يكشف الباحث اللبناني عن كيف أسقطت الثورات العربية أنظمة كاملة من الأفكار التي درجت على التعامل مع المنطقة وتحليل مجتمعاتها وفق تصورات غربية استشراقية نيوكولونيالية جاهزة، ويركز على أربع من هذه المقولات عن الديموقراطية، والمجتمع المدني والدولة، والشباب وفرص العمل، والفساد ليكشف خطلها وتهاويها.

الثورات تُسقِط أنظمة الأفكار أيضاً!

فوّاز طرابلسي

هذا أوان الحرائق، لا ينبغي أن يُرى غير النُّور
                      هوسي مارتي

 

وصف الفيلسوف الماركسي سلافوي جيجك الانتفاضات الشعبية التي تشهدها المنطقة العربية بالمعجزة. الوصف دقيق ما دامت الحالة التي يتحدّث عنها ينطبق عليها التعريف المألوف للمعجزة، بما هي حدث خارق لم يتنبّأ بحدوثه أحد. قد يقال ردّاً على هذه المفرقعة التي أطلقها جيجك، إنّ الثورات تأتي دوماً على غفلة. وهو بذلك أدرى. ومع أنّ هذه ليست بقاعدة عامّة، فإنّها لا تعفي من ضرورة التساؤل والتأمّل في المغافلات الكبرى التي نعيشها منذ أشهر. فليس غريباً مثلاً أن تعترف وكالات الاستخبارات الإسرائيلية والأميركية بأنّها تضرب أخماساً بأسداس، لتفسير عجزها عن توقّع الانفجارات التي زعزعت «الأمن والاستقرار» في المنطقة، وشبّهها رئيس الوزراء الإسرائيلي بالزلزال. ثمّة تفسير أكثر زمنيّة من التدخّل الربّاني. فأحد الأسباب التي حالت دون استشعار الانتفاضات ـــــ في توقيتها وزخمها وتزامنها وعفويّتها وأهدافها والوسائل ـــــ هو أنّ البحث في أزمات المنطقة كان يجري في حقل آخر، وبأدوات بحث واستخبار لا تصلح لمثل ذلك الرصد. وهذا الحقل هو حقل خطاب عالميّ مُهيمن، تَبلور بعيد نهاية الحرب الباردة، وتكرّس بعد هجمات ١١ ايلول ٢٠٠١. إنّه خطاب النيوليبرالية المُتَعَوْلمة و«أجنداتها» المتكاملة والمستبطنة في المنطقة من سلطات ومؤسسات وقوى مدنية وأهلية وأحزاب ومثقّفين:
- في الهويّة: التعريف الثقافوي ـــــ الديني للشعوب والمجتمعات؛ وتعميم مقولة «الاستثناء الإسلامي».
- في السياسة: نظرية المجتمع المدني/ الدولة، و«النقصان الديموقراطي».
 -
في الاقتصاديات: تفكيك الدولة التنموية، وفرض الخصخصة ودكتاتورية الأسواق، والتسليف الجزيئي (الميكروي) والتربية على «الريادة في الأعمال».
- في الاجتماعيات: احتساب معدّلات الفقر، لا الفروقات الاجتماعية، والتبشير بالشفافية ضد الفساد وطمس كلّ منوعات الاستغلال.
- وفي العلاقات الدوليّة: وحدانيّة الأمن و«الحرب ضد الإرهاب» وأولويّتهما.

حقيقة الأمر، أنّ الجهد البحثي والفكري عن المنطقة وفيها، لم يخلُ من استشعار الأزمات والتحذير من مخاطر انفجارات اجتماعية وسياسية. وهذا مثال. نبّه خبراء الديموغرافيا باكراً من خطورة «القنبلة الديموغرافية» في العالم العربي الذي سوف يبلغ عدد سكّانه ٣٩٥ مليون نسمة في ٢٠١٥، ٦٠٪ منهم دون الخامسة والعشرين، وحيث لا أقلّ من ٢٥٠ مليون نسمة باتت تسكن المدن. وأشارت «تقارير التنمية البشرية العربية»، التي أصدرتها «وكالة الأمم المتحدة للتنمية» إلى كون المنطقة تملك أعلى معدّلات للبطالة في العالم. من جهتهم، لاحظ علماء الاجتماع والسياسة ما سوف يترتّب على الانفجار السكاني والهجرات الريفية من اختلالات على كل الصعد، من ولادة «العشوائيّات» حول المدن أو داخلها، إلى تفكك البنية البطريركية عند الشباب. لكن معظم هذه الأبحاث حكمتها المشكلة المهيمنة ـــــ خصوصاً وجهها المتعلّق بـ«الاستثناء الإسلامي» قياساً إلى ما يمكن اعتباره «قاعدة غربية» كونية ـــــ فاتّجهت وجهة الخلاصات التي تمليها تلك المشكلة. توقّعت الدراسات أن يكوّن الوافدون الجدد من الأرياف والشباب العاطل من العمل، تربة خصبة للتعبئة من أجل العنف الجهادي، أو أن يتحوّلوا إلى جمهور للخدمات الخيرية والتربوية والصحية التي توفّرها الحركات الإسلامية، لأغراض الكسب السياسي، أو أن يضافوا إلى عديد مشاهدي محطات التلفزيون «الراديكالية»، مثل «الجزيرة» القطرية.

تبيّنت جزئية هذا التوقع وانحيازه، عندما ألّف هذا الفائض من الشباب المتعلم والعاطل من العمل، الخليط المتفجّر الذي أطلق الانتفاضات الحالية، وأدى الدور البارز فيها. لم تنطلق الانتفاضات باتجاه سلفي أو جهادي، بل اتخذت وجهة الديموقراطية التي تتحقّق باسم الشعب ـــــ لا «الأمّة» ـــــ في ظلّ شعارات «العمل والحرية والخبز». وبدلاً من أن يصبّ الانفجار الديموغرافي والبطالة المستشرية في تعزيز تيّار العنف بين الشباب، جنحا به نحو تظاهرات واعتصامات وإضرابات اتّسمت جميعها بالطابع السلمي. لكن، قبل ذلك، تسعى هذه المقالة إلى البرهنة على أنّ الانتفاضات الشعبية أشارت إلى مكامن خلل أساسية في الخطاب المهيمن، وما استتبعه من ممارسات، وأنّها شكّلت نقداً بالممارسة ــ وبالدماء ــ لمقولاته الرئيسة. وسوف نتناول أربعاً من هذه المقولات عن الديموقراطية، والمجتمع المدني والدولة، والشباب وفرص العمل، والفساد. لا بد من الإشارة إلى مفاجأتين حملتهما الانتفاضات في موضوع الديموقراطية (يمكن ترك موضوع المفاجأة للنظريّات «الثقافويّة» لمعالجة أخرى).

المفاجأة الأولى هي لنظريّة «النقصان الديموقراطي»، الوجه الآخر المكمّل لـ«الاستثناء الإسلامي». فقد فُرضت، خلال ربع قرن، إشكاليةٌ استشراقيّة قضت على الجهد الفكري والبحثي، لتغرق في تفسير «غيابات» و«فجوات» وحالات «عجز» و«نقصان»، تعانيها المنطقة قياساً إلى النموذج الغربي للديموقراطية الليبرالية. مثّل عشرات الملايين من العرب النازلين إلى الشارع لتقويض أنظمة الاستبداد، فائضاً في الديموقراطية، لا نقصاناً فيها. لكنّنا مع ذلك نقف مشدوهين إزاء حجم ما هدرنا من وقت وجهد في تفسير «غيابات» الديموقراطية، فغاب عنّا حضور طبائع الاستبداد، آليّاته ومؤسّساته وركائزه وعوامل استمراره وإعادة إنتاجه وطرائق الانتقال من الاستبداد إلى الديموقراطية. وها نحن في خضمّ الانتفاضات، نقيس مدى جهلنا بالأنظمة التي تحكمنا، ما يترك آثاره السلبية على كلّ استراتيجيات التغيير ووسائله.

المفاجأة الثانية أنّ الانتفاضات انطلقت من الداخل، على عكس ما التقى عليه أو توقّعه، كلٌّ من موقعه، ليبراليّون محليّون مثلهم مثل خصومهم من إسلاميين وقوميين ويساريين. قال الأوّلون، في امتداد الاحتلال الأميركي للعراق، بأنّ لا إمكان لبناء الديموقراطية في بلادنا، إلا إذا فُرضت من الخارج. وإذ أقرّ القانون بـ«خارجيّة» التغيير الديموقراطي، رفضوا الديموقراطية لاعتبارها جزءاً من «مشروع الشرق الأوسط الجديد». إنّ توقيت الانتفاضات جدير بالملاحظة والتوكيد. حصل بعد انقضاء عهد بوش الابن، وبعدما تخلّت الإدارة الأميركية حتّى عن رطانتها «الديموقرطية»، دون أن تحقّق أيّ إنجاز على كل حال. والأهمّ أنّ الانتقاضات اندلعت بعد الانسحاب العسكري الأميركي والحليف (غير المكتمل) من العراق. على عكس التوقّعات، قامت الانتفاضات دون مساعدة من الخارج، بل قامت ضدّ هذا «الخارج». فقد حضنت القوى الغربية ودعمت، أو تواطأت مع، أنظمة الاستبداد، من ديكتاتوريات جمهورية توريثية أو أنظمة سلاليّة نفطية أو غير نفطية، في طول العالم العربي وعرضه، على امتداد ثلاثة أو أربعة عقود من الزمن. ومهما يكن حجم التدخّل الخارجي الحالي، ومدى المساعي للتعويض عمّا فاتها من ادّعاء أبوّة الديموقراطية، فلا مفعول رجعياً هنا يسمح بالادعاء أنّ قوّة غربية ما، كان لها أيّ دور في إطلاق الانتفاضات أو تشجيعها أو تسييرها. كل ما يمكن قوله إنّها تسعى الآن إلى احتوائها، أو تحجيمها، أو الارتداد عليها، أو خنقها في المهد، بكل الوسائل.

«الشعب يريد»: ثورة في المفاهيم

لا حاجة لكبير جهد فكري للبرهنة على أنّ منبت شعار «الشعب يريد اسقاط النظام» يقع خارج منظومة المفاهيم والافكار والارشادات التي قامت عليها، وروّجت لها الإيديولوجيا النيوليبرالية المهيمنة. انطلقت الصيحة من تونس، مستلهمة قصيدة شاعرها الوطني أبو القاسم الشابي التي يتعلمها الشباب العربي ويحفـظونها عن ظهر قلب من المحيط الى الخليج. ولعلها اختلطت أيضاً بأصداء من مرويات الثورة الفرنسية. أحيا الشعار مصطلحي «شعب» و«نظام» اللذين ينتميان الى عهود حركات التحرر الوطني، وقد باتا خارج التداول عملياً، منذ الربع الاخير من القرن الماضي. فانطوى هذا الإحياء على نقض وانقلاب في المفاهيم والقيم، بقدر ما انطوى على تعيين هدف للتغيير ومساراته. وفي ما يأتي بعض أوجه هذا النقض والانقلاب.
أولاً، اعاد الشعار الاعتبار لمفهوم «الشعب»، بما هو الهوية الرئيسية للسكان في مقابل التعريفات الانتمائية والثقافوية المهيمنة، بمركباتها الإثنية والأقوامية والطائفية والمذهبية والأقلوية التي روّجت لها ايديولوجيا العولمة الاميركية خصوصاً. «واحد، واحد، شعب واحد»، هو الشعار الطاغي من الخليج إلى المحيط الذي عبّر عن الرغبة في التركيز على الهوية الوطنية والوحدة الشعبية، في وجه كل تلك الانتماءات والهويات التي يستغلّها الحاكم المستبدّ والعدو الخارجي على حد سواء.
ثانياً، «الشعب يريد» هو اعلان عن تطلّب لمصدر جديد لشرعية السلطة، يحل محلّ «الشرعيات» السائدة: «الشرعية القبلية ـــــ السلالية »، و«الشرعية العسكرية ـــــ العقائدية»، و«الشرعية الثيوقراطية»، أو «شرعية» تأويل النص الديني في أمور السياسة والدولة، فضلاً عن «شرعية» الاحتلالات الاجنبية أو «الشرعيات الخارجية» التي استعاضت بها الانظمة الاستبدادية العربية عن شرعية داخلية، رفضت شعوبها منحها اياها. في مقابل هذه جميعاً، يطمح شعار «الشعب يريد» الى تحقيق مبدأ السيادة الشعبية، وحكم الشعب، اساساً لأية سلطة وأية شرعية.

الشعب والنظام مقابل المجتمع المدني

ثالثاً، مثّلت وتمثّل مقولة «الشعب يريد إسقاط النظام» مراجعة جذرية لنظرية «الدولة/ المجتمع المدني». لنضع جانباً البلبلة في فهم هذه النظرية وتطبيقها، وتخلّي اصحابها الغربيين عنها، فيما لا يزال يدمنها إدماناً قطاع واسع من المثقفين والمنظمات غير الحكومية، اضافة الى عديد من الاحزاب والحركات القومية واليسارية وحتى الاسلامية التي رأت فيها دَرْجة (موضة) دولية جديدة لا بد من مجاراتها، فصارت حالتها مثل حالة الغراب الذي اراد ان يقلّد نقلة الحجل.
لا يمكن النظر الى نظرية «الدولة/ المجتمع المدني» الا بما هي الوجه السياسي للنيوليبرالية الاقتصادية، تقيم التعارض بين كتلتين متجانستين: الدولة، وهي مستبدة تعريفاً، يقابلها «مجتمع مدني» قوامه القطاع الاقتصادي الخاص والنقابات المهنية والمنظمات غير الحكومية، ويمثل الولاءات والانتماءات الاختيارية. ويضارع المجتمع المدني هذا «مجتمع اهلي» اكتُشف متأخراً، هو مرقد «الولاءات التقليدية». والوصفة الجاهزة: بقدر ما يضعف دور الدولة، في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة، بذاك القدر تنمو حريات الافراد.

سال حبر كثير في نقد تلك النظرية، انصبّ على محاور عدّة تستحق التسجيل. الأول، طمسها التراتب الاجتماعي ـــــ بما فيه من فوارق بين الطبقات، وبين مدينة وريف، وبين عمل ذهني وعمل يدوي وسواها. ثانياً، خلطها المستمر بين «الدولة» من جهة، وبين النظام السياسي والاقتصادي ـــــ الاجتماعي والثقافي المسيطر على الدولة من جهة اخرى. ثالثاً، القطيعة التي تفرضها بين الدولة والمجتمع، ما يسطّح جدل العلاقة بينهما، ويحجب مرتكزات السلطة وخطوط دفاعها، وآليات اعادة انتاجها، وكلّها كامنة في داخل المجتمع ذاته. رابعاً، العداء لأي دور للدولة في اعادة التوزيع الاجتماعي لصالح الفئات المحرومة أو المهمشة أو المتضررة من اقتصاد السوق الرأسمالي الاحتكاري. خامساً والأهم، تطمس هذه النظرية الأهمية الاستثنائية للدور الذي تؤديه الدولة، بما هي لحمة المجتمع ذاته، ولحمة الاجتماع السياسي، في البلدان المستقلة حديثاً، على وجه الخصوص.

وقد قدّم الاحتلال الاميركي للعراق التطبيق العملي الفاجع لهذا الوجه الأخير من النظرية، إذ لم يكتف بإسقاط نظام البعث الديكتاتوري، بل فكك، إن لم نقل دمّر، الدولة العراقية ذاتها. فماذا كانت النتيجة؟ بدلاً من ان يستولد هذا التدمير «المجتمع المدني» المنشود، ويؤدي الى تفتّح «حريات الافراد»، أخرج شياطين «المجتمع الأهلي» من جحورها، متمثلة بالمناطقية والإثنية والمذهبية.
على العكس من ذلك، انطوت اعادة الاعتبار لمفهوم «الشعب»، على تعريف المجتمع بما هو كتلة من القوى والمصالح والجماعات المتفاوتة والمتفارقة، تتكوّن في مرحلة تاريخية معيّنة حول ارادة واحدة وهدف تاريخي مشترك. وهي رؤية بعيدة كلّ البعد عن مقولات العولمة الدارجة الملونة كلّها بالريبة والشك تجاه كل ما له علاقة بالوطنية والقومية وتبشّر علناً بضرورة زوال «الدولة ـــــ الامة».
رابعاً، ترافقَ استرجاع مقولة الشعب وإرادته، مع تقديم هوية المنطقة العربية الى الواجهة، في وجه سلسلة الهويات التي فرضت عليها من الخارج، عن طريق تقاسيم الهوية الجيوستراتيجية على مقام «الشرق الاوسط»، كبيره ومتوسطه وجديده وأكبره، مندمجاً بشمال افريقيا او غير مندمج، فضلاً عن دمجه في العالم الاسلامي او أسلمته. هكذا، أعيد تعريف المنطقة من جديد بأنّها «عربية» ـــــ فصار العالم يتحدث عن «الثورات العربية» أو عن «الربيع العربي»، لوصف المسارات التي نتحدث عنها.

الأولوية للسياسة:

خامساً، مثّل شعار «الشعب يريد اسقاط النظام» نقداً من نوع آخر، لنظرية المجتمع المدني/ الدولة، ولسلوك المنظمات غير الحكومية والأهلية، القائم على فصل قطاعات المجتمع بعضها عن بعض، في تذرير «بعد حداثي» يحيلها الى جندرة، بيئة، تنمية بشرية، مكافحة الفساد، مساءلة، حوكمة، حقوق انسان، تمكين المرأة، تسليف جزيئي («الميكروي»)، ريادة، الخ. وعند الحاجة، يجري الربط بين قطاعين أو قضيتين وأكثر، بواسطة «واو» العطف. تلك مثلاً آخر توليفة في زمن الانتفاضات: «الفقر والحرية والأمن » ـــــ هو عنوان مؤتمر تنظمه كليّة العلوم الاجتماعية في جامعة مؤتة بالأردن، في شهر تموز.
في مقابل التذرير بعد الحداثي للقطاعات والقضايا، والمجاورة بينهما، يعيد شعار الثوار العرب الاعتبار لوحدة النظام، في مكوناته السلطوية والامنية والعسكرية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والثقافية، والترابط بين مؤسساته المختلفة. هذا هو «النظام» المطلوب تفكيكه وقلب معادلات القوى بينه وبين الشعب، من اجل استبداله بنظام ديموقراطي، اي نظام يمثل «ارادة الشعب».

ماذا يعني ذلك؟ يعني اكتشاف الحلقة المركزية للنظام التي يجب أن ينصبّ الضغط عليها والفعل فيها: السلطة السياسية. إنّ المعنى العميق لشعار وممارسة «الشعب يريد اسقاط النظام» هو توجيه هدف التغيير نحو اعادة صياغة جذرية للعلاقة بين الحكام والمحكومين. وهذا ما يفسّر الاهمية الاستثنائية التي توليها الانتفاضات لقيام مجالس تأسيسية وانتقالية، ولصياغة دساتير جديدة، وتغيير نمط العلاقة السائدة بين المؤسسات التشريعية والتنفيذية لصالح الاولى.

أين المنظمات غير الحكومية والجمعيات الاهلية من كل هذا، وهي التي تقوم افكارها وممارساته على منظومة الافكار النيوليبرالية المهيمنة؟
اقل ما يقال إنّ الانتفاضات تفرض على هذا التيار الواسع من الرأي العام، والفاعل في الحياة العامة، أن يقف وقفة مراجعة لتجاربه على امتداد ربع قرن، للدفع في هذا الاتجاه، مع وعي المجازفة الكبيرة التي ينطوي عليها تعميم هذه الملاحظات النقدية المقتصرة على المجال الديموقراطي، على امتداد العالم العربي.
اولاً، لا يمكن اغفال الدور الكبير الذي أدّته المنظمات غير الحكومية في نشر الوعي، والتنبيه الى الحقوق في مجالات حقوق الانسان والحريات، وبالقدر ذاته، لا يمكن اغفال حقيقة انها نادراً ما مارست الديموقراطية، بما هي الانتخابات الحرة والمنافسة البرنامجية وتداول السلطة، في حياتها الداخلية.
ثانياً، بسبب تذريرها حقول الدعوى والفعل، وتكاثر هيئاتها، إذ تبلغ المئات من المنظمات العاملة في الحقل الواحد في البلد الواحد، ونتيجة غلبة المنافسة بينها على مصادر التمويل من المنظمات غير الحكومية الدولية (ومعظمها تحضر الحكومات الغربية فيها حضوراً وازناً)، اضعفت المنظمات غير الحكومية نفسها بنفسها، وشتتت جهود الناشطين فيها، وبددت فرصاً كثيرة للإنجاز الديموقراطي.
ثالثاً، أثبتت الانتفاضات العكس تماماً من الفرضية التي قام عليها القسم الاكبر من العمل الاهلي، وهي أنّ تجزئة حقول الدعوى والفعل، وتغليب الجهد التربوي، وتواضع المطالب، يجعلها اوفر حظاً من التحقيق. وهذا ما عبّر عنه العديد من ناشطي المجتمع المدني الذين انخرطوا في الانتفاضات الشعبية، وفسروا مشاركتهم في التظاهرات والاعتصامات بأنّهم اكتشفوا، بعد سنوات من الدعوى والضغط من اجل مطلب جزئية لحقل واحد من حقوق المجتمع المدني، أنّ الحظ الوحيد في تحقيق ذلك لن يكون إلا بتغيير النظام السائد بمجمله.

بطالة الشباب وفرص العمل:

لعل «العجز» الأكبر في الرؤية المهيمنة، كامن في رؤيتها وبرامجها المتعلقة بالشباب. دأبت هيئات رسمية وخاصة، على الدراسة والتخطيط لتطوير الأنظمة التعليمية، وقد طغى عليها هَمّ استيلاد «الاسلام الرشيد». هذا فيما كان الانتشار الأفقي للتعليم، المترافق مع التقليص المتزايد للقطاعات الانتاجية والترييع المتزايد لاقتصاديات العربية، يستولد أعلى معدلات بطالة للشباب في العالم. وفيما تكاثرت البرامج والندوات وورشات العمل والتدريب، لتكوين نخب من رجال الاعمال، المشبعين بالأنانية والنيوليبرالية، باسم «الريادة في الاقتصاد»، شحّت، حتى لا نقول انعدمت، الرؤيات والتصورات لاقتصاديات توفر العمل والخبز والكفاءة والمستقبل.

اضطرت الانتفاضات العربية المسؤولين عن توجيه الاقتصاديات العالمية الى الاعتراف بأنّ تأمين فرص العمل كان غائباً عن برامجهم المتعلقة ببلدان الجنوب، والبلدان العربية خصوصاً. اعترف الرئيس السابق لـ«صندوق النقد الدولي» دومينيك ستروس ـــــ كان (قبل ايام من اعتقاله في الولايات المتحدة بتهمة اغتصاب عاملة فندق افريقية) بأنّه لا بد من إدراج بند خاص، يتعلّق بإيجاد فرص عمل في برنامج مؤسسته. ولحق به زميله روبرت زوليك، رئيس البنك الدولي، ففصّل أكثر. تساءل زوليك عن جدوى ما سمّي «التعافي الاقتصادي» في تونس ومصر، طالما انّه لم يولّد فرص عمل جديدة. افادنا عن تونس بأنّ نسبة البطالة فيها تصل الى ٣٠٪ بين الشباب، فيما يتمتّع البلد بمعدلات نمو اقتصادي عالية بلغت ٤،٥٪ بين السنوات ٢٠٠٥ و٢٠١٠. وفي الفترة ذاتها، بلغت معدلات النمو الاقتصادي المصرية ٦٪، فيما بلغ عدد الفقراء ٤٠٪ من السكان، وبلغت البطالة عند الشباب ٢٦٪ ( الصحافة، ١٨ نيسان/ ابريل ٢٠١١). الغريب في الامر أنّ المسؤولين عن توجيه سياسات العالم الاقتصادية يتحدثان عن تقديم نمو الناتج المحلي بما هو المقياس الابرز للجدوى الاقتصادية، وكأنّه من وضع مؤسسات تنتمي الى المريخ، وليس من بنات افكار «الخبراء» في «صندوق» السيد ستروس ـــــ كان، وفي «بنك » السيد زوليك! والطريف في الامر انّ السيد زوليك ما لبث ان «صحح» تصريحه السابق، فأعاد «تطعيمه» بحقنة من النيوليبرالية، فطلع علينا بنظرية تقول إنّ الشهيد محمد بوعزيزي انما هو ضحية «البيروقراطية»!

لصوصية لا مجرد «فساد»:

كشفت الثروات الخيالية التي جمعتها أسر المجمع المافيوي ـــــ الريعي ـــــ الأمني العربي، عمق العلاقات بين السلطات الاستبدادية العربية، وبين مؤسسات الرأسمالية المتعولمة الدولية، وشركاتها المتعدية الجنسيات، والسلطات السياسية التي تمثلها. جُمعت تلك الثروات من خلال استغلال المواقع في السلطة لسرقة المال العام، والاستحواذ على الأراضي الاميرية، وتبييض الاموال، وجني الأرباح الطائلة من بيع مؤسسات القطاع العام او الاستيلاء عليها، وتنظيم الاحتكارات وحمايتها، وقبض العمولات، وفرض الأتاوات، ونيل الرشى المليارية على صفقات السلاح والعقود والمقاولات مع الشركات الاجنبية. يجري ذلك في ظل نظام اقتصادي عالمي، وظيفته الرئيسية فرض ديكتاتورية اسواق يجري في ظلّها شفط الثروات والمداخيل من اسفل الى اعلى، ومن الجنوب الى الشمال، ومن الافقر والمتوسط الى الاغنى، على عكس ادعاء تسرّبها من اعلى الى اسفل. هذا السحت هو ذروة الاستغلال الرأسمالي للشعوب. وهو الفساد الفعلي، وليس الفساد فقط فساد الموظف الصغير المرتشي الذي يراد معاقبته وتبرئة المفسِدين ممن يملك المال اللازم للإفساد.

والحكام الغربيون على علم بكلّ ذلك. تعرف الادارة الأميركية أنّ الصفقة الاخيرة لتزويد المملكة العربية السعودية بطائرات وسمتيات حربية اميركية بقيمة ٦٠ مليار دولار، غرضها تعزيز ميزان المدفوعات الاميركية، اكثر من تلبية ضرورات استراتيجية في وجه ايران. ويعرف الرئيس اوباما تماماً ـــــ وهو الذي قال بوجوب العمل على خلق فرص عمل للشباب العربي في خطابه يوم ٢٠ ايار الماضي ـــــ انّ المليارات السعودية الستين سوف تسهم في تأمين فرص عمل لأكثر من ١٢٠ الف من عمال الصناعة الحربية الأميركية، وتحرم في المقابل عشرات الألوف من الشباب السعودي من فرص عمل. وفي مجال ما يسمّى تأدباً «استغلال النفوذ»، تعرف الادارة الاميركية، وسائر حكام اوروبا واميركا، انّ ستة امراء سعوديين تعود إليهم عائدات مليون برميل من النفط يومياً من انتاج اجمالي يومي يبلغ ٨ ملايين برميل. ومن جهة ثانية، تعرف السلطات الفرنسية انّ سيف الاسلام القذافي يتقاضى حصة مباشرة من عائدات حقل النفط الليبي الذي تستثمره شركة «توتال» الفرنسية. والآن، يعرف الجميع انّ جمال مبارك كان يتقاضى لجيبه الخاص ٥٪ من عائدات شركات بيع الغاز المصري الى اسرائيل. بقي لمن يريد ان يعرف كيف يتمكن حكامنا من جمع عشرات المليارات من الدولارات خلال ولاياتهم، ان يعودوا إلى اعتراف مليك المغرب بأنّ ارباح احدى شركاته المجمّعة لعام ٢٠١٠، بلغ ٢،٥ مليار دولار. هذا مع العلم انّ الدستور المغربي يمنع على السياسيين تعاطي التجارة. لكن المليك فوق الدستور وفوق السياسة، أليس كذلك؟

هذه اللصوصية هي الفساد الحقيقي في بلادنا:
حاوِل إحصاء كم دُفع من المال لإقامة المؤسسات والجمعيات والهيئات، وكم نُظمت مؤتمرات ومشاغل وندوات ودورات تدريب، تحت عنوان مكافحة الفساد والتبشير بـ«اخلاقيات الأعمال (البزنس)». اسمع ما شئت من العزف على مقامات الحوكمة، والحكم الرشيد، والمساءلة واخواتها، تنخر العقول منذ ربع قرن. ثم قارن بما فرضته الجماهير في الشارع في غضون اشهر معدودة. فلأول مرة منذ ١٩٥٢، يسقط رئيس عربي (بل رئيسان، والتالون على الطريق) تحت ضغط انتفاضة شعبية. وعام ١٩٥٢ هو تاريخ استقالة رئيس الجمهورية اللبنانية، تحت ضغط اضراب شعبي سياسي عام. ولأول مرة في التاريخ العربي الحديث قاطبة، يحال حاكم عربي (بل اثنان، والتالون على الطريق) للمحاكمة، ليس فقط بتهمة قتل ابناء شعبه، بل ايضاً بتهمة سوء استغلال السلطة، ونهب الموارد، وهدر الأموال العامة.

ومع ذلك، لا يريد مكافحو الفساد من دعاة النيوليبرالية وخبراء الهيئات الدولية، ان يروا الهدر إلا في تضخم جهاز الدولة، وفي نفقات الموازنات على الخدمات الاجتماعية. وها هم يتحفظون على فتات الأموال الذي بدأت بعض الأنظمة العربية تنفقها، حفاظاً على رؤوس حكامها وكراسيهم، عن طريق الاستمرار في دعم المواد الغذائية الرئيسية والمحروقات، او عن طريق رشى رسمية موصوفة، من مثل رفع رواتب الموظفين وبناء المساكن الشعبية. في مقالة ذات عنوان معبّر ـــــ «رمي المال في الطرقات » ـــــ تحذّر «الايكونوميست» البريطانية (عدد ١٢ آذار ٢٠١١) من تلك الاجراءات، لانتمائها الى عهد مضى من تدخل الدولة في الاقتصاد، حسب تعبيرها. اما رمي ابناء معمر القذافي أموال الشعب الليبي لنجمات الغناء الانكليزيات والاميركيات بالمليون للحفلة الواحدة، فلا يقلق. ولا يقلق الاسبوعية الاقتصادية الرصينة، رمي الاموال داخل القصور، إذ إنّ المخصص الشهري لأفراد قبيلة آل سعود، الذين يزيد عددهم على ستة آلاف، يصل الى ٢٧٥ الف دولار، للأمير الواحد.
لكنّ اعلان سقوط منظومة فكرية، لا يكفي بذاته لإسقاطها. مثلما تتحدى الانتفاضات الانظمة السياسة ـــــ الاجتماعية السائدة، وتخلخلها وتسقط اركاناً منها، كذلك الأمر بالنسبة إلى الأنظمة الفكرية السائدة. ما حاولناه اعلاه مجرد وضع عدد من مقارنات، قد تصلح علامات استدلال للشروع في بلورة رؤية واهداف ومسارات ووسائل نضال بديلة.

 

كاتب وأستاذ جامعي لبناني

عن جريدة (الأخبار) اللبنانية