هذا حوار فريد ونادر، جرى بين الكاتب الهندي سلمان رشدي والمفكر الفلسطيني الكبير إدوار سعيد بمناسبة صدور كتاب جديد له قدم فيه لصور عن الواقع الفلسطيني، ويوشك الحوار أن يكون مكملا للكتاب، حيث يلقي الضوء على الكثير مما طرحع سعيد فيه عن فلسطين وكيف عليها أن تروي للعالم قصتها.

إدوار سعيد والهوية الفلسطينية

سلمان رشدي

ترجمة صخر الحاج حسين

 

سلمان رشدي: بالنسبة لنا نحن الذين نرى الصراع بين التوصيفات الشرقية والغربية للعالم على أنّه صراع داخلي وخارجي، كان إدوارد سعيد ولسنوات طويلة صوتاً هاماً ومميزاً. فهو أستاذ الأدب الإنغليزي والأدب المقارن في جامعة كولومبيا، كما أنه اشتغل بأعمال تناولت النقد الأدبي من بينها عمله اللافت عن جوزيف كونراد. لسعيد ما يميزه فهو يقرأ العالم وكأنه يقرأ كتاباً. وما ثلاثيته التي سبقت كتابه الأخير " بعد الفضاء الأخير" إلا دليل على ذلك. في الجزء الأول من ثلاثيته وهو بعنوان "الاستشراق" يحلل سعيد "دمج المعرفة مع القوة" ويناقش فيه الطريقة التي ساعد بها دارسو حقبة الإمبراطورية على خلق صورة عن الشرق قدمت المبررات لأيديولوجيا الإمبريالية المتسيدة. تبع كتابه هذا " المسألة الفلسطينية" وهو الجزء الثاني من ثلاثيته وفيه يصف الصراع بين عالم شكلّته، على نحو رئيس الأفكار الغربية – وبالتحديد الصهيونية وفي مرحلة لاحقة إسرائيل، والوقائع " الشرقية" عن فلسطين عربية. وجاء الجزء الثالث و هو بعنوان " تغطية الإسلام" " وفيه أثير موضوع اختراع الغرب للشرق عبر مناقشة استجابات وردود أفعال على الصحوة الإسلامية.

 بعد الفضاء الأخير" كتاب مجازفة اشترك به سعيد مع جان مور وهو مصور ربما عرفه القراء من خلال دراسة عن قوة العمل المهاجرة في أوروبا قام بها جون بيرغر بعنوان " رجل سابع". أُخِذَ عنوان الكتاب من قصيدة " تضيق بنا الأرض" للشاعر محمود درويش والتي يقول فيها:

تضيق بنا الأرض. تحشرنا في الممرّ الأخير، فنخلع أعضاءنا كي نمرّ

وتعصرنا الأرض. ياليتنا قمحها كي نموت ونحيا. وياليتها أمّنا

لترحمنا أمنا. ليتنا صور للصخور التي سوف يحملها حلمنا

مرايا. رأينا وجوه الذين سيقتلهم في الدفاع الأخير عن الروح آخرنا

بكينا على عيد أطفالهم. ورأينا وجوه الذين سيرمون أطفالنا

من نوافذ هذا الفضاء الأخير. مرايا سيصقلها نجمنا.

إلى أين نذهب بعد الحدود الأخيرة؟ أين تطير العصافير بعد السماء

الأخيرة أين تنام النباتات بعد الهواء الأخير؟ سنكتب أسماءنا بالبخار

الملوّن بالقرمزيّ سنقطع كفّ النشيد ليكمله لحمنا

هنا سنموت. هنا في الممرّ الأخير. هنا أو هنا سوف يغرس زيتونة

دمنا

بعد الفضاء الأخير ليس هناك من فضاء. وبعد الحدود الأخيرة ليس هناك من أرض. صدّر سعيد القسم الأول من كتابه هذا بعنوان " دول". وهو حالة تأمّل عاطفية مؤثّرة تناولت موضوعات التهجير، والتشرّد والمنفى والهوية. وفيه يتساءل، بأيّ معنى يجوز لنا القول إنّ الفلسطينيين موجودون، وهل نحن موجودون؟ ما هو دليلنا على ذلك؟ كلما ابتعدنا عن فلسطين الماضي اهتزت مواقعنا وتمزّق وجودنا وتقطّعت أوصال حضورنا. متى أصبحتا شعباً؟ ومتى لم نعد شعباً واحداً؟ أو هل نحن في سيرورة تحوّلنا إلى شعب؟ ما علاقة هذه الأسئلة الكبيرة بعلاقاتنا الحميمة مع بعضنا ومع الآخرين؟ في الغالب ننهي رسائلنا بشعار " حبّ فلسطينيّ" أو " قبلات فلسطينية". هل هناك حقاً أشياء شأن فلسطين وحميمية وعناقات؟ أم هي ببساطة حميمية وعناقات- أي تجارب يختبرها جميع البشر ولا أهمية على الصعيد السياسي ولا هي تقتصر على أمّة أو شعب بعينه؟"

يقول سعيد إنّه " جاء من أقلّية ضمن أقلّية" وهو موقع أشعر بالتعاطف معه بما أنني جئت أيضاً من جماعة أقلية ضمن جماعة أقلية أخرى. إن ما يصفه سعيد هنا هو نوع من الصندوق الصيني يقول: "عائلتي أفراد في جماعة بروتستانتية ضئيلة ضمن أقلية مسيحية أورثوذوكسية أكبر ضمن أغلبية سنية مسلمة". من ثمّ يشرع بنقاش حالة الفلسطينيين متوسّلاً بعددٍ من أعمال أدبية حديثة كُتب على غلاف أحدها مديحاً أريد به القول إنّ العمل نسخة عربية من رواية "تريسترام شاندي(1)"، وهذا في رأيي غير صحيح. فالعمل رواية كوميدية مدهشة تتحدّث عن حياة سرّية لشخص يسميه سعيد " المتشائل الهالك". والمتشائل هو شخص يعاني من مشكلة في رؤيته للعالم. يزعم سعيد أنّ كلّ أنواع الأشياء والمخلوقات التي ضمّها الفصل الأول، التقت بمخلوقات من الفضاء الخارجيّ. يستشهد سعيد بمقطع من هذه الرواية:" اعتاد أسلافنا فيما يسمى بالعصر الجاهليّ وهو الحقبة التي سبقت الإسلام، أن يصنعوا آلهتهم من التمور ويأكلونها عند الحاجة. أي سيّدي العزيز من هو الأكثر جهلاً، أنا أم أولئك الذين أكلوا آلهتهم؟ يمكنك ياسيّدي أن تقول إنه من الأفضل للبشر أن يأكلوا آلهتهم على أن تأكلهم. نعم أوافقك الرأي، لأنّ آلهتهم صنعت من تمور".

ثمة فكرة غاية في الأهمية يطرحها سعيد في كتابه " بعد الفضاء الأخير" تحدّد معنى التجربة الفلسطينية بغية الوصول إلى شكلٍ معيّن لأعمال فنية أنجزها فلسطينيون. من وجهة نظر سعيد، تؤكد الطبيعة المعطلة أو المتقطعة للتجربة الفلسطينية أنّ القواعد الكلاسيكية لشكل تلك الأعمال وبنيتها لا تصدق على تلك التجربة. بل من الضروريّ العمل عبر نوع من الفوضى أو عبر شكل من عدم الثبات. من ثمّ يشرع سعيد في التقديم للموضوع الذي يطوّره لاحقاً في الكتاب وهو أنّ تاريخ فلسطين حوّل"الداخلي"(2) أي العربي الفلسطيني إلى "الدخيل"(3) بمعنى الغريب، أي الوافد من الخارج وهو الصهيونيّ على كلّ حال. تتوضح هذه النقطة في صورة فوتوغرافية لنازاريا التقطت من موقع يدعى نازاريا العليا وهي منطقة لم توجد في حقبة فلسطينَ عربية. وبهذا يُرى العربي الفلسطينيّ من وجهة نظر فلسطين جديدة مخترعة، كما تتحوّل التجربة الداخلية لفلسطين القديمة إلى تجربة خارجية في الصورة ذاتها. رغم ذلك يتشبّث الفلسطينيون بالمكان.

أهون ألف مرة(4)

 

وأن تصيدوا السمك المشوي في المجرة(5)

أن تشربوا البحر

وأن تنطقوا التمساح

أهون ألف مرة

من أن تميتوا باضطهادكم

وميض فكرة

وتحرفونا عن طريقنا الذي اخترناه

قيد شعره

في القسم الثاني من الكتاب وهو بعنوان "دواخل"(6) والذي يطوّر موضوع الداخليّ والدخيل، يشير سعيد إلى تغيّر طرأ على وضع الفلسطينيين الموجودين داخل فلسطين. ضمن المجتمع الفلسطيني وحتى عهد قريب، كان هناك تجاهل لأولئك الذين بقوا في الداخل، وكأنهم لُوّثوا بوجودهم بالقرب من اليهود. أمّا الآن فقد قُلبت الآية، فأولئك الذين استمروا هناك وأبقوا على الثقافة الفلسطينية وأجبروا العالم على الاعتراف بهم و بوجودهم كبروا في عيون فلسطينيين آخرين.

تبُرَزُ التجربة التي ينغرس فيها المرء ضمن فلسطنة(7) على أنها سلسلة من شيفرات. وبما أن الدخلاء لا يدركونها، فقد نقلها الفلسطينيون بعضهم بعضاً. والطريقة الوحيدة التي يمكن للمرء أن يظهر من خلالها " انغراسه في الداخل" تتم عبر التعبير عن هذه الشيفرات. ثمّة حادثة مضحكة تحضرني. فذات يوم تلقّى إدوارد سعيد رسالة عبر أحد الأجانب من رجل بنى هويته الفلسطينية(8) على خبرته في رياضة الكاراتيه. وهنا كان لا بدّ من أن يطرح سعيد السؤال التالي:"ما هي الرسالة التي أرادني هذا الرجل أن أتلقفها؟ إنّ خبير الكاراتيه هذا "داخليّ" وهو يستخدم الدوائر الخيّرة لأجنبيّ متعاطف مع الفلسطينيين للاتصال بي أي للاتصال "بداخليّ" – وهو أنا- يعيش الآن خارج القدس التي هي أصلنا المشترك. إنّ كتابة اسمي باللغة الإنغليزية على الرسالة هو دلالة على أن هذا الفلسطينيّ استطاع أن يتعامل مع العالم الذي أعيش فيه بما أنه كان يتابع ما كنت أقوم به. لقد حان الوقت لإظهار أنه من الأفضل لمن يؤمنون بأفكار إدوارد سعيد أن يتذكروا بأن مدربي الكاراتيه يراقبونهم. لا ترمز رياضة الكاراتيه إلى تطوّر ذاتي، بل إلى عمل متكرّر لكون المرء خبيراً فلسطينياً. تبدو كلمة " فلسطيني" وكأنها فعالية من التكرار تحول دون أن يتجاهلنا الآخرون ودون أن نغفل أنفسنا.

من ثم يضرب عدداً من الأمثلة الأخرى عن سلوك متكرّر ليجعل منه سلوكاً فلسطينياً و يكرّسه وجوداً عبر عملية التكرار تلك. يبدو هناك أيضاً ضرب من إكراه يجعل من الفلسطينيّ ميالاً إلى التطرف تم تصويره بطرق متعدّدة في الكتاب سواء تراجيدياً أو كوميدياً. إنّ واحدة من المشكلات التي تلتصق بكون المرء فلسطينيا هي أنّ فكرة "الداخل" تغزوها دائماً توصيفات البشر الآخرين، ومساعيهم للسيطرة على ما يجب أن يحتلّ تلك المساحة، سواء كانوا من العرب الأردنيين الذين يقولون بأن ليس هناك من فرق بين أردنيّ أو فلسطينيّ، أو الإسرائيليين الذين يزعمون أنّ هذه الأرض ليست فلسطين بل هي إسرائيل.

أما القسم الثالث بعنوان" نشوء" والرابع بعنوان " الماضي والمستقبل" فيلتفتان لمناقشة ما هو فلسطينيّ أو ما يمكن أن يكون فلسطينياً. ثمّة حكاية أخرى عن القوّة التي يخضع إليها الفلسطينيون وعن الطريقة التي بُدّلت فيها أسماؤهم عبر تغييرات في الحروف العربية مارستها العبرية على تلك الأسماء. وكدلالة على المقاومة يشرع الفلسطينيون الآن بتأكيد هويتهم من خلال الرجوع إلى الأشكال العربية القديمة. فهم يلجؤون مثلاً إلى مفردة "أبو عمار" بدلاً من "ياسر عرفات". وفي مناسبات عدّة فإنّ معنى الأسماء قد تغيّر. فمخيّم " عين الحلوة " اللبنانيّ وهو الأضخم للاجئين الفلسطينيين والذي يكتب بحرف " الحاء" في العربية، تحوّل في العبرية إلى " الخلوة" أي أنه تحول من نبع مياه حلوة إلى " نبع مياه في المكان الخالي". يرى سعيد في هذا إشارة إلى قبور جماعية ومخيمات تُدمّر ولا يعاد بناؤها. وكما يكتب سعيد :" لابد أن أسجّل هذه الفكرة. لقد أفرغت إسرائيل المخيم فعلاً من نبع مياهه الفلسطينية."

ويستمر الكتاب في الحديث عن الصهيونية التي يناقشها في كتابه الأقدم " المسألة الفلسطينية". ثمّة صعوبة في تقديم أيّ نوع من تحليل للصهيونية ونقدها دون أن يُتهم المرء بمعاداة السامية. من الواضح أن هناك أهمية تقتضي منا أن نفهم الصهيونية على أنها سيرورة تاريخية موجودة في سياق بعينه ولها وظائف تاريخية محددة. وهناك فكرة تتضمنها الأقسام الأخرى من الكتاب وهي أن الجميع في الغرب باتوا يفكرون بالمنفى على أنه دولة أدبية وبورجوازية مؤقتة. إذ تبدو المنافي بأنها اختارت أحد مواقع الطبقة المتوسطة وفيها يتم التطرق إلى أفكار عظيمة. رغم ذلك، يشكل المنفى للفلسطينيين ظاهرة جماهيرية. فالجماهير هي المنفية وليست فقط البورجوازية.

أخيراً يطرح سعيد عدداً من الأسئلة يصل بها إلى المسألة الرئيسة ألا وهي الوجود الفلسطيني: "ما الذي يحدث لشعب مشرد؟ رغم وجود المرء في العالم ما الذي يبقي عليه من نفسه؟ وعن أي شيء يتخلى؟" عثرت على مقطع قيم يرتبط بعدد من الأشياء التي كنت أفكر فيها. " يتم التعبير عن واقعنا الأكثر صدقاً بالطريقة التي نَعبُرُ فيها من مكان إلى آخر. نحن مهاجرون وربما هجينون في حالة واحدة فقط نجد فيها أنفسنا، وليس في كل الحالات. وهذه أعمق استمرارية لحيواتنا بوصفنا أمة في منفى ودائمي السفر" والكلام لسعيد الذي ينتقد أيضاً تركيز القضية الفلسطينية الكبير على المظاهر العسكرية مشيراً بذلك إلى مخاطر الضياع الثقافي أو الغياب.

في الغالب يتلقى البروفسور سعيد تهديدات تستهدف حياته من عصبة الدفاع عن اليهود في أمريكا. أعتقد أنه من الأهمية بمكان لنا أن نعترف أنه ليس قدراً سهلاً أن يكون المرء فلسطينياً في نيويورك.

كانت إحدى شقيقاتي تتعرض في كاليفورنيا وعلى الدوام للسؤال: "من أين أتيت؟". عندما قالت من "باكستان" بدا بأن معظم الناس لا يملكون أدنى فكرة عما يعني هذا. فقد قال لها أحدهم: "أوه نعم باكستان!" وسرعان ما بدأ يتحدث عن أصدقائه اليهود. لسنا نبالغ فيما يتعلق بالنتائج المترتبة عن الجهل الأمريكي بقضايا العالم. عندما كنت في مؤتمر الجمعية الدولية للشعراء والكتاب والمسرحيين والروائيين والصحفيين والمحررين(9) في نيويورك عام 1986 شرعت الكاتبة الأمريكية سينثيا أوزيك تمرر التماساً تصف فيه المستشار النمساوي كرايسكي على أنه معادٍ للسامية. لماذا يكون معادياً للسامية والرجل يهودي وآوى العشرات أو المئات وربما الآلاف من اليهود الذين هجروا الاتحاد السوفييتي؟ لقد كان دافعها إلى ذلك حديث أجراه كرايسكي مع ياسر عرفات. والمخيف في الأمر أن هذا الطلب الذي بدا سخيفاً جداً، تلقفه المشاركون في المؤتمر على نحو بالغ الجدية. مرت لحظة عندما انتابتني مشاعر الضيق والإنزعاج. إذ لم يبد بأنّ أحداً سينبري للدفاع عن فلسطين. إذاً يجدر بي أن أقوم أنا بذلك. لكن الدفاع جاء من بيير ترودو(10) الذي تحدث عن القضية الفلسطينية على نحو مؤثر. هذه هي بعض الأشياء غير العادية التي تحدث في نيويورك.

نص الحوار

سلمان رشدي:-  إدوارد أنت المعنيّ بهذا. هل الأمور تتحسّن أم تسوء؟ وكيف تبدو؟

إدوارد سعيد: ** أعتقد أن الأمور تتجه إلى الأسوأ. قبل كل شيء، في نيويورك ليس لدى معظم البشر الذين يكنّون مشاعر قوية حيال فلسطين والفلسطينيين أية تجربة مباشرة على الإطلاق. فهم يرون الفلسطينيين في الأساس بمصطلحات ما يشاهدونه على أجهزة التلفاز كانتحاريين ومجرمين وبما يدعوه وزير الخارجية وآخرون " الإرهاب". وهذا ما أنتج نوعاً من غضب لا أساس له. عندما يقدمني أحدهم إلى آخر ربما سمع باسمي، فهو يتفاعل بطريقة غريبة توحي " ربما" بأنني لست سيّئاً كما أبدوُ." وبما أنني أتحدّث الإنغليزية على نحو جيد فهذا يزيد من تعقيد المشكلة. كما أنّ معظم الناس يركّزون على أعمالي بوصفي أستاذ الإنغليزية. لكن المرء هنا يشعر بنوع جديد من عنف يحيق به نجم عن حرب 1982. في ذلك الوقت حدث انقطاع كبير مع الماضي بين الناس الذين دعموا إسرائيل في الولايات المتحدة الأمريكية وآخرين يشبهوننا والذين رأوا في تدمير بيروت- بيروتنا- نهاية حقبة. يشعر المرء هنا و لمعظم الوقت بأنه يعيش حياة عادية لكنه في الغالب يواجه بتهديدات أو إشارات تشي بأشياء لا تبهج على الإطلاق. فالمرء هنا دائماً يشعر بأنه خارج المكان بطريقة أو بأخرى.

- هل تغيرت قدرتك على أن تكتب عن القضية الفلسطينية أو تتحدث عنها؟

** إلى حد ما. هذه مسألة خلافية بين اليسار واليمين في أمريكا كما تعرف. ما تزال هناك بعض الجماعات – شأن تشومسكي أو ألكسندر كوكبيرن- من يرغبون بإثارة هذه القضية على الملأ. لكن معظم البشر يميلون إلى الاعتقاد أنه من الأفضل أن تترك هذه المسألة إلى الغوغاء (المجانين). لم يعد هناك سوى القليل من الأمكنة التي ترحب بالمرء حيث ينتهي الأمر به إلى أن يتوجه بالنشر إلى جمهور قليل. وما يثير السخرية أن المرء يصبح رمزاً. إذ كلما حدثت عملية اختطاف أو شيء من هذا القبيل، أتلقى مكالمات هاتفية من وسائل الإعلام تدعوني للحضور والتعليق. يا له من إحساس غريب أن يُرى المرء على أنه ممثّل للإرهاب ويتم التعامل معه بوصفه دبلوماسياً إرهابياً وله حضوره على الطاولة. تحضرني حادثة عندما دعيت إلى مناظرة تلفزيونية مع السفير الاسرائيلي- أعتقد أن المناظرة كان بشأن حادثة أشيلي لاورو السفينة الإيطالية التي اختطفتها جماعة أبو العباس. لم يكتف السفير برفضه الجلوس معي في غرفة واحدة ، بل طلب أن يُنقل إلى مبنى آخر. فبحسبه وجودي "يلوّثه". قال من أجرى الحوار متوجهاً إلى الجمهور الأمريكي، كما تعرفون رفض البروفسور سعيد والسفير نتانياهو الحديث مع بعضهما، فالسفير نتنياهو لن يتحدث معه كما لن…..؟ لكنني قاطعته قائلاً:" لا! أنا أرغب في الحديث معه، لكنه هو من يرفض…." وهنا تدخل المحاور وقال: عذراً. سيدي السفير، لماذا ترفض التحدث مع البروفسور سعيد؟" أجابه السفير" لأنه يريد قتلي". أما المحاور فقال من دون أن يرفّ له جفن:" حقاً؟ أخبرنا عن ذلك." وهنا مضى السفير يتحدث عن الفلسطينيين الذين يريدون قتل الإسرائيليين وما إلى ذلك. بالمطلق كان حدثاً عبثياً.

- تقول بأنك لا تحبّ أن تسمي ذلك بالدياسبورا الفلسطينية . لمَ؟

** أعتقد أنّ ثمّة معنى فيما قاله أحدهم في ملاحظة كتبها ووجّهها لي من القدس" نحن يهود العالم العربيّ". أعتقد أن تجربتنا مختلفة تماماً وهي تقع خارج تلك المساعي ولا يمكن رسم تشابهات. ربما كان بعدها أكثر تواضعاً. في أي حال، لا تلبي فكرة وجود نوع من وطن تعويضي نظرتي للأشياء.

- دعني أحيلك إلى سؤالك. هل أنت موجود؟ وإذا كان الأمر كذلك، ما هو دليلك؟ وبأي معنى هناك أمة فلسطينية؟

** فيما يتصل بالسؤال الأول، نعم أنا موجود. بمعنى أن هناك العديد من البشر لديهم ذكريات أو أنهم يبدون اهتماماً كبيراً في تفحص الماضي سعياً وراء دليل على مجتمع متماسك. يحاول العدد الأكبر من الجيل الأصغر، سيما الدارسون منهم - اكتشاف أشياء عن التجربة السياسية والثقافية الفلسطينية التي تميزها عن بقية العالم العربي. وفيما يتصل بالسؤال الثاني، هناك إرث يتمثل في صنع نسخ من تنظيمات فلسطينية في أمكنة بعيدة شأن أوستراليا أو أمريكا الجنوبية. من الملاحظ تماماً أن الناس يأتون للعيش لنقل في يونغستاون في أوهايو، وهي بلدة لا أعرفها لكن أستطيع أن أتخيلها، ويبقون على اطلاع على آخر الأحداث في بيروت أو على الخلافات الحالية بين الجبهة الشعبية وفتح، في الوقت الذي لا يعرفون فيه اسم عمدة هذه البلدة أو كيف انتُخب. ربما افترضوا بأنه نُصِّب ولم يُنتخب. أما السؤال الأخير فأجيب عنه كالتالي: بإمكان المرء أن يرى من صور جون مور أن الفلسطينيين هم شعب يتنقل ويحمل حقائبه على الدوام من مكان لآخر. وهذا ما يعطينا مزيداً من الإحساس بهويتنا كشعب. كما أننا نجهر بصوتنا عالياً ضاجاً، مستندين على ثقة بمعرفتنا بأنهم لم يتمكنوا ولن يتمكنوا من التخلص منا. إنه إحساس مهول – سمه ما شئت متفائل أو متشائل- أن يستيقظ أحدنا في الصباح ويقول: " حسن لم يقتلوني بعد".

- سعياً منك لتوضيح أن الأشياء ربما تزداد سوءاً، تروي حكاية أم مات ولدها مباشرة بعد زفافه. وفي الوقت الذي لا تزال فيه العروس تنتحب تردد حماتها" شكراً لله، أن حدثت الأمور بهذه الطريقة وليس بطريقة أخرى." تغضب الزوجة وتقول:" كيف تجرئين على قول ذلك! ما هو الأسوأ من ذلك." تجيبها حماتها: " الأسوأ هو أن يتقدم به العمر وتهجرينه من أجل رجل آخر ليموت بعدها. هذا هو الأسوأ. من الجيد أنه مات الآن ."

- بالضبط. أنت دائماً تبتكر سيناريوات أسوأ.

** من الصعوبة بمكان أن يقول المرء إن كان هذا تفاؤلاً أو تشاؤماً. لهذا أسميته أنت التشاؤل. هل تريد الآن أن تقول شيئاً عن الشيفرات التي يوجد من خلالها الفلسطينيون ويقبلون أحدهم الآخر وعن فكرة التكرار والتطرف كطريقة في الوجود.؟

** دعني أخبرك قصة ثانية توضح ما أعنيه. جاءني صديق حميم ذات يوم، وأمضى الليل عندي. في الصباح تناولنا الإفطار "السوركي مع الزعتر". ربما كان الطعام معروفاً في جميع أرجاء العالم العربي، لكنه معروف بالتأكيد في سوريا وفلسطين ولبنان. قال الصديق: "هذا الإفطار رمز للوطن الفلسطيني. فهو يحتوي على الزعتر. وبما أنه شاعر أخذ يسهب ويطنب في الحديث لوقت طويل ومضجر عن المطبخ الفلسطيني الذي يشبه إلى حد بعيد المطبخ اللبناني والمطبخ السوري. في نهاية الصباح اقتنع كلانا بأن لكل منا مطبخه الخاص والمختلف عن الآخر.

- هل تقصد أنه بمجرد أن يحبّ الفلسطيني شيئاً ما، يتحول إلى أيقونة فلسطينية، ولزام على الآخرين أن يتبعوه.

** هذا صحيح تماماً. لكن حتى بين الفلسطينيين هناك بعض الكلمات الشيفرات التي تحدد أيّا من الجماعات أو المعسكرات التي ينتمي إليها المتحدث، سواء من الجبهة الشعبية التي تؤمن بتحرير كامل لفلسطين، أو من فتح التي تؤمن بتسوية تتم على أساس المفاوضات. فهم يختارون مجموعات مختلفة من الكلمات عندما يتحدثون عن التحرر الوطني. ثم هناك اللهجات الإقليمية. من الغريب حقاً أن تلتقي بطفل فلسطيني في لبنان يحمل لهجة حيفا أو يافا في عربيته اللبنانية، رغم أنه ولد في مخيم للاجئين ولم يذهب إلى فلسطين.

- دعنا نتحول إلى فكرة التطرف. تحدثت عن الطريقة التي تجد فيها نفسك مجبراً على حمل الكثير من الأمتعة أنى ذهبت. لنضع السؤال بشكل أكثر جدية، يحضرني الآن ذلك الحوار بين أحد المقاتلين الفلسطينيين الذي وقع في الأسر ومذيع إسرائيلي ظهر فيه المقاتل الفلسطيني وكأنه يورط نفسه في أكثر الجرائم بشاعة لكنه في الواقع يبرز الحدث برمته من خلال تطرف مهول من الاعتذارات. أما المذيع فقد تناغم بشدة مع مجموعة المواقف الذي اتخذها هو نفسه سعياً منه لإدراك ما كان يحدث.

** نعم. كان ذلك في عام 1982 في جنوبي لبنان عندما كانت الإذاعة الإسرائيلية تجري لقاءات مع المقاتلين الفلسطينيين الأسرى على الهواء مباشرة كنوع من الحرب النفسية. لكن في الحالة التي تتحدث عنها، فإن أحداً لم يُخدع. في الواقع سجل الفلسطينيون في بيروت شريطاً عن ذلك كله وكانوا يتفرجون عليه كل مساء كنوع من الترفيه عنهم. دعني أترجم لك أحد الأمثلة.

الإسرائيلي:ما اسمك؟

الفلسطيني: أحمد عبد الحميد أبوصيت.

الإسرائيلي: ما اسمك الحركي؟

الفلسطيني: أبو الليل.

الاسرائيلي:أخبرنا يا أبو الليل إلى أيّ منظمة إرهابية تنتمي؟

الفلسطيني: الجبهة الشعبية لتحرير … أعني لإرهاب فلسطين.

الإسرائيلي: منذ متى وأنت متورّط في هذه المنظمة الإرهابية؟

الفلسطيني: مذ وعيت على الإرهاب.

الإسرائيلي: ماذا كانت مهمتك في جنوبي لبنان؟

الفلسطيني: الإرهاب. أي أن ندخل القرى ونرهب السكان. وكلما كان هناك نساء وأطفال أكثر كنا ندمّر كلّ شيء. كلّ ما فعلناه كان إرهاباً.

الإسرائيلي: وهل تمارسون الإرهاب انطلاقاً من معتقداتكم، أم من أجل النقود؟

الفلسطيني: من أجل النقود. أيّ قضية هذه؟ وهل ما زال هناك من قضية؟ لقد بعناها منذ زمن طويل.

الإسرائيلي: أخبرني … من أين تحصل المنظمات الإرهابية على النقود؟

الفلسطيني: من أيّ شخص يدّخر نقوده ليمارس الإرهاب بها.

الإسرائيلي: ما رأيك بالإرهابيّ عرفات؟

الفلسطيني: أقسم بأنه الإرهابيّ الأكبر. إنه من باعنا وباع قضيتنا. فحياته كلها إرهاب.

الإسرائيلي: ما هو رأيك بالطريقة التي تتصرف بها قوات الدفاع الإسرائيلية؟

الفلسطيني: أقسم بشرفي أننا نشكر قوات الدفاع الإسرائيلية لمعاملتهم الجيّدة لكلّ إرهابيّ.

الإسرائيلي: بماذا تنصح الإرهابيين الآخرين الذين لا يزالون يمارسون الإرهاب ضد قوات الدفاع الإسرائيلية؟

الفلسطيني: نصيحتي لهم هي أن يسلموا أسلحتهم إلى قوّات الدفاع. وسيلقون هنا أفضل معاملة ممكنة.

الإسرائيلي: أخيراً سيّد إرهابي هل تودّ أن ترسل رسالة إلى أهلك؟

الفلسطيني: أريد أن أؤكّد لأسرتي وأصدقائي أنني بصحة جيدة. كما أود أن أشكر إذاعة العدوّ على إتاحة الفرصة لي أن أتحدّث.

الإسرائيلي: تقصد صوت إسرائيل؟

الفلسطيني: نعم. نعم يا سيدي. شكراً لكم. يا سيدي. بالطبع يا سيدي.

وهل كان ذلك يتمّ على الهواء؟

بالطبع. وكان يحدث يومياً. ويسجّل في بيروت ويعاد بثّه إلى المقاتلين. يالها من حكاية مضحكة وغريبة في آن.

- تحدثت أيضاً عن مقالة مصوّرة في واحدة من مجلات الموضة تحت عنوان " ثقافة إرهابية" زعمت المقالة أنّ الفلسطينيين ليسوا فلسطينيين بحقّ، ذلك أنهم سرقوا الزيّ العربيّ وأعادوا تسميته بالزيّ الفلسطينيّ.

** نقوم بذلك دائماً.

** تزعم المقالة أيضاً بأن هذا الزي المميز – من المفترض أنه كذلك- ليس لعامة الشعب بل هو للطبقة المتوسطة والعليا. وبالإحالة إلى صاحبة المقال الكاتبة الأمريكية شارون تشرشر، كَتَبتَ:" في المنظور الأوسع للأشياء ….الكاتب شخص يقوم بعمل سخيف في مجلّة سخيفة" ورغم ذلك، تقول بأنك تشعر بالحاجة إلى العودة إلى البداية لتشرح كامل تاريخ فلسطين لتكشف كذب شارون تشرشر وتبين بأنّ هذا في الواقع زيّ فلسطيني شعبيّ وأصيل. ألم تصبح هذه العودة مرّات ومرّات إلى الحكاية نفسها أمراً متعباً؟

** نعم إنها كذلك. لكننا نقوم بذلك في كلّ الأحوال. يشبه الأمر محاولة العثور على لحظة سحرية عندما يبدأ كل شيء كما في روايتك " أطفال منتصف الليل". فأنت تعرف منتصف الليل، لكنك تبدأ من جديد. ومن الصعب أن تقوم بذلك لأنه يتوجّب عليك أن تفهم كلّ شيء وتمر على بضع أسئلة في الصحافة اليومية. عن السبب الذي يجعل من الفلسطينيين لا يقتنعون بما وصلوا إليه ويتوقفون عن إثارة المشاكل. وهذا ما يقذف بك في خطبة مهولة عندما تشرح للبشر :" وُلدت والدتي في الناصرة ووالدي في القدس." والشيء اللافت هو أن لا شيء في العالم يبدو بأنه يؤازر حكايتك. ما لم يستمر المرء في سردها، فلسوف تسقط وتتلاشى."

- إذاً هي حاجة المرء لأن يخُبر على الدوام.

** بالضبط. سرديات الآخر لها نوع من وجود مؤسساتي أزليّ. وعلى المرء أن يحاول تفتيتها. هذا أحد الأشياء التي تنتقدها من داخل الفلسطنة، أي الحاجة إلى أي جهود جادة لمأسسة الحكاية ومنحها وجوداً موضوعياً.

** هذا صحيح. من الشائق القول إنه حتى عام 1948، عبرّت معظم كتابات الفلسطينيين عن خوفهم من أنهم على وشك أن يفقدوا بلدهم. فوصفهم للمدن والأمكنة الأخرى في فلسطين بدا على أنه نوع من مرافعة أمام المحكمة. رغم ذلك و بعد تشتت الفلسطينيين، كانت هناك حقبة غريبة من الصمت استمرت حتى بدأ أدب فلسطيني جديد في التطور في الخمسينيات وخصوصاً في الستينيات. رغم حجم هذا الإنجاز، يدهش المرء من غياب سرد للتاريخ الفلسطيني تمأسس في عمل أدبي شامل. يبدو بأن ليس هناك ما يكفي من وقت. فلدى المرء انطباع دائم أن عدو المرء- في هذه الحالة هو الإسرائيلي- يحاول أن يسرق الأرشيف. إن الصورة الأكثر خطورة في عام 1982 هي نقل أرشيفات مركز البحوث الفلسطينية من بيروت إلى تل أبيب.

- اعتبر سؤالي هذا يندرج في سياق الأدب أكثر منه في سياق التاريخ، قلت إن عدم كفاية السرد يعود إلى انقطاع الوجود الفلسطيني. هل يرتبط هذا مع مسألة كتابة تاريخ ما؟

** نعم هناك العديد من الأنواع المختلفة من التجربة الفلسطينية لا يمكن جمعها في تجربة واحدة. لذا على المرء أن يكتب تواريخ متشابهة للمجتمعات في لبنان والأراضي المحتلة وما إلى ذلك. وهذه هي المشكلة الرئيسة. فمن المستحيل تقريباً أن نتصوّر سرداً واحداً، إذ سيكون نوعاً من تاريخ أحمق مجنون خرج من رواية " أطفال منتصف الليل" مع كل تلك الخيوط التي تأتي وتروح.

- تحدثت عن المتشائل على أنه تجلٍ أول للسعي للكتابة في شكل يظهر فيه من دون شكل و يعكس حالة عدم استقرار الحالة. هل تخبرنا بالمزيد؟

** إنها وجهة نظر غريبة، ربما لست بدارس للأدب الفلسطيني. ولا للأدب العربي بالتأكيد. لكنني مسحور بالانطباعات التي تأثر بها الجميع فلنقل برواية غسان كنفاني "رجال تحت الشمس" التي يمثل نسيجها عدم اليقين، سواء كان المرء يتحدّث عن الماضي أو عن الحاضر. على ما أعتقد، تقتفي قصته " عائد إلى حيفا" أثر عائلة غادرت بلدتها في عام 1948 واستوطنت في رام الله. بعد وقت تعود العائلة لزيارة بيتهم في حيفا، وهناك يلتقون من جديد بالابن الذي تركوه هناك وتبنته عائلة اسرائيلية. يتخلّل القصة إحساس قوي بحركة مؤقتة لا تنتهي، وفيها ينضفر الماضي والحاضر والمستقبل من دون أيّ مركز مُثَبّت.

- ربما نستطيع العودة الآن إلى الحديث المطوّل في كتابك " بعد الفضاء الأخير" عن الأسماء غير المسموعة للنساء الفلسطينيات. تقول:" رغم ذلك، أرى في كل هذا مشكلة رئيسة، أي الغياب الحاسم للنساء. ومع بعض الاستثناءات، بدا أنّ النساء لعبن دوراً أكبر من وصلة أو رابطة أو انتقال أو مجرد حادثة. ما لم نتمكن من أن ندرك في أعماق حيواتنا التعبيرات الملموسة والحذرة والرحيمة والمؤثرة والمنيعة التي تقولها النساء، لن نفهم أبداً تجربتنا في الحرمان." ومثالك الرئيس على ذلك، فيلم " الذاكرة الخصبة" لمخرج فلسطيني شاب اسمه ميشيل خليفة يعالج فيه تجربة امرأتين فلسطينيتين.

** مارس هذا الفيلم تأثيراً كبيراً عليّ. يدور واحد من المشاهد اللافتة حول امرأة متقدمة في العمر وهي خالة ميشيل والتي تملك قطعة أرض في الناصرة تعيش عليها عائلة يهودية منذ سنوات. في أحد الأيام تأتي ابنتها وصهرها ومعهما أخبار تفيد بأن العائلة اليهودية تريد أن تشتري صكّ ملكية الأرض. أوضحت المرأة بأنها غير مهتمة بهذا الموضوع" ولكن ماذا يعني هذا؟ " إنهم يعيشون عليها، وهي أرضهم. إنهم يريدون أن يجعلوا من الأمور أسهل يريدون إعطاءك نقوداً مقابل الصكوك. قالت ابنتها. " لا لن أفعل" أجابت الأم. إنه موقف غير عقلاني بالكامل. يسجل خليفة تعابير العناد بل والحماقة التي ارتسمت على وجه المرأة الفلسطينية. شرحت المرأة الأمر كالتالي:" لست أملك الأرض الآن. لكن من يعرف ماذا سيحدث غداً؟ كنا هنا أولاً، ثم جاء اليهود. وسيأتي آخرون بعدهم. أنا أملك الأرض وسأموت، لكنها ستبقى هناك رغماً عن أنوف الآتين والذاهبين." تُؤخذ المرأة بعد ذلك لترى أرضها التي تركها لها زوجها الذي رحل إلى لبنان في عام 1948 ومات هناك. تلك كانت المرة الأولى التي تذهب فيها إلى هناك. يسجل المخرج تجربتها الفريدة عندما تطأ بقدميها على أرضها التي تملكها ولا تملكها. فهي تطأ بكل شفافية وحنان. وتدور وتدور.وسرعان ما تتغير تعبيرات وجهها عندما تدرك عبث هذا كله وتبتعد عنها. يرمز هذا المشهد إلى الحضور العنيد لتلك المرأة في الحياة الفلسطينية- وفي الوقت ذاته، يرمز إلى عدم الاعتراف بالحرمان الذي أثاره هذا الحضور. هناك أثر من كراهية قوية للنساء في العالم العربي. إنه نوع من الخوف منهنّ يتلازم مع احترام وإعجاب بهنّ. أذكر مناسبة أخرى عندما كنت مع صديق لي ننظر إلى صورة امرأة فلسطينية ضخمة بل هائلة بدت سعيدة. فقد لفّت يديها على صدرها. لخّص صديقي هذا المشهد بقوله:" إنها المرأة الفلسطينية بكلّ قوتها وبشاعتها". تبدو صورة هذه المرأة التي التقطها جون مور بأنها تقول شيئاً كنّا عاجزين عن التعامل معه. تلك التجربة هي أنني كرجل، في ظل حالة الفوضى والشواش التي نعيشها كفلسطينيين، بدأت أحاول أن أعبر عن نفسي..

- في " بعد الفضاء الأخير" تقول إنك وبعد أن عشت في قلب الثقافة الغربية ولوقت طويل، تفهم شأنك في ذلك شأن أيّ شخص من غير اليهود يأمل أن يفهم، ما تعنيه قوة الصهيونية لليهود. كما أنك تصفها على أنها برنامج من الاستحواذ الثابت والبطيء، أكثر فعالية ونفوذاً مما كان الفلسطينيون قادرين على مقاومته. المشكلة هي أن أي مسعى لنقد الصهيونية يواجه، خصوصاً في هذه الأيام، بتهمة العداء للسامية ولكن على نحو متخفٍ. وأما الجواب على أن المرء ليس معادياً للسامية بل معادٍ للصهيونية، يقابله في الغالب:" نعم نحن نعلم هذه الشيفرة." ما فعلته في هذا الكتاب وفي كتاب " المسألة الفلسطينية" هو أنك قدمت نقداً وتحليلاً مفيدين حياديين عن الصهيونية بوصفها ظاهرة تاريخية. ربما بإمكانك أن تقول بضع كلمات بهذا الشأن.

** برأيي، مسألة الصهيونية هي معيار لحكم سياسي معاصر. فهناك من هو جذل في محاربته للتمييز العنصري أو الوقوف في وجه التدخل الأمريكي في أمريكا الوسطى لكنه وفي الوقت ذاته يمتنع عن الحديث عن الصهيونية وما فعلته بحق الفلسطينيين. أن يكون المرء ضحية لضحية فذلك يبرز صعوبات غير عادية. لأنك إذ تحاول أن تتعامل مع الضحية التقليدية لكل الأزمنة، اليهودي أو حركته، ومن ثم تصور نفسك على أنك ضحية لليهود إن هي سوى كوميديا جديرة بواحدة من رواياتك. لكننا نرى الآن هنا بعداً جديداً. كما نستطيع أن نرى فيضاً من كتب ومقالات يتم التعامل فيها مع أي نقد إسرائيل على أنه مظلة للعداء للسامية. فعندما يتفوه أي عربي سليل ثقافة إسلامية بأي شيء عن الصهيونية في الولايات المتحدة الأمريكية ، يُرى على أنه يناصر النزعة الأوروبية أو الغربية الكلاسيكية المعادية للسامية. بات من الضروري جداً أن نركز على تاريخ الصهيونية الخاص وعلى بيئتها في نقاشنا لما تمثله للفلسطيني.

- إذاً فالمشكلة هي أن نجعل الناس يرون الصهيونية على أنها شأن أي شيء آخر في التاريخ، نهضت من منابع معينة وتتجه إلى مصب بعينه. هل تعتقد أن الصهيونية غيرت من طبيعتها في السنوات الأخيرة بغض النظر عن كونها باتت خاضعة للنقد؟

** إن واحداً من اهتماماتي الرئيسة هو المدى الذي لا يتجمد فيه البشر في مواقفهم حيال الاختلاف والعداء المتبادل. لقد التقيت بالعديد من اليهود المهتمين بنوع من الحوار في السنوات العشر الأخيرة . لقد خلقت الأحداث في عقد الستينات مجتمعاً هاماً من اليهود غير المرتاحين مع مبادئ الصهيونية. إن الفكرة الكاملة للعبور والانتقال من هوية إلى أخرى هي على درجة كبيرة من الأهمية بالنسبة لي بوصفي – كما نحن جميعاً- نوعاً من الهجناء.

- أود أن أطرح سؤالين شخصيين. قلت أن يكون المرء فلسطينياً يعني في الأساس أن يأتي من ثقافة إسلامية، رغم ذلك أنت لست مسلماً. هل تجد في ذلك مشكلة؟ وهل كانت هناك صراعات تاريخية في هذا المنحى ؟

** كل ما أستطيع قوله هو أنني لم أخض في هذه الصراعات . فإحساسي هو أن حالتنا بوصفنا فلسطينيين مختلفة جداً عن اللبنانيين حيث مارست الصراعات بين السنة والشيعة والموارنة والأرثوذوكس وإلى آخر القائمة تأثيراً كبيراً على الصعيد التاريخي. تكمن واحدة من فضائل أن يكون المرء فلسطينياً في أنه يشعر بخصوصيته بطريقة جديدة، ليست بوصفها مشكلة بل بوصفها نوعاً من الميزة. لقد دمّر مجتمع الكتل(11) في القرن العشرين سواء في العالم العربي أو في أي مكان آخر، الهوية بطريقة عنيفة ما يجدر بالمرء أن يبقي على هذه الخصوصية على قيد الحياة.

** كتبتَ: " إن الأغلبية الساحقة من شعبنا هم الآن مبتلون بالمصائب التي حلّت على رؤوسنا، بسبب أخطائنا من جانب وبسبب هوية من طردونا من جانب ثانٍ وبسبب قصور قضيتنا الفريد وعجزها عن ممارسة الحراك على أصدقائنا على نحو كافٍ. بالإضافة إلى عجزنا عن التغلب على أعدائنا. من جهة أخرى، لم ألتق فلسطينياً سأم من كونه فلسطينياً. ولم يلعب هذا أي دور في جعله يتخلى عن قضيته".

** أجدت التعبير!

- يأتي بنا هذا إلى نقطة أخيرة. خلافاً لكتبك الثلاثة التي ركزت على الصراع بين الثقافة الغربية والثقافة الشرقية، يركز " بعد الفضاء الأخير" على نحو كبير على نزاع أو ديالكتيك داخلي (جواني) يكمن في جوهر مفهوم الفلسطنة. بعد فترة من الانبساط(12)، قلت إن العديد من الفلسطينيين يختبرون تحولات معينة باتجاه الداخل. لمَ يحدث هذا؟ وما هي تجربتك الخاصة فيما يتصل بهذا؟

** حسن. من الواضح أن القدر الكبير منها له علاقة بالتحرر من الوهم. فمعظم الناس من أبناء جيلي وأنا لا أستطيع أن أتحدث نيابة عن الآخرين- نشأوا في جو من اليأس والقنوط. لكن وفي نهاية عقد الستينات وبداية السبعينات ارتبطت حماسة هائلة وسحر رومانتيكي ببزوغ حركة جديدة ظهرت من تحت الرماد. لكنها لم تنجز سوى القليل. إذ لم تحرر أي قطعة أرض خلال تلك الفترة. والأكثر، فإنّ حماسة المقاومة الفلسطينية، كما كانت تدعى في تلك الأيام، كانت جواً مبهجاً ومندفعاً وشكلت جزءاً من القومية العربية- حتى أنها شكلت بطريقة غريبة وتدعو إلى السخرية- جزءاً من الازدهار النفطي العربي. أما الآن فقد بدأ ذلك كله يتقوّض أمام عيوننا، تاركاً المجال إلى إحساس من التحرر من الوهم والتساؤل عما إذا كان الأمر جديراً وإلى أين يجب أن نمضي . كتابي " بعد الفضاء الأخير" كان تعبيراً عن هذا المزاج . الصور كانت هامة لكي تبين بأننا لا نتحدّث فقط عن تحرّرنا الشخصيّ المحصّن ضدّ الوهم. ذلك أن الفلسطينيين باتوا نوعاً من بضاعة أو ملكية عامة. وهم مفيدون لشرح ظاهرة الإرهاب. لقد ألفيت نفسي أكتب من وجهة نظر شخص أفلح أخيراً في ربط الجزء الذي كان فيه أستاذاً للإنغليزية بالجزء القليل الذي عاشه، أي حياته في فلسطين. لحسن الحظ أسّس جان مور أرشيفاً كبيراً جداً من الصور مذ عمل مع الصليب الأحمر عام 1949. لقد تعارفنا في ظلّ ظروف غريبة، فقد كان يمدّنا بالصور وكنت أعمل مستشاراً للأمم المتحدة. وبما أنهم لم يسمحوا لنا أن نكتب ما نريد، قلنا " لنؤلف كتاباً ونقوم بذلك بطريقتنا الخاصة". وهذا يمثل التزاماً ومسؤولية من كلينا.

- صورة الغلاف لافتة جداً، رجل تعكس العدسة اليمنى من نظارته شعاعاً. وكما تقول، رصاصة هي التي أفقدت الرجل البصر في إحدى عينيه. لكنه اعتاد أن يعيش معها. وهو ما يزال يرتدي النظارات .. وما يزال يبتسم.

** أخبرني جان بأنه التقط الصورة عندما كان الرجل في طريقه لزيارة ولده الذي حكم عليه بالسجن مدى الحياة.

 

المصدر : كتاب " أوطان خيالية" لسلمان رشدي (وهو غير مترجم)

والحوار فريد ونادر فهو يعود إلى عام 1986.

هوامش
1ـ رواية كوميدية بعنوان The life and opinions of Tristram Shandy, Gentleman ( 1759-1767) كتبها رجل الدين الإيرلندي لورنس شتيرن وفيها سخر من التقاليد الأدبية للقرن الثامن عشر رغم أنه استخدمها في روايته. يبدأ الكاتب عمله هذا – وقد أسماه سيرة ذاتية- بمسائلة والديه لحظة حملت به أمه. مارست هذه الرواية تأثيراً كبيراً على تقنيات السرد عند جيمس جويس في القرن العشرين وعُدّت نوعاً أدبياً جديداً في إنغلتره

3ـ Outsider

4ـ لجأ سلمان رشدي إلى قصيدة توفيق زياد هذه لتدعيم فكرته

7ـ Palestinianness " أي تعميق الإحساس بهوية المرء الفلسطينية. للمقارنة مع " إيرنة" Iranianness انظر كتاب " صورة العربي في الأدب الفارسي الحديث" ترجمة صخر الحاج حسين".

10ـ Pierre Trudeay رئيس الوزراء الخامس عشر في كندا

2 Insider 5ـ وردت هكذا في الأصل 6ـ جمع داخل Interiors 8ـ التأكيد لسلمان رشدي 9ـ PEN 11ـ Masses أي الجماهير 12 Extroversion

الموضوع الأصلي: عن الهوية الفلسطينية - سلمان رشدي يحاور إدوارد سعيد - ترجمة: صخر الحاج حسين