يكشف الباحث المغربي هنا عن أسباب انهيار سلطات ما قبل الثورة التونسية في المجتمع العربي من خلال دراسته لتآكل الأسس التي قامت عليها شرعيتها، بعدما نخرها الزيف والتزوير والكذب من الداخل. وفقد الشعب ثقته فيها لما ينطوي عليه حكمها من تناقضات، وأخذ يبحث عن شرعية جديدة تستمد سلطتها من الشعب.

أسس الشرعية في مجتمعات ما بعد الثورة التونسية

محاولة في فهم طبيعة وأسباب ثورات الأمم

كريم إسكلا

إن الحراك الاحتجاجي الثوري الذي تعيشه العديد من المجتمعات المغاربية والمشرقية، والذي أججته الثورة التونسية، ما هو إلا تعبير عن إرادة إعادة صوغ العلاقات المجتمعية على أسس ومبادئ جديدة، فهو بالتالي إسقاط عملي للشرعية عن البنيات والعلاقات القائمة. في هذا المقال نحاول فهم وتفهم طبيعة ومسببات هذه الثورات، إذ نذهب إلى درجة تبني التأريخ للمجتمعات إلى مجتمعات ما قبل وما بعد الثورة في تونس، ليس فقط نظرا للثأثيرات التي أحدثتها ويمكن أن تحدثها في المجتمعات العربية والاسلامية، وإنما أيضا في مختلف دول العالم، وكذا على مستوى النظريات السياسية والفلسفية حول السلطة والدمقراطية والمشاركة السياسية والشرعية. فبعد سلسلة التهاوي المتسارع لمجموعة من الأنظمة السياسية العربية، وفي ظل تصاعد موجات الحراك الثوري الاحتجاجي ضد حكام آخرين، للمرء أن يتساءل عن السبل والوسائل التي انتهجها هؤلاء الحكام للوصول إلى الهيمنـة على شعوبهم كل هذا الزمن؟ وكيف ولماذا سقطت أنظمتهم فجأة بهذه السرعة وبهذه الطريقة؟ كيف يتم بناء وتهديم شرعية نظام حكم سياسي؟ وبتعبير آخر، بما أنه لا يمكن لشخص أو لفئة أن تبسط هيمنتها إلا بتواطؤ من الفئة المهيمن عليها، فكيف انتزعت الأنظمة الحاكمة في الدول المغاربية والمشرقية شرعيتها؟ وما هي العوامل التي أدت بالشعوب إلى الثورة عليهم وإسقاط الشرعية عنهم؟ أشخاص وعائلات هتفت بأسمائهم حشود من الناس لعقود، كيف تنهار أنظمتهم في ظرف شهر أو شهرين؟ ... لا يمكننا بالمطلق التوصل إلى أجوبة مقنعة لكل تلك التساؤلات، وهذا المبتغى لا نرجوه أصلا، إذ يكفينا أن نستفز في الفكر بعض التساؤل والقلق.

لعبة الهيمنة وبناء الشرعية
يقول بيير بورديو في حوار أجرته معه مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 37، دجنبر 1985: «إن السلطة ليست شيئا متموضعا في مكان ما، وإنما هي عبارة عن نظام من العلاقات المتشابكة، ونجد أن كل بنية العالم الاجتماعي، ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار، من أجل فهم آليات الهيمنة والسيطرة». إن السلطة إذن، حسب بورديو، بمثابة نظام معقد، يخترق كل العلاقات والترابطات، التي تشتغل داخليا، بواسطة آليات دقيقة وجد فعالة، تتحكم في البنية العامة لذلك النظام. والسلطة كما يحددها بيير بورديو تعتمد أسلوب الإخفاء، وهي لا يمكن أن تحقق تأثيرها المفترض، وتنفيذها بشكل فعال وإيجابي، إلا من خلال الاعتراف من طرف أغلبية الناس المعنيين بها، والذين تبدو لهم هذه الحقيقة وهمية، ولا يعترفون بها. يقول بورديو في كتابه الرمز والسلطة «إن السلطة الرمزية هي سلطة لامرئية، ولا يمكن أن تمارَس، إلا بتواطؤ أولئك الذين يأبون الاعتراف بأنهم يخضعون لها، بل ويمارسونها». بالتالي فلا سلطة ولا هيمنة إلا باعتراف وشرعنة من طرف المهيمن عليه.

هنا يبرز مفهوم الشرعية، وما هي إلا القبول غير القسري (الطوعي) لفئة ما بهيمنة وسلطة فئة أخرى، ونجد أن ماكس فيبر (Max Weber) يعد من الرواد في الأخذ بمفهوم الشرعية، حيث حددها بوصفها صفة تنسب لنظام ما من قبل أولئك الخاضعين له، من خلال عدة طرق تتمثل في التقاليد أو بعض المواقف العاطفية، أو عن طريق الاعتقاد العقلاني بقيمة مطلقة، أو بأساليب تعد قانونية أو شرعية مقبولة. هذا يعني أنه يعرّف ثلاثة أنواع من الشرعية: التقليدية، والكاريزمية، والشرعية العقلانية. ويكون الولاء والالتزام في النوعين الأول والثاني إلى شخص (رئيس تقليدي، أو زعيم بطل أو زعيم روحي)، أما في النوع الثالث، فتكون الطاعة والقبول لشبكة المؤسسات المبنية بصورة شرعية التي تحمل الطابع الفردي، والشرعية في الأنواع الثلاثة كلها معرّفة في سياق قبول المجتمع به. ولتتمكن فئة من الهيمنة على مختلف الحقول الاجتماعية، لابد لها من مراكمة جميع الرساميل (الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والرمزية). كما أن مايكل هدسون مثلا وضع ثلاث قواعد ممكنة لبناء الشرعية، وهي تشكل في الوقت نفسه ثلاثة مصادر للشرعية هي:

- القاعد الشخصية، باعتبار أن المكون الشخصي مكوّن أساسي في السلطات القبلية التقليدية، وفي السياسة المعاصرة أيضا.

- القاعدة الايديولوجية، وتتلخص في مجموعة من المثل والأهداف التي تساعد النظام على فهم الماضي وتفسير الحاضر، واستشراف المستقبل.

- القاعدة البنيوية، أي تلك التي تنبع من المؤسسات، وبقدر ما يكون الحكم متأسساً، يزداد الاعتقاد بشرعية القوانين والنظم.

بشكل مختصر يمكن القول أن الشرعية صفة يجب أن تلازم أي نظام سياسي، من أجل ممارسة الحكم، وهي تقوم على جانبين: الأول شكلي يتمثل في دستورية السلطة، أي بإنشاء جمل من الأنساق القانونية والسياسية والثقافية والعسكرية والأمنية التي ترسخ هيمنة الطبقة المهيمنة وسيادة ثقافتها. والثاني موضوعي، يتمثل في قناعة ورضا أفراد المجتمع بهذه السلطة، وهذه القناعة يتم ترسيخا والعمل على استمرارها عبر الأجهزة الايديولوجية للدولة: الاعلام والمدرسة والمؤسسة الدينية ... نتساءل على هذا المستوى: ما هي الأسس التي تبني عليها الأنظمة العربية والاسلامية (أو المغاربية والشرق أوسطية) شرعيتها السياسية؟

الشرعية في مجتمعات ما قبل الثورة التونسية:
تشهد المجتمعات المغاربية والمشرقية إحدى أكثر التغييرات السياسية والسسوسيوثقافية أهمية منذ حوالي 200 سنة – أي منذ بداية فترة فرض مطالب الاصلاح من الخارج -، فمنذ الفترة الاستعمارية وما بعد الاستعمار لم تشهد هذه المجتمعات هزات اجتماعية وبنيوية عميقة كالتي تشهدها هذه الأيام، ففي تلك الفترة جاءت مطالب الاصلاح من الدول الاوربية أساسا كذرائع للتغلغل أكثر والمحافظة على الامتيازات والمصالح، باستعمال كل الطرق العسكرية والدبلوماسية المتوفرة لديها، وأمام استمرار الرفض والمقاومة من طرف الشعوب، وبعدما أدركت الدول الاستعمارية استحالة استمرارها في الاستغلال المباشر لتلك الدول، استخدمت سياسة المراوغة، إذ منحت تلك المجتمعات استقلالا صوريا وشكليا، بالتواطؤ مع مجموعة من القوى المحلية. تلك القوى المحلية التي تسلمت مشعل بناء ما سمي دول ما بعد الاستقلال استمدت جزاءا من شرعيتها من هيمنتها على كتابة تاريخ مقاومة المستعمر، ومحاربة العدو، وتحقيق انتصارات وهمية (كحرب أكتوبر وتحرير سينا في مصر مع السادات وعبد الناصر ومبارك، أو توحيد البلاد ومواجهة الانفصاليين في اليمن مع عبد الله صالح، أو حماية البلاد من الارهاب وتحقيق السلم في الجزائر مع بوتفليقة، أو معاداة أمريكا وإسرائيل والنهر العظيم ... في ليبيا مع القدافي)، كلها تبث تاريخيا وموضوعيا أنها مجرد أوهام صورت على أنها أحداث وانتصارات ومشاريع ناجحة، فالتاريخ الرسمي لكل تلك الدول أبرز أشياء، وأخفى العديد من الأشياء، خاصة عن المبررات الحقيقية للاستعمار والأسباب الحقيقية للاستقلال، وعن جرائم الحرب التي ارتكبت في حق المناضلين الحقيقين (تصفية العديد من المناضلين من طرف السلطة الفلسطينية ذاتها، ومن طرف النظام الأردني بالتعاون مع اسرائيل، أو ما وقع في حرب الريف وقمع انتفاضات الأطلس ... في المغرب)، وعن الثورات الشعبية بين تخوم الجبال وبين الأزقة والشوارع والمقابر، عن أولئك الذين كانوا يدرسون ويكونون أنفسهم استعدادا لما بعد الاستعمار، في حين كان الأخرون يقاومون بسواعدهم وصدورهم الصواريخ والغازات السامة. إذن فالفئات الحاكمة في مجمل هذه الدول استمدت جزءا من مشروعيتها من تاريخ مزور.

أما جزءا آخر من الشرعية فاعتمدت فيه أنظمة ما بعد الاستعمار على بناء "مؤسسات الدولة"، حيث تشابك العائلي والطائفي والديني والاقتصادي والعسكري، ليصنع تكتلات متشعبة المصالح ومتقاطعة المصير، هذه التكتلات العلائقية هي المحرك الفعلي لدواليب الدولة، بطبيعة الحال بمساعدة وتأطير من الدول المستعمرة، لكن لابد لتلك القوى المتنفذة (الفئات المحظوظة) من واجهة مؤسسية مقبولة اجتماعيا وقانونيا بالتالي لابد من:

أولا- صنع نخب تابعة (مثقفون، إعلاميون ...) برمجت عبر مؤسسات التنشئة الأجتماعية على إعادة إنتاج الثقافة السائدة ومقاومة كل بوادر وارهاصات التغيير الجدري. على سبل المثال في المجتمع المغربي سجلنا غيرما مرة كيف أتهم العديد من دعاة التغيير بالخيانة والجنون، والخروج عن الطاعة. وكيف عمل العديد من المفكرون والمثقفون على تزيين وتجميل ما أفسدته سياسوية المفسدين. وآخرها حين أشار العديد من الاعلاميين والكتاب إلى شباب 20 فبراير باصابع الاتهام إما بالعمالة لإسبانيا والبوليساريو، أو بالانحلال الأخلاقي، وايقاظ الفتنة. فصناعة النخب المثقفة المدجنة ركن أساس في تثبيت أركان الأنظمة السياسية، وفي المقابل محاولة تقييد القوى الصاعدة والمقاومة إما بالقتل أو السجن أو النفي أو الإغراء، لكن أيضا صناعة معارضات صورية لتلميع الصورة لدى المنظمات الحقوقية والدبلوماسية الدولية.

 ثانيا - ساسة ودبلوماسيون (دساتير، انتخابات، برلمانات، مجالس للشعب ...) لإلهاء الشعوب بالصراع حول القضايا الجزئية، واستنفاذ قواها في الخلافات الجانبية. في ليبيا مثلا نشهد كيف أن من وضع كتابا اخضرا يقول فيه أنه بموجبه يضع السلطة في يد كل الشعب، وأن الشعب يسير نفسه بنفسه، كيف أنه يقصف هذا الشعب بالطائرات بعدما ثار ضده. كما أننا شهدنا كيف أجمع المتتبعون على تزوير الانتخابات في جل الدول التي تدعي الديموقراطية، وكيف تستفتى الشعوب على توريث الابناء في الجمهوريات، كما أنه في دول أخرى وضعت دساتير مثالية لكن الفاعلين الحقيقين يعملون في الظل فوق الدساتير (حكومات الظل أو الدواوين الرئاسية والملكية).

ثالثا- قوى دينية شيوخ وأئمة وزوايا وطقوس وعادات وتقاليد وأعراف .. لإكساب (الفئات المحظوظة) الشرعية الدينية والأخروية إلى درجة تقديسهم وتجريم انتقادهم أو التعليق على أفعالهم وأقوالهم، إما باعتبار أنسابهم أو قيمهم الأخلاقية .. أو لأنهم يرعون الشعائر الدينية ويؤسسون المساجد والأديرة والكنائس، ويحمون الكعبة والحرمين، أو يعطفون على الفقراء والضعفاء ببعض الهبات والصدقات. إذ يتماهى الحاكم هنا مع الاله الجبار والرحيم، الغني والعادل في الآن ذاته. أليس الإله هو من تتحد بين يده كل السلطات الدينية والتنفيذية والتشريعية والقضائية ... وفي الآن نفسه يتعالى على أي انتقاد؟ في دول الخليج مثلا نلحظ كيف اتحدت سلطة المال (آل سعود بالسعودية، آل بو سعيد بسلطنة عمان) مع سلط الدين (آل وهاب، الاباضية) لشرعنة استمرار وتقديس أسر وأشخاص بعينهم وتنزيههم مدى الحياة. في سوريا خرجت هيئة العلماء تستنكر الخروج على الحكم، وفي المغرب عزف بعض العلماء خارج السرب، وعابوا على النظام حتى الإصلاح المعلن عنه.

رابعا- أجهزة أمنية (الحرس والمخابرات) ليس لمواجهة الأعداء الخارجيين بل لحماية المنعم عليهم من أي غضب شعبي ممكن. اذ أن الأجهزة (الجيش ...) التي من وظائفها الدفاع عن الوطن ضد الأعداء غالبا، ما تكون مهمشة ومقصية اجتماعيا واقتصاديا. نتابع مثلا في الجزائر وموريطانيا وسوريا كيف تتحكم باطرونات العسكر والمخابرات في دواليب الدولة. وفي تونس ومصر خلال الثورة لمسنا كيف كان الجيس مغلوبا على أمره هو أيضا، مما جعله ينحاز إلى مطالب الشعب من البداية. وفي الجهة المقابلة جاءت البلطجة والفوضى من الحرس والأمن الرئاسي والمخابرات.

هذا إذن بالنسبة للمشروعية بناءا على بناء "المؤسسات" التي هي في الحقيقة ليست مؤسسات بمعناها السسيولوجي والسياسي باعتبارها بنيات دينامية للتدبير والتسيير الديمقراطي لشؤون الدولة، وانما بنيات بيروقراطية مغلقة لشرعنة استغلال ثروات المجتمعات من طرف الأقلية القليلة. وعلى الرغم من انسياقنا الى محاولة التعميم والنمذجة، إلا أننا نؤكد أيضا على وجود العديد من الفوارق بين كل نظام وآخر من حيث هوامش الحريات ومن حيث قوة تسلط الأجهزة القمعية.

أسباب ثورات الأمم على الأنظمة :
إن مجمل الدول المغاربية والمشرقية أنظمة أمنية استخباراتية عسكرية لم تصل إلى السلطة نتيجة شرعية تؤهلها للحكم، وإنما أنتزعت شرعيتها بعد سيطرتها على مقاليد الحكم. موظفة كل السبل الشرعية وغير الشرعية لاقناع المهيمن عليهم بشرعيتهم، والأكيد أن العديد من الشعوب قبلت بهذه الأنظمة لمدد زمنية طويلة، لعدة أسباب منها: اقتناعا وفرحا بتحقق انتصارات ما على الأعداء، الخوف، غياب الرؤية والبديل، الأمل في تحسن الأوضاع المعيشية، انسحابا للاهتمام بالمعيشي واليومي. فالعديد من الشعوب كانت على يقين من عدم شرعية أنظمة حكمها، ومن تجذر كل أنواع الفساد في أركانها، إلا أن قوة تحملها وفساحة حلمها وأملها في تحسن الأوضاع، هو الذي كان يؤجل ثورتها. لكن تزايد القمع والقهر وعجز القوى المهيمنة عن إثبات فعاليتها في إدارة الشؤون العامة للبلاد، وبصورة خاصة عجزها عن تحقيق أي إنجازات كبرى في التنمية والتطوير. سواء ما يتعلق منها بالمشاكل الاجتماعية والسياسية، أو باتساع الفوارق الاجتماعية واستفحال مظاهر الثراء الفاحش والفقر المدقع ... كلها عوامل عجلت بانهيار الشرعية بالتالي زوال كل ما تبقى من الدوافع الداخلية للرضا والقبول والموافقة.

إن زوال كل دوافع الرضا والقبول والبيعة للقوى المهيمنة أدى إلى ظهور حراك اجتماعي تلقائي رافض لكل البنيات والأنساق القائمة بما فيها الأحزاب والنقابات والنخب ... وبما فيها الأساليب التقليدية للثورات، فاستعملت الوسائل الحديثة للتواصل وأساليب فنية جديدة، والاعتصام السلمي، والعصيان المدني، إحراق الذات... وابتكرت أشكال احتجاجية غير مسبوقة في التاريخ... مما ينبئ بتغيير أيضا على مستوى المفاهيم ونظريات السلطة والمشاركة السياسية.

الشرعية في مجتمعات ما بعد الثورة التونسية :
في مجتمعات ما قبل الثورة التونسية بنيت المشروعية على أسس تاريخية مشكوك فيها، كما بنيت أيضا على أسس خرافية عاطفية ودينية، والذي يؤسس شرعيته على ما هو ديني وعاطفي لا يفترض فيه أن يكون منحلا خلقيا ولا يتصور أن يشاهد في سلوك يتناقض مع القيم التي يؤسس عليها مشروعيته، كأن يستمد شخص شرعيته من قيمة الصدق والأمانة والعدالة، أو من قيم تحرم التدخين والخمر والزنا والربا. ويكتشف فيما بعد أنه يسرق أموال الشعب، أو يرتشي من أعداء الدولة، أو يتاجر في التدخين والخمر أو يتناوله. لا يمكن أن يتقبل العقل بدعوى الحرية الشخصية عدم التوقف عند مشهد أن شخصية عامة ممن يؤسسون شرعيتهم على تصور ديني كاثوليكي، في حالة عري سافر في الفضاء العام، أو في حالة سكر أو في مشهد جنسي غير قانوني ... يحرمه هو ذاته. كما أنه لا يتصور أن يؤسس شخص شرعيته على قيم الحداثة والتنوير ويكتشف فيما بعد أنه يصادر حق الأخر في الاختلاف. أو أنه يستغل السلوك الأخلاقي لغاية ما كالحصول على منصب ما، فالمفترض منه أن يتمسك بالقيم الأخلاقية بمعناها الكانطي، أي دون أن تكون لسلوكاته الأخلاقية غائية سوى الأخلاق ذاتها.

بتعبير آخر، أن يشاهد شخص يستمد شرعيته من إرثه التراثي الديني المحافظ في مكان أو سلوك مناف لقواعد المرجعية التي يقول أنها تحكمه، لا يجب أن يمرر على أنه حياة خاصة. (كأن نكتشف أن الخليجيين المفترض فيهم أنهم من نسب نبوي شريف، ومحافظين إلى درجة فرض النقاب على النساء ومنعهن من سياقة السيارات، وتنفيد أحكام الحدود ضد السارق والزاني، أن نكتشف أنهم يمارسون كل أنواع الجنس والدعارة والسكر والعربدة والربا والقمار). كما أن مشاهدة تقدمي علماني يطالب عادة بحياد المؤسسة الدينية، وضرورة انصرافها عن التدخل في السياسي، أن يشاهد وهو يقوم بحملة انتخابية داخل أو أمام مسجد أو مؤسسة تعبدية، لا يجب أن يمرر على أنه سلوك مدني عادي.

حرية شخصية أن يتناول مواطن الخمر أو الدخان، حرية شخصية أن يختار المرء شريكه من الجنسين، حرية شخصية أن ينفق المرء ماله الذي كسبه بطريقة شرعية على اقتناء ما شاء من فيلات وسيارات. كلها تدخل في الحياة الخاصة والحميمية للأفراد، والتي لا يجادل أحد في ضرورة احترامها وتقديسها، لكن عندما يتعلق الأمر بشخصيات عامة، المفروض أن تكون الشعوب فوضتها مسؤولية تسيير شؤون الدولة والحفاظ عليها، على هذا المستوى لا حدود بين المجال الخاص والمجال العام، بالتالي ومن باب تفعيل مبدأ الرقابة والمحاسبة، يصبح من الواجب أخلاقيا الكشف عن الحقائق التي تتعلق بمشروعية فرد ما داخل حقل من الحقول الاجتماعية حتى وإن كانت تلك الحقائق تدخل ضمن خانة الحياة الحميمية.

في مجتمعات ما بعد الثورة التونسية يجب أن تؤسس الشرعية على القبول بالرقابة والمحاسبة. فكل من يتحمل مسؤولية ما، يجب أن يسلم مسبقا بضرورة محاسبته خلال وبعد تحمله للمسؤولية، فلا شرعية لمن لا يتقبل الرقابة والمحاسبة. إذ أن كل صاحب سلطة سياسية أو قضائية أو تشريعية أو تنفيدية أو دينية، لا يتمتع بأية شرعية متى لا ينصاع دوريا لمحاسبة المواطنين. إننا بهذا المعنى نتجاوز النظريات التقليدية التي ترى أن شرعية الحاكم لا تعني بالضرورة أنه صالح وعادل، بل فقط تعني أن المحكومين يعدونه ذو سلطات شرعية دستورية. فلا يكفي أن يجمع الناس على شرعية حكم شخص لكي يكون كذلك، ففي مجتمعات ما بعد الثورة التونسية أصبحنا نتحدث عن الشرعية من جانبها التقييمي (كما يحددها تالكوت بارسون Talcott Parsons) ومن جانبها التقويمي ( كما يحددها ليبست Lipset) أي الشرعية باعتبارها تقييم للفعل وفق القيم العامة والمشتركة، ضمن سياق المشاركة الفعلية في النظام الاجتماعي، لتتخذ نماذج التدبير والتسيير شكل بناء تركيبي قيمي تتجسد فيه القيم والمعتقدات والأفكار المشتركة لتحدد وتنظم وتؤثر في الوقت نفسه في ممارسة القوة والسلطة. إذ ذاك تكمن الشرعية في قدرة النظام على توليد وتدعيم الاعتقاد بأن المؤسسات هي الأكثر ملاءمة لذلك المجتمع، ويقدّر الأفراد والجماعات شرعية نظامهم السياسي أو عدم شرعيته، طبقاً للطرق التي تلتقي فيها قيم هذا النظام مع قيمهم. فالشرعية هنا ليست مسألة تقييمية فحسب، بل هي تتحقق بقدر ما يكون هناك تطابق في القيم. فالنظام السياسي الشرعي هو الذي يمتلك القدرة على الحكم من دون استعمال وسائل القمع والقسر والإكراه المادي والمعنوي. والوصول إلى ذلك يستوجب أمرين أساسيين هما:

1. الوحدة الفعلية بين أهداف السلطة وأهداف المجتمع بغالبيته الكبرى:

لا يتصور بعد الآن أن يستمر نظام حكم سياسي يقوم على أهداف ومصالح أقلية فئوية أو نخبوية ضيقة. فقد أثبتت الثورات الشعبية في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا ... أنه لم يعد ممكنا للمثقفين أو لأقلية أو نخبة أن تدعي الوصاية على الشعب باعتباره أميا أو غير مؤطر أو غير مشارك أو غير مبال أو جاهل... لم تعد الشعوب تقبل بحكم عشيرة أو أسرة أو أقلية ما، فالشعوب هي التي قررت ماذا وكيف ومتى تريد. ففي تونس ومصر مثلا بعد سقوط كل من بن علي ومبارك، تابعنا كيف كان التفاعل بين الشارع والساسة إلى أن ثم التوافق حول مبادئ وأهداف وممارسات معينة.

وفي المغرب مثلا حاول النظام من خلال خطاب 9 مارس إعادة بناء تعاقد اجتماعي جديد من خلال تسطير الثوابت المقدسة للدولة (الإسلام كدين للدولة الضامنة لحرية ممارسة الشعائر الدينية، وإمارة المؤمنين، والنظام الملكي، والوحدة الوطنية والترابية، والخيار الديمقراطي) وسبع مرتكزات للإصلاح الدستوري (قد نعتبرها هنا أهداف السلطة) والتي من المفترض أن تكون هي أيضا أهداف المجتمع أو على الأقل الغالبية الكبرى منه. لكن المتتبع للشأن المغربي يدرك أن هذه الأهداف ليست بالضرورة محط إجماع مطلق. ففي المغرب هناك من لا يؤمن بالخيار الديمقراطي، وفي أحسن الأحوال يعتبره مرحلة نحو تصوره لنظام الحكم (كجماعات الإسلام السياسي مثلا)، كما أن في المجتمع المغربي أيضا علمانيون وتقدميون (يهود ومسيحيون ومسلمون) ولادينيون ينادون بالدولة المدنية، وبشكل أو بآخر ينادون بإمارة المواطنين بدل إمارة المؤمنين. كما أن في المغرب أيضا من ينادون بالنظام الجمهوري وإن كانوا قلة وصوتهم خافت. كما أن من المغاربة أيضا من ينادون بالنظام الفيدرالي والحكم الذاتي لبعض المناطق كالريف والصحراء... مما يتطلب حوارا جريئا وديمقراطيا للوصول إلى توافقات وتوليفات تحقق رضا وقبول الأغلبية، وتحقق بالتالي ثورة هادئة فعلية.

2. الممارسة الفعلية المعبرة عن هذه الوحدة في الأهداف:

لا وجود لشرعية مبنية فقط على الوعود والشعارات أو الخطب الحماسية والأوراق، إذ أن الشرعية قاعدتها الممارسة. لذا أكد شباب الثورات على عدم الوثوق بالعديد من الشعارات والخطب والوعود التي أطلقتها الأنظمة قبيل سقوطها. لأن جوهر ممارساتهم قبل الثورة وخلالها تتناقض مع ما وعدوا به من إصلاحات. رأينا كيف غير الشعب التونسي أكثر من حكومة في ظرف أسبوع لمجرد أنه لاحظ تناقضات بين ممارسات تلك الحكومات وما وعدت به. وكيف أن الشعب المصري يصر على إسقاط كل رموز النظام السابق والقطع مع ممارساته وليس فقط إسقاط الحاكم، وفي المجتمع المغربي أيضا نلاحظ كيف يتوجس العديد من المتتبعين – وحركة 20 فبراير بالخصوص – من فحوى وعود الإصلاح والثورة الهادئة التي جاء بها خطاب العاهل المغربي في خطاب 9 مارس، خاصة بعد تجدد قمع الاحتجاجات بعد الإعلان عن القيام بإصلاحات دستورية، مؤكدين على أن أي إصلاح دستوري مرتقب يجب أن يصاحبه تغيير عميق في الممارسات. بدءا من معاقبة ومحاسبة البطانة والحاشية الفاسدة التي جمعت بين السلطة والثروة اعتمادا على القرب من مصادر القرار، وتفكيك المخزنقراطية – أجهزة القمع البوليسي والمخابرات السرية وطقوس العبودية السلطانية – لضمان حق الكرامة والحرية للمواطنين، وتحويل الأجهزة الأمنية من خدمة الطبقة الحاكمة إلى خدمة الوطن والمواطنين، والتوزيع العادل للثروات، إذ أن معالجة الأزمات الاجتماعية كالبطالة وضعف القدرة الشرائية والفقر ومشاكل العمال... لا يجب أن يتم بإثقال الدولة بالمزيد من الديون، بل باعتماد العدالة الاجتماعية.

إننا نستطيع أن نقول بأن الحضارة الإنسانية بمجملها في لحظة تاريخية مركزية ومفصلية، خاصة بعد ما سمي ربيع الثورات، فلا شك أن العديد من المفاهيم ستتم مراجعتها وإعادة التفكير فيها، والعديد من التوازنات في العلاقات الدولية ستصاغ من جديد. بحيث تأخذ بعين الاعتبار أهمية القيم الأخلاقية ( الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية) في سياسة شؤون المواطنين وتدبير الصراعات الاجتماعية والسياسية والثقافية. انطلاقا من مبدأ أن القيم ثروات لا يسمح المساس بها.

 

k.isskela@gmail.com