حدث في أوت الماضي، منتصف أوت على الأرجح، أي منذ سنة تقريبا (ما أطلبه هو أن تدوني الحادثة بصدق، طبعا لا تهمني اعتباراتك الفنية فالواقع أهم من الخيال) عند العاشرة صباحا اتصلت رفيقتي نورة، أنت تعرفينها بشخصيتها المغناطيسية، وانخرطت في موجة من البكاء، البكاء الحار الدال على النهايات الحتمية، وبصوت مذبوح أعلنت " أن أستاذتنا في وضع صحي حرج للغاية."
دققنا الباب عند الرابعة من يوم الخميس، ودلفنا نحو الشقة في الطابق الرابع.
ــ منذ أسبوع...
قالت ابنتها بصوت محايد ثم قدمت الشاي والفاكهة.
ــ هي الآن نائمة، ستسعد حتما برؤيتكما
تبادلنا أحاديث هامشية لملء الفراغ وكبح الظلام الذي بدا يغزو البيت فجأة. وبصوتها الهادئ ذكرت حليمة الحادث: " تعرفان أن أمي تعاني من ارتفاع الضغط، ويوم الخميس تناولنا الغداء كالمعتاد، مع التزام صارم بالريجيم، وبعد صلاة الظهر استلقت لأخذ قيلولة قصيرة، ولما غفت رن جرس الهاتف، كانت المتصلة أختي وأمي لم تسمع غير كلمة " حادث " فاستيقظت مذعورة ثم كان ما كان.
ــ حليمة، حليمة...
كان الصدى يأتينا واهنا من عالم غير عالمنا، عالم لا يرى بتعبير دقيق.
وبعد لحظات قادتنا حليمة إل الغرفة، في الغرفة تمدد شبح حقيقي ضئيل، كومة من العظام اللطيفة ضمها ورق مصاص. السحنة الصفراء والعينان الصغيرتان المتلاشيتان، هناك نظرة شفافة تجاوزتنا، معنا وليست معنا هنا وليس هنا، قريبة وبعيدة، الهالات الزرقاء والسوداء والبنفسجية، والعروق خطوط وهمية، بدت خفيفة مثل قطعة القطن، فراشة يابسة في قبضة اليد.
ــ ياإلهي من لا يعرف فاطمة لا يصدق؟
عانقتها كما لو كنت أعود إلى حضن أمي، فاحت رائحة ندية، أنا عدت إلى رحم أمي، عدت إلى الأرض إلى التراب والصلصال وماء بعيد.
رسمت ظل ابتسامة ظلا خفيفا امحى على عجل، أرادت خداعنا، وعرفت توا طعم الابتسامة المراوغة، إذ الباطن بعيد عن سراب السطح.
تبادلنا النظرات وأمسكت بيدها قليل من الزاد لشحن البطارية النافدة، ولحظة بعد لحظة عاد البريق الضئيل ليسكن عينيها، القنديل الخافت الصغير يومض، والابتسامة الباهتة تتراقص:
ــ كنت أنتظر قدومكما الحبيب، حفيف ثوبيكما أيقظني.
ــ أمي أمر الطبيب ألا تكثري من الحديث. قالت حليمة.
ــ اليوم , سأتحدث، هو اليوم الذي انتظرت،لا تقاطعيني.
" التقيت السيد "ميم " في مناسبات عدة ( للتذكير فاسمه في اللغة العربية مكون من ثلاثة أحرف) قلت إني التقيته في مناسبات عديدة، متتالية ومتباعدة، لفحتني أنفاسه الحارة، وذات مرة دنا ني إلى حد الملامسة، قال: إنه أراد الاتحاد بي، أجزم أن شعري لامسه، أقسم أن ذلك حصل، ولم أتمكن من رؤيته، قد يكون بلا وجه أو يرتدي قناعا. لست أدري.. ذات يوم حياني بوقار شديد ومضى، أجل سمعت همس تحيته. ثم لقيته عند منعطفات أخرى مصافحا ومعانقا وصافعا في لحظات الغضب والتوتر. صدقوني أنه أمسك بخناقي وضغط صدري حتى سمعت طقطقة أضلعي تحت ثقله، وفي اللحظة الأخيرة أفلتني , قد أكون رجوته أن يرحم صغاري تصوروا معي وفي بحر الرجاء ذاك أفلتني ( لم أصدق أنه أفلتني إلا بعد شهور، كنت أنتظر عودته ) كما قلت أفلتني وابتسم وهمس في أذني بحنان: " لم يحن الدور بعد، أنا مشغول ".
وبعد أيام انفجرت أحداث سبتمبر الشهيرة ثم سقطت بغداد وثغرات مألوفة هنا وهناك , في فلسطين والجزائر وكل مسامات العالم.وأيقنت فعلا أنه مشغول، ولما عاد في المرة الأخيرة فهمت أن عودته جدية. على كل حال سنلقاه جميعا رجالا ونساء، وسنفكر فيه، أعني أنه سيخبط كالعصفور فوق رؤوسنا فنفكر فيه، سيفلت منا لحظات في الليل أو النهار أو على مائدة الطعام لحظات للسهو، ومضات سينمائية، ثم نعود إلى ضجيج الحياة وندخل سوقها ونملأ القفة ونعود وننسى أن السيد " ميم " بانتظارنا عند المنعطف، ليستل وديعته كالشعرة من العجين، وفي صمت بارد يأخذ أمانته ويمضي دون أن يلتفت خلفه، تاركا البيت المتهالك للزفرات والدموع.
السيد " ميم " يفعل هذا، يجردك من المعنى ويترك الهيكل، اللعبة، ونحن ما نحن سوى اللفظ والمعنى، وهو إذ ينزع معناك المجرد يترك الحطام، الأثر، ما تبقى منك، الدليل أنك كنت هنا ذات ربيع تضحك، أنك مررت عبر هذا الدرب.
قبل زيارة السيد " ميم " يكون الجسد بيتا بديعا مرتبا وبعد مجيئه تسقط أعمدة البيت وجدرانه ويتداعى أثاثه ولوحاته تذبل الحديقة المنسقة، ثم يختفي المسكن الأنيق نهائيا. من يصدق؟ ستكف العينان عن إفشاء الأسرار والأنف عن تتبع ريح الأحبة والأهم أن دم القلب لن يراق من أجلهم، يالها من خسارة فادحة !.
بعدها أي بعد أن يأخذ السيد " ميم " وديعته، ويلفها بعناية في قطعة من حرير أخضر معطر بالمسك، وينفض أجنحته ويطير بعيدا بعيدا. حينها فقط، ستندثر أحذية ذاك المقاس الدقيق، وستصمم دور الأزياء لمشاجب أخرى لتعلق عليها آخر صيحاتها وأولها.
ابتسمت بوهن، تتساءلون: أي إحساس يعتريني وأنا أستقبله؟
ــ حسنا لقد دق نافذتي، ودق بابي، في البداية كانت محض مداعبة، إنذار كاذب من باب التذكير ربما. أما في الأسبوع الفارط فإنه ركل الباب ودقت أجراس الإنذار مرات متتالية، وفهمت الرسالة الجادة، هذه المرة استوت الأمور الأبيض أبيض والأسود أسود، بلغت طرف الدرب، وحان وقت الرجوع.
ما العمل؟ أقرأ " يس" وأتشهد وأطلب حسن اللقاء. أغفو فأرى نفسي أحمل كومتين كبيرتين من التبن، تبن ناصع البياض وآخر أسود مهترئ، وبينهما تتداخل كتل رمادية. فأستيقظ وقد راعني السواد الحالك، كما لو أني سقطت في هوة بلا قرار.
وأغفو وتراني في السوق أبيع وأشتري فأقوم مذعورة: سلعي كاسدة، بارت تجارتي.
وقبل قليل رأيت نفسي متسولة، أشحذ من تقبيل الصغير ووضع الدينار في كف الأرملة ومن اقتياد العجوز نحو الطبيب.
سكتت وحين نظرت إليها كانت قد ذهبت سريعا في غفوة غير قابلة للتأجيل، كأنها معنا وليست معنا، هنا وليست هنا، نظرت مذعورة مدت يدها اليمنى...
ــ أمي عم تبحثين؟
ــ ألم يعد والدك؟
قال لي تزيني وتعطري، سأعود لأخذك بعد قليل. هو هناك عند المنعرج، إني أرى طريقا خضراء تتجه إلى الأعلى في رحلة شاقة، وثمة أسراب كثيفة من الطيور البيضاء والخضراء تحلق نحو السماء وتختفي في مضيق شفاف، كما لو أنها تتحلل في الضباب، تتجاوز الأبواب الرمادية والنحاسية إلى البوابة السابعة، أسمع نداء حبيبا، إننا ندنو، إننا ندنو...
ــ لا تنسي يا ابنتي ــ كما أوصيتك ــ غسليني وكفنيني
ــ الباب يدق...
ــ ماء...
هاهو ينادي:
ــ فاطمة، فاطمة، فاطمة.
ــ أجل إنه هو السيد " م ".