الفراشية، ولحيته المشذبة بدقة، وحقيبة غليونه الجلدية الفاخرة المصاحبة له على الدوام؟! أم هي ثقافته الواسعة بفن الرسم وتاريخه الذي درسه لعشرة سنوات في روما. وعاش سنتين متواصلتين يدرس لوحات غاليري كهوف تاسيلي[42] وألوانها المأخوذة من مسحوق عروق صخرية متنوعة الألوان، تُخلط بالحليب واللبان.

تطلب بيرة ثانية فيما ترتشف بقايا الأولى. أتذكر لما رمت بشالها الأزرق الشفاف، المنقط بنجيمات ذهبية، فغمر وجهك. لماذا لم تسقطه في حجرك كما هي القاعدة؟! أم أنها زلة رمية؟! ولكن ماذا عن تلك الذبذبة الأخاذة في نظرتها بلحظ العين، فيما شالها يطير مُحلِّقا في اتجاهك، متموجا في رقة {يطيب لك القول: مُحلِّقا في رقتها} ثم حاطا بطيئا بطيئا، غامراً وجهك بنعومته الحريرية ليغمر عطره الذي هو عطرها، النافذ في سداة نسيجه ولُحمته، روحك كمحتل تماما.

نهضتَ ورقصتَ، ثم رميتَ بالشال على وجه حمدان، ليضج فناء الحوش الأندلسي، المفتوح على السماء بمقتضى فضائه الأندلسي، بضحكات رفاق حميمين، متحلقين حول نافورة ماء الجرة المنكفئة. وفيما كنتَ تعود إلى مقعدك نظرتها بطرف خفيّ مشاكس، فردت بغمزة عين، يسراوية على ما تظن. وكان عليك أن تصرّف مغازها في ذهنك طوال تلك السهرة. لم يكن العيساوي قد كسب الرهان بعد. ستقول لكَ فيما بعد:

ـ كنتُ أتقصد إربكاك

نهض حمدان ورقص مُقلِّدا "حجَّالة الكشك"[43] بطريقة هزلية أدمعت العيون من الضحك. ثم تحول إلى رقصة زوربا، على إيقاع موسيقى أغنية المرسكاوي[44] "رزق العين على خالقها"، ضارباً بيديه على قدميه المتقافزين، صائحا:

ـ "روح زروبا من روح المرسكاوي! . . . روح زروبا من روح المرسكاوي!"

هكذا تلابسك سلمى، الروح النارية الكامنة في رقة الحرير والتمسك الصلب بالانكسار النبيل الذى يسند العالم. بينكما الزوج والشرق وبلاد كريهة. فيما تكرّ الأيام وتفر مثلما تحضر هي وتغيب. في بيت حمدان أو  في الأمسيات والندوات الأدبية النادرة. ونادرة هي عروض الأفلام الأمريكية والأوروبية المتميزة التي تحضرونها غالبا جماعة متكاملة في سينما "الودان الوحيدة اللائقة بتلك العروض. أتذكر فيلم "1900" لبيرﺗﺗﺸـــﻲ؟! كانت جالسة بينك وبين زوجها. فكرتَ كمراهق أن تُسلل يدك لتلامس يدها. لكنك تراجعت عن الفكرة ساخرا من نفسك في نفسك.

كان الوداد بينكما يتكاثف في اللمحات واللفتات. في الحوارات الجانبية والمزحات والمناكفات المُقتطَّعة على هامش مرح "العشيرة الحمدانية" ـ سيما وقد أخذتْ تأتي وحدها. لكن دون أن تُبدل شيئا أو  يتبدل شيء في تصرفاتها. فهي نفسها في حضوره أو  غيابه. بمرحها المشاكس وحيويتها المجادِلة في ما تجيد الحديث بشأنه، عند الحديث عن طبيعة قصيدة النثر، أو  الحداثة والعرب، أو  مسألة المرأة. هي سلمى بنت شرق البدواة المتقيحة. الساحرة المطاردة في عقيرة خطيب جمعة موتور، نبّاش تفتيشي في الصحف والكتب والاغاني والافلام والمسلسلات عن علامات الساعة الماثلة، عنده، في مظاهر الانحلال الأخلاقي للمجتمع:

«انتبهوا ايها المؤمنين وأعوا إلى ما يكتب ويعرض ويذاع، هنا وهناك من إشارات فساد وانحلال تريد النيل من تراثنا وديننا الحنيف! استمعوا إلى ما تقول احدى السافرات الفاسقات في ما يسمونها قصيدة النثر. وهى الحق الحق نثر للشر والكفر، ومؤامرة نصرانية كافرة لضربنا في أعز ما نملك وهو لغتنا العربية وتراثنا الطاهر وديننا الحنيف. استمعوا إليها وهى تقول والعوذ بالله: أيها الذكر أيها الذكر أيها الذكر. . . إنها تكرر ذلك ثلاث مرات، وهو تثليث نصرانى مقصود. ثم تقول مخاطبة هذا الذكر الذى هو عند نفسها المريضة :الإنسان العربي المسلم، تقول ولا حول ولا قوة إلا بالله. . اسمعوا ماذا تقول. . تقول:

إليّ بلحيتك الطويلة حتى التراب

يا فقيه المسرودات المعنعنة

أيتها المكنسة المقدسة!

أن بيتي وسخ منذ قرون

وهذا نتف من كثير يا إخواني المؤمنين. وهناك الكثير من اللغو الفاسد المفسِد الذى يهدد أخلاقنا الاسلامية السمحة وثقافتنا العربية النقية.»

كانت سلمى بنت أبيها، الذي كان واحدا من طليعة محامين على عدد أصابع اليدين لحظة استقلال البلاد. تزوج من معلمة مَدرَسة بنات، وناشطة نسوية من أوائل رائدات ثورة السفور، اللواتي كن مُشيطِّنات كساحرات في تلك الهيئة الاجتماعية، لتلك البلاد الخارجة لتوها من استعمار إيطالي استيطاني فاشيستي، بحيث لم يتجاوز عدد التلاميذ، في جميع المدارس يوم إعلان الإستقلال في نهاية العام 1951، المائتى تلميذ.

وُلدت سلمى في بداية سنوات نشوء دولة الاستقلال. ترّبت وترعرعت وحيدة والدايها المتنورين. في بيت يحتضن مكتبة تراثية تعود إلى جدها الفقيه القاضي. أغناها والدها بمئات كتب الأدب والفكر الحديث، التي كان يجلبها معه في سفراته المتواترة بين القاهرة وبيروت ولندن. علاوة على ما كانت تأتي به مكتبات طرابلس من إصدارات قبل إعلان "الثورة الثقافية". كانت سلمى «بنت بوها»، الذي لم يكن يجد غضاضة في خروجها بلباسها كما تحب لنفسها. لكنه لم يكن يتسامح مع تأخرها عن موعد رجوعها إلى البيت قبل الغروب. وكانت فطنة تماما لمعنى حريتها، بحدود سقف أبيها الليبرالي بضرورة العودة إلى البيت حسب التوقيت. وتحت ذلك السقف الحر إلى ما قبل الغروب، تجرأت سلمى، مع عصبة من بنات جيلها، على الخروج إلى الشارع العام بالمينى جبّ، الذي ظهرت موضته الفائرة في منتصف الستينات الأوروبية، ووصلت سريعا إلى محلات الملابس الفاخرة في قلب طرابلس، التي كان يملك معظمها مستوطنون طليان، بقوا بعد إندحار المحتل الإيطالي قدام "المحرِّر" البريطاني.

مع الانقلاب ظهرت زمر "بوليس الآداب (الأخلاق الحميدة)" في شواع المدن، مسلحين بأمقاص قاطعة، يطاردون بها بعض الشباب هنا وهناك، لقَصْقَصَةً شعورهم الطويلة، وتقطيع أحجال بنطالوناتهم تشارلستون ذات الأحجال الفضفاضة. ولم يكن مستغرباً، في هوجة تلك الحملة الهسترية، في بداية السبيعنات، أن يظهر هنا وهناك، عناصر "بوليس الآداب" وهم مزودين بفرشات وآواني طلاء أسود لتلطيخ سياقان الصبايا اللواتي لا زلن يجرؤن على الخروج عن الرقابة بتنوراتهن القصيرة.

 

4

فى بيت حمدان على لسان حمدان تفيض الحكاية المفتتة حكايات في ذاكرته المتداعية، إلا إذا شاكسته سلمى بتعبيراتها المرحة برسم إشارات الصمت، في طلب الرحمة لراحة الآذان المضطهدة، وإعطاء الفرصة للألسنة المتشوقة للكلام كشوق المخنوق للتنفس. أو  يراهنه العيساوي بعشرة دنانير مقابل التزامه السكوت لعشرة دقائق متواصلة.

يجاهد حمدان لأجل كسب الرهان. تمر الدقيقة الأولى والثانية وهو صامت على قلق، فيما العيساوي يتحدث عن ذكريات مشوِّقة محورها حمدان. الجميع مجمع على خسارته الرهان. فتلك لم تكن المرة الأولى، سيما وقد دخن لفافة العشبة الملعونة. وكما هو متوقع: عند الدقيقة الرابعة أو  الخامسة، بالكثير السادسة، تبدأ التململات الحمدانية التمهيدية. إذ يضم أصابع يديه المتداخلتين، ما عدا الأبهمين اللذين يشهرهما إشارة إلى طلب السماح بتدخل ضرورى عاجل، وغير محسوب على الرهان. فترد عليه سلمي: "الرهان رهان. قاوم. أنت تفعل الشيْ الصحيح. لم يعد أمامك الكثير. ثلاثة دقائق فقط.".

ولكن يكون ما ليس منه بد. يصيح كالخارج من تجربة إغراق كابوسي، محتجاً على ما يسميه رهان غير موضوعى:

ـ انتهزتم فرصة تدخينى المفروض أن أكون بدون تأثير مفعول خارجى. أنتم لا تفهمون أصول المراهنة. الغجر في كهوف الأندلس علموني حكمة، إذا شعرت أن لصا ذكيا يسرقك إبتسم له وأتبعه.

هكذا قد يتداعى في إثر نفسه مطاردا صوره الفالتة هنا وهناك في فوضى مسروداته:

 بلفاست تحترق

فى حانة الذئب الوحيد

جيرى اسفنجة حانات بلفاست وضواحيها

الايرلنديون كائنات من خلاصة القلق الوجودي، والانتظار العبثي

في انتظار غودو على الدوام

جولي قالت ليّ:

أتعرف من هي أيرلندا؟!

 انها أنثى الخنزير التي  تأكل أطفالها قال جويس

جويس سيد التاريخ في يوم واحد، حيث أهل دبلن يعلقون روؤس ذئاب بانياب مكشرة محنطة في آهاتهم

 جولى قالت لي تعالى وخدني

نعم هكذا قالت لى تعالى وخزني

هكذا هم الأيرلنديون أيرلنديون بالورطة

يصحو حمدان في سرير أبيض برأس مشيَّش، وجرح مُقطَّب بأكثر من عشرين قطبة بامتداد زاوية الجبهة اليمنى، نزولا عند الصدغ. في ظهر كفه اليسرى مغروزة إبرة تغذية، وممرضة واقفة فوق رأسه تدس تحت إبطه مقياس الحرارة، مبتسمة له بود، إذ لمحته يسترد وعيه، وهو يرمى ببصره حواليه في أرجاء الغرفة الواسعة، التي يشاركه فيها مرضى أخرين، مندهشا لوجوده هناك.

ـ لا تجزع أنت بخير.

 قالت الممرضة، في الوقت الذي وصل فيه الطبيب المختص، ومن حوله رهط من طلبة الطب. تفحص حمدان وجوه أصحاب المعاطف البيضاء. وتذكر: بلفاست ذات ظهيرة مشمسة، في طريقه إلى البيت، يقطع ممر المشاة إلى الطوار الآخر من الشارع الواسع، وسيارات كثيرة مرصوفة على الجانبين. يجتاز بعض السابلة مسرعاً، مدندنا في خاطره، كعادته غالبا، بأغنيته الطرابلسية المحببة إلى نفسه:

كلمتها واطت العين عليّا

أنعطف بامتداد شارع جانبي. كان مكتظاً بالسيارات المرصوفة في ازدحام، وخالٍ من المارة وقتها، عدا صبي صغير يحمل حقيبة ظهره المدرسية، قادما قبالة حمدان، الذي أبطأ من خطوه، مندمجاً في دندنة أغنيته الطرابلسية، في الوقت الذي اقتحمت فيه سيارات عسكرية الشارع الرئيس، مطلقة نداءا متكررا عبر مكبرات الصوت، تطالب المارة بإخلاء المنطقة. سمع النداء كما سمعه الصبي، فسارع كل منهما في سيره. وما أن تقاطعا بلحظات، حتى انفجرت سيارة مفخَّخة في موقفها، أمام الصبي مباشرة وخلف حمدان بأمتار، كانت كافية لإخراجه من محيط دمارها المميت، لكنها نالت منه بشظية صغيرة فالتة، حفت قبعة رأسه. فرأى، فيما كان يسقط غائب الوعي، الصبي الصغير يطير عاليا، مرفوعا بكتلة من نيران ودخان. ولا شيء بعد ذلك.

خرج بعد أسبوع من المستشفى مع زوجته ساره.

ساره رسامة أيرلندية مغمورة. جمهورية "معتدلة" وهيبية سابقة. صهباء، منمشة الوجنتين. تعارفا في حفلة عيد ميلاد صديق ايرلندي. فتحابا، ثم تعاشرا وانجبا توأم. أصر أن يسميهما باسمين عربيين. وافقته على رغبته بشرط أن يكونا اسميين ملائمين للنطق على اللسان الإنكليزي. فتوصلا، بعد اختيارات متداولة، إلى ترشيح اسمي: سامي ونسيم.

كان حمدان متيّما بروح "هيمنجواي". شغوفا بمحاكاة أسلوبه البرقي وفنه القصصي في مراسلاته الصحفية من قلب أسبانيا الجمهورية، المندحرة، شيئا فشيئا، أمام تقدم فاشيي فرانكو. قلده في كتابة تقاريره الإنبائية لصالح وكالة أنباء الأخ الكولونيل، المولع بتبني القضية الأيرلندية الشمالية بحسبانه "قائد الثورة العالمية".

كان يحتقر عمله في الوكالة. لكنه بحاجة للنقود ليعول أسرته. وظيفة أكل عيش كما يسميها. دمج بين عمله في تدبيج التقارير الاخبارية والمران على مقاربة لغة معلمه هيمنجواي، في تحميل تقريره الصحفي محمل النص الأدبي. وفي ذهنه تقرير "المعلم" في وصفه القصصي الصارم، في حياده المستوحش لذاك الشيخ على ذاك الجسر. حيث هاتيك القطة هي تلك السمكة في حكاية ذاك الشيخ وذاك البحر[45]ـ

كانت بلفاست تشتعل. وحمدان يتحرك بين حرائقها، بحرفية المراسل وروح القاص، عاقدا صلات وثيقة، من طريق ساره، بمصادر مُقرَّبة من "الجيش الجمهوري"، مواظبا على بث تقاريره، التي كان يُعاد صياغتها، في مركز الوكالة بطرابلس، كي تلائم الكليشيه الثوري المكرور.

أحتج لمرات على العبث بأسلوبه، ثم أيقن ان لا جدوى ترجى من وراء احتجاجه، وهو المجنون بحب سامي ونسيم، حالما لهما بمستقبل ناعم، بلا عثرات، حتى لو كانت من نوع تعثرهما الاجباري في خطوات حبوهما الأولى. . .

لكنه منذ خرج من المستشفى مع ساره لم يعد هو نفسه. كأن الشظية التي حفت جمجمته، حفت كذلك وعيه بذاته وبالآخرين. بحيث لم تعد سارة والطفلين يعنونه في شيء، مثلما لم يعد يعني لنفسه شيئا. أصبح غير ذي صلة بالآخرين وبنفسه أيضا. أخذ يفرط في معاقرة الكحول. أتصل عدة مرات بمكتب الوكالة في لندن، تحت إلحاح ساره، مطالبا بمستحقاته، بعد إلغاء التعاقد معه. كانوا يتملّصون منه في كل مرة. أطلق لحيته على عواهنها، عاجزا عن الكتابة، والقراءة أيضاً، غارقا معظم الوقت في السكر، والاستماع إلى "المألوف الليبي"[46]، وقد تحولت أرضية الغرفة الصغيرة التي يتخذها مكتبا في بيته إلى سلة مهملات لأوراق الكتابة، أغلبها بيضاء مجعَّدة، مرمية في كل الأنحاء، وغمائم تدخينه المتواصل تضبب المكان. كثير الاحتجاج في وجه سارة، التي لم يعد يراها سوى ممرضة كريهة. وكثيرا ما يرفض تناول دوائه، لاعنا نفسه حتى حدود البكاء كطفل متروك ظُلما.

ـ "لن أعيش هكذا. . اللعنة اللعنة اللعنة . . تزوجتني بدون أدوية".

ـ"لكنك مريض الآن".

ـ"لا تحاولي التخلص مني".

ـ"فكر في سامي ونسيم، إذا كنت لا تريد أن تفكر في نفسك؟!"

ـ:"لا استطيع أن أفكر حتى في نفسي!"

ـ"عليك أن تواظب على علاجك إذا أردت أن تشفى. ولا يمكن أن تشفى بالخلط بين الدواء والكحول"

ـ:"لا تعامليني كمريض"

ـ:"أنت مريض فعلا. ولم أعد استطيع الاستمرار معك وأنتَ على هذا الحال."

تمادى في تبديد نفسه في الحانات. وسارة تجاري ورطتها في ورطته. اجتهدت أن تتفهم حالته، وتتكيف معها، حتى وهو يبحث عن عشيقها المتوهَّم في الحمام. في المطبخ وفي غرفة الخزين. في غرفة النوم. تحت السرير. في دولاب الملابس. وحتى في شنطة السفر الكبيرة الموضوعة فوق الدولاب. لكنه ما كان ليمسها بسوء. كان يُكثر من الإرتماء في حضنها كحطام من يأس وندم. تأخذه بين ذراعيها. تنيَمه بجانبها كنبة المكتب، مُسندة رأسه على فخذها، فيما يطلق العنان لبكاء طفل مفقود في وجود بلا عنوان. تخربش شعره كأنه سامي ونسم معا، اللذان يحملان عنه سمرته الحنطيّة وأنفه الأفطس، وعن أمهما نمش وجهها الإيرلندي وشعرها الأصهب، وقد وجدا نفسهما مقصيين خارج معنى الأب الذي اعتاداه. إذ بات رجلا غريبا لا تستطيع قدرتهما الذهنية على تفسير ما حدث له. لم يعد يدخل البيت صائحا باسميهما حيث كانا يقبلان عليه متعلقين معا برجليه العملاقتين. وصار ينفر من اللعب معهما، وهو الذي تعوداه لا يمل من حملهما معا، فوق ظهره متمثلا دور الجمل.

وفي الأخير حسمت سارة أمرها. فلم يعد من جدوى، في تفكير أم تخشى على طفليها، الاستمرار مع بقايا رجل. علاوة ما عاد راتبها كمدرسة روضة يغطي مصاريف البيت والطفلين، وذاك المُبدَّد في السُكر برفقة أصحابه من الأيرلنديين، ملوك الثمالات العابرة للحانات. يوصلونه إلى بيته في أخر الليل، متضعضعا بمزيد من عقد النقص المخمورة. وكان عليها أن تكون في انتظاره عندما تشعر بقدومه الثمل، وهو يفتح باب الشقة متلبكاً. تأخذه إلى فراشه المطروح على أرضية غرفة المكتب الصغيرة. تخلع حذاءه وتتركه ينام في ملابسه. وقد تبقى معه بعض الوقت، إذا ما أصر عليها أن تبقى معه. تستمع إليه متداعياً في حطام نداماته المكروره. تتركه يؤدي نمرته المعتادة في جلد ذاته بسياط ذكرى أبيه، وهو يسقط أمامه بالذبحة الصدرية خلف المحراث، مستغيثا بالنجاة في كلمات خرساء، ناظرا إلى ابنه الصغير بعينين شاخصتين في جحوظ إلى الحياة، وهي تنزع نفسها منه، بينما يسقط وجه منغرسا في طين الأرض المحروثة. كان إبن الثامنة وقد شله الجبن، فعجز عن فعل أي شيء، بحيث أنه لم يجرؤ على الاقتراب من جسد الأب الهامد بوجهه المغروس في أخاديد الأرض المحروثة. تسمر ثابتا حيث هو قبالة جثة الأب الميت. ثم فرّ هارباً من المكان كضحية ناجية، مستنجدا بأمه وأخوته: "خليته بروحه. مش عارف شنو صار له". وينخرط في البكاء كطفل محبوس في الظلمات، وهو يروي كيف طار ذاك الطفل فوق النار والدخان ولم يقع. لكنه بات يقع في كوابيسه باستمرار. تسبح اشلاؤه وحقيبة ظهره المدرسية، العالقة بجذعه منزوع الأطراف، في فضاء دخاني كثيف. ثم يسقط رأسه الصغير في السرير بينه وبين ساره. وإذ ينظر إليه يكتشف أنه رأس بوجهي نسيم وسامي. والدم يتدفق من الرقبة المقطوعة كمضخة ارتوازية. يغرق الغرفة، ويفيض منها عبر النافذة إلى الشارع. ثم يتجمع في كرة دم خرافية، يحيل شكلها إلى فيلم "البقعة" لستيف ماكوين. تتضخم كلما التهمت شيئا حيا في طريقها: المارة في الشوارع والقاطنين في بيوتهم. العشب والأشجار والحيوانات . . . وحتى البكتريا والميكروبات والفيروسات. كانت كرة دموية جهنمية قاتلة. تتسلل إلى كل الأمكنة من كل منفذ، لو كان في سعة خرم شعرة بحيث ما عاد من مفر للخلاص. رأى سامي ونسيم يركضان فزعين في فيافي ثلجية، يحمل كل منهما حقيبة ظهره المدرسية، فيما الكرة الدموية العملاقة تلاحقهما متدحرجة وقد تطاول حجمها حتى أعنان السماء، ملوِّنة كل ما تمر به بلونها الأحمر القاني . . . بحيث ما عاد لهما من حظ بالنجاة، سوى أن ينهض أبوهما من كابوسه، فينتفض صارخا في سريره حتى يرتج الكون.

ذات فجر وقد تأكدت أنه غط في نومه الثمل، أيقظت طفليها ونبّهتهما ألا يثيرا أي حركة، فالتزما بتوجيهاتها حرفيا، حتى كادا يسيران في الهواء. كانت قد رتبت ملابسها وملابسهما في شنطة السفر الضخمة. جرتها مجتهدة ألا يوقظ صرير عجلاتها الصدئة رجلها الغارق في شخيره. سحبتها ببطء إلى خارج الشقة، وأغلقت الباب بهدوء على رجل أحبته، ولم تعد تعرفه. تركته يواجه مصيره لوحده، لاجئة بولديها بعيد عن بلفاست. لم تكن لتذهب إلى أهلها في إنسكلين Enniskillen، وهي التي قررت الخروج من وجودهما نهائيا بعدما تطلقا قبل خمس عشر سنة، وكانت في السابعة عشرة لما استقلت القطار إلى بلفاست. ولم تُحدّث حمدان عنهما إلا لماما. سأل عنها في مكان عملها. وفي بيت صديقتها الحميمة "ليزا". وسرعان ما أصبح عاجزا عن تسديد إيجار الشقة، بعدما نفد رصيده البنكي. فأخذه صديقه "جيري السفنجة" للعيش معه حيث يعيش مع جدته العجوز، التي كانت في ثورة "عيد الفصح"، تلك الصبية الجمهورية الثائرة!

وسنجده، بتشجيع من جيري، يذهب إلى سفارة الكولونيل في دبلن لمقابلة السفير، ومطالبته بمستحقات صرفه من العمل. يلبسه جيري بذلة رسمية، ويُناوله حبة بروزاك. وسوف يُفاجأ بموظف الاستقبال يبلغه بأن السفير يبحث عنه. يقابله السفير بتودد. ويدفع له نقدا ضعف ما يطالب به من مستحقات، مع رجاء أن يعود إلى البلاد، قائلا أن تلك رغبة أخيه "الضابط الحر"[47] التي تبلغ بها شفويا من طريق الخارجية، وأنه مستعد الآن لإتمام الحجز له على أول طائرة.

هزّ جمدان رأسه موافقا على ما يقوله السفير. وطلب منه أن يمهله أسبوعا ريثما يرتب أموره. بينما كان يفكر في جيري الذي ينتظره في الخارج. خرج على جيري وكأنه خارج من مغارة علي بابا، ملوحا بالأوراق النقدية. فصار المجد للحانات في تراكين بلفاست الحميمة. ولم يكن لينتبه للمخبر الذي خصصه السفير لمراقبته وإعداد تقرير عن تصرفاته.

بعد أسبوع طيّر السفير تقريره الموجَّه إلى "مكتب الإتصال باللجان الثورية" بشأن وضعية: "حمدان يوسف السلفاتي الموظف السابق بوكالة أنباء "أوج". . . . صرفت له السفارة كامل مستحقاته رغم تغيبه عن العمل عدة أشهر، بناء على توصية أمين اللجنة الشعبية العامة للاتصال الخارجي. وقد تمت متابعته أمنيا بناءً على توصية الأخ منسق مكتب الاتصال باللجان الثورية. واتضح أنه يقضي معظم الوقت من المساء حتى طلوع الصبح في الحانات والمراقص. وليس سكره هو باب القصد هنا رغم ان ذلك يتنافى مع الأخلاق الثورية التي سنها قائدنا، انما لأنه أخذ يرجف بإشاعات ونكات سفيهة، عن الثورة وقائدها العظيم. لا نرى جدوى من تصفيته . . . من الأفضل أن يأتي شخص مؤثر من عائلته ويعود به إلى البلاد."

سافر إليه أخوه الموظف المصرفي البارز في البنك المركزي بدعم من أخيه الكبير "الضابط الحر"، وعاد به بحجة أن أمه تحتضر وتريد أن تراه.

عاد مع أخيه بقايا فكرة عن نفسه وقد أطلق لحيته وشعر رأسه مدّعيا أنه سليمان الباروني[48]. متساءلا عن مصير بشير السعداوي في المنفى[49].

أودعه أخوه المصرفي "مصحة قرقارش" بعد وصولهما مباشرة، حسب توصية أخيه "الضابط الحر":

ـ مانبيش فضائح. احجر عليه فورا. واخفي الخبر عن العائلة. ما نيش مستعد للإهانات بسببه. عاهدت القائد ننهي الموضوع بشكل ودي. ممنوع يتحدث بالمرة في السياسة. إن شاء الله حتى يلغوا تفكيره بالكامل.

بقى حمدان في "المصَّحة" عدة أسابيع. حُقن بالمهدئات في العروق وصُدم بالصدمات الكهربائية في الصدغين. وعندما تبين لأطبائه أنه قابل للخروج للحياة العامة، أخذه أخوه "الضابط الحر" وأسكنه بيت العائلة القديم المهجور في أحد أزقة "قرقارش"، وفتح له الأخ المصرفي حسابا جاريا يغطي مصروفاته الشهرية. وألح عليه ان يبقى بعيدا عن السياسة، وشلل المثقفين تقديرا لوضع أخيهما الحساس.

لكن حمدان لم يكن غير نفسه، وقد أحاط به من يحبهم. لم يكن معنيا أصلاً بالسياسة، إنما بخيال سرده المتداعي في مثلّثه البرمودي الرهيب: طرابلس/ غرناطة/ بلفاست. على لسانه تتبادل المدن الأمكنة وتتحلّل الازمنة في شتات روحها المبدَّدة في حضرة حفنة مثقفين بين مزدوجين، بحسبان لا جدوى من تفكيرهم وإبداعهم، في وجود عبقرية نبي الدجاجة التي تبيض، والديك الذي لا يبيض[50].

فلترفع كأسك نخبهم، حيث أنتَ لصق مشرب بار متجهم، في قرية ألمانية تكره الأجانب وقدامك رغوة بيرة مختلسة من ألق الشمس، بوصف قتيل الغرغرينا في نهاية ذلك القرن العفن.[51]

 

5

في بيت حمدان يحدث أن تغيب سلمى لأسبوع . . أسبوعين. لكن غيابها طال لأسابيع. تسأل حمدان. لا جواب عنده، أكثر من أنه أتّصل بالبيت، فرد عليه زوجها معتذرا عن الحضور لمشاغل خاصة. سأله عنها؟! فعرف منه أنها في بيت أمها منذ أسابيع، وربما ترغب أن تظل هناك لأسابيع أطول.

ـ واضح أنهما افترقا

قال حمدان.

قلتَ:

ـ أيش رأيك نطل عليها.

قال:

ـ متحاولش حتى تتصل بها. نعرفها لما تدخل الحالة الرمادية.

ـ اي حالة رمادية؟!

ـ يعني لما تحجب نفسها عن الخارج.

ـ خليني إنجرب فلن أخسر شيئا. .

أعطاك رقم هاتفها في بيت أمها. هاتفتها. رنين طويل حتى كدت أن تغلق السماعة، عندما سمعت صوت الأم، الذي ظننته صوتها:

ـ مرحبا سلمى

ـ أنا أمها

ـ أه .. أنا آسف .. ممكن نحكي مع سلمى.

ـ من أنت؟!

ـ أنا صديقها خذيت رقمها من حمدان .. تعرفيه؟!

ـ طبعا نعرفه .. لكن سلمى ما تبيش تحكي مع حد .. حتى مع حمدان .. حمدان يعرف.

ستلمس وتفهم فيما بعد مغزى "الحالة الرمادية". انتابتها لأول مرة، ولأسابيع طويلة، عندما كانت في السابعة عشرة، على إثر وفاة والدها، أحب الخلق إليها. كانت ممسكة بيده اليمنى بحذاء سريره، وأمها ممسكة بيده الأخرى على الجانب الآخر من السرير، وهو يحتضر في ذروة إستشراء سرطان الرئة حتى النفس الأخير. يرفع عنه كمامة الأكسجين، ويجذب يدها إليه. تضع رأسها على صدره. يمسد شعرها بكف واهن في جسد محتضر، هامسا بأنفاس منقطعة:

ـ خليكي كيف ما تربيتي!

تقبّل يده تسبقها دموعها. تقبل جبينه. تعيد إليه كمامة الأكسجين، فيرفضها هازا برأسه:

ـ خلاص يا بنتي.

تمتثل لرغبته. . . {وما يلبث، كما يحدث في الأفلام الميلودرامية، أن يفارق الحياة مُسقطا رأسه على جانبه الأيمن أو  الأيسر حسب تصور القارئ.}

تعتكف في غرفتها لا تخرج منها إلا إلى الحمام أو  إلى صالة المكتبة لاقتناء ما تقرأه في فراشها، أو للتقوت بما تيسر في مطبخ الوالدة.

وهي "الحالة الرمادية" نفسها التي انتابتها بعدما بلغ إليها خبر وفاة حبيبهاـ زميلها في كلية الحقوق في حادث اصطدام سيارته بجمل في الطريق البري السريع، ما بين "مصراتة" و"سرت"، قبل أن يظهر في حياتها الرسام السريالي بتسريحة مافيا الأربعينات.

وها هي تدخل الحالة نفسها بعد انفصالها عن زوجها. ستقول لك أنه ليس السبب. كان فنانا ووسيما ومهذبا. أحبته في شهور الخطوبة، وشهور الزواج الأولى. ثم اكتشفت أن لا شيء حقيقي يربطها به، دون أن تحسم الأمر معه. وكان عليها أن تواصل دورها وكأنها تعاقب نفسها، إلى اللحظة التي قالت له فيها:

ـ يجب أن نتوقف هنا

فوافق. وقرر أن يترك لها البيت. فرفضت.

ـ سأعيش مع أمي. .

تقرع جرس الدارة العتيقة الانيقة في حي "قرقارش" الراقي في مساء صيفي رطب. راهنت انها هى من سيفتح الباب. أنفتح الباب، فلاح وجه أم طرابلسية ستينية، معتقة في خليط الود والحكمة:

ـ مساء الخير

ـ مساء الخير

ـ ممكن نحكي مع سلمى

ـ أنتَ اللي كلمتني في التلفون

ـ نعم

ـ شنو نقول لك.

وإذ بها تطل عبر الممشى الفاصل ما بين مدخلي الفيلا الداخلي والخارجي، في فستان بيتي صيفي مُزهَّر. انسحبت الوالدة، وبيقتَ في مكانك عند مدخل الباب الخارجي، وهي قادمة نحوك بوجها المنطفيء في حزن نبيل (يسمونه الكآبة). فاقدة للكثير من وزنها مما يحسدها عليه أنحف العارضات:

ـ كيف حالك؟!

ـ كيف ما انت شايف.

وعبثت بشعرها بكلتي يديها.

قلتَ:

ـ الحالة الرمادية؟!

قالتْ:

ـ مَنْ مصدرك. ؟!

وابتسمت.

ـ حمدان طبعاً

وأضفتَ:

ـ جيت بعد تردد؟!

قالتْ:

ـ ادخل ادخل بلاش تبريرات انا سعيدة انك جيت.

قادتك إلى غرفة مكتبة الوالد التي كثيرا ما حدثتكَ عنها. صالة واسعة يتجاور فيها مجلس أرائك ليبية، إلى جانب قطع صالون من طراز فرنسى كلاسيكى، محاطة جدرانها بأرفف تغص بكتب يغلب عليها التجليد فيما رائحة الفسوخ والجاوى تعبِّق المكان.

ذهبتْ لتجلب القهوة. تجولتَ حول أرفف المكتبة. تطالع العناوين المدوِّخة: عشرات كتب القانون بالعربية والإنكليزية والفرنسية. مجلدات الاغاني لأبي فراج الأصفهاني. الف ليلة وليلة. لسان العرب لأبن منظور. المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام للدكتور جواد علي. تاريخ الطبري للطبري. تفسير الشاطبي للشاطبي. الامتاع والمؤانسة والإشارات الإلهية للتوحيدي. الحوليات الليبية للمستشرق الفرنسي شارل فيرو. دائرة المعارف البريطانية. قصة الحضارة. قصة الفلسفة. مجموعة ديستويفسكي الكاملة .. وإليها رفّ طويل بالروايات المترجمة من "مدام بوفاري" إلى "مائة عام من العزلة". و. و. و..

جاءتْ بالقهوة تسبقها رائحة الزهر

أريتها ما انتشلته من المكتبة: "الحزب الهاشمي"[52]

قالت ضاحكة:

ـ محاولة شيطانية لتدويخ رأس الحاضر بالماضي.

جلستما معاً على كنبة واسعة في ركن الصالون الشرقي، حول طاولة خشب شامية صغيرة تتناولان القهوة المُنكَّهة بماء الزهر. تحدثتما عن هزيمة "الحزب الهاشمي" بسيف "الحزب الأموي"، حيث لاتزال شعرة المستمر القمعي الذكوري لم ينقطع خطابها من "الخليفة معاوية" إلى "الخليفة الكولونيل". هي هي شعرة السلطة البطريركية نفسها، تنشد وترتخى حسب مقتضيات لعبة السيف والذهب، مُورِّثة عنعناتها إلى إلخاتها.

{. . ومر الوقت بالقهوة المُنكَّهة بالزهر وبشجون الكلام.

قلتَ لها:

ـ خلينا نشوفوك من جديد عند حمدان؟!

 قالت ساخرة:

ـ لا تنسى انى لم اعد ذي محرم.

وضحكتْ.

 قلتَ:

ـ وشنو مصير إللي يبي يشوفك باستمرار

تنظر في عينيك. ترى في عينيها العسلتين أخر قطيع جياد بريّة بقى طليقا في براري "الحَنيّة"[53] الموحِشة كصرخة في الفراغ.

تمسك بيديها وتدنو نحوها على الكنبة الشرقية الواسعة حتى تلاصق ركبتاك ركبتيها. وتقبلها. تتعانقا في قبلة محمومة، تطورت وقوفا إلى اشتباك همجي للشفاه بالشفاة، واللسان باللسان. أرتجت الطاولة الشامية الخشبية الصغيرة لصق جسديكما الملتحمين. تشم عطرها لحظة طار شالها الحريري الأسود المنقط بنجيمات ذهبية ليحط مهفهفا غامرا بعطره وجهك، بانذاً بروحها في روحك. . . . تضاربت الصحون بالفناجين وأنهارت مُتهشِّمة لتلحق بهما الطاولة.

أنسلت بجسدها من جسدك بسلاسة، آخذة بيدك في حنكة سيدة المسرات، العارفة بما ينبغي أن يحدث وأين. أستسلمت لقيادها وهي تقودك من يدك في الطريق إلى غرفتها، متسللة على أمشاط قدميها الحافيتين كيلا تحدث جلبة قد توقظ أمها في غرفتها. فتقلدتها متخليا عن حذائك في مطلع الطريق.

تمران بصالة الحوش الواسعة. تلمحها على الضوء الخافت، المتسرب من المطبخ، وهي تلتفت إليك واضعة أصبعها على فمها، إشارة إلى التزام الصمت التام. فتلتزم بتعليماتها.

دخلتَ وراءها من باب المطبخ عبر صالة البيت إلى غرفتها. تركتك في مكانك عند المدخل. أنارت ضوء نصف معتم على الكومودينو بحذاء السرير. سحبت الستائر عن النافذة الصغيرة، فشع ضوء قمري خافت. شغّلت المُسجِّلة. فأنبثت موسيقى أنلدسية لنوبة "نعس الحبيب".

أخيراً !!

نظرتَ إليها وهي تنظر إليك. واقفان صامتان والفكرة نفسها في العينين المتقابلتين. أنفاس الشهوة تتلاحق كنيران تلتهم نفسها، ودقات القلب قرع طبول. بادرت بخلع ملابسها. فجاريتها. أندست في الفراش عارية تحت الشرشاف الأبيض. فاندسست وراءها عارياً. كانت ليلة أغسطسية حارة رطبة. مشبعة ببرودة المكيّف. وما أن تلامس الجسدان حتى اشتعلا بنيران الرغبة المكبوتة. تلاهمت الأعضاء تحت الغطاء. والشفاه تتلظى في الرضاب، وكل الرغائب المشتهاة تعلن الولاء للذة الملتاعة تحت الغطاء، في فراش سلمى. . . وهي لا تنفك تلح عليك خفض صوتك كي لا تسمعك الوالدة النائمة في الغرفة المجاورة.

ثم عاريان مطوحان في الهزيع الأخير فيما القمر المكتمل يلقي بضوئه الفضي، الذي يصل خافتاً من وراء الغيوم العابرة، على جسديكما، عبر النافذة الصغيرة المطلة على حديقة البيت التي تظللها عريشة عنب عتيقة، مثقَلة بعناقيدها المُحمَرة.

قالتْ:

ـ زرعها أبي في يوم إعلان الاستقلال.

خشيتَ أنه حلم. ولم ينقص إلا أن تقرص جسدك. لكنك تفضل أن تداخل فخذاك بين فخذيها، عابثا بخصلات شعرها الملبّد بعرق الجنس.. . ثم مطوحان متهالكان لصق بعضكما. تدخنان وتمزحان . . . وتتحدثان. تحدثك عن طفولتها ومراهقتها ومحبتها "لأكتراية" لأبيها. . وقبلتها الأولى مع ابن العم في غرفة الخزين. تحدثها عن نوادر طفولتك في النجع، وصدمة الراديو والسينما، ومقعد المرحاض الحديث. وغراميات الجامعة. تحدثك عن القصيدة الأولى بعدما نهضت من كابوس مفزع. تحدثها عن البروفيسور عمر القريتلي وطلابه الأربعة وجبنك.

تقول لك: "قدرنا سخيف". . تقول لها: لا مفر ألا نقلع عن هذه البلاد الكريهة بأسرع ما يمكن، قبل أن ندمن القبوع في واقعها اليباب. تقترح عليها اللجوء إلى أرض الغرب الواسعة.

ـ لا تحاول معي

ـ ما الذي لا يزال يمكن أن يربطنا بهذه البلاد التي حتى سبب استقلالها يُعزى إلى اضطرار "إميل سان لو"[54] للذهاب إلى المرحاض.

فتدفعك بكلتي يديها في صدرك بقوة، وقد بان في عينيها استياء جدي، كأنك أهنتها في الصميم:

ـ لا تردد ما يردده الثوريون السفهاء عن "سان لو". "سان لو" رفع يده تمثيلا لضميره كمثقف هايتي وطني يساري، على ضد من توجيه حكومة بلاده التي  يمثلها.

كنتَ تنظر إليها كمدان، مندهشا من غضب ردها المنفعل:

ـ أنا آسف. كنت أمزح معك. لا تكوني حنبلية. ثم ما الضرر أن يكون استقلال ليبيا بسبب مزحة دولية.

قبلتك خطافا.

وحدث ان أمطرت فجأة في عز أغسطس. قامت عارية في ضوء قمر ساطع تحت المطر كلوحة حيّة. فتحت مصراعي النافذة، ومدّت ذراعيها ووجهها تحت رذاذ المطر الأغسطسي المباغت، كمفاجأة مبهجة. غلست وجهها المبتل بقطرات الرذاذ بكفيها المبتلين، وعادت لتندس بعريها في عريكَ. ضممتها إليك بقوة وقبلتها بحميمية افتقاد وشيك.

قالتْ:

ـ عندي رغبة ءا نكون معاك في ليلة أخر عام في أخر القرن في غرناطة على ربوة "زفرة المغربي الأخيرة."[55]

ـ خلاص تعالى معي نطلب اللجوء في أوروبا. الحصول على اللجوء سهل . . يكفي القول أننا قادمين من بلاد رسول الصحراء.[56]

قالت:

ـ البائن أنك مُصّر فعلاً

ـ إنقرفت تماما. لازم نخرج من هذه المجهَلة العظمى[57] . . . ليش أنتِ مصرة على البقاء فيها؟!

ـ بدون بطولة. الحياة في داخلي رامضة والكآبه تسيجني. . ومش قادرة ءا نكون في أي مكان آخر غير اللي أنا فيه . . . شفت بروحك أكبر بطولاتي لما ننكسر نحتمي بغرفتي في بيت أمي . . أسمعني وهزّ رأسك موافق إن كنت تحبني . . إهرب الليلة قبل الصبح . . انقذ روحك من هذه المجهلة على رأيك.

ـ لا معنى لإنقاذ نفسي إذا تركتك ورائي.

ـ بلا رومانسية سخيفة في واقع الصائب الوحيد

وقفزت جالسة على حوضك. وأنكبت تقبل وجهك بشغف أمومي. فمك. وجنتيك. جبهتك. عينيك. أنفك. . . . فتحضنها بكل ما تحبه فيها: كل شيء. وتقلبها تحتك.

 

6

رطن الحارس الألماني المتجهم بلغته كلاما لم تكن لتفهمه، خلل الأنترفون من وراء واجهة مكتبه الزجاجية عند بوابة معسكر اللجوء، بضواحي "لايبزج"، الخارجة لتوها من "يوتيبا" الشيوعية المنهارة.

قلتَ بالإنكليزية:

ـ جئتُ لتقديم طلب لجوء سياسي

ردّ الحارس الجرماني بالإنكليزية:

ـ من أي بلد أنتَ؟!

ـ ليبيا

وناولته، عبر شق صغير أسفل الواجهة الزجاجية، جواز سفرك الأخضر بلون غلاف كتاب الكولونيل الأخضر. راقبته وهو يقلّب صفحاته مقارناً في نظرة متنقلة بين صورتك في الجواز، وصورتك الماثلة امامه عبر الزجاج. ثم مطلعاً باهتمام على اوراق أمامه . . ستعرف فيما بعد أنها قائمه بالدول المشمول رعاياها بحق اللجوء السياسي. ولا غرو أن يجد بينها بلادك.

إذن افتح أيها الحارس الجرماني، الأشقر الضخم المتجهم، بوابة غربك "الإنساني"، باسم هاتيك البلاد، حيث: "المرأة تحيض والرجل لا يحيض". لنضع على جنب وجهك العنصري الكريه، وحكاية مركزية عرقيتك الحضارية البيضاء، وتاريخك الكولونيالي الممتد من نابليونك القصير إلى بوشك الصغير. افتح بوابات هايماتـك وكامباتك لإيواء الآتين من فجاج جنوب الفاقة والإكراهات. إليك، رغم تبرمكَ، بهجرات من كل حدب وصوب. من كل ملة ونحلة وعرق ولون، متدافعة طمعاً في أمن اللقمة أو   أمن النفس أو   الاثنين معا . . . أولستَ الغرب الديموقراطي الليبرالي المتسامح العطوف الرؤوف السخي؟! أم تراك نادما على إنسانويتك التي ورطكَ فيها فلاسفة أنوارك؟!

من "أصفهان" إلى "لوبومباشي"[58] يدخلونك بطرق مشروعة وغير مشروعة. ينفذون إليك من بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تبنيته في لحظة زهو، بانتصارك الساحق على "محور الشر الفاشي/ النازي" متفاخرا بدمج مواثيق حقوق الإنسان وعهوده في دساتيرك وقوانينك ومناهج تعليمك وثقافتك، دون أن تكون قد حسبت حسابك للتكلفة الاقتصادية والأمنية والاجتماعية الباهظة التي تكلفك اليوم.

نظرتَ إلى الشاشة الفسفورية تضيء بأرقام المنتظرين بالدور، في تعاقب بطيء بغيض. فتتعاقب في ذاكرتك فصول البداوة المنقرضة. يمر الخريف بالبغل والمحراث والحراّث والبذّار، ليمر الشتاء بالغيث النافع فالربيع الطالع سنابل خضراء فصيف الحصّادين، ومناجلهم القاطعة في حقول القمح والشعير. . . عاليا غنائهم المُستثار:

"يا زرع إنّجل

جاك المنجل"[59]

تسمعهم وقد رق غناؤهم عند مرأى "النفّاقات"[60] مقبلات، حاملات فوق رؤوسهن قصاع الطعام. ثم السنابل المحصودة مطروحة على "المدْرَس الصخري" تدوسها سنابك جياد مُطيَّبة بالبخور ومُبرَّكة بآيات القرآن. لتأتي المِذراة ونسائم الأصيل فيتطاير التبن في اتجاه هبوب الريح الهابة حيث يتهافت مُتكوِّما على مبعدة بينما يتساقط الحب المقدس متكوَّما في مكانه . . ولسوف ينساب في بهائه الحنطي من كف أمك وهي تُلقمه فم الرحى، فيما تُدوِّر جزؤها العلوي بالتبادل بين يديها الدَرِبتين، بواسطة مقبض الشظّ الخشبي في حركة دائرية دائبة. فإذا أرادت طحيناً ناعماً أبطأت في دوران الرحى، وأبعدت بين فترات التلقيم. وإذا أرادت دشيشاً مُدقَّقاً أكثرت من تلقيم الحبوب، كي تتزاحم داخل قلبي الرحى فلا تتمكن من طحنها جيدا، فتخرج مُدشدَشة. وفي الحالتين، طحيناَ أو  دشيشاً، كانت الوالدة تهاجي رحاها على إيقاع جعجعة اصطكاك الفكين الحجريين وإنثيال القمح، مطحوناً أو مدششاً، من حوافيها على الرقعة الجلدية المطروحة تحتها:

نا يا رحا وين نطريك يخطر الغائب علينا

ينهال الدمع ويجيك ينثال دقيقك عجينا[61]

وتنثال الحكاية الكبرى لبني الترحال الخرافي. أولئك الهلاليون، بنو الشَّظف النبيل. في صلابة الصوان وشفافية الندى. رعاة الخلاء والطلاقة. أصحاب "صوب خليل"[62] المجبولين من روح الباز وصبر الجمل. ذمامو الركون إلى الحِل والمنزل. يحلون أينما يحل الكلأ والماء، إلى أن ينقطع العشب من المكان. فيرحلون عنه إلى غيره. . . وهكذا. . إلى أن صادفوا في خلاءات "الحمادة الحمراء"[63] "لورنس النفط" ناصبا معداته وحفاّراته في حقول من ألسنة نيران، تتطاول إلى أعنان السماء.

ـ جئتم سهلا وحللتم أهلا

قال "لورنس النفط" بعربية فصحى في لكنة خواجة، فيما كان يفرك كفيّه كحاوٍ:

ـ عندي ثورة عربية على مقاس هاشمييكم . . وإتيكيت فكتوري مبسط . . باروكة قاضٍ مع قانون وضعي . . سبورة وطباشير وسماعة . . مظلة لفيء متنقل . . وهنا تلفون للاتصال ببدالة "العشرة دوانغ ستريت". . . وهناك راديو للاستماع إلى سيرة بوزيد الهلالي دو أن ترى الراوي . . وكذا ورق ناعم لمؤاخراتكم الأسطورية الكريمة.

هكذا أنبثق السائل الأسود المتخثر اللزج تحت أقدام البدو، مشكلا نافورة سوداء هائلة كأنه هالة مارد "شبيك لبيك" ينبثق من مصباح الحداثة السحري، قاذفا ببني هلال إلى عصر لا ناقة لهم فيه ولا جمل.

ـ ها هو الذهب الأسود يفيض ويتدفّق.

صاح المذيع الليبي من بطن الراديو في بدايات ستينات القرن الفائت، وهو يصف وقائع حفل افتتاح أول حقل نفطي قابل للتصدير. ولسوف تغنم شركات الفرنج نصيب الأسد، وتترك نصيب الضباع والعقبان على شكل عائدات ضريبة امتياز بخسة، لأهل البلاد ودولتهم الناشئة على ثالوث الفقر والجهل والمرض . . وعلى فتات تلك الغنيمة اللزجة، من عائدات تعفنات ملايين الحيوانات والنباتات المستحاثة منذ ملايين السنوات، أنقض لصوص المال العام في دولة الاستقلال الناشئة: البلاطيون من الحاشية الملكية، وأركان الحكومات المتعاقبة، والعوالق من أعيان المدن وشيوخ القبائل . . ينقضون على فتات عائدات تلك التعفنات الأحفورية الثمينة. وعلى رائحتها تدفق بنو الخلاء والشظف، بعد سنوات الاحتلال الإيطالي الفاشي التدميرية، على المدن للعمل: تجاراً وعمال بناء وغفراء منشأت وجنود شرطة وجيش وخبازين وقصابين وكنّاسين . . وشحاتين أيضا. مُخلِّفين وراءهم نجوعهم، واقتصاد قُوتُها كفاف يومهم، وعلاقات اجتماعهم البسيط، ناقلين معهم قيمهم وأعرافهم وتقاليدهم، المُنتَّجة في الخلاء الرحب، لتختنق في أكواخ الصفيح في أحزمة البؤس، المقشوطة حول مدن الحواضر الناشئة، مُشكِّلة "قرحة متقيحة" كما وصفها مراسل أمريكي كان هناك، وقتها، فيما كان مذيع البروباغندا الملكية يُعيط من بطن الراديو:

ـ ها هو الذهب الأسود يفيض ويتدفق.

فيما كان الفقر والجهل والمرض "يفيض ويتدفق" في تلك البلاد المتحررة لتوها من قبضة روما الفاشية في زمن الدوتشي الأقرع. أخذت تلك "القرحة المتقيحة"، بعد الاستقلال، تُفاقم تضخمها وتورمها المتقيح حول الحواضر المدينية القليلة المتناثرة على ساحل البلاد المتمدد بنحو ألفي كيلو متر على شاطئ المتوسط من جهة حوضه الجنوبي. في تلك البلاد التي حين اندحر غزاتها الفاشيست مهزومين، أمام تقدم الحلفاء الكاسح من جهة بر مصر، خلّفوا وراءهم شعبا قضى ثلثه في عملية إبادة منظمة على مدى ثلاثة عقود ونيف، وثلثه الثاني مُهجَر في دول الجوار. وثلثه الثالث المتبقي جيّاعاً حفاة في أسمال بالية. 2 في المئة منهم فقط على مقاعد التعليم و95 في المئة منهم تستوطنهم التراكوما والملاريا والسل وعديد الحمّيات وأمراض سوء التغذية و15 في المئة فاقدين أبصارهم كليا أو جزئيا.

وبعد الطليان جاء الأنكليز بـ"التحرير"، جالبين معهم شيخ طريقة دينية، وركّبوه ملكا مُعظَّما بدستور وحاشية، وجيش لحماية نظامه ونشيد وطني يمجده:

حي إدريس سليل الفاتحين

انه في ليبيا رمز الجهاد

حمل الرايات فينا باليمين، وتبعناه لتحرير البلاد

فانثنى بالملك والفتح المبين

لكن معظم رعيته كانوا يُحبّون عبد الناصر حباً جما. يعشقون صوته الجهوري الرخيم، الهادر من "صوت العرب"[64] بشعارات التحرِّر والنهضة، داعيا العرب إلى كرامة قومية، عنوانها: "أرفع راسك أخي العربي". وحدث أن أفرزت تلك "القرحة المتقيحة" بالبؤس والأحلام الخائبة ملازما أول مضروباً في خلاط تصورات تاريخية، تخلط صلاح الدين بعبد الناصر بأبي ذر بماو . . استولى، مع عشرات من الضباط الصغار وحفنة ضباط أعلى منه رتبة ومئات الجنود التبع، على الراديو الملكي ذات فجر اعتيادي.

{فيا للراديو. . . !}

أَتْذكر أي انقلاب تاريخي طرأ يوم دخل أبوك إلى البيت مبتسما، وهو يحمل صندوقا كبيرا بين ذراعيه؟!

قال لك: "تعال". وجلس على الحصيرة وسط صالة البيت. نادى على الوالدة المشغولة في المطبخ. نادى عليها مرات متكررة. فجاءت مسرعة تمسح يديها في طرف ردائها. قال الوالد:

ـ جبت لكم إللي طول عمري نبيه

لم تكن لتخمن أنه شيء يعنيك. فهو ما كان الأب طوال عمره يريده (يبيه). وشكله ضخم. والضخم للضخم. لكن كان يكفيك أنه شيء بيهج ما دام قد أبهج أباك إلى هذا الحد. راقبته وهو يفتح جوانب الصندوق ويُخرج ذاك الشيء الضخم بتأن. صحت بمجرد أن بان لك نصفه تقريبا:

ـ راديو!

كان شكله مطابقا للراديو الذي رأيته في بيت صديقك ابن المتصرف. كان حقا صندوق عجائب بالنسبة لك. موصُلاً ببطارية منفصلة تشبه بطارية سيارة صغيرة في هذه الأيام، وهوائي خارجي. مؤطَّراً بهيكل خشبي بني لامع ومفاتيح موجات عجية بيضاء تشبه مفاتيح البيانو، وإبرة مؤشِّر تتحرك خلف شاشة زجاجية مُسطَّرة بأرقام متابينة.

ابتكرت الوالدة من "السحارية"[65] العتيقة طاولة له بعدما غطتها بمفرش ابيض مطرز بزهور شقائق النعمان البرية. وجاء الوالد بديك يلمع ريشه بألوان زاهية. ذبحه على عتبة الدار إحتفاء بالمفخرة النادرة وطردا للحسد.

تناولتم وليمة لحم الديك الدسمة بطبيخة البطاطا التي سوف لن تستطعم مثلها أبدا، متحلقين حول الجليس العجيب بأصواته المتماوجة بين الذبذبات المتداخلة على يد الوالد المنهمك في تثبيت مؤشره على الذبذبة التي يرغب.

{أليس رب العائلة هو رب الراديو بالضرورة؟!}

أراك لا تزال تذكر كيف كان رب الراديو على قلق لا يستقر على ذبذبة، وهو يدير مفتاح المؤشر متنقلا بتسمِّع متخاطف بين وشيش الذبذبات المتنقلة. ثم وهو يتوقف عند ذبذبة إذاعة المملكة الليبية. فينبث صوت بلكنة بدوية، يخلط تعبيراته البدوية بمفردات الفصحى:

"وها ذاك الجدع كان راقد ريح متملِّح عائش مع أمه. حد ما عندهم شلاّق معيز، وقطعة أرض وحصان ضامر ما ينباع بفلس مخروم. وبعد هذا كله ما تجي غيته إلا في بنت شيخ النجع. فأيش جاب هذا لهذيك . . وفيسع ما إنعرفت دُوّتْهم في النجع عند الكبير وعند الصغير . . عدّت أمه تطلب فيها له مِن هلها، فردوها خائبة. قالت لها أم البنت: "ايش جاب لجاب". ومقصودها: أيش جاب بنت شيخ النجع لراعي عند بوها. قالت لها أم الجدع: عندك حق وخليتك بالسلامة . . لحقها شيخ النجع وهي خارجة:

ـ إن كان تقدري على حلوانها مرحبا بك. خمس نياق وخمس ليرات ذهب. وقدامكم حول من ها ليوم.

نوى العاشق السفر في أرض ربنا الواسعة، حالف ما يعود إلا ومعه حلوانها. جاها عند المحطَّب وهي مع صاحباتها. . خبّرها بما نوى وطلبها بعهد الوفا. قالت له: طريقك بيضاء.

قال لها :

ـ اسحى يا عزيز غـلاي إلا غلاك هـو راس حـاجــتي

{إحرص على حبي أما حبك عندي فهو غايتي}

ردت عليه:

ـ غـــلاك ما تخاف عليه مَصْيون بين عيني وهدبها

{لا تخف على حبك عندي فهو مصان بين عيني وأهدابها}

قال لها:

ـ مازلت خايف

 قالت له :

أيموتوا اللي حيين

وايعيشوا المدفونين

ويبيد عظم تاسع جيل

ولاغلاك جا دونــه غـــــــلا

{يموت الأحياء

ويحيا المقبورين

ويبلى عظم تاسع جد

دون أن يطال حبك حبا}

قال لها :

ـ مازلت خايـف

 قالت له :

ـ غــلاك ما تخاف عليه ستين تامجه حايطات به

{لا تخاف على حبك عندي فهو محاط بستين فرقة عسكرية "تامجه"}

عندها إطمن على غلاه عندها . . ودعها والدمع في عيونه وهو راكب حصانه . . تلّفت لها مرة وإثنين. وبعدها طلق غناوته على قيس صوت صوته:

 العقل ما ءمعاى ءمعاك . . حتى لو مسافه بينا

{عقلي ليس معي بل معك كيفما طالت المسافة بيننا}

مرت شهور وراء شهور وصاحبنا غائب وصاحبته ترجى فيه . . تفوّت عريس بعد عريس مراجية عودته. . . يتلاقى في المدينة مع واحد من أصحابه من أهل النجع . . يسأله عنها . . يرد عليه بغناوة علم سمعها بصوتها في عرس اختها الصغيرة:

قواعد أركان العقل يا علم وراك راجن الكل

{ أيها الحبيب بسبب غيابك أرتجت كل أركان عقلي.}

قال لصاحبه: أيش إندير يا صاحبي. . حالف ما إنعود إلا ونا قادر على حلوانها، وبالزائد. . قول لها:

عزيز كان فيه نصيب يجيبه رجا طول عمرنا

{إذا كان لدي نصيب في حبيبي أناله وإن طال العمر}

بعد سنة وشهور رجع صاحبنا للنجع. متأخر حوالي شهرين على الموعد. جاء راكب جوادا سرجه مذهب ولابس كاط وحلاط وبندقة مُذّهبة. وبدل الخمس ليرات معه عشرين. ويسوق قدامه بدل خمس النياق عشرة. لكن وين ما إنحدر من علوة التل على النجع جاته زغاريد عرس بعيدة رابخة في النجع. وكلما نزل تقربت له الصورة، وزاد خوفه. وعند السفح بان له بيت هلها مزحوم بالصبايا والزغاريد. وما في إلا هي بقت في بيت هلها. نزل من حصانه وضربه على كفلته. جفل منه شوي ورد يحوس حوله. عيط فيه وفي النياق كيف المجذوب. جفلت من مكانها هاربة في الجهات حوله. بدأ يضرب بقدمه كل ما يصادفه في طريقه من حجر وكدوات وتراب ونبات. جاه رفيقه القديم عبد الشفيع، بعدما شافه من بعيد حايس في روحه. . قاله:

ـ اللي صار صار . . إنقِريت فاتحتها وقِعِدت مرا متزوجة. . أيش في يدك إدير. . .

قال له:

ـ صدقت. . ايش في يدي إندير. .

جلس في مكانه. نكس راسه على صدره كيف اليتيم، وغنى:

"غـلاي كيف ديل عليه حـتى تامجه ما حاربت"

{كيف تدعي صون وحماية حبي عندك بستين فرقة عسكرية "تامجه" ولم تحاربي من أجله حتى بفرقة واحدة}

{هكذا حَلّ البدو في جوف الراديو!!!}

حرّك رب الراديو مؤشر البحث غير مبال برغبة الوالدة التي طالبته أن يبقيه حتى تنتهي "حكاية الغناوة". لكنه لم يعرها بالا. مضى في البحث عن موقع ذبذبتين محددتين: "هنا لندن" و"صوت العرب". فتزمّ الوالدة شفتاها ممتعضة، وهي تنهض لأداء واجب منزلي ما.

كنتَ قد نمتَ في مكانك بعدما غلبك النعاس. شالك أبوك إلى فراشك في ركن المربوعة بجوار شقيقتك الرضيعة "نجية"، التي نجت من الموت بعد ولادة شقيقين ميتين على التوالي بعدك .. وسوف يعتاد رب الراديو على النوم بعد عودته من العمل، وتناول غداءه متسمعاً إلى "هنا لندن" أو "صوت العرب". وغالبا: "هنا لندن".

كان "رب الراديو"يحرص دائماً، عند ذهابه إلى العمل، أو خروجه لمشوار في المساء، على فك وصلة البطارية والسلك الهوائي، رافضا أن تكون بجواره لحظة الفك أو التوصيل، كيلا تتطلع على سر التشغيل. كنت، وأنتَ المأخوذ بما يصدر من جوف ذلك الصندوق العجيب، تتحين غياب رب الراديو للتلصص على أحشائه من الخلف لعلك تكتشف مكان المتحدثين في جوفه. لكنك اكتشفت كيفية ربط التوصيلة بين الراديو والبطارية، ووصله بالهوائي، ومن ثم ضبط الموجة وإدارة مفتاح المؤشر على ذبذبة إذاعة المملكة ملبياً رغبة الوالدة في الاستماع إلى برنامج الشعر الشعبي، ونصائح "ماما خديجة" وغناء محمد صدقي وهو يصدح:

"ماضي زال ونسيته مشى"

لسنوات كبرت بجوار الراديو، قبل أن تتعرّف على السينما والتلفزيون. تلقيت من صندوق العجائب ذاك أفكارا وأحداثا وأغان وتخيلات. تعلقت فيه بمغّنين ومغّنيات. أكتشفت فيه محطة "الشرق الأوسط" من القاهرة. أدمنت الاستماع إلى برامجها الخفيفة. ولا تزال عالقة في ذهنك دعاية سجائر كنت: "كنت كنت سيجارة حبيبي". بينما بقى الوالد على إدمانه لمحَّطتيه الدسمتين. كانت الرغبتان متضاربتين. وكنت الخاسر بطبيعة الحال، عندما يكون الرّب موجودا في البيت .. أعني رّب العائلة والراديو.

ثم في يوم لا يُنسى في تاريخكَ الخاص، وقد صرت في التاسعة أو  العاشرة، وصار لك أخا آخر رضيعا، حدث ما لم يكن حتى في حسبان الحلم. فحسب التحليل الفرويدي المبسط، فإن الأب كي يتخلص من تطفلك على راديوه الضخم خاصته، كما هي أمك خاصته، ظهر عليك في ذلك اليوم وهو يبتسم، متأبطاً صندوقا صغيرا. شعرت من نظرة مزدوجة، إلى الصندوق ووجهه المبتسم، أنه يحمل شيئا مُفرحا لك. ركزتَ نظرك على ما يحمله، وما كنتَ لتحزر ما بداخله. كان أبوك المبتسم واثقاً من أنك لن تقدر على تصور أن ما بداخل الصندوق الصغير يمكن أن يكون راديو مثلاً. فكل راديو في تصورك ليس أقل من حجم راديو الأب الملحق ببطاريته الخارجية. لعلها لعبة سيارة بوليس ضخمة. لكنك كبرت على ذلك. وكم كانت فرحتك لا توصف عندما أخرج الأب من الصندوق الصغير جهاز راديو ترانزيستور في ربع حجم راديوه الضخم، ببطاريات جافة صغيرة الحجم تقع داخله، ويمكن حمله بيد واحدة من مقبض مُثبت على سطحه العلوي. حينها أدركت على الفور أنه لكَ. فالصغير للصغير. اعتبرته ملكيتك الخاصة المقدّسة. ألست وريث العرش العائلي المبجل. من يومها توقفتَ عن التعدي على راديو الأب الضخم. كنتَ تريده لوحدك في غالب الوقت، لكنك لم تكن لتجرؤ أن تقول لأمك أوفاً ما بالك أن تفكر في أن تقصيها عن الاستماع لما يروق لها، ولو كان على حساب برامجك المفضلة. وكيف يمكن لك ذلك وهي تلك التي تحبها أكثر من أنفاسك، قبل أن تتعلم في المدرسة أن الجنة تجري تحت قدميها. كنتَ تلبي لها ما تحب أن تسمعه من برامج وأغان، مبتهجا بإدخال السرور على قلبها، مستمتعاً بعينيها الفائضتين بالامتنان لكَ. لرجلها الصغير، جلاب الحبور من الجوف العجيب. وفي أيام المدرسة كنتَ تترك راديوك الصغير قبل ذهابك مفتوحا على إذاعة المملكة، حسب رغبات الوالدة المغرمة ببرنامج "خديجة الجهمي" و"الأدب الشعبي" وغناء محمد صدقي.

كنت قد حزّت، قبل حظوة الراديو وبعده، بمتع ومسرات لا تزال عذوبتها عالقة في ذاكرة المذاق والملمس والشم والمسمع والمخيلة، كأنها حدثت لتوها: طعم اللبأ[66] ومذاق "الذوبة"[67]. وأول مرة ترى البحر. وأنت تكرع الماء من نبع أبولو، في جوف الصخر، في ظلال أنقاض قورينا بعد أكثر من ألفي عام على إنقضاء فلسفة اللذة الأبيقورية. أو عندما سمحت لك بنت عمك أن تدس وجهك تحت قفطانها كي تتفرج على عضوها الصغير.

أو لما ضمتك تلك السيدة البيضاء إلى جانبها، وتكة آلة التصوير العجيبة التي لا تزال تتك في مخيلتك. دع عنك علبة الشوكولاتة الفارغة التي لم تكن لتعرف أنها ماركة "كواليتي ستريت" Quality Street الذائعة الصيت في الستينات ولا كيف صارت من متاع الوالدة، تحفظ فيها الإبر وسلك الخياطة وبعض الخرز والعقيق وأشياء صغيرة أخرى. وقد تخلت لك عنها، مؤقتاً، لتحفظَ فيها نقود نِحْلَة ختانك. وكنتَ طوال الوقت متشبثا بها بين يديك، صاحياً ونائماً، بحسبانك قايضتها بغلفتك المذبوحة ... وقبلتك الأولى الخاطفة لبنت المتصرف ... وحتى حظوتك السحرية بالسينما ثم التلفزيون. لكن لم تكن أيها بحظوة ذاك الراديو الترانزيستور سيد المتع المتصورة. متعة المخيلة المختزلة في حجم ترانزيستور من أسلاك وبُطم معدنية ولحام. متعة المخيال الاصطناعي العجيب الذي هشّم تراث ألفي أسسته مخيلة حكايات الجدات عبر ضوء فتيل الزيت، وفنار الكيروسين في خيام نجع "عيت بورحيل".

وكما اصطدمت بالردايو في تلك البلدة على أطلال "قورينا" اصطدمت بالسينما في بنغازي. وقد سبقتها صدمتك بالمرحاض، في أول يوم انتقالك مع أهلك للسكن في المدينة الكبيرة. حيث بعدما جال والدك الأفندي محصل الضرائب في أسواق البدو الأسبوعية ببلدات الجبل الأخضر القروية، نُقل للعمل موظفا كبيرا في إدارة حسابات بلدية بنغازي.

سمعت أمك تناديك مستعجلة قدومك فيما كنت قادما عبر ممر مدخل البيت الجديد حاملا بطارية راديو الوالد. توقفت عندها حيث وجدتها تضحك متسائلة في عجب:

ـ أيش يسموه هذا.

نظرت بدهشة إلى الشيئين الغريبين على شكل مقعدين صغيرين {أحدهما أوطأ من الآخر}. أدركت أنهما يتعلقان بقضاء الحاجة. لكنك لم تكن تملك تفسيرا واضحا لوظيفتهما بالتحديد. وأنتَ الذي انتقلتَ من مراحيض الخلاء، حيث ورق التواليت عشب الأرض، أو  أوراق الشجر المتساقط، أو حصوات الحجر الصغيرة، إلى مرحاض القرفصاء، داخل البيت برسم موطئ قدمين وفي الأسفل فوهة أرضية على شاكلة بالوعة فاغرة، تنتهي بالغائط إلى مخزونه في قعر الفراغ. لم يكن الأمر يختلف في نهاية الأمر عن وضعية التبرز في خلاءات النجع. لكن الخوف تملّكك، لوقت ليس بقصير، من تلك البالوعة الفاغرة فتحتها، متخيلا ظهور أفعى من قاع الفراغ تلدغ مؤخرتك، أو صِلّ قد يزدرد خصيتيك. وها أنتَ أمام شيئين في تعقيد الحداثة. حوضان على شكل مقعدين من البورسلين. فتحة كل منهما على مقاس "Standard" المؤخرة البشرية الطبيعية دون حساب للمؤخرات ذوات الأوزان الفائضة عن الموديل.

لم تجب الوالدة بشئ. فنادت على الوالد الذي ظهر في الممر حاملا "السحرية" المتينة على كتفه. وضعها على جنب، بحذاء حائط الممر عند باب المرحاض، نزولا عند إلحاح الوالدة المذهولة. نظر من وراء كتفيكما ضاحكا لدهشتكما. نادي على أختك وأخيك الصغيرين لينضموا إليكما، كي يشرح للجميع طبيعة عمل ذانيك الشيئين. روى لكم متندراً كيف اصطدم لأول مرة بمرحاض المقعد ذي الغطاء في بيت "المتصرف"، حتى كاد يُنادي على "المتصرف" شخصيا كي يشرح له كيف يقضي حاجته في هذا المكان العجيب. لكنه، والعهدة عليه، أستطاع أن يحل المعضلة بنفسه. إذ بعد تفكير قصير رفع الغطاء البلاستيكي، فرأى البالوعة. فكر للوهلة الأولى أن يجلس على حاشيتي المعقد بقدميه. لكنه سرعان ما أستدرك خطأ تقديره، بعدما تأمل جيداً طبيعة الشكل الدائري للمعقد البيضوي الُمعد للجلوس عليه بمقياس مؤخرة بشرية. وإليه لاحظ فيما كان يقضي حاجته أن الحوض الصغير الواطيء بجانب المرحاض بمقاس فوهة المرحاض نفسه، لكنه دون غطاء ومزود بصمامي مياه. واحد باللون الأزرق للماء، والأخر باللون الأحمر. مد يده وهو جالس على مقعد المرحاض وفتح الصمام الأزرق بقوة فاندفعت مياه باردة من فتحة في القاع كنافورة هائجة، فأقفله متلبكا. وفتح الصمام الأحمر فاندفعت مياه ساخنة إلى درجة الغليان، فاقفله ببطء وعاد ليفتحه ببطء، وقد أدرك وظيفتهما المزدوجة في الاستنجاء.

هكذا وجدتُكَ في بنغازي في منتصف الستينات. ما أن خرجت من صدمة اكتشاف المرحاض الحديث حتى اصطدمت باكتشاف السينما. لم يكن التلفزيون قد ظهر بعد في مملكة السنوسيين لمّا ولجتَ باب دار السينما لأول مرة بصحبة ابن عمك الحضري.

{لم تكن قد ألتقيت بعد بالعيساوي}

وجدت نفسك بصحبة ابن عمك عبد الشفيع داخل صالة مظلمة تغص بعشرات الرؤوس المنتشرة على الكراسي المصطفة أسطرا. تتذكر الآن كيف أثرت ضحك ابن عمك، وهو يدخلك ورائه ممسكا بيديك، وأنت مُرتبك تكاد تتعثر في الظلمة، وكأنه يُدخلك إلى مهلكة.

أتذكر؟! كان فيلماً لجون واين وهو يبيد الهنود المتوحشين وينقذ العذراء البيضاء. ولسوف تدمن ذلك العالم العنيف، بهنوده الحمر المصوَّرين متوحشين، وهم يولولون كالمجانين، ويخطفون نساء البيض ويسلخون فروات رؤوس رجالهن البيض "الحضاريين الطيبين"، ليقضي عليهم جوين وين في نهاية الفيلم.

في تلك المرة الأولى جلستَ على مقدمة مقعدك حتى لا ينطوي بك إلى الخلف بينما كان ابن العم "ولد البلاد"[68] جالسا باسترخاء مشدوها إلى الشاشة. ويلتفت إليك أحياناً، ساخرا من طريقة جلوسك:

ـ ما تخفش. إللي تشوف فيه مش حقيقة. مجرد فيلم.

كنتَ منكمشا في رعبك خوفا من أن تصيبك رصاصة أو سهم. فجأة فرقع دوى قصف مدفعي في مواجهة حشود الهنود الحمر الهاجمين. فوجدت نفسك تتملل في مقعدك مفكراً في طريقة للنجاة بنفسك. وعندما شاهدت مدفعا يُحشى بقنبلة وفوهته موجَّهة في لقطة مُقربة بحجم الشاشة العملاقة، تسللت خارجا متلمسا طريقك في الظلمة، كي تنجو من الانفجار المتوقع، وتحافظ على فروة رأسك من الهنود المتوحشين، الذين تصورت أنهم سوف يقفزون من الشاشة إلى الصالة ويُذبِّحون المشاهدين على بكرة أبيهم.

لحق بك ابن العم عند باب الخروج، قابضا على كتفيك من الخلف ضاحكا بصخب: "يا حمار يا حمار تعال يا حمار هذا تمثيل مش حقيقة يا حمار". عدت معه على مضض حتى لا يفضحك عند العائلة. صاح مشاهد غاضب: "اطلعوا تكلموا بره". جلست مكانك في الوضع نفسه. ومع الوقت وجدت نفسك تصفق مع المصفقين لجون وين، وهو يبيد عشرات الهنود بمسدسه الذي لا يفرغ من الطلقات، ودون أن يُعيد حشوه بالرصاص طوال بطولاته الهوليودية الخارقة.

تذهلك السينما. لكن الحياة في الراديو تبقى الألذ في تصورها المتخيل في جوفه. ففي الراديو أنت بمنأي عما يحدث خارجه. في الراديو تملك حق ما يتصوره خيالك لأصواته. تسيطر على مؤشره وأزراره. مع الراديو كبرت مراهقتك وفتوَّتك الأولى. تعلمت التصنت إلى السياسة من مسارب تصنت أبيك إلى محطتيه الأثيرتين، حيث كان يغفو غالبا مع الخبر الثالث في نشرة الظهيرة بعد وجبة الغداء الدسمة وطاسة الشاي الأخضر بالنعاع.

مع الراديو انتصرت لعبد الناصر في صوت أحمد سعيد من «صوت العرب»، الذي استمعت، بجوار الوالد، إلى بياناته البطولية في الساعات الأولى يوم 5 يونيو 67 وهو يُسقط، بصوته المدوي، الطائرات الصهيونية كالذباب، دافعا بالجيوش العربية إلى أبواب تل أبيب. . .

ومن جوف الراديو استمعت مع أبيك إلى بطلكما يبث، بصوته المتهدج في انكساره المهزوم، بيان تنحّيه عن السلطة. رأيت في عيني أبيك رقرقة دموع محبوسة، صدها بشهقة من منخريه الواسعين. ثم دخل إلى غرفته وأقفل وراءه بابها. لكنك كنتَ تسمع، من صالة البيت، بكاءه كالنحيب. ومن يومها توقف لأشهر طويلة عن الاستماع للراديو، وواظب على قراءة القرآن بنهم، وكان عليك أن تخرج براديوك المحمول خارج البيت، لتتابع الاستماع إلى برامجك المُحببة من "الشرق الأوسط". و"قول على قول" من "هنا لندن".

إنه الراديو نفسه الذي تلقيت منه نبأ انتقال البلاد من حوزة ملك عجوز، عائش بجسده في القرن العشرين وبذهنه في قرن أبي حامد الغزالي، إلى ملازم أول بذهنية رغبات وتصورات، مضروبة في خّلاط التاريخ العبقري. إذ يصرخ في ميكرفون مذياع السلطة المسلوب ببيانه الرسولوي : "بضربة واحدة من جيشك البطل تهاوت الأصنام، وتحطمت الأوثان، فانقشع في لحظة واحدة من لحظات القدر الرهيبة ظلام العصور".

في فجر ذلك اليوم أيقظك الوالد بإصرار شبه هستيري قبل موعد استيقاظك المدرسي بساعات. نهضت بين المنام واليقظة. شاهدته يترك سريرك إلى سرير الأم عبر الباب الفاصل بين الغرفتين المتقابلتين. ثم يخرجان معا مسرعين إلى صالة البيت. لحقت بهما منصتا إلى الراديو الضخم يبث موسيقى عسكرية في صوتٍ عالٍ. يُقدم عليك بحميمية لم تعدها عنده قبلاً. يضمك إليه:

ـ"خلاص من هاليوم ما عدش تحتفل بميلاد الملك."

 كنتً شبه يقظ شبه نائم. تفرك عينيك وقد أشكل عليك الأمر.

 ـ هيا ألبس بسرعة بيش تمشي معاي

 فقالت الأم وهي تكاد ترجوه:

ـ خليه يرقد في حاله

قال يطمئنها:

ـ نحن في الفجر توه .. نبيه يشوف معاي بعيونه إيش إللي صار.

ألبستك الوالدة أنظف ملابسك. ومشيت برفقة الوالد:

ـ نبيك تمشي معاي بيش تشوف إللي نشوفه.

مشيت معه سعيداً أنه سعيد وهو يمسك بيدك منذ أن خرجتما من البيت، وقد اندفعت عليك الوالدة عند الباب وغمرتك بقبل ولا أحلى. انعطفتما في أخر الشارع الترابي في اتجاه الشارع العام الرئيس، ويدك مغمورة في يدها الدافئة. وإذ أشرفتما على الشارع الرئيس، رأيت على جانبيه على مسافات متباعدة ينتشر جنود مزودين بكامل عدتهم، معتمرين الخوذات الحربية، وحمّالات الظهر والبنادق المزودة بالحراب وزمزميات الماء اللصقية بالأحزمة .. وكنتَ تراقب المشهد بفضول مذهول قابض على كف أبيك القوية وقد تكاثر القادمون من هنا وهناك.

ـ عودا إلى بيوتكم واطمئنوا.

قال ملازم ثان برز فجأة بين مجموعة العسكر

فقال أحد الرجال من كبار السن:

ـ طمنونا أيش اللي صار.

رد الملازم :

ـ تابعوا الأنباء في الراديو؟! جيشكم ثار وخلصكم من حكم الملك والإنجليز والأمريكان.

 

7

أضاءتْ اللوحة الإلكترونية، فرأيتَ رقمكَ منطبعا باللون الأحمر الفسفوري وتحته رقم الغرفة المقصود التوجه إليها. فتوجهتَ إليها.

{أن تنجو أو  لا تنجو هذه هي المسألة!}

ألا تنجو: القصة معروفة: قد يُعيدونكَ من حيث أتيتَ. ولأنك قادم من بلاد حيث لا طيران منها أو إليها فسوف تُترك عرضة للدولدونغ {Duldung كلمة ألمانية تعني إلغاء طلب اللجوء لحاملها، الذي يظل مهدداً بالترحيل من ألمانيا في أي وقت}. إذن أن تنجو يعني أن يُقبل طلبكَ. فيحيلونكَ إلى "كامب" لجوء إبتدائي ريثما يبتون في أمرك بالقبول أو الرفض. كنتَ قد رجوت البنت ذات الشعر البانكي الأحمر وشناف الأنف الفضي، في مكتب الاستقبال والترحيل، بمركز اللجوء الألماني على الحدود الهولندية الألمانية، التي جئتَ إليها مرحَّلا من أمستردام، أن تنسبك إلى "كامب" قريب من الحدود الهولندية:

ـ صديقتي تسكن على بعد خمسين كيلومتر على الجانب الآخر.

 ولم يكن ثمة صديقة لكَ على الجانب الآخر أو على أي جانب. مجرد تعلة كي لا تُنسَّب إلى ملاجئ اللجوء في ألمانيا الشرقية (سابقا) حيث يوقظ النازيين الجدد هتلرهم المتفحم في طقوس إحراق مساكن الأجانب.

قالت البنت ذات الشعر البانكي الأحمر وشناف الأنف الفضي:

ـ أسفة أنا مجرد أصابع على الكيبورد، وعليك أن تقبل بإختيارات الكومبيوتر.

فجاء حظك في ليبزج .. دخلت الغرفة المقصودة. حيث الدخول إليها أول خطوة في الدخول في إجراءات اللجوء إلى الغرب. تدخله مزوَّدا بمعرفتكَ به، قارئا في تاريخه وآدابه وفلسفته، سائحا فيه، برفقة العيساوي في بدايات السبيعنات، جائلين من روما إلى باريس وإبحاراً إلى لندن عبر المانش، وقد خمدت روح ثورة أيار 1968، وعُصف بربيع براغ، وتلوث مخيال الهيبيين بخيال مانسون الدموي وعشيقاته السفّاحات وهن يبقرن أحشاء شارون تيت الحبلى، فيما أسطورة تغيير العالم تنزف دم تشي/ المسيح الأحمر، مصلوبا على مائدة صخرية في كوخ بقرية واشيه في أعالي الجبال البوليفية.

أنتَ في الغرب إذن.

غرب الآخر/ الراسب عميقا في خيمياء لغة رامبو الجحيمية، حيث لا مجال للحوار السوي إلا ما بعد الخير والشر، برعاية نيتشة في قلعة كافكا. إنه الغرب أيضاً، الذي انتهك نسق سرد جدتك للحكاية الهلالية بسيرة غزاة الروم الجدد وهم يسوقون قبائل برقة إلى معسكرات الاعتقال الجماعي في المناطق الصحراوية. حشروا فيها معظم سكان برقة، بغرض عزل حركة المقاومة بقيادة عمر المختار عن بيئتها الأهلية الحاضنة. جُمّع أهالي النجوع وسيقوا لمسافات طويلة قد تصل إلى ثلاثمئة كيلو مترا. معظمهم على الأقدام. وحين يعجز كبار السن والضعفاء عن مواصلة المسير، يؤخذون جانبا ويعدمون بالرصاص. وكان الحاكم العسكري الجنرال غراتسياني يقول حين يجد من يعارضه على عمليات الاعتقال الجماعية :"لقد قررت وصممت، ولن أتراجع حتى ولو أدى هذا الاجراء إلى فناء اهالي برقة جميعهم". وبالأجمال بلغ عدد المعتقلين ما يربو على مائة وستين ألف نسمة، بحيواناتهم ومتاعهم الرث وما في حوزتهم من مؤن بسيطة سرعان ما نفدت. وخلال سنوات اعتقالهم {ما بين 1930ـ1934} شُغّلوا في أعمال السخرة، وتعرضوا للتعذيب والقتل شنقا أو بالرصاص. وقضى الجوع والأمراض الفتاكة على أكثر من ثلثيهم. أما البقية الذين نجوا بعد تفكيك معسكرات الاعتقال فقد خرجوا أنصاف أحياء. هزيلين بادية عظامهم بسبب سوء التغذية، يعانون من أمراض خطيرة وعاهات مستديمة. وقد كتب الجنرال الفاشيستي رودلفو غراسياني بكل راحة بال في مذكراته: "كلما نسبت اعمالي للوحشية فإني أردد ما جاهر به ميكافيللي العظيم قائلا: كي يحتفظ الأمير بهيبته عليه ألا يعبأ بعار القسوة".

إنه الغرب في نهاية الأمر. الغرب الذي يفكِّر إذن فهو موجود، حتى نكاد نكون موجودين لأنه يفكر. غرب انتهاك حُرْمَةٌ الشرق النائم نومة أهل الكهف خارج التاريخ، عندما داهمه نابليون بالمدافع والمطبعة ومجمعه العلمي المرافق، الذي جاء وصفه الفنتازي في رواية الشيخ الجبرتي، مؤرخ صدمة الحداثة، بعدما تلقى ظواهرها مَبْهُوراً بغرائبها السحرية.[69]

إنه الغرب المذهل الذي يأخذ بالأنفاس لحظة خطى آرمسترونغ على سطح القمر، خطوته الأولى، قائلا: "تلك خطوة صغيرة واحدة لرجل، لكنها قفزة عملاقة للبشرية" ـ وما كان ليقول أنها قفزة عملاقة للامبريالية الأمريكية خارج الأرض، في الفضاء المجهول.

تفكر في غرب "بالما"[70]. في بساطة اغتياله، عند خروجه من السينما برفقة زوجته ليزبت، كأي مواطنين عاديين. غرب رقة حضور ديانا بقلبها الملكي الحاني على "البشرية"، وموتها التراجيدي على مذبح البابارتزي برفقة حبيبها العربي. إنه غرب أول علامة تجارية في التاريخ، من ابتكار شركة إنجليزية تتاجر في بيع العبيد من أفريقيا إلى العالم الجديد عبر المحيطات. وكانت تلك الماركة المسجلة تُطبع بسيخ مُحمّر على جلد العبد-السلعة. إنه غرب صليب الكلوكس كلان المتصل بصليب هتلر المعقوف، المخبأ في قرارة نفس بوش الصغير سليل صليبيي هرمجدون النووية، والراعي الرسمي لـ"غوانتانامو" و"أبو غريب". لكنكَ تدخل الغرب من جهة ضوء شمعة أمنستي المسورة بأسلائك شائكة. من جهة أطباء بلا حدود، ومراسلين بلا حدود، ومحامين بلا حدود ... وأي إنسانيين غربيين بلا حدود.

تطرق باب الغرفة المقصودة طرقا خافتا مهذبا يليق بجنتلمان، حريص أن يبث إلى المحقق ما وراء الباب الموصود انطباعا استباقيا طيبا يشي بمضطهد "متحضر"، يستحق اعتراف الغرب به. تسمع من داخل الغرفة صوتا يهمهم بلغة ألمانية خمنتَ أنها تعني: ادخل. فدخلتَ. لتنطلق إجراءات لجوء الجنوب إلى الشمال.

أُخذت لكَ صور فوتوغرافية للوجه والجانبين في أوضاع تطابق أوضاع المشتبه به جنائيا. ثم طلبَ رجل الأمن منكَ أن تقف عند الحائط ففعلت. رأيته يرتدي قفازا طبيا .. ماذا تراه ناويا؟! لا تدري كيف وجدتَ نفسكَ تلتفتَ تلقائيا، مستندا بيديك إلى الحائط، موسعا بين ساقيك في تقليد مُتقن لما شاهدته كثيرا في أفلام الأكشن الأمريكية لحظة القبض على المشبوهين.

قال رجل الأمن الألماني بتهذيب في لغة إنجليزية مُبسَّطة:

ـ أرجوك لا تفعل. أنت هنا لست مشبوها. أريد فقط التحرز على ما تحمله في جيوبك وستُعاد إليك فيما بعد.

فعدتَ إلى وضعك السابق ساخراً في نفسكَ من نفسكَ المتلبكة. قام الرجل بعمله. أخرج من جيوبك قصاصات ورق مجعوكة: تذكرة طيران إيابا إلى "فاليتا"[71] عبر أمستردام. بضع عملات ورقية ومعدنية من دولارات أمريكية وفلورانات هولندية. قصاصة أظافر، وقلم حبر أزرق جاف، فرز حبره في جيبك. ولم يكن لينتبه إلى بضعة مئات الدولارات التي أخفيتها داخل حجل السروال المُخيّط. أُخرِجتَ من الغرفة الأمنية ببطاقة تعريف مؤقتة، تحمل صورتك لتدخل في غرفة ثانية فثالثة، حيث أخذوا لرئتيك صورة أشعة إكس لعلك مصاب بالسل {إيدز القرن التاسع عشر} الذي أنقرض منذ قرن ونيف، لكنه لا يزال يزدهر في رئة الجنوب، مُطوِّرا فيروسا مقاوما للأدوية الكلاسيكية. وفيما كان التقني يضع على صدرك العاري الدرع الواقي من الاشعاع، تخطر عليك حكاية "غادة الكاميليا": الغانية الجميلة بصدرها المسلول، وفتى البرجوازية "النبيل" الذي وقع في غرامها، فيتدخل والده زبونها السابق بأمواله، وخطاب شرفه البرجوازي. يساومها بأمواله كي تتخلى عنه، فترفض بيع عواطفها بالمال، فيلجأ إلى استدرار عطفها من حيث هي "مومس فاضلة" مصدُورة كما أرادها الروائي البرجوازي موضوعاً أخلاقيا للتضحية بموتها المأساوي من أجل حماية الرئة البرجزازية من داء سل البروليتاريا والعاهرات.

حلَّلوا بولكَ وغائطكَ ودمكَ بحثا عن الكوليرا أو الملاريا أو الوباء الكبدي. وربما الإيبولا. ثم أُخرجتَ إلى ردهة انتطار واسعة في حديقة المبني، تتوزع في أنحائها مقاعد حجرية مستطيلة مثبتة في الأرضية الأسمنتية. وكان عليكَ الانتظار مع المنتظرين بسحناتهم ولغاتهم المتباينة، حتى يُنادي على اسمكَ لمقابلة المحقِّق الذي سيتحقق من حقكَ في حقوق الإنسان، حسب تفسير وزارة الداخلية الجرمانية.

وضعتَ إلى جانبكَ على المقعد الحجري حقيبة الظهر التي كانت لحمدان في أزمنة تسكعه الأندلسي. تخلى عنها لكَ. ودعّك ذات صباح شتائي بعدما نمتَ عنده كي يقلك بسيارته إلى الميناء، لتبحر منه إلى "فاليتا" ومنها طيرانا إلى أمستردام.

حملتَ فيها بنطالون جينز وتي شيرت وغيار ملابس داخلية ومخطوطة رواية لم تكتمل، وكتاب "الطريق إلى غريكو" لكازنتزاكي و"هكذا تكلم زاردشت" لنيتشه و"الأشارت الألهية للتوحيدي و"قصر الحمراء" لواشنطن إيرفنج و"مزرعة الحيوانات" لجورج أرويل، مزدوجة اللغة: إنكليزي/ عربي، والالياذة الهلالية مسجلة على ثلاثة أشرطة بصوت جدتكَ، وكاسيت "غناوي علم". وصورة سلمى وهي واقفة على أعلى سلم "رابطة الكتاب" عابثة بشعرها الكستنائي مقلِّدة في سخرية أنوثة مارلين مونرو في دور الشقراء المُغوِّية.

في ردهة الانتظار الواسعة: انتظار على قلق ... وتدخين ... وضجر ... كانت الوجوه تتوافد: سمرا شرق أوسطيين، وسودا أفارقة، وبيضا من البلقان، وبعض الصفر من بلاد الصين. أقبل أب كردي أربعيني متبوعا بزوجته المطيع الخجول، ممسكة على جانبيها بيدي ابنتيها التوأم، الرافلتين في قفطانين من قماشة واحدة زاهية الألوان.

جلس بجوارك افريقي ناصع السواد بعدما لقّط حفنة من أعقاب السجائر المرمية في الأنحاء صانعا من خلطة بقايا التبغ سيجارة لف. نظرتَ إلى ما في حوزتكَ: سيجارتان فقط. أشعلت واحدة. جاء إليك بلقاني طالباً سيجارة، عارضاً عليك بضعة سنتات لدفع ثمنها. لم تكن لترد طالب سيجارة، فهكذا تجرى العادة في تلك البلاد التي خلّفتها وراءك بلا رجعة، حيث من الكبائر أن ترفض طلب محتاج، وعندك ما يحتاجه. ما بالك أن تكون حاجته في سيجارة ولديك سيجارتين. أعطيته واحدة رادا عليه سنتاته. طلب إشعالها فاشعلتها له، وهو واقف منحنياً برأسه حيث تجلس. ثم جلس بجوارك. أخذ أنفاسا شرهة، وألتفت إليكَ سائلا بإنجليزية متعثرة: "أنت مسلم؟!" فكرتَ لهنية :هل أنت مسلم فعلا؟!:

ـ نعم!

ـ من أين؟!

ـ من ليبيا ... وأنت؟!

ـ مسلم من سراييفو!

وأزدهرت أسارير وجهه وهو يهز رأسه، كأنه أخيراً وصل إلى "المدينة المنورة". عرفتَ منه بقليل من مفرداته الإنجليزية، وشئ من اشارات يديه أن أسمه مهديتش زيميري. ثلاثيني. كان سائق حافلة تعبر قلب سراييفو. مقبلا على الزواج عندما شن الصرب حربهم التطهرية على المسلمين والكروات. واصل عمله تحت وابل رصاص القناصين، وقنابل القصف العشوائي، إلى أن لم يعد أحد يركب حافلته. هربت خطيبته مع أهلها لطلب اللجوء في السويد. فلجأ إلى قريته النائية نسبياً عن جبهة القتال والقصف، حيث بيت والديه وقد أزدحم بعائلات أخيه وأختيه وأولادهم. ثم ها هو الآن في مركز تجمع للاجئين في بلاد الجرمان.

سمعتَ اسمك يتكرر في نداء أنثوي. ألتفت إلى مصدره. موظفة شابة طويلة ممتلئة، في تنورة سوداء تنتهي فوق الركبتين بقليل، وبلوزة بيضاء شفافة يكاد يقفز منها نهدان نافران في أبهة. واقفة عند مدخل الردهة الخارجية كمضيفة طيران خمس نجوم، تنادي على اسمك مبتسمة بمودة مهنية محترفة، متهجية حروف اسمك الغريبة على لسانها بصعوبة ضاحكة في النهاية من طريقة نطقها المتلبِّكة. تبعتَها عبر الممر الإداري الطويل محاولا ألا تنظر أكثر مما يجب إلى رديفها اللصيقين بتنورتها اللاصقة وهما يتراقصان على إيقاع كعبيها العاليين. أوصلتكَ إلى باب غرفة في أخر الممر، حيث أشارت إليك أن تجلس على مقاعد الانتظار حتى يُنادى عليك، وأنصرفتْ. فجلست حيث أشارت. لم تكن لتمنع نفسك من النظر إلى ردفيها المتراقصين وهي تعود عبر الممر الطويل الذي أتتْ بكَ عبره حتى دخلت أحد المكاتب.

جلستَ تنتظر. قرأت في "مزرعة الحيوانات" من حيث: "صعد نابليون والكلاب خلفه، إلى الجزء المرتفع من أرض الغرفة حيث سبق لميجور أن كان يقف لإلقاء خطابه. وأعلن أن اجتماعات صباح الأحد ستتوقف بعد اليوم، لأنها أمست غير ضرورية، وباتت مضيعة للوقت. أما في المستقبل فسوف يُبت في جميع المسائل المتعلقة بالعمل في المزرعة من قِبل لجنة مختصة من الخنازير، يترأسها هو بالذات. فتلتقي سرا وبعد ذلك تنقل مقرراتها إلى الآخرين".

خرج أفريقي من غرفة المحقق قافلا الباب ورائه بإستياء. أشعركَ خروجه العابس بالانقباض. فعدت إلى "مزرعة الحيوانات" التي دسها حمدان في حقيبتك: "ستحتاجها في الطريق. مسلية وبلغة مزدوجة مفيدة لتحسين لغتك الإنكليزية الركيكة."

قرأتَ: "أما باقي الحيوانات فتلتقي صباح كل أحد لتحية العلم وإنشاد (وحوش إنكلترا) وتسلم أوامر الأسبوع لكن لن يكون هناك أي نقاش أو جدال". أنفتح الباب وطلت سيدة خمسينية نحيفة بوجه جرماني صارم. نطقتْ اسمكَ بصعوبة، ودعتكَ إلى الدخول بإشارة من يدها. فدخلتَ خلفها. جلستَ قبالتها بجوارك مترجم ستعرف من لهجته أنه مصري. واشتبكت الأسئلة بالإجابات في تفاصيل بيانات الهوية: اسمك الثلاثي، تاريخ ميلادك، وميلاد والدك، اسم أمك الثلاثي، وتاريخ ميلادها، أسماء أخوتك وأخواتك وتواريخ ميلادهم. . ما قبيلتك؟ ما دينك؟ ما مذهبك؟! ما أسماء زوجات أخوتك إذا كانوا متزوجين؟ وما أسماء أزواج أخواتك إذا كن متزوجات؟ وما هي طبيعة مهنهم ومهنهن؟! ولا حرج عليك إذا خانتك الذاكرة. المهم عدم الكذب في ذكر تفاصيل الهوية، حسب إرشادات العراقيين خبراء مسالك اللجوء من الألف إلى الياء. إياك وتفاصيل الهوية. عليك أن تروي تفاصيلها كما هي، كي لا ترسب في اختبارات التحقيقات المخصصة لمراجعة مصداقية معلوماتك. والأهم أن تتزود بسيناريو اضطهاد سياسي ملموس الوقائع، مُحكَم الصياغة مستوفي الشروط، من حيث توفره على تعرضكً للاضطهاد السياسي في سياق حبكة ملاحقة أمنية وتحقيق واعتقال. ويا حبذا تعذيب.

قال المترجم مُترجِماً كلام المحققة:

ـ احكي لها ملخص حكايتك!

سألته مستفسراً:

ـ أي حكاية؟!

فاستشاط غضبا على طريقة عبد المأمور المصري:

ـ حكايتك يا أخي

ثم أضاف بهدوء مفاجئ:

ـ قول لها أيه اللي حصل لك. يعني أنتَ ليه بتطلب لجوء. وخذ بالك انا هنا مترجم وبس. مليش دعوة أشرح لك تحكي إزاي. هيا بقى أحسن هي لاحظت إني مْزوِّد حبتين في الحكي معك!

والتفت يرطن مع المحققة بلغتها.

فماذا تقول لها؟!

أتقول لها: سيدتي المحققة الجرمانية لست لاجئا اقتصاديا، فأنا من تلك البلاد حيث لتر البنزين أرخص مرتين من سعر لتر الماء. أنا هنا لأنه هناك: حاكماً بأمر مزاجه الإلهي. أ  تضيف أنكَ فار بالكلية من إجتماع "مقدمة ابن خلدون" وفلسفة "شعرة معاوية" السياسة. ولكن كيف للمترجم المصري أن يترجم المعنى. حتما سوف يبتئس غضبا: "أنت بتقول أيه. إيه الكلام ده. ح ترجمه إزاي.". فحكيت لها أنك هنا لأن ما عاد في مقدورك هناك أن تعبر عن نفسك بالطريقة التي ترغبها. وناولتها قصيدة مكتوبا في حاشية رأس صفحتها الأصلية، ملاحظة : "غير قابلة للنشر" بتوقيع رئيس التحرير:

ها نحن؛

ثانية بثانية

دقيقة بدقيقة

ساعة بساعة

يوم بيوم

شهر بشهر

سنة بسنة

عقد بعقد،

نحيك بغِزل ذهان الأخ الأكبر

فكرته عن نفسه،

فينا،

خوفا بخوف.

أجتهد المترجم المصري في ترجمتها فوريا. بعد ترجمة ملاحظة رئيس التحرير. وقد ساعده أنها قصيدة قصيرة ولغتها مُبسِّطة. لكنه تلبك في ترجمة نهايتها:

نحيك بغِزل ذهان الأخ الأكبر

فكرته عن نفسه،

فينا،

خوفا بخوف.

قالت السيدة المحققة مبتسمة في سخرية متهكمة:

ـ لكن هذا لا يعطيك الحق في اللجوء السياسي!

وأضافت:

ـ ربما يقصد بغير قابلة للنشر أنها قصيدة فاشلة!

وضحكت.

ولم يكن ليفيدك في شيء أن تروي لها قصة اعتقالك مع حمدان والعيساوي. فقد كان أمراً عبثياً لا تصريفا منطقيا لمعناه خارج واقع قلعته الكافكاوية البدوـ بتروـ ثوروية. فرويت لها، كما درّبك العراقيون، وقائع قصة ملفقة عن انضمامك إلى تنظيم سرِّي داخل الجامعة، ضم طلبة وبعض الأساتذة تحت اسم الحركة الشعبية من أجل الديموقراطية، هدفه العودة بالبلاد إلى النظام الديموقراطي. وأنك كنت مسؤولا عن خلية من خمسة أشخاص، وقد هربت عندما بدأت أجهزة النظام في اعتقال قيادات التنظيم، ومن بينهم من لك به صلة مباشرة، فاختفيت لأسابيع حتى تم تهريبك إلى "مالطا" بفيزا "شينغن"[72] ألمانية. وختمت بالقول إن رفض طلب لجوئك وإعادتك إلى بلادك لن يكون خطرا على حياتك فقط، وإنما على خليتك، معيدا التأكيد على أنك قادم من بلاد نفطية ثرية، حيث لتر البنزين أرخص مرتين من سعر لتر الماء، لتؤكد إنتفاء صفة اللجوء الاقتصادي عنك. وأضفت أنك سبق وزرت أوروبا عدة مرات، دون أن تفكر في البقاء فيها. أما الآن فأنت تلجأ إليها هروبا من اضطهاد سياسي ملموس.

نظرت إليك السيدة المحققة مبتسمة ابتسامة العارف بألاعيب اللجوء المعتادة، وقالت عبر المترجم المصري:

ـ تستطيع أن تذهب الآن

 

8

في انتظار بريد "البندوس آمت [73]Bundesamt الذي يأتي ولا يأتي. تنتظر مع مئات المنتظرين في "هايم" التجميع الضخم القائم على أطراف "ليبزج"، غاصاً بعرب وكرد وإيرانيين وأفغان وألبان وبوسنيين وأفارقة وتاميل، وسنهال يدعون أنهم تاميل، وجزائريين ومغاربة وتوانسة ومصريين يدعون أنهم ليبيون لارتفاع حظوظ قبولهم بـ"فضل" وجود "الأخ الكولونيل" المحاصر بـ "لوكربي" و" يو تي إيه" و"ملهى لابيل"[74]

كان ذلك "الهايم"، بعماراته المستطيلة المتلاصقة واحدة بالأخرى في هندسة توتاليتارية صارمة كئيبة، معسكرا للجيش السوفياتى ثم صار، بعد انهيار الجدار، واندماج ألمان ماركس في ألمان هيغل، معسكرا لجيوش لاجئي الجنوب الهاربين من حيث لا يُطعمون من جوع، ولا يأمنون من خوف، متسللين بألف حيلة وحيلة إلى منافذ الغرب الفاخر، معوِّلين على ورطته الدستورية في تبني حقوق الإنسان، حتى وإن لم يعجبه الأمر. فهو سيد الرفاهية الكونية وماما الدولة الحنون. ومهما شدّد حراسته الإلكترونية، ووسّع من رؤيته الليلية تحت الأشعة الحرارية الحمراء، وزاد من أعداد كلاب حراسته المختصّة في تقفى رائحة الأجانب، فإن اللاجئ يظل أخبث حيلة في المروق حتى من خرم الابرة.

وها أنت ها هنا في هايم جرماني يغص بمئات المتطلعين إلى نيل حظوة "البوزيتيف"؟ هامش؟ الإقامة المفتوحة. أو أقلّها ضمان عدم ترحيلهم، راضين بوضعية "الدولدونغ" المُمدَّدة غالبا لأعوام، مما يتيح لهم الأخذ بالخيارات المطروحة بين التسلل إلى دولة أوربية أخرى أو التخفي والعمل في الأسود، أو الزواج من سوق الألمانيات مقابل صفقة مالية، أو صفقة جنسية مع ذوات الأوزان الثقيلة. وإليهم من يعتنق فتوى استحلال السرقة، والمتاجرة بالمخدرات في محطات القطارات، وحتى القوادة بالعاهرات ما دمن من بنات بلاد الكفّار.

وتستمر الحياة في الهايم الكزموبوليتي الكبير في انتظار وقلق وبلادة. وصخب وعنف. المقْبولون القلة يحتفون بانتقالهم إلى أمكنة إقامة أقل ازدحاما بكثير وأفضل خدمات، كخطوة متقدمة للحصول على جواز سفر، وسكن مستقل، ودخل إعالة اجتماعية، ريثما يجدون عملاً. بينما الأكثرية المرفوضة يستأنفون ضد الحكم وينتظرون في الهايم الكبير مع معظم نزلائه من المنتظرين وأصحاب "الدولدونغ" المفتوح على التمديد أو  الترحيل.

يخرج من يخرج ويُرحَّل من ويُرحَّل ويدخل من يدخل. وتستمر الحياة في الهايم الكبير. صداقات وعداوات. متاجرة بمسروقات. مشاجرات فردية لأسباب مبتذلة شبه يومية واشتباكات جماعية عرقية شرسة قد تجري وقائعها في صالة الطعام، أو الساحة العامة، أو ممرات البنايات أو حتى داخل الغرف المشتركة. صفقات بيع وشراء لجوازات سفر مزورة، وبطاقات هواتف عمومية مزيفة (لا تنقضي)، ومسروقات الويسكى والملابس والساعات والكاميرات الثمينة بعشر قيمة سعرها الاصلي.

في ذلك الهايم الكبير كان أكراد العراق هم الأكثرية السائدة، المتوافدة بكثرة على إثر غزو صدام حسين لشمال العراق، بعد انكفاء جيشه عن الكويت في انسحابه الفوضوي المكشوف أمام آلة الابادة الأمريكية.[75] وكان العرب العراقيون أقلية لا وزن لها في ذلك الهايم الجرماني. كانوا يتجنبون السكن مع الأكراد أو الاختلاط بهم، كي لا يصطدمون بهم وقد باتوا أكثرية غالبة، وهم المدموغون بتاريخ الأقليّة المقهورة لعهود طوال.

كان الأكراد متحفزين متربصين لأتفه استفزاز قد يصدر من أحد ما خارج عرقهم، ويا حبذا لو كان عراقيا عربيا. كأن يحدث وقت توزيع الوجبات على أكثر من ستمائة لاجئ يزاحمون بعضهم بعضا في طابور طويل مترجرج في مساره البطيء المُضجِر مبتدئا عند الطبّاخين، فيما ذيوله ممتدة إلى وسط الساحة الترابية العامة وسط البنايات. فإذ بكردى جاء متأخرا يحشر جسمه خلف آخر من بني جلدته، واقفا في الصف المتماوج امام عراقى ـ عربى. وما أن قال العراقي العربي، القادم لتوه إلى الهايم، بلكنة بغدادية، للكردي الذي حشر نفسه في الصف أمامه:

ـ أوقف بالسره (الصف) .. انت هسا جيت.

حتى اُستنفر الأكراد وكأنهم جسم واحد. كان واضحاً أن العراقي العربي إما أنه لم يُحذره أحد، كي يأخذ علماً بطبيعة توازن القوى اللاجئة داخل الهايم الجرماني، بحيث يلم بوضعية مراتب مكونات الأقليات المهيمنة في الهايم، ويدرك خطورة مثل هكذا موقف؛ أو أنه صاحب ضمير أخلاقي زائد عن اللزوم. أو وصل للتو. والواقع أنه كان قد وصل الليلة الفائتة.

صاح في وجهه كردي كان يقف وراءه على مبعدة عدة أشخاص وقد خرج من الصف بعدما تبيّن لكنة خصمه العربية:

ـ هسا ماكو صدام.

وسرعان ما سرت عبارته تلك في الطابور الطوي،ل من كردى إلى كردى إلى أخرهم في ذيل الصف. حتى وصلت إلى مسامع من لا يزال منهم في الغرف. بل ربما صدحت أصداؤها في أعالي جبال "قنديل".[76]

كان الرجل فعلا عراقياً عربياً، وبغدادياً أيضا. لكنه كان أبعد ما يكون عن الولاء لصدام ونظامه. إسمه حسين علي. وقد وصل إلى الهايم ليلة أمس فقط. ولسوف تتعرف عليه، ويعرّفكَ بنفسه مازحا بصفته شيوعيا شيعيا شروقيا[77] هرب بعد انفراط عقد التحالف الشيوعي البعثي في 78 من القرن المنصرف. فلجأ إلى من تبقى من شيوعي خيار الخنادق، المتحالفين مع الشيوعيين الكرد اللائذين بجبال كردستان، حيث ليس للأكراد من صديق الا الجبال، تاركاً خلفه شقيقين معدومين، وأب مات بالجلطة وأم خرساء!

أدرك حفنة العرب، المتواجدين في الطابور، أن شرٌّ الكرد المسْتطير لا مفر منه. فقد تحول الصف المتطاول إلى مواضع متجهمرة هنا وهناك. وليُذكر لك أنك خرجت من صفك إلى حيث يقف العراقي، الشيوعي الشيعي الشروق، لترجوه أن ينسحب ويعود إلى غرفته. لكنه خرج عن موضعه في الصف، وخطاب الكرد المهتاجين بلغتهم:

ـ أنا مثلى مثلكم هارب من صدام.

صاح كردي فيه:

ـ أنت مثلك مثل صدام من جلدة واحدة. جميعكم خرستم لما رشنا بالكيماوي.

قال لهم في هدوء بلغتهم:

ـ كنتُ أقاتل نظام صدام في خنادق الأكراد في جبال زاخو.

صرخ كردي آخر في وجهه:

ـ أنت عربي حتى لو تكلمت الكردية بأحسن مني.

تزايد تجمع الأكراد الخارجين من الطابور داخل صالة المطعم، وإليهم الآتين من الخارج، وقد أنسحب معظم الأعراق الأخرى. أنزل الطبّاخون ستائر الرول المعدنية مُغلقين واجهة المُنَاوَلة. وأختفى رجال الأمن المدني المستأجرين من شركة خاصة لحفظ أمن الهايم. فهم دائما يخرجون من مشهد اشتباك اللاجئين باللاجئين في ساح الاحتراب العرقي العالمثالثي. إذ أنهم، بالنسبة إليهم، فخّار يكسر بعضه، على جاري المثل العربي الدارج. ولم يتبق سوى بعض العراقيين العرب، مع غيرهم من بعض العرب الجزائريين والمغاربة والتوانسة والمصريين والصوماليين والليبيين. أحطتم بالأخ العراقي العربي في محاولة لإخراجه سالما من دائرة الاستهداف الانتقامي الوشيك. تقدم جزائري معروف بالشيخ بن يوسف. له هيبة مشيخية شائعة بين مسلمي الهايم، بحيث عندما ظهر على الأكراد الهائجين توقف معظمهم عن التحرش بفريستهم، الذي وعى بالخطر الداهم عليه، فأرتكن إلى الصمت، محاطاً بحماته العرب، وبعض الأفارقة من أصدقاء العرب.

صاح كردى فيه:

ـ كفوا عنا ورانا ورانا ناقص تجيبوا صدام لاجئ.

قال الشيخ بن يوسف:

ـ يا أخوان استغفروا الله. كلنا في الهم سواء، أكراد وعرب وسود وبيض، وصدامنا واحد.

فأقترب كردي مُسن من الشيخ بن يوسف شاهرا سبابته في وجهه، حتى كادت تلامس لحيته:

ـ ما يفعله الإسرائيليين بالفلسطينيين أرحم بكثير مما فعله العرب بنا على يد على "القائد الضرورة"[78].

أبعد الشيخ بن يوسف سبابة الكردي المُسِن عن وجهه بتأدب:

ـ أتقى الله. . . أنت رجل كبير السن. فكن حكيما في قومكَ. وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.

لم يكن الشيخ الجزائري ليدرك أن الكردي المُسِن شيوعي لينيني مخضرم:

ـ اتركنا من قرآن العرب ونبيهم. خلي العراقي العربي يعتذر للأكراد.

ردّ الشيخ بن يوسف مبتسما:

ـ على ماذا يعتذر الرجل. لقد احتج الرجل على شخص دون أن يعرف أصله أو فصله. ومع ذلك سوف يعتذر كما تريدون.

وما أن ألتفت ناحية التجمع الصغير المحيط بالعراقي العربي البغدادي لإقناعه بضرورة الاعتذار سحباً لإعذار الكرد المتحفزين للعنف المستطير، حتى هاجموا مهتاجين هدفهم المستهدف (الذي قضى سنوات مقاتلا في خنادق جبالهم العالية، حالما بعراق جديد، يشمل الجميع في مجتمع إشتراكي بديع كما يتصوره على إيقاع الشعار الشيوعي الشهي: "من كل حسب طاقته، ولكل حسب حاجته" الرائج وقتها أكثر من حبوب الأسبرين.)

هاجموه وهو وسط حلقة حماته القلة. صوبوا قبضاتهم واقدامهم في كل اتجاه حوله. كنتَ ضمن تلك الحلقة تحاول تخليصه من براثن اللكمات الطائشة، في كل اتجاه حول وسط حلقة حماته القلة. كنتَ تدرك وكل من تبقى معك لحمايته أنكم ضحايا الوقوف إلى جانب الأضعف. إذ سيجتاحكم عنف الأغلبية الكردية في لحظة هائجة. لمحته بنظرة متورمة تحت دوس الأقدام، وهو يُسحب ككيس رمل متهتك، خارج المطعم، إلى الساحة العامة. وما عاد بالإمكان فعل شيء لإنقاذه. وفي رواية أخرى كنتَ تراقب المشهد من شرفة الغرفة في الطابق الخامس. كان الكرد المهتاجين يتداولون فريستهم المسحوقة تحت أقدامهم كأنها جثة بوزكاشي[79] إلى أن دوت صافرات قوات مكافحة الشغب، التي تأتي متأخرة دائما كما الشرطة في نهاية الفيلم. يفرّ الكرد إلى غرفهم، تاركين ضحيتهم مُشرفا على الهلاك. تعج الساحة بقوة مكافحة الشغب. المسعِّفون يعالجون الضحية، ثم ينقلونه إلى سيارة الأسعاف. الشيخ بن يوسف وبعض الشهود يدلون عن طريق مترجم رسمي بشهادتهم، أمام كاميرا فيديو يحملها أحد أفرادة القوة الأمنية. تغادر سيارة الأسعاف مُسرعة، وعويل صفارتها يصخب المكان. وتتبعها سيارات قوات مكافحة الشغب، دون أن تعتقل أحد.

كان معك في الشرفة عمّار الجزائري الثلاثيني، خريج المعهد الهندسي للإلكترونات، الفار من لعنة الحيطستيين المرميين لعشرية دموية، يتنازعها الشيوخ والجنرالات: "شوف شوف كيف يتقاتلو كالديوك الملعوب بها، وهم ضحايا بعضهم". وسوف يظهر بعد غياب اسابيع عن الهايم متأنقا منشرحا: "اسمعوا انتم معزومين بكرة بالليل. خوكم متعرس. متسألونيش يلعن والديكمّ عن سنها، وإلا عن وزنها. هي تبغى طفل وأنا نبغى إقامة. وخالصين يا زبي!" وبجواره عند طرف الشرفة "كمني" منهمكا في اقتناص صور المشهد بكاميرته التقليدية العتيقة، التي جاء بها من زائير موبوتو بعدما ضربتها فوضى مطبقة عنفا وأوبئة. فهرب بحاشيته وثرواته المنهوبة إلى منفاه المغربي الفاخر.

كان "كمني" يعمل مصورا صحفيا في صحيفة معروفة في "كنشاسا" عندما أتصل به أخوه الصغير من "كيكويت"[80]. بلَّغه بتفشي وباء مرعب فتك بالمنطقة، حيث ماتزال عائلته الكبيرة تعيش في أكواخها القروية بجدرانها الطينية وسقوفها النباتية. ترك كل شئ بين يديه لحظتها، وسافر إلى قريته النائية. وصل إلى هناك بعد سفر يومين متواصلين. وجد رجال الأمن عند مدخل القرية يضربون طوقا حولها، وقد أُخليت من سكانها، وغصت بأطباء وممرضين في ملابس طبية معقمة. فبدوا كأنهم رواد فضاء منهمكون في حفر قبور منتشرة في براح مجاور. أراد ان يمر. منعه رجال الأمن. قالوا له: "المكان محجور عليه". صرخ فيهم: "جئت لأرى أهلي لو كانوا جثثا". حاول اختراق الحاجز الأمني بعنف. سمع أخوه خلفه ينادي عليه. تحاضنا باكين. أخبره بموت الجميع ودفنهم: الجدة والوالد والوالدة والأختان المطلقتان وابناؤهن. الأعمام والخالات والأحفاد. بكى طفولته البدائية في زمن خليط الأب والأم والأخوة والأخوات بالأجداد والجدات والعمات والأعمام والأخوال والخالات في مساكن العائلة الواحدة الممتدة كأنها البشرية كلها. عرف أفرادها فردا فردا وضحك ولعب وبكي في باحتها المفتوحة على محيط أدغالها المسكونة بالأسود والنمور والفيلة. شاركته الحياة فيها الأفاعي والأصلات والقردة العابثة وغزوات، وغزوات بعض الحيوانات المفترسة.

كان كميني صغيرا، بالكاد يتذكر، عندما هاجمه أسد ضخم، وهو ضمن مجموعة أطفال يلعبون خلف الأكواخ، فهرب الجميع أمامه لائذين بالقرية. ألتفت كيمني خلفه بعد مسافة بدأت له آمنة. فرأى ابن إحدى خالاته يتعثر في ركضه ويسقط، فيلتقطه الأسد الضخم بين شدقيه، ويختفي به في الأدغال. طارده رجال القرية طوال الليل، مقتفين أثاره، حتى اصطادوه بالسهام مع طلوع الصبح، وهو رابض في عرينه. . . ليعودوا به معلقا من قوائمه على فرعي شجرة متينين محمولين على كتفي شابين قويين. دخلوا به القرية مطرقي الروؤس اذ لم يعثروا من الصغير سوى على مزق من ملابسه، ملطخة بدمه. فقد ألتهم السبع الجائع لحمه وعظمه الطريين في لقيمات معدودة.

بجوار كمني كان آدم البوسنى: ثلاثينى طويل القامة. كان لاعب كرة سلة مهاراً في سنوات كلية الحقوق الجامعية، قبل أن يتحول إلى مقاتل عسكري في خطوط الجبهة الأولى دفاعاً عن سراييفو في مواجهة ميليشيات الصرب. وها هو يتقلد حول عنقه قلادة رقمه العسكرى، ومسكوكة ذهبية منقوشا عليها آية الكرسي بلغة عربية يؤمن بما انزل بها، دون أن يفك حرفا منها. أهدتها له زوجته راميزا كي تحفظه من الأخطار.

جاء إلى ألمانيا متوسلاً بطلب اللجوء الإنساني البحث عن زوجته وطفلهما، الذى وُلد اثناء أسره في معتقلات الصرب. والداها أخبراه، بعد اطلاق سراحه من المعتقل، أنها اختارت له اسم "ناجي"، وأنهما شجَعاها على اللجوء إلى ألمانيا. وها هو منذ شهرين، بعدما حظى بحق اللجوء المبدئي، في معسكر التجميع الكبير، يباشر تقصي أثرها بلا كلل. سأل بالهاتف، عنها، أقارب وأصدقاء بوسنيين لاجئين في جنبات ألمانيا. أستعطف الصليب الأحمر. نشر إعلانات صغيرة في صحف ألمانية محلية. ولا خبر. أتراهما انتهيا في حفرة قتل جماعي أو في معتقل صربى هولوكستي ما؟!

ماذا لو أن "راميزا عليفتش"، معلمة الصفوف الإبتدائية، الأكثر خفراً من زهرة السوسن، وقعت سبية في معتقلاتهم،، حيث يدلف الحراس والمحققون والمقاتلون، مخمورين إلى عنابر النساء، مسلطين اضواء بطارياتهم على أسرة السجينات. ويأخذون من يرغبون في إغتصابهن لحاجتهم الجنسية الخاصة. ولتحبيلهن، لدواع إيدولوجية، بأجنَّة "صليبية". كان رائجا أن يكون بين المغتصبين زملاء أو جيران سابقين للمغتصبات. ومنهم من كانوا يلبسون أجربة سوداء على روؤسهم كي لا تكتشف ضحاياهم هويتهم. إلا إنهم غالبا ما كانوا، في غمرة تلذذهم المرضي بالاغتصاب الأيديولوجي، يكشفون عن وجوههم لمغتصباتهم إمعانا في الفجور بهن.

روت "عائشة"، الممرضة البوسنية المسلمة، سبية معتقل صربي لثلاث سنوات، لمراسل محطة تلفزيون ألماني، بعد نهاية الحرب وإطلاق سرحها، أن أول من اغتصبها كان طبيبا يعمل معها في مستشفى واحد: "عرف إننى عرفته. كنا نعمل معا طوال عشر سنوات. كنتُ أراه كل يوم في كافتريا العاملين، وكنا نتناقش في مواضيع عامة. كان رجلا مهذباً." كانت عائشة واحدة من مئات البوسنيات المسلمات المغتصبات في المعتقلات الصربية، بمعدل عشرة رجال لإمرأة مسلمة واحدة. وكان العاجزون جنسيا من الحراس والمحققين الصرب ـ تقول عائشة ـ يمارسون الاغتصاب بوسائط يختارونها. كأن يستخدم احدهم زجاجة خمره الفارغة أو مسدسه أو يبول فوق ضحيته.

قالت عائشة أن أحد مغتصبيها وكان طبيبا أيضا، قال لها: "الآن تعرفين من نحن، وسوف تذكرين ذلك إلى الابد.". لم تكن عائشة، المُغتصبة جسدا وروحا ووجدانا، تريد خبزا ولا ماءً. كانت فقط تُريد أن تُترك وحيدة:

ـ شعرت بأننى أريد أن أموت. لم يكن عندنا غير الثياب التي على أجسادنا وغير مسموح لنا بالاستحمام. كان الحرّاس يأخذون النسوة إلى المراحيض في أوقات مزاجية غير محددة، وتكون استثنائية كالرحمة الطارئة. وغير ذلك وضعوا قدراً ضخما في منتصف العنبر، وطلبوا من النساء أن يستعملنه كمرحاض. وكان مثقوبا. فاذا ما استعملته إحداهن فإن البول والبراز يتسرب منه إلى حيث تجلس نسوة أخريات.

أما في مركز اعتقال الرجال فقد كان المعتقلون موضوعا رائجا للتعذيب والتصفية الجسدية حسب مزاج المحققين ومسؤولي المعتقل. كان بين المحققين الصرب ذوى مهن نخبوية. يقول آدم:

ـ كان فيهم الطبيب وأستاذ الفيزياء والمحامى والمخرج السينمائي والروائي.

كان آدم البوسنى واحد من ثلاثمئة معتقل حُشروا في عنبر صفيحي هائل. كان في الأصل مستودعا للدبابات. كانوا يشربون ماء قذرا يُقدم لهم بتعمد. ويتغوطون في تراكين الحظيرة. ويأكلون مما يُقدم لهم من حساء مقرف وفتات خبز يابس مُعطَّن. ويذكر أنه في يوم صيفي قائظ انتشرت حالات الإغماء بين السجناء بعدما تعمد الحراس إغلاق جميع النوافذ، ومنعوا عنهم حتى الماء القذر. طرقوا، بشكل جماعي هائج، جدران المستودع من كل الأنحاء، طالبين فتح النوافذ العليا المغلقة، والباب الضخم الموصد، رغبة في الحياة. فسمعوا بعد عناء أصوات تصيح فيهم من الخارج:

ـ تريدون التنفس؟ .. حسنا.

وأنهال عليهم الرصاص الرشاش مخترقاً جدران صفيح المستودع، محدثا ثقوبا قاتلة في نواحي جهاته الأربع على مستوى وقوفهم، ثم نزولا بالرصاص القاتل إلى مستوى إنبطاحهم أرضاً. فيسّاقط القتلي وتسيل جداول الدم وتصخب أنات الجرجى وصراخ ذعر المنبطحين على أرضية المكان طلبا للنجاة من رصاص الموت، الذي أخذ يحف بمستوى الأرض. فيتقافز الضحايا مستترين بعضهم ببعض في فعل أناني بشري صرف. كل يستتر بالذي يليه. إذ أصبح بالنظر إليه كيس رمل يتلقى الرصاص دونه. احتمى آدم بين جثتينن وتغطى بثالثة حتى توقف إطلاق الرصاص. فأستتب صمت جماعي تقاطعه آنات الجرحى وتآوهات المحتضرين. ألقى آدم جانبا بالجثة التي تغطى بها بين جثتين إذ تأكد له انسحاب الجنود في قهقاتهم بعدما صاح فيهم آمرهم: "عودا إلى مواقعكم". توقف إطلاق الرصاص. نظر إلى الجثتين إلى يمينه ويساره. تذكرهما وهما حيّين. وما أن نهض من انبطاحه المحظوظ حتى وجد عند قدميه جثة ابن العم التي كان قد تغطى بها. ضمه إلى صدره، ملقيا بيده اليمني الميتة حول عنقه، باكيا بمرارة شعب بأكمله. أغمض الناجون عيون الموتى وضمدوا جراح المصابين، بما توفر من قماش ألبستهم. قرأ البعض ما يتيسر من آيات قرآن يحفظها حذاء المحتضرين كي يموتوا بسلام. وفى بكرة الصباح فتح الحرّاس الباب الرئيس العملاق المسحوب على جرار ميكانيكي إلى الجانبين. وأمروا السجناء بسحب الموتى والجرحى خارجا. وأخذوا معهم بعض السجناء كيفما اتفق لتحميل الموتى والجرحى في الشاحنات المتوقفة أمام الباب العملاق. كان جميع من تبقى يدرك أن الجرحى وكذلك الحمّالون السجناء، الذين أُخذوا للقيام بهمة النقل والدفن، سوف يدفنون مع الموتى في مقبرة جماعية مجهولة في مكان مجهول ما.

 

9

ليل في بيت حمدان. حمدان مقطوع اللسان من منبته، لكنه يتكلم دون انقطاع. أسمع ما يقول لكن بقية الحاضرين لا يسمعون. سلمى كانت حاضرة لكنها ليست سلمى هاتيك. سلمى هذه جارية مُغوية تغطي جسدها العاري برداء قرمزي شفاف. ممددة على اريكة عثمانية سلطانية، متكئة بمرفقها الأيمن على وسائد حريرية ضخمة، حيث خدها على راحة كفّها كأنها موديل لرسام غربي مُستهام بعري حريم الشرق، من ذوات البطون المتكورة والأرداف المُكتنزة.

خارج إطار اللوحة كان زوجها المهووس بدالي مُنتبِذا زاوية المشهد، منهمكا في رسم جمجمة بشرية تتسلل من تجاويفها كائنات غرائبية. العيساوي يظهر ويغيب. لحظة بوجهه، وللحظات بوجه غيث. وغيث هذا كان صديقا يسبقكَ والعيساوي بفصلين جامعيين. معروفاً بين الطلبة بشخصيته الكارزمية وبشجاعته المتهورة في نظرك والعيساوي. فهو لم يكن ليتوانى عن مواجهة طلاّب اللجان الثورية الطلابية الذين قد يصطدم ببعضهم في الكافتريا أو المطعم الجامعي أو ممرات السكن الداخلي. كأن يتشاجر مع أحدهم شاهده يضايق أحدى الطالبات. فيدفعه بيديه في صدره:

ـ أيش تحسب روحك يا وسخ. تحساب روحك ثوري فعلا. أيش تفهم في معنى الثورة. أنت مجرد بدوي رث.

وإذ يهمّ لضربه نتدخل والعيساوي لمنعه. فينسل "الثوري" مبتعداً. ثم يلتفت بعدما اجتاز ممر الرواق الطويل بمسافة آمنة (له) متوعداً غيث:

ـ أنا وياك والزمن طويل

فيرد غيث عليه صارخا:

ـ لعنة الله عليك وعلى الزمن اللي أنت متحكم فيه!

وعندما كنت والعيساوي نطالبانه بعدم الاصطدام بهم، والكف عن التهكم عليهم، كان رده الحاضر دائما: "طز فيهم". وهو يعني ما يقول دون أي مسحة من بطولة مُفتعلة. بالطريقة نفسها التي واجه فيها صاحب الانقلاب بجلالة سطوته أثناء إلقائه أحد خطاباته الإيديولوجية في مدرج كلية الآداب، المتصل عبر الدائرة التلفزيونية المغلقة بمدرجات كليات أخرى في جامعتي بنغازي وطرابلس. إذ بعدما أنهى الأخ القائد محاضرته الرسولوية عن نظريته العالمية الثالثة، التي فيها، حسبه، خلاص العالم من الرأسمالية والشيوعية معا، عنّ له، كما يرغب بعض الأحيان، عندما يخطب في تجمعات الطلبة، أن يستمع إلى بعض آرائهم المُرتَّبة مسبقاً، بحيث لا تخرج، قيد أنملة، عن نصه الآيديولوجي المقدس.

تكلم حفنة طلاب ثوريين مدّاحين. ثم ألقى عميد كلية الآداب بمديحه "الفلسفي" الفوري: بما معناه: "سيدي القائد اسمح لي أن اعترف أمامك بعجزي عن التعبير لوصف قيمتك الإنسانية الذاتية المتفردة في الوجود المتصل بالضرورة بقيمتك الجماعية الاستثنائية في التاريخ. فأنت سيدي القائد تمثل الإنسان في مرتقاه الأمثل خلقا وعقلا، وأنت سيدي القائد خاتم قادة التاريخ. ولو أن الله سبحانه وتعالى لم يختم النبوة السماوية، لكنت أحب الأنبياء إليه. لكنك باسم التاريخ والجماهير، التي تؤمن بك من القطب إلى القطب، تبقى سيدي القائد رسول الصحراء التي وإن كانت لا تنبت العشب فإنها تنبت القيم، قيمك سيدي القائد العظيم".

أخذ الأخ القائد يجاهد ذاته المُعظَّمة، حتى أنه أطال رقبته إلى أعلى ما استطاع نظره المتعاظم إلى أن أصطدم بسقف قبة المدرج العالية. فأبقى على نظره هناك مستمعاً إلى ملاحظات بعض الطلاب الانتقادية عن الازدحام في السكن الداخلي، ورادءة المطعم الجامعي، وإنقطاع التيار الكهربائي المتواتر وغياب المراجع الضرورية في مكتبة الجامعة.

وبينما كان آخرهم يرجو تدخل القائد الأب العطوف لتحسين الأوضاع، كان صوت غيث الجبلي يجلجل، طالبا الحديث. تلتفت إليه، على خوف من الاشتباه بعلاقتك به، من جراء ما تعرف أنه سيُقدم عليه في مواجهة صدامية مع الأخ الكولونيل. تسمع صوته ورائك بصف أو صفين. كان قد جاء متأخرا بعض الشئ عن محاضرة الأخ ورفض الجلوس بجواركما رغم وجود مقعد خال. ستفهم لاحقا أنه لم يكن يريد أن يورطكما فيما هو مقدم عليه. ظل مستمراً في رفع يده ملحاً على مطلبه في الحديث، حتى بعدما أنهى الطالب كلامه وأخذ الكلام عميد كلية اللغة العربية مندمجا كصوفي درويش مزور في إلقاء قصيدته العصماء الجارية على نحو مديح الأنبياء.

ها أنت فوق صخرة الموت تبتسم

فأنت الحياة والتاريخ والمجد والنعم

ـ عفوا عفوا لدي كلمة عفوا عفوا.

وكاد أن يجف ريقك لشدة خوفك من جرأته المتهوّرة وهو يعلن عن وجوده الخاص في وجود الصقر الأوحد. [81]

ـ الكلمة لي الكلمة لي.

أشار الأخ القائد، من عليائه، بأطراف أصابعه إلى "عميد الجامعة" المداّح أن يصمت فصمت، كأنه فقد صوته فجأة. وهزّ رأسه في إتجاه غيث موافقا أن يتكلم.

ألتفت فرأيت غيث كما لم تراه من قبل: هيبيا على طراز بدوي قح. بجسده الطويل النحيف وشعره "الكيرلي" المسدول على كتفيه. ولحيته الخفيفة المشذبة وتي الشيرت الأبيض الذي يرتديه، مطبوع عليه صورة جيمي هاندريكس. بشعره الكثيف المجعد. وسرعان ما أنتبهت إلى مصير غيث. إذ أدركتَ وأنت تستمع إليه دون أن تجرؤ على الالتفات إليه مجدد أنه أختار نهايته على طريقته. كان صوته يتحدث بثقة الواثق الموثق إلى أوتاده الجبليّة الضاربة جذورها في سيرة أسلافه الهلاليين. سر انجذاب البنات إليه. إنجذابهن إلى "العنكبوت" كما تسميّه والعيساوي. العنكبوت الطويل النحيف الوسيم الأنيق المرح الذكي الرجولي الشهم، الذي دلّكَ والعيساوي على زهرة "جمة الفتاة" في أوعر مجاهل وادي الكوف.

كنتَ في عامك الجامعي الأول عندما تعرفت عليه مع العيساوي على مدرج محاضرات كلية الآداب. كنتَ مغرما بعبد الناصر، ومذكرات تشي غيفارا في غابات جبال سيرامايسترا، وسيرة مالكوم اكس من هارلم إلى مكة، وفيفا زباتا بتشخيص مارلون براندو المتمرد على السفينة بونتي. وقصيدة النثر الهابة من بيروت ومجلاتها ودواوينها الشعرية المتداولة كعادة سرية.

تكلم غيث في وجه رسول الصحراء مباشرة كما لا يجرؤ أحد على مواجهته منذ استولى على ميكرفون الإذاعة الرسمية. قال في وجهه مباشرة:

ـ دعنى اسألك. لماذا لا تنزل إلى الواقع. لقد انقرضت خرافة فرعون الرب الأعلى. أتعرف من هو الذي بصق على ستالين عندما تأكد من موته. إنه تابعه بيريا[82]. ثم لنقس المسافة بين الاذاعة و"معسكر قاريونس"[83] التي جئت منها ورفاقك. كم تبلغ المسافة بينهما. كيلومتر، اثنان، ثلاثة، أربعة، أربعة ونصف، ليكن، يمكن ان تعودوا اليها، بالآليات التي أتت بك وجماعتك في ظرف عشر أو عشرين دقيقة بالكثير، مع الشكر الجزيل. بعدما تسلموا السلطة إلى المدنيين".

كان ينصت كاظما غيظ عظمته المخدوشة باحتجاجات طالب خارج عن النص. حاول أن يمسك غضبه بكل ما توفر لديه من سيطرة عقلانية ممكنة.

فزاد من استطالة رقبته ناظرا إلى أعلى الأعلى على طريقته في الترفع عما يهمله. مغيباً ملامح ذلك المخلوق البشري الذي كان يرسمها على وجهه، وهو يبدي الإنصات إلى ملاحظات الطلاب الانتقادية. أما الحاضرين في القاعة فقد صمتوا تماماً، كأن على رؤوسهم الطير، وفي ركبهم أختزنوا الرعب. فلم يكن من المتصور أن يحتمل المتعالي في عظمته المصطفاة أن يجرؤ " فرخ"[84] من "فروخ" الجامعة على قول كهذا. . . كما هو متوقع صرخ فيه هائجا:

ـ ماذا تقول؟!. . أيش يقول هالفرخ؟! إجلس مكانك. ألا تخجل من نفسك وأنت تحمل على صدرك هذه الصورة الشيطانية. أنت مريض ولازم يعالجوك في معسكر التربية الثورية، بيش يخلصوك من الأوهام التي في رأسك."[85]

فيقاطعه غيث باصرار أكثر:

ـ أترك لي الكلمة ولو لدقيقة. لقد وقفت لأتكلم وسأجلس لما أنهي كلامي ما لم يعتقلني كلابك.

فيصرخ فيه بعنف متململا في مقعده الوثير:

ـ أنت رجعي عميل. أنت مريض ولازم يأخذوك ويعالجوك في مصحة ثورية خاصة.

فيرد عليه غيث بصراخ أقوى:

ـ أنت المريض. والمصيبة أنك على رأس السلطة. أنا في النهاية مجرد واحد وقف في وجهك. وخارج نهائيا من مجال ميكروفونك الإلهي. ولتفعل بي ما تشاء.

وألقى بالميكرفون من يده على الأرض، خارجا من القاعة عابرا الممر بين المدرجات بثقة مُفرِطة كما يليق بمن يخرج من مشهد يحتقره، كافراً بكل تفاصيله. فيما كنت جالساً عاجزاً مبهوتاً كجبان نموذجي غير مصدق أنه ذهبَ كل هذا المذهب. وقد تملّكك الخوف لمجرد أنك تعرفه. زاد عندما تعالي اهتياجهم الثورجي منتشراً في جنبات المدرج المدرسي، فيما هم يتحركون من مواقعهم في المؤخرة والمقدمة وبحذاء الممرات، على اليمين وعلى اليسار وفي الوسط والخلف، في وقت واحد، في اتجاه غيث في طريق خروجه، الذي تمثل لهم مُشخصا في صورة حيّة لعدو الثورة. نظرت والعيساوي إلى بعضكما بعضاً لعدة مرات في صمت، تحت ضغط من الشعور بخزي مشترك، فيما هيستريا هتافات الثوريين الدموية تصخب المكان:

نصافيهم بالدم يا قائد! سير ولا تهتم يا قائد!

ثم فجأة إذ بهم يتراجعون كأن شيئا لم يكن، بمجرد أن رسّم الأخ العقيد فوق قبعته العسكرية إشارة "كما كنتَ" حسب الترميز العسكري. فجمدوا في أمكانهم. غادر غيث القاعة، مدركا ولا شك، عاقبة ما تجرأ عليه، فيما وقف القائد الإلهي مغادرا هو كذلك المسرح على إيقاع هتاف هوجة الثوريين:

نصفيهم بالدم يا قائد! سير ولا تهتم يا قائد!

إنسحبتَ والعيساوي تحت جنح الهتافات الثورية الهيسترية. وقفتم، مع بعض من الطلبة الذين تزايد خروجهم من القاعة عند مدخل البناية الخارجي، ترقبان غيث في ساحة مدخل البناية يقاوم ثلاث حراس ضخام في زي شرطة عسكرية، يضربونه بقبضاتهم في كل جنب، بكل عنف مهتاج حتى أحالوه إلى شبه جثة لا حول لها ولا قوة. ثم رموا به مقيد اليدين خلف ظهره إلى مؤخرة "الجيب" العسكرية كشيء عديم القيمة، قافزين وراءه.

لتنطلق العربة العسكرية بحطامه إلى الغياهب. نظرتما، عدة مرات، إلى بعضكما خجلين من حضور أحدكما في وجود الآخر، فيما يُغيب من المشهد ذاك الفتي البدوي المولع بـ"جمة الفتاة" النادرة في أركان وادي الكوف الأكثر وحشة من "غناوة علم" في "صوب المرهون". وستواصل والعيساوي رفقة السنوات الجامعية في كلية الآداب بجامعة بنغازي، التي أصبحت حسب تسميات الانقلابين "جامعة قاريونس" تيمنا باسم الثكنة العسكرية التي كان قائد الانقلاب ملازم أول فيها. ومنها تحرك بقواته لاحتلال مقر الإذاعة، معلنا بيانه الرسولي: "لا مهضوم ولا مغبون ولا سيد ولا مسود بل إخوة أحرار في ظل مجتمع ترفرف عليه راية الحرية والعدالة والمساواة.".

تقرران الابتعاد عن أجواء الكافيتريا، والأنشطة الثقافية، وشغف المراهقة بالأفكار الماركسية. من البيت إلى الجامعة، ومن الجامعة إلى البيت كالراقصة الفاضلة: من الكباريه إلى البيت ومن البيت إلى الكباريه. تتخرجان بدرجة امتياز، وتُقبلان في الدراسات العليا. يشتغل العيساوي على أطروحة: "أصول الشعر الشعبي في الشعر الجاهلي". وتشتغل على أطروحة: "الرثاء في الشعر العربي المعاصر (1948 ـ 1967): قضية فلسطين نموذجا". وتكتب حين يروق لكَ قصائد غزل تُحاكي بنية "قصيدة العلم".

ثم حدث أن قَطَعتْ الشاشة الصغيرة برنامج الرسوم المتحركة، حيث كان توم وجيري يتبادلان مؤامراتهما المرحة المعتادة، لنقل وقائع اعتلاء الأخ المحرر بلدوزر ضخم أمام السور الخارجي للسجن السياسي الشهير باسم "الحصان الأسود" في أطراف العاصمة، وهو يصيح: "أصبح الصبح ُ فلا السجن ولا السجان باق" رغم أن الوقت كان عصرا.[86]

وما أن لامست أسنان البلدوزر الحديدية الضخمة سطح السور الخارجي للسجن حتى أنهار كأنه جدار من البسكويت، إذ كان انهياره مُعد سلفا بمجرد أن يمسه بلدوزر القائد. ليبان، خلال فراغ إنهيار السور الجزئي، عشرات السجناء السياسيين، الذين جُمِّعوا على عجل، وقد أُلبسوا ملابس شعبية بقياسات كيفما اتفق، وبلون موحَّد (بلون الكتاب الأخضر، والعلم الأخضر، وملابس العقيد الأخضر)، وأُوْقِفوا في طابور طويل لأكثر من ساعة في انتظار ما سيحدث، حاملين معهم صرر حاجاتهم البسيطة. كان من ضمنهم كتاب وشعراء وقصاصون ومسرحيون ونقاد، محكومين بالمؤبد الأبدي، لأنهم فكروا على الضد من تفكير المفكر الأوحد. كان بينهم شاعر ملكي قضى 32 عاما في جوف ذلك "الحصان الأسود". كانوا قد أُخبروا بأمر الإفراج عنهم. لكن خبراتهم في وعود الإفراج الكاذبة، وحكايات الذين أُخذوا بحجة الإفراج عنهم لينتهوا على منصات المشانق، جعلتهم غير مصدقين أنهم سوف يصبحون فعلاً خارج الأسوار التي سيجت أجسادهم وأرواحهم لسنوات طويلة من مصارعة وحش الزمن المتمطي في وحشة الروح المعزولة. لم يكونوا على علم بالمشهد المُعد خارج السور. البلدوزر ووسائل النقل التلفزيوني الحي في انتظار القائد المحرِّر، بموكبه المصحوب بطابور من الكتائب الأمية، وباصات محملة بالثوريين الهتّافين. وحتى بعدما سمعوا صافرات الموكب القادم، وجلبة هتاف الثوريين، وموسيقى الأناشيد الثورية المبجِّلة لعظمة القائد، بقوا على عَبوسهم المُطْرِقُ، إلى أن باغتهم مشهد إنهيار جانب من السور، فتحول عبوسهم إلى ذهول، وقد رأوه في لباس عمالي أنيق من قماشة فاخرة، كأنه من تصميم إيف سان لوران. كان واقفاً على كرسيه في كابينة البلدوزر المكشوفة، صائحاً في مكبر صوت وسط جمهرة الثوريين الهتّافين، فيما يلوح بيده الأخرى للسجناء بإشارة الخروج: "اخرجوا اخرجوا . . . اذهبوا اذهبوا فانتم الطلقاء." كان شديد الاندماج في دور محرر السجناء، القادم على بلدوزر كمخلِّص اسطوري، فيما تصدح الأغنية المخصصة للمناسبة:

أصبح الصبح

ولا السجن ولا السجان باقٍ

واذا الفجر جناحان يرفان عليك

واذا الحزن الذي كحل تلك المآقي

فيا لحسن حظهم إذ انتابته نوبة الحليم الغفور، التي قد تلم به في حين من الزمن. وكانت تلك واحداة من لوثاته "المباركة". عندما يروق له أن يكون ضد ما هو عليه. فيعمد إلى إطلاق سراح دفعة من السجناء السياسيين، مختارين من قوائم تُقدم إليه، فيُؤشر عشوائياً بقلمه الأخضر على الأسماء التي تحظى برحمته كيفما أتفق، مُعلنا عن فتح صفحة جديدة. (طبعاً كان يحدث ذلك في الوقت الذي يحل فيه سجناء وسياسيين جدد). في ذلك المشهد اختار أن يكون بنفسه، مدعياً أنه إنما قام بثورته العظيمة لتحرير السجناء، ولن يقبل أن يحسب عليه أنه سجان. كان كل شيء مُعد سلفا: السجناء والسجانين والبلدوزر. والقائد، وبالتالي ما يلزمه من عيون الإعلام ومسامعه. كان المشهد المرتب يجري تحت عنوان مهرجان "أصبح الصبح"، بحيث يظهر بنفسه يقود بلدوزراً، في دور القائد المحرر، وكأنه لويس السادس عشر يهدم الباستيل. وما أن أنتهى مشهد القائد المحرر . وأُخرِج أولئك السجناء، حسب تعليمات مُهدِّم السجون، من الفجوة التي أحدثه البلدوزر، إلى الحياة العامة، حتى أعيد بناء جانب السور المتهدم واستمر السجن نفسه في إستقبال معتقلين سياسيين جدد، وقد أصبح يغلب عليهم الانتماء الإسلامي.

بالمنطق السياسي كان الأخ الكولونيل يريد ضرب الإسلامين باليساريين، بعدما استخدم في مرحلة سابقة ضرب اليساريين بالإسلاميين. وبسبب الانفراجة "السامية" صارت رابطة الكتاب أقل رسمية، وانبسطت عنها القبضة الأمنية. وبعدما كانت مجلتها فصلية، تصدر ولا تصدر، أصبحت تصدر شهرياً. وصارت أكثر أدبا وأقل إيديولوجيا. وتكاثرت الأمسيات الشعرية والقصصية خارج المسطرة الثورية.

وكنتَ قد صرت شاعرا شابا مثيرا للانتباه. تتكئ على تراث الغزل الشعبي، خالطا قباني بالماغوط على درويش. تنشر قصائدك في مجلة الفصول الأربعة، وصحيفة الأسبوع الثقافي، وبعض المجلات الأدبية العربية، متصيدا الأمسيات الشعرية إينما كانت: على أطلال مسرح قورينا الأثري أو  على مدرجات جامعة قار يونس. لكنها إنعطافة حاسمة في حياتك هي تلك الأمسية الشعرية في القاعة الصغيرة بمقر رابطة الكتاب الرئيسي في طرابلس. كانت المرة الأولى التي تسافر فيها إلى العاصمة البعيدة لأكثر ألف كيلومتر، مع رهط من شعراء بنغازي على طائرة واحدة. وقد رافقك العيساوي على حسابه الخاص. بعضهم كهول موزونون مقفّون. وكثيرهم من فتية قصيدة النثر. جلستَ والعيساوي في مؤخرة القاعة الصغيرة. ومعكما يونس المختار (شاعر عمودي مخضرم) لا يكف عن الغناء بالعلم، كلما تمكن من مكان خال، وقد خرج من السجن في نوبة "أصبح الصبح"، بعد عشرة سنوات من نوبة "أظلم الظلام".

نهض يونس من بينكما:

ـ "دقيقة إنسلم على حمدان وأصحابه وراجع."

رأيته هو يعانق حمدان الذي وقف مبتهجا بقدومه، عندما تفاجئ بوقوفه على رأسه. تعانقا بحرارة. صافح صحبه وعاد إلى مقعده بينكما:

ـ حمدان وبعض عشيرته حسب تسميته. أكيد خمنتوه من مظهر شعره الطويل وقبعة تشي. ها ذاك الهيبي. ومعه سلمى القادري وزوجها. والمخرج عيسى أوحيدة وزوجته. الآخرون لا أعرفهم.

كانت عشيرة حمدان تحتل الصف بكامله. كنتَ قد خمنت على الفور أنه هو بشعره الطويل وقبعة تشي، بالنظر إلى صوره الفوتوغرافية المنشورة له صحفيا، مرفقة بكتاباته أو ببعض الكتابات عنه. أما سلمى فلها رسم وجهيّ تخطيطي بالأسود الباهت بتوقيع زوجها يرافق قصائدها المنشورة في أوقات متباعدة.

جاء دورك. نهضت متوجها إلى منبر الإلقاء، متهندما بأفضل ما لديك: بنطلون جينز ليفايز، أول لبسة، وقميص أبيض، وسترة جلد سوداء خريفية. شعرك الكيرلي عند الأكتاف على منوال الشعراء الشباب. عبرت الممر الممتد بين المقاعد وكأنه مضمار لقطع آلاف الأمتار بالتصوير البطيء. جاهدت بجدارة كي لا ترتبك في خطوك. مررت بجانب الصف حيث يجلس حمدان وبضع عشيرته. ألتفت نحوهم. كان ملتفتاً إلى سلمى الجالسة بجواره يحادثها. وكأنه شعر بمرورك ألتفت إليك محييا بهز رأسه، ومعه ألتفت هي كذلك نحوك. جاءت عيناك في عينيها. ابتسمت لها، فابتسمت لك مُشجعة بود شاعر ناشيء يعبر الممر إلى المنبر.

وقفت أمام المنبر. أخرجت بشيء من التلبك الأوراق من جيب سترتك الداخلي. شربت في تلهف من كأس الماء المُعد على حاشية المنبر. نظرت في الصالة. حيث الحاضرين في ظلال الضوء الخافت. نظرت إلى حيث العيساوي ويونس ينظران إليك مبتسمين. صاح الأخير بطريقته البدوية الصاخبة: "وريّهم!"[87] نقلت نظرك في بانوراما خاطفة عبر الصالة إلى حيث حمدان وشلته. وقرأت قصائد قصيرة:

مرة،

سرقتُ قروشا من ضريح وليّ صالح،

اشتريت بزراً ودخلتُ السينما.

كان هرقل يهدم الأعمدة،

والأقدار تولول

 

مر عام وراء عام وراء عام

وأنتِ لاعبة بالصبر

على مهل

حاسبة مرادك في معيادك

 وأنا يا بنت

مائح بين الرجاء

والياس والضجر.

 

هبطت الركح منتشياً أنكَ أجدتَ على وقع المصفقين. عائداً إلى مقعدك عبر الممر نفسه الذي غدا أكثر رحابة. مررت بحذاء حمدان وصحبه من جديد، ملتفتاً إليهم، هذه المرة، بزهو شاعر شاب في أمسيته الأولى في العاصمة، وقد تلقى تصفيقا حاراً من الصالة. التقطت حمدان وهو يحييك بتصفيقة حارة. وسلمى تنظر إليك مشرئبة، هازة رأسها بابتسامة أكثر رحابة وكأنها تخصك بها، فيما تصفق برقة أنثوية فاخرة. ولأول مرة إذ تراها في لفتة عابراً الممر إلى المنبر، ينطبع وجهها وإن في صورتها الجانبية حيّا مطابقا لصورتها الشعرية التي تلمستَ كلماتها قبل أن تراها.

 بعد انتهاء دور الشاعر الأخير، وكان فلسطينيا ـ ليبي الإقامة ـ يحاكي شعر محمود درويش على شيء من الإضافات الخاصة المائزة، جاء إليك حمدان. سلم عليك بحرارة:

ـ قصيدتك الأخيرة عجبتني. . محاولة ذكية لمجاراة قصيدة "العلم"

ـ هذه شهادة متميزة من الليبو الأخير

ـ أكره شيء عندي وصفي بالليبو الأخير.

ـ لكن هذا هو نصك الذي يعرفك به الجميع

ـ لكنه ليس إسمي. انسى الموضوع. أوكي. ممكن نلتقي بكرة مع بعضنا. إيش رأيك يا يونس؟!

رأيت سلمى وهي تغادر بصحبة أصدقاء ألتفوا حولها.

رد يونس:

ـ أنا قاعد لكن الجماعة مسافرين بكره حسب ما نعرف.

قلتَ:

ـ فعلا للأسف.

كانت طرابلس هاجسك للسكنى فيها. لا سيما بعد إنفراجة "أصبح الصبح" التي جاءت لتلطف ولو قليلا من واقع الكابوس الكافكاوي ـ الهزلي. فنشر حمدان بضع قصصه المذهلة كما تلقيتها