لا تكتفي الطغم الحاكمة بالقمع المباشرة فقط، بل تعمد إلى أساليب غير مباشرة مقلدة الإمبريالية، التي تطور أساليبها لمقاومة الثورات. فتستخدم تقنيات التخويف من الأصولية، والبلطجية، والقناصة، والموالاة، وسردية المؤامرة، واختراع "العدو" لمواجهة ما هي عاجزة عن هزيمته.

استراتيجية مكافحة الثورات العربية

سلامة كيلة

استراتيجية مكافحة الثورات هي مبحث أثير لدى أجهزة المخابرات الأميركية حظي بالبحث والمعالجة منذ وضع الخطط لـ "مكافحة الشيوعية" ومكافحة الثورات المسلحة أو حتى مكافحة الثورات الشعبية. وإذا كانت كل أجهزة المخابرات الإمبريالية معنية بوضع استراتيجيات مواجهة فقد كانت الولايات المتحدة متفوقة في هذا المجال. لقد اعتمدت على أجهزة المخابرات لمقاومة الشيوعية من خلال الاعتقال والتعذيب، لكنها اعتمدت أساليب أخرى توضع تحت عنوان "العمل في جبهة العدو". لهذا وجدناها تفتعل أحزاب "يسارية متطرفة" لتشويش سياسات الأحزاب الماركسية، وأحياناً كانت تفتعل أحزاب "يسارية مهادنة"، فالتشويش يجب أن يتحقق من كل الجهات لكي تتشوه الفكرة الشيوعية ولا تعود "جذابة" للفقراء الذين هم قاعدتها الأساس، مثلما شنت حرباً على الشيوعية وحوّلتها إلى العدو الأول. وطورت استراتيجية أخرى في البلدان التي كان اليسار يخوض النضال المسلح ضد النظم العميلة للولايات المتحدة، وخصوصاً في بلدان أميركا اللاتينية، تقوم هذه الاستراتيجية على اختراع "فرق الموت" التي هي مجموعات مسلحة ممولة من قبل أجهزة المخابرات تمارس القتل ضد السكان، وخصوصاً العمال والفلاحين قاعدة اليسار الثوري هناك، من أجل تصوير الصراع كحرب أهلية بين مجموعات محلية.

وإذا كانت قد عملت بعد نهاية الحرب الباردة وميلها لخلق الفوضى في الأطراف على "خصخصة الحرب" من خلال تشكيل "شركات أمنية" (وهي ملك المخابرات ذاتها) لكي تعمل في مناطق "النزاع" دون الخضوع لقانون، ودون أن تظهر كقوة احتلال، فقد عملت على تطوير فكرة "فرق الموت" بحيث تظهر كقوى معادية لها لكنها تخوض الصراع المحلي الذي يخدم استراتيجيتها. في هذا الإطار عملت على تحويل القوى الأصولية التي أسستها و"تحالفت " معها ضد الشيوعية في أفغانستان إلى "عدو" يبرِّر سياساتها التي أصبحت ضرورية مطلع القرن الجديد من أجل السيطرة على العالم عبر الحروب والاحتلال. وهي السياسة التي أصبح اسمها "الحرب على الإرهاب". فقد أصبح "الجهاد الإسلامي" هو العدو الذي يقاتل أميركا ويشكّل خطراً عليها. وكان حادث 11 سبتمبر سنة 2001 هو الأساس الذي أنجح الفكرة التي أرادتها، من حيث تأكيد عداء الأصولية الإسلامية (وهنا تنظيم القاعدة) لـ"الغرب المسيحي". لكن لعبت الأصولية دوراً مهماً في تبرير احتلال أفغانستان، هذا الهدف الاستراتيجي الضروري، كون تنظيم القاعدة يقيم في هذا البلد، لكنه تحوّل إلى تنظيم "وهمي" يستخدم في سياق تسعير الصراعات الطائفية التي تمهد للسيطرة الأميركية.

لقد أصبح تنظيم القاعدة هو "العدو/ الكنز"، فهو في "عداء" للولايات المتحدة كما يبدو في الإعلام وفي بعض الأحداث العسكرية، وهو يغلّب التناقض الذي يحكم "العقل الأصولي" المؤسَّس في الماضي السحيق على التناقض الراهن مع الاحتلال، ويصعّد من الصراع الطائفي الذي يفكك المجتمعات تهيئة لقبول السيطرة الإمبريالية، أو عجزاً عن مواجهتها. هذا المنطق العالمي الذي مارسته الإمبريالية الأميركية تحوّل إلى استراتيجية عملية لمواجهة الثورات الشعبية في الأطراف (وفي المراكز). طبعاً لا نملك نصاً لهذه الاستراتيجية رغم تسرّب بعضها خلال الثورات التي حدثت في الوطن العربي، لكن يمكن تلمسها من خلال الممارسة بعد ثورات ست جرت خلال الأشهر الماضية. حيث ليس البوليس وحده هو قوة المواجهة رغم أن هذه النظم قد أصبحت نظماً بوليسية، بمعنى أن قوة أجهزة الأمن قد أصبحت هي الأساس الذي تقوم عليه، وحيث تهمش الجيش، أو توارى. والبوليس هو قوة الصدام الأولى التي تقوم بدور القمع العاري بمختلف صنوف الأسلحة، وليس بالهراوات والقنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي فقط. ولقد شكلت هذه النظم فرق لمكافحة "الإرهاب" مدربة بأحدث تدريب "أميركي" في الغالب، وامتلكت فرق القناصة كذلك المدربة كذلك بأحدث تدريب للقتل المباشر (في الرأس أو القلب). ولقد شهدنا هذه الممارسات في مصر وليبيا واليمن ثم سورية، وكان يتوضّح من خلال القتل الذي مورس إلى أي مدى وصل تدريب هؤلاء، من حيث الدقة العالية في الإصابة. لكن إضافة إلى كل هذه الأساليب "الرسمية" (أي من خلال أجهزة الدولة) سوف نجد أساليب أخرى.

أولاً، الحديث عن الأصولية، والتخويف من وجودها ودورها. والانطلاق من أن السلطة هي في صراع معها، أو أنها في صراع مع السلطة. هذا المنطق منقول تماماً عن الاستراتيجية الأميركية التي صيغت نهاية القرن والعشرين وأصبحت مبدأ في السياسة الأميركية بعد الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001. بمعنى أن الحرب العالمية ضد الإرهاب تصبح حرباً محلية ضد الإرهاب. لهذا تركز الخطاب السلطوي على التخويف من الأصولية، من بن علي في تونس إلى مبارك في مصر إلى القذافي في ليبيا وعلي عبد الله صالح في اليمن، ثم الآن في سورية.

ولا شك في أن هناك مجموعات أصولية "جهادية" تبلورت خلال العقود الماضية وتوسعت بعد الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001، وبعضها حاول الذهاب إلى العراق لقتال المحتلين لكنه وُظّف في تصعيد الحرب الطائفية من قبل "المركز" (الأميركي السعودي). ولقد تبيّن بعد الثورة المصرية أن هذه المجموعات على ارتباط بجهاز أمن الدولة، وكل أجهزة المخابرات كانت تفعل ذلك، وبالتالي توظفها في السياق الذي تريد. إنها قوى عمياء تُوظّف في الصراعات المحلية لمصلحة قوى تريدها لخدمة مصالحها. وكانت النظم هي الأقدر على ذلك، حيث عملت على توظيفها في صراعات طائفية.

بمعنى أن النظم تضخّم من دور القوى الأصولية، وتُظهرها كقوى مهدِّدة للأمن العام، من أجل:

1) تخويف قطاعات متعددة في المجتمع وشل نشاطها المعارض. وهنا تخويف الأقليات الدينية والعلمانيين.

2) استخدامها في عمليات تؤكد صحة الخطاب الذي تطرحه النظم من أجل تشويش الصراع.

لقد لوّح بن علي بخطر الأصولية، وأشار إلى أنها تريد السلطة. وكذلك فعل حسني مبارك الذي خوّف من وصول الإسلاميين إلى السلطة. وأيضاً اتهم القذافي تنظيم القاعدة بأنه هو الذي يسيطر على المدن الليبية، وأنه يسعى لتأسيس إمارات إسلامية في ليبيا. وكذلك قال علي عبد الله صالح الذي اتهم القاعدة والحوثيين، وقال بأن القاعدة تعمل على إقامة إمارات إسلامية. وهو ما اتبعه النظام في سورية الذي خوّف من مجموعات سفلية تعمل على إقامة إمارات إسلامية مبرراً استخدامه للقوة.

وثانياً، استخدام "البلطجية" الذين باتوا جزءاً من تكوين نظم مافياوية، أو مرتزقة أصبحوا هم "الكتائب الأمنية"، أو "الشبيحة" الذين هم رجالات مافيات تنشط منذ سنوات. وهؤلاء هم أدوات الحزب الحاكم أو المافيات الحاكمة، ولا يخضعون للقانون. ولقد جرى استخدام هؤلاء في تونس ومصر والأردن وسورية واليمن.لا

وثالثاً، استخدام فئات اجتماعية تشكل قاعدة النظام ضد المتظاهرين. وهذه الفئات هي في ارتباط مصلحي مع السلطة، وتعمل على تحويل الصراع وكأنه صراع بين فئات مجتمعية، وأن ما يجري ليس ثورات ضد النظم. وهو ما جرى استخدامه في مصر واليمن خصوصاً. وفي الأردن وسورية أيضاً.

ورابعاً، استخدام القناصة، في البداية كـ "طرف ثالث" مبهم، ومن ثم كطرف سلطوي واضح. في مصر بدا كطرف مبهم يطلق النار على المتظاهرين للتخويف وتفتيت التظاهرات، ولقد تبيّن أن القناصة هم فرقة تابعة لجهاز أمن الدولة. وفي ليبيا بدأ القناصة كطرف مبهم ثم أصبح واضحاً أنه جزء من أدوات السلطة لمواجهة المتظاهرين. وفي اليمن لازال الأمر "مبهماً" رغم وضوح أن السلطة هي التي تقوم بذلك. وفي سورية استخدم القناصة أولاً كطرف يخص مجموعات إرهابية، وربما أصولية، لكن حينما توضّح الطابع العسكري للمواجهة ظهر أن هؤلاء هم جزء من آليات النظام في مواجهة المتظاهرين.

وخامساً، يركز الخطاب الإعلامي على تصوير ما يجري بأنه "مؤامرة"، إمبريالية طبعاً "تقاد من تل أبيب" كما قال علي عبد الله صالح. فالرؤساء مضحون، ولقد خدموا شعبهم، وضحوا من أجله، والشعب يحبهم، بالتالي ليس من متمرد سوى أن متآمرين هم الذي يقومون بذلك، سواء من خلال "قلة مندسة"، أو إرهابيين وافدين من الخارج، أو الفلسطينيين. والغريب أن هذه "المؤامرة" تطال كل النظم، العميلة لأميركا والتي تعتبر أنها "ممانعة"، أو حتى مقاومة مثل ليبيا.

بمعنى أن النظم لا تكتفي بالقمع عبر أجهزتها مباشرة، فهذه طريقة قديمة رغم أنها لازالت مستمرة، لكنها باتت تستخدم الأساليب غير المباشرة مقلدة (أو متدربة عند) زعيمة الإمبريالية، التي كانت تعمل دائماً على تطوير أساليب مقاومة الثورات بمختلف أشكالها. وكما لاحظنا فإنها باتت منذ عقود "تخترع" القوى المخربة، وتؤلف "العدو" لكي تسهل مواجهة قوى حقيقية هي عاجزة عن هزيمتها. وكان في أساس ذلك حرف الصراع من صراع طبقي ووطني إلى صراع "حضاري"، وديني، و"إرهابي". والنظم تقلّد ذلك، أو تتدرب عليه من أجل مواجهة شعوبها. السلفية والأصولية موجودتان، ولا شك في أنهما مدعومتان من قبل السعودية مالياً وأيديولوجياً (من خلال الوهابية). وكان نشر هذه الأيديولوجية سياسة سعودية منذ عقود من أجل مواجهة كل الفكر الحديث والطموح القومي والاشتراكية. ولقد جرى التجييش ضد الاتحاد السوفيتي منذ نهاية سبعينات القرن العشرين، فتأسست المجموعات "الجهادية" التي باتت تستخدم ضد كل ما هو تحرري وتقدمي وثوري. وإذا كانت أميركا قد استفادت منها في "الحرب ضد الإرهاب" فقد أخضعتها النظم لمصالحها وسياساتها كما ظهر في مصر.

لكن يبقى الأساس هنا هو هالة التخويف المطلوبة من الخطاب الذي يهوّل هو بالأساس من هذه القوى، وربما يستخدمها أو يمارس باسمها، فالهدف هو اختراع صيغة للصراع محدَّدة مسبقاً ومسيطر عليها، وتحرف الصراع الحقيقي عن أسسه. وكذلك تعطي المبررات للعنف الشديد.

 

salamehkaileh@hotmail.com