لا تطرح أي من الروايات الجديدة جماليات سرد هذه الرواية الجديدة في مصر ومتغيرات هذه الجماليات بنفس المباشرة والوضوح التي تطرحها بها رواية عاطف سليمان (استعراض البابلية) 1998. فالرواية كلها هي بحق رواية النقلة المنطلقية من الهاجس المعرفي الذي سيطر على كتابة الحداثة، وانضوت تحته كل استقصاءاتها، إلى الهاجس الكياني الذي يسعى لسبر أغوار الذات والتعرف على ماهيتها ومرتكزات كينونتها في هذا الواقع الملتبس. فهي رواية البحث عن جوهر الذات وطبيعة العلاقة به، سواء أكانت هذه الذات هي ذات الراوي الذكر أم ذات المرأة المتعددة التجليات التي يسعى لفهم علاقته بها، بقدر ما هي رواية التنقيب عن حقيقة السرد واشتباكه بالعديد من المسرودات السابقة عليه. إذ تنطلق الرواية جماليا من الإحالة إلى نص من نصوص الكاتب السابقة وهو قصة "بادرة والأوقات المغلقة" التي ظهرت في مجموعته القصصية الأولى (صحراء على حدة). وللعلاقات التناصية مكان بارز في سرد مابعد الحداثة، حيث تتنامى النصوص وتتوالد من بعضها البعض، وكأن النص يضرب بجذوره في أسلافه الغرباء والأقرباء على حد سواء، لكن عاطف سليمان يدفع هذه الظاهرة الجديدة إلى بقاع بالغة الخصوصية والجدة لم تعرفها من قبل بهذه الدرجة من الكثافة والتراكب. وكأني به ككاتب مهموم بهواجس تراوده بين نص وآخر، وتطل برأسها برغمه من ثنايا النصوص. أو كأنه لايزال يكتب نصا واحدا برغم كرّ السنين، فقد استغرقت كتابة مجموعته الأولى أثنتي عشرة سنة، وهاهي روايته الأولى تستغرق منه عامين بالرغم من قصرها الملحوظ الذي تعوضه الكتابة بالتكثيف والشاعرية. بحيث تتحول نصوصه المنشورة حتى الآن إلى نص متواصل تتراسل أجزاؤه وتتناجى في نوع من النص المفتوح الذي يدعّ عن أفقه أي شبهة للاكتمال، أو النهاية. ويرفد هذا التناجي ويؤكده تلك اللغة الشعرية التي استطاعت أن تنأى بنفسها عن التكرار والغنائية، وأن تعي أهمية تعدد اللغات داخل النص الروائي الجديد، فتوظف بذلك شاعريتها في خدمة النص دون أن تجلعها عبئا عليه.
1. "صحراء على حدة" هاجس الزمن وهاجس الزمن
ويدفعنا منطلق الرواية الجمالي ذاك إلى العودة إلى مجموعته القصصية الأولى (صحراء على حدة) وقراءتها من جديد لانطوائها على مجموعة من المفاتيح المهمة لتلقي هذا النص وتأؤيله بشكل سليم. فما أن نقرأ المجموعة حتى نكتشف أن "بادرة" التي يتردد ذكرها في الرواية هي نفسها "بادرة الأوقات المغلقة" التي تتغلغل كذلك في أكثر من قصة من قصص المجموعة وكأنها النموذج الأصلي أو البدئي archtypal للمرأة وللعلاقة بها. وأن تجليات المرأة المتعددة في هذه الرواية من "أميمة" و"نهلة" إلى "مريم رياض" ماهي إلا تجليات لـ"بادرة" التي عشقت نهلة غموضها، وتأثرت بتوجهاتها ورؤاها. فقد أكدت مجموعة عاطف سليمان القصصية الأولى أننا بإزاء كاتب يعي أهمية التماسك الداخلي لمجموعته القصصية، ويحرص على بلورتها لمجموعة من السمات الجمالية والرؤى الفكرية أو حتى الفلسفية المتميزة. فباساتثناء منتصر القفاش الذي تنطوي قصصه على أعماق فكرية وفلسفية واضحة، يوشك عاطف سليمان أن يكون القاص الوحيد الذي قرأته من بين قصاصي أحدث الأجيال الأدبية في الساحة المصرية المشغول بهواجس ذات طبيعة فلسفية أو روحية. فالكاتب يحرص أن يسجل لنا في نهاية كل قصة تاريخ كتابتها، بالصورة التي ندرك معها أن قصص المجموعة العشر قد استغرقت من الكاتب أثنتي عشرة سنة حتى كتبها وطلع بها علينا في كتابه الأول. وكأنه ينتح من بئر شحيح ولا يرضى بغير امتلاء دلائه القصصية حتى حافتها بالرؤى والدلالات. فالكاتب مشغول بتقطير تجاربه إلى أكثر عناصرها أثيرية وثراءا، وبتكثيف هذه التجارب وإتراعها بالمشاغل الفكرية والروحية. صحيح أن هذه المشاغل مهما أوغلت في التجريد أو الفلسفة تظل لها دلالاتها الاجتماعية وحتى السياسية، فليس النص بمعزول عن السياق الحضاري الذي يتولد فيه، لكن أول ما تطرحه علينا هذه النصوص هو هذا البعد المجرد فيها بالرغم من امتلائها بالتفاصيل المحسوسة والمشاغل الحسية.
وتحرص المجموعة على لفت انتباه قارئها إلى هذا البعد الفكري أو الفلسفي فيها من خلال تصديرها بمقتطف استهلالي دال من نصوص اليوجا وتعاليمها الروحية "قبل أن تستطيع الأعين الإبصار يجب أن تجمد فلا تستطيع أن تسكب الدموع. وقبل أن تستطيع الأذن السمع يجب أن تفقد حساسيتها. وقبل أن يستطيع الصوت إرسال الكلام في حضرة المعلمين يجب أن يفقد القدرة على الإيلام وإثخان الجراح. وقبل أن تستطيع النفس أن تقف في حضرة المعلمين يجب أن تغسل قدميها في دم القلب".(ص5) وهو مقتطف مهم للكشف عن المصادرات التي ينطلق منها السرد في هذه المجموعة القصصية المتميزة. لأنه يعي أن لكل حاسة من الحواس الإنسانية ثقافتها أو تدريبها الضروري اللازم لما في الحياة من قسوة من ناحية، والراغب في تخفيف وطأة هذه القسوة من ناحية أخرى. فحتى تستطيع العين الإبصار بحق لابد لها أن تواجه المشاهد القاسية والمروعة دون ان تسكب الدموع التي ستحول حتما دون وضوح الرؤية وسلامتها. وحتى يستطيع الصوت الكلام لابد أن يكون واعيا بقدرته على الإيلام وإثخان المستمع بالجراح، وأن يتعلم كيف يفقد هذه القدرة ويتخلص من حدتها الجارحة. لكن أهم هذه التدريبات الضرورية هو تدريب النفس بالاغتسال في دم القلب حتى تصبح قادرة على الوقوف في حضرة المعلمين والتحاور بندية معهم. كل هذه التدريبات الأولية للحواس الإنسانية ضرورية قبل الشروع في الفعل السردي ذاته الذي يتطلب بالتالي من قارئه تدريبا مماثلا لفك شفراته. وهذا التدريب الذي يعي عمل الحواس داخل السرد هو الذي يتيح للقارئ أن يدرك أن هذه المجموعة القصصية (صحراء على حدة) هي استقصاء سردي بالغ الرهافة والشاعرية لهذه الصحراء التسعينية التي يعيشها كل فرد على حدة في هذا الزمن المصري الردئ. وأن هذا الاستقصاء مشغول بهاجسين أساسيين: أولهما هو هاجس الزمن/الموت، وثانيهما هو الهاجس الكياني أو الوجودي ontology أي هاجس الكينونة الإنسانية ذاتها، وكيف يتحقق وجودها وتتخلق ماهيتها. وهما هاجسان مترابطان ومتداخلان في عدد من نصوص هذه المجموعة القصصية بحيث يصعب الفصل بينهما في كثير من الأحيان. لأن الزمن الذي يتحقق عبره الوجود هو الوجه الآخر للزمن الذي يفضي إلى الموت.
وتبدأ المجموعة بقصة "الجسد الذي طلع إلى الموت الأزرق" وهي من قصص الهاجس الأول وقد اشتبك مع عدد من أبعاد الهاجس الثاني في المجموعة. وهي في الوقت نفسه من القصص التي تقدم لنا من البداية بعض استراتيجيات السرد الفاعلة في هذه النصوص، وأولها استراتيجية الالتفات: أو تغيير منظور السرد لتقليب الموقف المسرود على وجوهه المختلفة ورؤيته من أكثر من زاوية. كما أنها تكشف لنا عن إيقاع السرد ذي الطبيعة السرمدية وكأن الزمن فيه زمن مجرد دائم وأزلي، ولكنه عابر ولحظي في الآن نفسه. فالقصة هي قصة الجد الذي أمضى سنوات عمره في غواية النساء وفي الاستسلام لغوايتهن، ولكنه ظل مسكونا بالمرأة الأولى التي علمته أسرار لعبة التواصل المستحيلة والمدهشة مع النساء ومنحته في الصباح قرطها وماتت، ولكنها ظلت حية فيه وحفيّة به. وظلت تجلياتها في كل النساء اللواتي ملأت تذكاراتهن خيوط مسبحته تفعم وجوده بالشبق والتحقق على مد نصف قرن حتى حانت لحظة الموت: موت العنوان الشبقي الأزرق. لكن القصة في الوقت نفسه هي قصة هذا الموت الذي يناوش أكثر لحظات التحقق الإنساني ألقا وتوهجا ويحاصرها بحتميته القاسية. ليطرح هذا الحصار علينا أسئلته الملحاحة: أيمكن أن نستعيد تلك اللحظات النادرة التي يتم فيها تواصل حقيقي بين الرجل والمرأة؟ أيمكن أبدا استعادة الأزمنة التي تنصرم؟ أم أن ما نحتفظ منها به من تذكارات هو شارة موتها الأكيدة؟ إلى أي مدى يساهم تعدد التجليات في محو أثر التجلي الأول؟ وإلى أي حد يساهم في تأكيده؟ إهي تجليات للآخر الذي تشتبك الذات معه في علاقة لاسبيل إلى فض إشكالياتها،؟ أم تراها تجليات للذات نفسها في سعيها الدؤوب لمعرفة نفسها؟
وهي أسئلة تزداد غموضا والتباسا كلما توغلنا في قصص المجموعة، فالقصة التالية "أخبار دياب الأولى" تقدم لنا بطلها وقد استعد للخروج من رحم السجن الذي قضى مدته فيه برغم براءته يعاقر كوابيسه المبهظة التي تطارده فيها قطط سود وحيوانات جائعة. كان دياب قد دخل السجن بتهمة تقبيل نساء علانية في الطريق العام. وقد استبقاه الضابط مدة أطول من المعتاد في السجن لأنه كان يستدعيه ليلا ويتسلى بأحاديثة وهو يروي أسراره ومغامراته النسائية، أو بالأحرى يقدم للضابط "بلاهات مخترعة تمنحه السلام" والقلق معا، إذ يعترف الضابط "ظل يفصح عن امرأة تشبه زوجتي حتى طردتها". لكن القصة سرعان ما تلف هذا الحدث البسيط برداء الغموض والالتباس. فالخروج الذي يبدو للوهلة الأولى وكأنه طقس ميلاد، سرعان ما يتحول إلى ميلاد ملتبس هو الآخر يمتزج فيه الوهم بالحقيقة. فما أن يخبره الحارس بحلول ساعة الإفراج ويكرر دياب "الآن" حتى يصرح الحارس "سمعت صوتا غير صوته ولم أفهم شيئا".(ص12) واختلفت الروايات بعد ذلك، حتى أنكر السجناء الذين عاصروه بأنه كان موجودا، ونفى الحارس أنه رآه، وأكد الضابط وجوده، واستشهد على ذلك بمطلقته. "غير أن أحدا لم يذكر أنه رأي دياب منذ أن اجتاز بوابة السجن، رغم ادعاء البعض أنهم شاهدوه بعد ذلك يخلب الزوجات" (ص14) فدياب هنا لا يقل عن "جد" القصة السابقة التباسا، ولا نعرف إن كان شخصية حقيقية من لحم ودم، أم أنه من بنات خيال الذين يملأهم الشك في زوجاتهم، ويرهف الضجر رغبتهم في الاستماع إلى مغامرات الآخرين النسائية وهم يتمنون لو كانت لهم. لكن المهم أنه شخصية سردية مراوغة وثرية معا، تعيش في التخوم الفاصلة بين الواقع والخيال وتستمد منهما كليهما مصداقيتها، وفاعليتها معا.
وهي شخصية تزداد رسوخا عندما تطل علينا من جديد في القصة الخامسة "خرائب الهارمونيكا" وبالإسم نفسه دياب، ولكنه هذه المرة "شاحبا كعرائس الأساطير، مفعما بالعمر الطويل، مخذولا بالنهايات ومهلهلا". (ص35) هنا يظهر دياب نفسه بعدما مرّ عبر مرشح الزمن وخبرات الحياة والعشق والكتابة وقد شاخت ملامحه، وتركت خبراته مع النساء ـ وقد تجمعن كلهن في شخصية هند الصغيرة الفاجرة اللعوب ـ ندوبها عليه، وأعربت عن نفسها في خمشات أصابعه للهارمونيكا، وفي رغبة الراوي في التماهي معه إلى حد تلبسه لشخصيته، واستيلاده من جديد عبر روحه الشابة وجسده الغض. فخرائب الهارمونيكا هي شواهد حيوات اهترأت ولكن كلما شاخت جلودها تجددت لها جلود نضرة أخرى. وهي التجسيد السردي لتلك العلاقة الأزلية بالمرأة في غموضها الدائم وبساطتها التي تستعصي لفرط بساطتها وإلغازها معا على الفهم والتأويل. فدياب الذي زلزلته وهو في الثلاثين علاقته الشبقية الحادة مع هند بنت السابعة عشرة، والتي هجرته بعدها بعدما تركت له ملابسها/ جلدها الذي خلعته عليه، فلبسه ولم يستطع منه فكاكا، لايزال يبحث عن هند وعن تلك اللحظات الغابرة التي لا أمل في استعادتها من جديد، وكلما أمعن في البحث، وأيقن من استحالة تلك الاستعادة كلما ازداد تشبثا بها. وهو التشبث الذي تسقط ثماره ـ لعبثية المفارقة ـ بين يديه وهو نائم، فيتجاوب معها بعد يقظته وكأنه قد تلقى عطاياها بلاوعيه، أو كأن هناك شفرة كونية لاسبيل إلى فض مغاليقها توصل الرسائل والإيماءات التي لا تصل في الواقع العادي. ذلك لأن علاقة ذياب الملتبسة بهند هي تجل لعلاقته الملتبسه بذاته وهويته.
وإذا كان التراسل بين نصوص هذه المجموعة هو أحد تجليات تكاملها وسعيها لبلورة عالم خاص، فإن هذا التراسل يقدم لنا بعض مفاتيح القراءة المهمة فيها، لأنه يتحقق كذلك على مستوى أعمق حينما تتراسل الرؤى والمصادرات التي تنطوي عليها القصص لتكشف لنا عن مفتاح آخر من مفاتيح القراءة الأساسية في نصوص عاطف سليمان. فهند التي أغوت دياب في القصتين السابقتين هي تجل من تجليات المرأة المتعددة التي تتجسد في القصة المحورية في هذه المجموعة "بادرة والأوقات المغلقة". وهي القصة التي يعانق فيها هاجس الكينونة والهوية الملتبسة هواجس الزمن والموت والشوق إلى التحقق المستحيل. فما أن نكمل قراءة المجموعة حتى نكتشف أن قصة "بادرة" تتغلغل كذلك في أكثر من قصة من قصصها وكأنها النموذج الأصلي أو البدئي archtypal للمرأة وللعلاقة بها. إذ يرد ذكرها بالإسم في قصتي "أغسطس الصغير" و"حواس الحريقة"، وتتبدى بالفعل وراء أكثر من شخصية نسائية من شخصيات المجموعة، من شخصية "هند" في "خرائب الهارمونيكا" إلى شخصية عائشة في "أغسطس الصغير" وحتى شخصية "خديجة" في "الميلاد الشاهق" وشخصية "السيدة" غير المسماة في "صحراء على حدة" والتي يرد ذكرها من جديد في "نخيلة ترشد القمر" لتأكيد شبكة التراسل التناصي بين أعمال الكاتب المختلفة.
وإذا كان التراسل التناصي يقدم لنا بعض مفايتح القراءة المهمة، فإن هذا التراسل يتحقق كذلك على مستوى أعمق حينما تتراسل الرؤى والمصادرات التي تنطوي عليها القصص لتكشف لنا عن مفتاح آخر من مفاتيح القراءة الأساسية في نصوص عاطف سليمان. ففي قصة "الميلاد الشاهق" نجد أن بطلتها "خديجة" تتماهى مع صاحبة الرسالة ومع أمها بحيث يصبح الهم الكياني هو الهاجس المسيطر على النص كله، فخديجة مشغولة بماهيتها وعلاقتها بالدكتور عوض الذي أخرجها من رحم أمها إلى الحياة. وهي نفس المشاغل التي تستحوذ على عائشة في "أغسطس الصغير" وعلى بطل "حواس الحريقة" المطارد بالسفر والنداءات الغامضة. ويتراسل هذا كله مع "خرائب الهارمونيكا" والأنا التي تهتم بتعدد تجلياتها. وإلى جانب هذه الاستراتيجية التناصية الواضحة التي تتراسل فيها نصوص الكاتب ويحيل بعضها إلى البعض، نجد أن هناك خاصية تناصية أعمق تؤكد من جديد أن النص مابعد الحداثي مكتوب عن غيره من النصوص الأخرى بقدر ما هو مكتوب عن الواقع الذي يصدر عنه، ويسعى إلى تجذير وجوده فيه بطريقته الخاصة والمراوغة. وتتجلى هذه الخاصية في هذا التراسل بين الشخصيات والرؤى والتجاوب المستمر بينها في عدد من قصص (صحراء على حدة) وخاصة في تلك التي تتعلق بـ"بادرة" أو تحيل إليها. بالصورة التي تصبح معها بادرة هي الطرح السردي للهم المتعلق بقضايا الهوية والكينونة وهواجسها الملتبسة في هذه المجموعة، ولهذا سنتريث عندها بشيئ من التفصيل.
إذ تقول بادرة في قصتها "بادرة والأوقات المغلقة" وهي تضع شروط تلك العلاقة التي تتخلق وتتبلور آلياتها على مد القصة: وحتى على مد القصص المتعددة التي تسعى لسبر العلاقة المعقدة بين الرجل والمرأة، "دون أن تمسني من فضلك"(ص21)، "دون أن تنظر إلي من فضلك...دون اشتهاء من فضلك...دون تعاسات كبيرة ياحبيبي...لا تنادني باسمي من فضلك...لست بادرة من فضلك...أنا عذراء من فضلك... نادني يا أمي من فضلك... وأناديها أماه ، تنتشي، أمنحيني شفتيك، تمنحني، ونحيا فناءنا الدائم"(ص22) لتضع أهم قواعد اللعبة: لعبة إقامة علاقة تتجاوز الحسي والملموس إلى الجوهري والمجرد، تتجاوز المتعين والمحدود إلى الاستعاري والرمزي والأسطوري الذي تتوحد فيه الأم بالمرأة العذراء بالعشيقة. وكأننا أمام تجل جديد لبغايا المعابد المقدسات في الديانات القديمة، ولا غرو فـ"بادرة أخت السابينات". (ص33) فالعلاقة المعاصرة بين الرجل والمرأة لدى عاطف سليمان تنطوي على تواريخ تلك العلاقة المعقدة منذ العالم القديم وحتى اليوم، وعلى ما تركته هذه التواريخ فيها من ترسبات مطمورة في اللاوعي، ولكنها فاعلة بطريقتها الخاصة في كل تشكلات هذه العلاقة وما تنطوي عليه من دلالات. لهذا تقدم لنا "بادرة" مفتاحا آخر لا يقل عن تلك المفاتيح أهمية "سأخونك دائما من فضلك".(ص24) فالخيانة بالمعنى المجرد والفلسفي، وليس بالمعنى الأخلاقي البسيط، جزء أساسي من أجزاء هذه اللعبة المستمرة والمقدسة، فهي تردف بعد ذلك مباشرة "أنا المجدلية من فضلك. وتسويك المجدلية على فراشك، وتسوي نفسها عليك. الآن أخونك معك! تخونك معك نبيتك المفرودة بين ذراعيك، وتختلط الأشياء عليك، فتهمس بيقينك اللحظي: فعلنا هذا من قبل، فتنفي لك يقينك ولحظتك: أووم، لا! لم نفعل هذا من قبل"(ص25)
وهذا أيضا مفتاح آخر من مفاتيح السرد الذي يساوي فيه ما حدث من قبل ما لم يحدث، ويعادل فيه النفي الإثبات، واليقين فقدان اليقين. فعالم عاطف سليمان في هذه المجموعة ليس هو العالم الواقعي المحض، ولكنه العالم المتشكل من المزج بين الواقع الخارجي والواقع النفسي للشخصيات، والواقع الفكري أو الفلسفي للرؤى والأفكار التي تتراءى لها وتستحوذ على بعض اهتماماتها. فاللحظة لا ديمومة لها، لأنها بطبيعتها لحظية، ولكن الأهم من ذلك سرديا أنه لا يقين في لحظيتها ذاتها. وبالتالي لا أمل في استعادتها ناهيك عن استرجاعها. ولذلك فليس أمام البطل إلا السكوت: "أنت الآن تسكت لأن مجدليتك ساكتة لك، تفكر بقتلك وبالسفر في رحلات دينية إلى بلاد حارة لتبحث عن شبيه لك. إنها لن تكفّ عن الإيحاء إليك: أريدك مرتين من فضلك. وأنت أنت لن تنكر أنك فكرت بقتلها للتتحاشى إلى الأبد كلمات قلبها: هذا انتحاري، أين انتحارك؟"(ص26) لكنه السكوت الذي يعي الكلام المضمر والمسكوت عنه، ويعي ما ينتويه الآخر ويدرك مقاصده، ولكنه لايريد لهذا الوعي أن يتأكد بإتاحة الفرصة للآخر لبلورته أو صياغته بصورة لا فكاك منها. فالكتابة الجديدة تعول على الوعي المضمر كثيرا، وتنأى عن الإفصاح عن هذا المضمر حتى لا تفسد التباساته المغوية. لهذا يؤكد لنا النص أن بادرة "لم تكن تقرأ أبدا الرسائل التي تصلها، ولم تقل مرة كلمة لحامليها. كانت تنفق أوقاتا طويلة في ترتيبها وتحزيمها دون أن تفكر بفض رسالة واحدة". (ص26) إنها تريد لهذا الوعي المضمر أن يبقى سادرا في التباساته، ولكنها في الوقت نفسه لن تغفر لنفسها أبدا أنها لم تبدد هذا الالتباس، وأنها مسئولة عن ديمومته. لكنها في الوقت نفسه ـ وكأنها مدفوعة بقدر حتمي لا فكاك منه ـ لا تني تزيد هذا الالتباس التباسا، باستجابتها العفوية لكل ما يعمقه وتجنبها اللاإرادي لكل ما يميط اللثام عنه. وأهم عناصر تعميق هذا الالتباس هي تلك الرغبة المستحوذة على الجميع بالسفر: السفر في العالم وفي أغوار الروح معا. السفر الذي لاندري بحق إن كان قد حدث أم أنه محض رغبة تستبد بالشخصيات حتى تتصور أنها حدثت. هذا السفر الميتافيزيقي من مفاتيح قراءة هذه النصوص المهمة. "وتنبئك مع اكتمال الرماد: وصلت من سفري.... وأنت يغري الصمت فوضاك... وتخلق كل ما سوف تراه فيما بعد إذا كنت ستعيش عشر مرات أخريات ... أنتِ لم تسافري قط"(ص32) فليس المهم هنا أن يكون السفر قد حدث بالفعل أم أنه لم يحدث قط، ولكن المهم هو التعرف على وطأته المبهظة التي تتخلل الشخصيات جميعا، وعلى فداحته كحلم وكتجربة ماضية ومستقبلية معا. لذلك ليس غريبا أن تنتهي هذه القصة المفتاح بهذا التساؤل المفتوح: "أكنت مفهوما أكنت مفهوما على الإطلاق؟"(34). فهم السفر ـ ككل الهموم والشواغل في هذه المجموعة ـ ليس هما يسيرا أو مفهوما فبطل "حواس الحريقة" يجد نفسه واقعا في قبضة تعقب غامض من رجل عجوز يلتقيه في الترام وينزل وراءه وينصحه "بلا مقدمات: كن فطنا يابني وسافر. لم يفهم أي سفر يقصده العجوز... وحين توقف في شارع النبي دانيال للتقليب في الكتب القديمة لمح الرجل العجوز يقترب منه ثانية ليقول له وكأنه يستأنف الحديث: لاتغتر بالكتب، فغايتك ليست من هذا الطريق"(ص83) وهل تدرك أي من الشخصيات غاياتها؟ وهل تعرف الطريق المفضية إلى تحقيق تلك الغايات؟ يبقى السؤال معلقا في نهاية المجموعة ومفتوحا للمزيد من الاستقصاءات لأن النصوص الجديدة ـ كالحياة نفسها ـ لا تعرف النهايات الباترة ولا الإجوبة النهائية القاطعة.
2. "استعراض البابلية" الماهية الملتبسة وكتابة استباق الواقع
كانت هذه الوقفة مع (صحراء على حدة) ضرورية قبل الدخول في خرائط الرواية، ليس فقط بسبب التناص مع الرواية والذي كان مدخلنا إلى التعامل معها، ولكن أيضا لأن الهواجس الفلسفية التي تعمر عالمها قد تركت أطيافها على عالم الرواية، كما أن استرايتجيات الكتابة السردية فيها هي التي مهدت للدخول في استراتيجيات أكثر تراكبا وتعقيدا. فقد اكتشفنا في المجموعة كيف تتراسل النصوص، وهي خاصية تناصية تؤكد من جديد أن النص الجديد مكتوب عن غيره من النصوص الأخرى، بقدر ما هو مكتوب عن الواقع الذي يصدر عنه، ويسعى إلى تجذير وجوده فيه بطريقته الخاصة والمراوغة. وتتجلى هذه الخاصية من خلال إدراكنا، أو بالأحرى اكتشافنا، أن المواقف المختلفة التي يقدمها الكاتب في روايته مرئية من خلال مرشح قراءاته هو، أو قراءات بطله، بقدر ما هي مرئية عبر مرشح الخبرة العميقة بالموقف والمعرفة الوثيقة به. فتجاوب الموقف مع قراءات سابقة أو ترجيعه لأصداء نصوص مطمورة فيه لها نفس أهمية مصداقيته أو قدرته على الإحالة إلى خبرة واقعية ملموسة أو مقنعة. لذلك فإننا نستطيع أن نعثر على عدد من مفاتيح قراءة الرواية (استعراض البابلية) في قصص (صحراء على حدة) وخاصة في تلك التي تتعلق بـ"بادرة" أو تحيل إليها. أهم هذه المفاتيح أن المرأة ـ والتي تبدو عادة وكأنها تستجيب لما يمليه عليها الرجل ـ هي التي تضع شروط تلك العلاقة التي تتخلق وتتبلور آلياتها على مد القصة بطرق مراوغة وحصيفة. والتي نحتاج إلى استقراء حركيتها الملتبسة على مد الرواية وأحداثها المتراكبة. فالمرأة في قصص المجموعة هي التي تضع أهم قواعد اللعبة التي استمرت في (استعراض البابلية) لعبة إقامة علاقة تتجاوز الحسي والملموس إلى الجوهري والمجرد، تتجاوز المتعين والمحدود إلى الاستعاري والرمزي والأسطوري الذي تتوحد فيه الأم بالمرأة العذراء بالعشيقة. وكأننا أمام تجل جديد لبغايا المعابد المقدسات في الديانات القديمة. فالعلاقة المعاصرة بين الرجل والمرأة لدى عاطف سليمان في مجموعته وروايته على السواء تنطوي على تواريخ تلك العلاقة المعقدة منذ العالم القديم وحتى اليوم، وعلى ما تركته هذه التواريخ فيها من ترسبات مطمورة في اللاوعي، ولكنها فاعلة بطريقتها الخاصة في كل تشكلات هذه العلاقة وما تنطوي عليه من دلالات. وما تضيفه الرواية في هذا المجال هو أن هذه العلاقة لا تنطوي على البعد التاريخي وحده، وإنما تتضمن كذلك البعدين الأدبي/الثقافي والأسطوري، فوراء شخصيات الرواية النسائية المتعينة تتجلى شخصية نفّر البابلية والتي منحت الرواية عنوانها، وشخصية دايانا إلهة الصيد الرومانية، كما تتجلى شخصية "بادرة" المبتدعة في أعمال المؤلف السابقة، وأن ثمة تناسخ مستمر يسري في شخصية المرأة عنده.
وثاني هذه المفاتيح أن هناك جوهر واحد لعلاقة الرجل بالمرأة تتعدد تجلياته، وتتباين تبدياته ولكنه يظل واحدا على امتداد هذه العلاقة الأزلية. لكن هذا الجوهر الواحد ينطوي في داخله على بذرة الفساد التي ربما تعود إلى الخطيئة الأصلية، وخيانة العهد الذي قطعه الإنسان على نفسه والذي شغل الرجل بالحفاظ عليه، بينما دفع المرأة شغفها بالتفاصيل الحسية إلى الحنث به. فالخيانة بالمعنى المجرد والفلسفي، وليس بالمعنى الأخلاقي البسيط، جزء أساسي من أجزاء هذه اللعبة المستمرة والمقدسة. أما المفتاح الثالث من مفاتيح السرد في المجموعة والذي نحتاج إلى الاستفادة منه عند قراءة هذه الرواية فهو أن المصداقية أولا وأخيرا للسرد، فالمسرود مهما كانت درجة حقيقيته الواقعية هو ما يجب أن نعول عليه. حتى ولو شككت الشخصيات في حدوثه. لأننا هنا بإزاء عالم سردي يساوي فيه ما حدث ما لم يحدث، ويعادل فيه النفي الإثبات، واليقين فقدان اليقين. فاللحظة لا ديمومة لها، لأنها بطبيعتها لحظية، ولكن الأهم من ذلك سرديا أنه لا يقين في لحظيتها ذاتها. وبالتالي لا أمل في استعادتها ناهيك عن استرجاعها. المهم هو ما تنطوي عليه من مصادرات وما تخبئه من مضمرات. فلابد للقارئ أن يدرك كنه المضمر والمسكوت عنه، ويعي ما تنتويه كل شخصية ويدرك مقاصدها. أما المفتاح الرابع والأخير فهو أن للالتباس نفس بهاء الوضوح وجلاله، فالكتابة الجديدة قد طرحت عن أفقها كل يقين مسبق، وأحاطت مفردات العالم فيها بالشك والالتباس. لم تعد كتابة تقلد الواقع، ولكنها تستبقه، وتتركه هو يكرر حدوسها أو يقلدها. إنها كتابة تحرص على ألا تفسد التباسات الواقع المغوية، وتعول على الوعي المضمر كثيرا، وتنأى عن الإفصاح عن هذا المضمر حتى يبقى سادرا في التباساته. لأنها لاتسعى لهدهدة القارئ أو إراحته، وإنما تود أن تستثيره وتقلقه وتحثه على المبادرة والتفكير. وعاطف سليمان يعي هذا الدور المقلق للكتابة الجديدة، وليست لديه أية أوهام حول ضرورة الوصول إلى القارئ العريض أو العام. فهو يدرك أنها كتابة نخبوية، ولذلك فإنه يهدي روايته "إلى صاحب عطشي لماء البحر لمحمد إبراهيم مبروك"، وهو أقل كتاب جيله شعبية وأكثرهم شغفا بالتجريب والتجديد واللغة الشعرية المكثفة.
ثم يؤكد هذه النزعة النخبوية بالمقتطف الاستهلالي الذي يأخذه من الشاعر والفيلسوف الأمريكي رالف والدو إمرسون الذي اتسم بنخبويته وروحانيته إذ تعتبر فلسفته أن الحدس هو الوسيلة الوحيدة لفهم الواقع. "ليس في العالم، في وقت واحد، أكثر من اثني عشر شخصا يقرأون أفلاطون ويفهمونه، وليس من بين هؤلاء من يستطيع أن يشتري نسخة واحدة من مؤلفاته. ومع ذلك فإن هذه المؤلفات تنحدر من جيل إلى جيل من أجل هذه القلة من القراء، وكأن الله يحملها لهم بين يديه" وهو مقتطف ـ برغم بعض ما به من مبالغات ـ لا يؤكد النزعة النخبوية وحدها، وإنما يؤكد وجود عقل كوني سرمدي يرعى هذه النخبة، ويكفل تواصل إنجازاتها، ويضمن الحفاظ على انجاز أفلاطون والانحدار به من جيل إلى آخر ليصل في كل جيل إلى تلك الحفنة المحظوظة القادرة على فهمه، برغم فقرها المادي. وكأن عاطف سليمان يقول لقارئه من خلال الإهداء والمقتطف الاستهلالي معا أنه يعي أنه يكتب كتابة صعبة قد لا تصل بسهولة إلى القارئ، وأنه لا يساوم على كتابته من أجل توطئتها لقارئ لا يفهم هذا النوع من الكتابة الذي تنضوي تحته مجموعة محمد إبراهيم مبروك الوحيدة. وقد كان لكاتب هذه السطور حظ تقديم محمد إبراهيم مبروك لأول مرة إلى القارئ في قصته "نزف صوت صمت نصف طائر" قبل أربعين عاما في وجه معارضة رأت في عمله نوعا من الإسراف والغموض. وهاهي (استعراض البابلية) تجيئ لتؤكد أن الحماس للأعمال الجديدة والتجريبية لايذهب عبثا، مهما كانت صعوبة هذه الأعمال ومهما خرجت عن المألوف، لأنها لابد وأن تصادف يوما ما أرضا خصبة تونع فيها وتثمر.
و(استعراض البابلية) رواية جميلة وشيقة بالرغم من صعوبتها البادية، تشفع لها لغتها الشاعرية الشفيفة وكثافتها الدلالية المعطاء. فهي التي تغري القارئ بمتابعة القراءة بالرغم من تغير منظور القص، وتبدل ضمائر السرد، وتداخل الشخصيات، وتجنب أساليب التشويق السردي التي تجعل من الحدث محورا للعمل الروائي، وتحث القارئ على اللهاث خلفه وملاحقة فصوله. وهي من الروايات القليلة التي كتبها رجل، ولكنها مخصصة كلية للتعرف على هذا الكوكب الغامض المسمى بالمرأة، وهي من هذه الناحية من أكثر الروايات التي كتبها الرجال العرب إخلاصا في فهم المرأة، وصدقا في التعامل معها. فهي تسعى لسبر أغوار المرأة من الداخل والكشف عن اللغة السرية بين النساء، وكأن التي كتبتها امرأة لا رجل. وتلجأ الرواية إلى بنية دائرية ولكنها ذات طبيعة خاصة لأنها تتعمد التحويم حول لحظات أو مرتكزات زمانية أو موقفية بعينها والعودة إليها بصيغ وأشكال متباينة. ولذلك فإنها لاتهتم بالزمن التعاقبي بقدر اهتمامها بزمن له طبيعة سرمدية، هو أكثر من الزمن النفسي ديمومة، وأشد منه إشكالية والتباسا لأنه يوشك أن يكون زمنا ميتافيزيقيا. وتبدأ الرواية بعودة بطلها بعدغياب سنوات إلى مراتع الذكريات الحلوة القديمة، ومحاولته استعادة الزمن الذي انقضى وجمع شظايا الوقائع التي انصرمت؛ وجرى قسم كبير منها أثناء غيابه. وهي عودة توشك أن تكون مشروطة بالرحيل من جديد، إذ كانت تلوح في أفقه سفرة لمواصلة الدراسة في أوروبا، بما ينطوي عليه السفر عند عاطف سليمان من سحر "كلمة السفر بحد ذاتها كانت تثيرك وتخلبك. وكنت خائضا آنئذ في سفرك حتى من قبل أن تبين جدية الفرصة"(ص10) ولكنه كان مشغولا في الوقت نفسه باستعادة التجربة وتجميع أجزاء الصورة.
ومن جماع أجزاء هذه الصورة الممزقة تتخلق الرواية وتتبلور معها عملية البحث المضني عن كينونة أبطالها وماهيتهم. ويلتقي البطل في مساء عودته "أميمة" التي كانت ولازالت جذر علاقته بالمرأة وسبيله إلى معشوقته، وهي أيضا جزء من هذا العشق وباب من أبوابه. وكأن الزمن يعيد نفسه، ولكن في دورة أخرى وعلى مستوى آخر من مستويات الحلزون، لا الدائرة التي لا تكتمل أبدا وفقا لمنطلق الرواية الفكري. فقد كان بينه وبين أميمة "مايشبه الشروع الطويل في حب عصي"(ص8) نعرف من خلال الإشارة إلى نزهتها مع خطيبها والوردة الحمراء التي حصّلتها من هذه النزهة، أن هذا الحب العصي قد استعصى بالفعل على التحقق. وأنها تعي ذلك، وربما كان هذا الوعي هو دافعها لأن تستأذن في إحضار صديقتها "نهلة" معها في لقائهما القادم. وجاءت نهلة مسلحة بمعرفة أميمة بالراوي، وهي تراوغه لتكتسب بها، وبكلامها مع أميمة عبره، معارف جديدة عنه، ولتفتح له أبوابا يلج منها إلى معرفة المزيد عنها هي بالمنطق النسوي الفريد والمراوغ للجوس في وهاد المعرفة الحرجة. وتكشف لنا الرواية وهي تسرد علينا هذا اللقاء ما أدعوه باستراتيجية استباق الواقع النصية، بالصورة التي ندرك معها منذ البداية أن الكتابة لا تحاكي الواقع، وإنما يقلد الواقع الكتابة التي تستبق أحداثة وترهص بتحولاتها. ففي هذا اللقاء الأول الذي تنضم لهما فيه صديقتهما الثالثة (لايصرح لنا النص بماهيتها، وسيترك لنا أن نحدس من تكون) تتحدد طبيعة العلاقة وتتخلق دواعي التباساتها في آن. وتتخلق هذه العلاقة بطريقة لاندري معها بوضوح إن كان هذا هو بدايتها الأولى، أم أنها دورة جديدة من دورات علاقة لا تني تتجدد وتتعدد تجلياتها المراوغة. فما يلفت نظر الراوي ويستحوذ على اهتمامه في "نهلة" يرتد به إلى أطياف نصية تربط المرأة الذكية المثقفة بعاهرات المعابد المقدسات.
فقد جلست نهلة وأميمة في "الهالوجين" لتزجية الوقت فتحرش بهما قوّاد بعدما أشعلتا السجائر ـ وهذا سوء تفاهم دال يقدم لنا بعض مفاتيح اللعبة، ويكشف الفوارق الدقيقة بين أميمة ونهلة. "أبانت أميمة غيظها مما حدث، وانهمكت نهلة في سخريتها من الموقف بضحكات نظيفة، مشتبكة بتعليقات متسامحة، ومقرة باستحقاقهما لماحدث. فتبدت لك جذابة وهي تنفض عن نفسها الإساءة بالتعالي، بالانضواء في الإساءة ذاتها"(ص9) كما يكشف للراوي والقارئ معا طبيعة الجدل الساري في أغوار السرد، وقدرة المرأة المراوغة على السيطرة على الموقف ـ ونقضه من الداخل ـ بينما يبدو أنها لاتفعل أكثر من الاستجابة لشروطه، بل الاستسلام لمحدداته الجائرة. ولتنبه القارئ إلى بعض أبعاد لعبة السرد بضمير المخاطب، وما تنطوي عليه من انقسام الراوي على نفسه في وقت مبكر من العملية السردية. واستطاعت نهلة منذ ا لوهلة الأولى، فهي مسلحة بكل معرفة أميمة عنه، قراءة هذا الانقسام وهدهدته. فقد دخلت له من بوابة لعبة السفر المغوية ذاتها، وحققت عبرها نوعا من التواصل أو التواطئ السري معه، عندما تكتب، بعدما عرج بهما الحديث على "الشعر ورائحة الصندل وماللك حداد ورامبو ونوفاليس" (ص10) اسم بلد في ورقة وتخفيها في كفها. وتطلب منه معرفة البلد الذي كتبته في الورقة، فيحدس بسبب رامبو اسم البلد "اثيوبيا" بدقة تخاطرية مدهشة.
لكن الراوي الذي ينجح في اللعبة يخفق في امتحان الواقع، فقد أبدت نهلة كراهيتها الرجوع إلى بيتها، وفوتت مركباتها تباعا، ولكنه لم يجد في نفسه الجرأة الكافية ليطلب منها قضاء الليلة معه. ولما يسأل أميمة بعد رحيل نهلة بزمن غير قصير "لو أني دعوتها لقضاء الليلة معي، هل كانت ستتحرج؟ وجاوبت أميمة: لا!، أعتقد أنها كانت ستوافق"(ص11) فيدرك إخفاقه في النهوض بواجبه العاطفي وخسارته معا. وتوشك فرصة استعادة هذه اللحظة الضائعة أن تتبدد للأبد، لولا أن نهلة تقرأ ما كتبه عن "بادرة" وتشغف به. وهي إشارة واضحة إلى قصة للمؤلف في مجموعته (صحراء على حدة)، وإلى أن ثمة خلط متعمد بين المؤلف الفعلي والراوي أو المؤلف الضمني للرواية. ينطوي في بعد منه على خلط أهم بين المسرود والمعاش، أو الكتابة والواقع. وترغب نهلة، بسبب سطوة الكتابة، في الالتقاء بالراوي من جديد. "سيقت إليك أجواء نهلة دون دفع منك. استهواك حدسك بأن ثمة علاقة تنشب بينك وبينها، علاقة تشب على ما أعد سلفا، ما تدريانه عنها أقل مما هي عليه"(ص13) هذا النوع من العلاقة المكتوبة سلفا، والمرئية عبر مرشح القراءات السابقة، والتي تستبق الواقع وترود خطاه، هو الذي يسود كل علاقات الراوي النسائية في هذه الرواية، أو هو الذي يحكم علاقته الواحدة ذات التجليات المتعددة فيها. منذ تلك العلاقة الأولى مع أميمة ونهلة على مقاعد الدرس، وفي أرجاء الكلية التي شهدت باحاتها وقاعاتها نشاطات البطل السرية: السياسية منها والعاطفية. فهي العلاقة التي تصبح ـ كالدراسة نفسها وما يدور في سنواتها التكوينية ـ جزءا من صيرورة البطل وكينونته، تمتزج بقراءاته ومرتكزات فكره وثقافته.
وهي علاقة مرئية ـ كما ذكرت ـ عبر مرشح قراءاته السابقة: فحينما تخاطبه نهلة يقدم هذا الخطاب بهذه الطريقة: "وهمست بلهجة الشخصيات الأدبية الفاتنة"(ص15) فتكتسب همساتها دلالات إضافية، تمتزج فيها الشخصية الحقيقية بالشخصيات الأدبية، والكلمات العادية بالمقتطفات التي تستقطر دمدمات الروح وتصوغ صبواتها. ونهلة تعي هذا البعد كما يعيه البطل/ الراوي/ المؤلف، فما أن يعرب البطل بشكل حميم وحسي عن ولعه بها حتى تفصح "أنا بادرة" ويكون رد الفعل المصاغ لأهمية المفارقة بضمير المخاطب حتى يُرى من الداخل والخارج معا "تفككت بالدوار والخدر، لأنك، في ماضٍ، بلحظة كتابة سالفة، أُخذت إلى أصل الموقف الذي تزوبعه نهلة الآن عليك" (ص17) "العلاقة الدائرة بينكما كحدث أدبي فادح"(ص24) فنحن هنا بإزاء كتابة استباق الواقع حيث يستأنف الواقع ما انتهت إليه الكتابة السابقة، وترهص الكتابة الراهنة بما سينبلج عنه الواقع من أسرار. لأن حكاية "بادرة" التي تطرح نفسها كسلف لحكاية نهلة، سرعان ما تتحول إلى إرهاص بحكاية الصديقة الثالثة: مريم رياض التي تمد الحكاية إلى منتهاها المتطرف الذي تنتهك فيه المحرم الجنسي والديني معا.
ولأن العلاقة بين البطل/ الراوي/ المؤلف ونهلة هي العلاقة بين الرجل والمرأة في جوهرها المصفى والمكتوب من قبل عشرات المرات، فإن الاعتراف المضمر المراوغ بالحب فيها يوشك أن يكتسب بعدا كونيا، دون أن ينبس أي منهما بكلمة واحدة "في ذلك المرتقى رنوت إليها، التقت عيناكما في سلام ضافٍ، احتضنتها بنظرة ما كانت أبدا نظرتك وحدك. ذلك أن كونا طائلا كان يشاركك ويعبئك ويطلّ عليها من عينيك. حسّت هي بحنانك واهتدت"(ص21) ولأن للعلاقة هذه الطبيعة فإن جزئيات الموقف كلها تؤكد هذا الجانب فيها وتبرزه، من الرسالة الشفرية التي تكتبها له نهلة باللغة الانجليزية في الكارت الصيني المحمل بتذكارات الموقف الذي اشترته فيه معه، إلى منح البطل الاسم الذي يهواه "عاصي"، إلى تصوير العلاقة كقدر طبيعي تنجذب فيه الأطراف لبعضها "كما تفط برادة حديد صوب جبل مغناطيس برئ وعظيم"(ص35) "لا تتركني ولا تدعني أتركك مهما حدث، أبدا"(ص37) ولما يتركها بعدما بلغت الرواية بهذه العلاقة ذروتها الشعرية، بعدما أحالتها إلى واقع واستعارة شفيفة معا، تنهيها فجأة كما بدأتها فجأة فلم يعد بعد تلك الذروة من مزيد. اللهم إلا الكشف عما دفع نهلة إلى هذه النهاية الباترة، والتعرف على ماضيها لأنها لم تظهر في الرواية إلا حضورا مؤتلقا ولحظيا سرعان ما تكشف دورة العشق التالية ـ والتي تناظر دورة الزمن وتعاقب فصوله ـ ماضيه وأسرار تكوينه ودوافعه.
وتتحول الرواية بعد هذه النهاية المدبرة والمتعمدة والتي تلحق نهلة ببادرة في "تناسخ نفيس"(ص39) وتكشف عن لغة النساء السرية ومنطق تعاملهن، إلى بداية لعلاقة جديدة في سلسلة تناسخ العلاقات في هذه الرواية الشيقة، لأن التي تساهم في إحكام فصول تلك النهاية الباترة هي الصديقة الثالثة، "مريم رياض"، عندما تؤكد لنهلة وقد ذهبت بدلا منها للموعد المضروب أنها "لم تر أي شخص يليق بنهلة ... لم أجد إلا صعاليك حزانى لن تسلمي من قلة بهجتهم"(ص42) وهي نفسها التي تصوغ البداية التي تتسلم الراية منها في دورة جديدة. فدورة الرواية التالية هي دورة العلاقة مع مريم رياض، والتي توشك أن تكون الوجه الآخر ـ المناقض والمكمل معا ـ للعلاقة مع "نهلة"، بل وحتى للعلاقة مع "أميمة". ففي هذه الدورة لا تصل مريم بخطوط علاقته مع نهلة وأميمة إلى نهاياتها المرجوة فحسب، ولكنها تؤسس قواعد العلاقة التي تنجب الإبن "عاصي" وتجهز عليه في آن. وقد علمنا من قبل أن الإسم الذي يريده البطل لنفسه، لو كان له أن يختار، هو عاصي (ص30)، وهذا هو اسم ابنه الذي نشهد في بقية الرواية ولادته وموته، فقد "جندل قبل أن تنبثق له أي صفة شخصية"(ص80). وعندما يوشوش له صوت: الطفل الذي انطوى اسمه "عاصي"، يرد البطل/ الراوي/ الكاتب "أنا هو ذاك"(83) ليؤكد التوحد بين الأب والإبن الطالع من رحم مريم، والمحكوم عله بأن يموت مجندلا في هذا الزمن الردئ.
فالرواية تقدم لنا من خلال دورة العلاقة الثانية وما تلاها من كشوف استقصاءاتها لكل أبعاد العلاقة الممكنة مع المرأة. الصداقة الحميمة التي تشارف تخوم الأخوة والتحريم مع أميمة بما تنطوي عليه من استبعاد للشبق والشهوة، وما تضمرة في الآن نفسه من رغبات مستعرة وشهوات موءودة،؛ والحب السماوي المتوهج النقي الخالص مع نهلة بما يتسم به من تسامٍ وأفلاطونية عذرية وبراءة مطلقة؛ والشبق الأرضي مع مريم بما يفتحه من فراديس اللذة البهيمية وممارساتها الصريحة المنفلتة من الروادع والقيود. فمريم هي "شقيقة مريم على ريشة رافاييل"، ولكنها في الآن نفسه "متهتكة في عفاف مخاتل"(ص41) تأتي إلى المشهد وقد اتشحت بإزار "نفر الجميلة البابلية التي أماتت سنوحي، ولم تحيه. أنا أحييك تقدمة مني"(ص43)، وتحييه بالفعل لأنها تمنحه كل أطايب جسدها بسخاء وكرم معطاءين، وتمنحه فوق ذلك الولد دون أن تحمله عبأه أو تطلب منه رعايته. فهي لاتعرف الكوابح الأخلاقية السقيمة؛ لأنها تجسد روح المرأة ببعديها الأسطوري والتاريخي معا. هي "نفر البابلية" وهي في الوقت نفسه "بادرة" و"نهلة" وكل النساء في امرأة واحدة.
وتضفي الرواية على كل من هذه الأبعاد الثلاثة مجموعة من الدلالات أو تموضوعها ضمن سياقات كاشفة. فأميمة التي فقدت عذريتها، أو بالأحرى توقن واهمة أنها فقدتها، تتمرغ في فدافد الألم الناجم عن إحساس مرّ بالذنب، وعن رؤية اجتماعية مرائية تدين الوقوع في الخطأ، وإهدار الشرف، وتسعى في الوقت نفسه لاقتطاف ثماره. وهي لذلك ترجو البطل/ الراوي/ الكاتب أن يخيط لها غشاء البكارة الممزق، ولا تصدقه حينما يؤكد لها أن عفتها مصانة، وإنما تصر على أن يبرهن على أخوته لها وحرصه عليها بإخاطته لها. ويفعل ليكتسب الفعل المجاني دلالاته الروائية المهمة. أما"نهلة" فإنها تقدم لنا تجربة أخرى مربوطة بتواريخ النكسة والتهجير والاكتشاف المبكر للجنس الذي يمارسه المهجرون الذين آواهم أبوها أمامها وهي لاتزال في مرحلة الطفولة، في الخامسة من العمر، تقلد ماتراه وتوقن إثمه، وتستمرئ الحفاظ على السر الأثيم. "نهلة" الرائية هي أيضا"نهلة" التي تصبح موضوع تحرشات "مريم" بها ومروادتها إياها عن نفسها، وصد"نهلة" لها، وإن منحتها حبيبها تغدق عليه من عطائها السخي الوفير، لتنام معه بالنيابة عنها ولها. و"نهلة" أيضا هي التي ترتبط بالسفر بما ينطوي عليه في هذه الرواية من دلالات: السفر الممقوت الذي عانت منه طفلة حينما اصطحبها أبواها إلى إحدى دويلات الخليج التي عملا بها، والسفر المرغوب إلى أوروبا للبحث والاكتشاف والمعرفة، والذي يتشوف له البطل/ الراوي/ الكاتب. ويكتشف في إحدى جولاته تمثال بادرة التاريخي وقد نقش تحته "استعراض نفر البابلية" (ص85). أما مريم رياض، "مريم أسبوع آلامها"(ص54) فهي نسيج وحدها. "قواها منتشرة بطبيعية، لاتدافع ولا تهاجم. تجتاح بتؤدة وتهبك نعمة استضعافها" (ص40) هي أقرب نساء الرواية الثلاث، أو بالأحرى الأربع إذا أضفنا بادرة المضمرة في كل منهن، إلى جوهر المرأة المصفى الذي يمتزج فيه الوفاء بالخيانة، والعطاء بالالتباس والصد، والرغبة بالغموض والكذب. هي الملاك والشيطان معا، ولكنها في الوقت نفسه التبدي الأنثوي للطبيعة الكاسحة "الأمر لايعدو لعبة أفلاك ومجرات. وأن جسدها متورط منذ البداية في لعبة كونية خالصة"(ص53).
والرواية قبل هذا كله هي رواية الفرق الجوهري بين الرجل والمرأة، وهي رواية القدر المحكم الذي يربط مصير كل منهما بالآخر، ويربط وعي كل منهما بالآخر. فلم يكن الوعي كما يقول جيل ديلوز "في يوم من الأيام وعيا بالذات، ولكنه وعي الأنا بذات هي نفسها غير واعية. الوعي ليس وعي السيد، ولكنه وعي العبد في علاقته بسيد ليس من خصائصه أن يكون واعيا". هذه الحقيقة المرة هي التي تشد كل من الوعيين إلى الآخر، وهي التي تصوغ شروط العلاقة الحتمية بينهما. وهي علاقة تبدو لنا في هذه الرواية وكأنها علاقة مجردة، ولكنها ليست مفصولة بأي حال من الأحوال عن السياق الاجتماعي والسياسي الذي تدور فيه. وهو سياق مصر في الزمن التسعيني الردئ الذي تسعى الكتابة الجديدة الجيدة إلى طرح جمالها الفادح بديلا عن فقره المدقع وقبحه الفج.