احترت أي الروايات أصدق..بعد أن كبرت قررت.. أن أتقصى:
تفتحت عيناي، وأنا أعيش فى منزل، منصور المكي..كان ضابطاً فى الجيش، تقاعد من الخدمة، وهو يحمل رتبة عالية.
قالوا لى: أنه في بداية حياته العسكرية، أرسلوه كالمعتاد، للخدمة في الإقليم الجنوبى، لمحاربة التمرد، بعد خمس سنوات قضاها هناك، عاد سالماً، ولكنه عاد وفي معيته طفل، يقولون عنه.. أنه كان لا يزال، رضيعاً.
قالوا لي: إنه وقتها، لم يكن، منصور المكي قد تزوج بعد، لذلك عهد بذلك الطفل،إلى أسرته.
لا ندرى.. قالوا لى: هل أوصاهم به خيراً.. أم هم، أوصوا أنفسهم به خيراً.. فقد عاش، بينهم لفترة.. وكأنه منهم.
حين تزوج،منصور المكي، لم يجد حرجاً، أن يأخذه، معه، إلى بيت الزوجية.
لا ندرى.. قالوا: هل أوصى زوجته به خيراً، أم هي التي أوصت نفسها به،خيراً.. فقد تقبلته في بدايتها، تقبلاً حسناً.
هم.. قالوا لي: لقد تربيت معها.. ظناً منك.. أنها أمك.
* * *
حتى جاء طفلها - مجدي - وكنت قد كبرت قليلاً، وبحاسة الطفل التي لا تخطىْ، خاصة فيما يخص شئون طفولته، تبين لى الفرق، بين لمسات الأمومة، وغيرها.. من تلك العابرة والمفتعلة. ويبدو أننى، بدأت أراقبها.. وأنا ممتلئ،آسى وغيرة، أكاد أبكى: أراه في حضنها، وتحت رعايتها.. يومها بكامله، تضاحكه، تلاعبه، تناجيه،
أرى الهلع ينتابها،حين يبكى.. وحين يصرخ،يزداد هلعها،حتى منصور المكي،أسمعه يعنفها،إذا ما تغافلت عنه لحظة، أين أنا من كل هذا.. حتماً لم أذقه.. ولم أجده.
وعرفت.. لم أكن، منها.. ولست لها، فانا آخر. عرفت أكثر، حين أفردت لي غرفة منعزلة. عرفت.. أكثر وأكثر،
حين بدأت، أكون فقط..ساعدها. تأكدت بعدها يقيناً، أنني لست طفلهم، إنما أنا فقط، يدهم العاملة.
* * *
وبدأت أتقصى.. ولكنى احترت، أي الروايات.. أصدق.
لا ندرى.. قالوا: ربما يكون، منصور المكي، هو والدك.. بل أكد لى آخرون.. إنه حتماً والدك.. دقق النظر قليلاً، لترى ذلك الشبه بينكما.
نعم.. قالوا: لقد أخذت أغلب، سحنة أمك، ولكن فيك البعض منه.. خاصة واختلاف السحنات، ليس كبيرا بيننا. و جميعنا: أمنا في الأصل واحدة وإن تنوع فينا الأب.
لا ندرى.. قال آخرون: ربما.. اختطفك منصور المكى، من أمك، في إحدى الغارات على القرى،بدعوى تسلل المتمردين اليها. وأخذك معه.
قال.. آخرون: ربما، عثر عليك.. ضالاً، مهملاً..في أحد الطرقات.. فأتى بك معه، عطفاً، وشفقة.
وقال آخرون:.. وآخرون.. وآخرون.
* * *
واحترت، أى الروايات، أصدق.. لذلك.. قررت أن أتقصى.
جئت، يوماً، إلى منصور المكي.. وقلت له:
_ أريد، أن أذهب، إلى الجنوب.
قال لى:
_ لماذا..؟؟
قلت له:
_أريد،أن أبحث عن أهلى.
قال لى:
_ونحن.. !! ألسنا أهلك؟؟
قلت له:
_ أنتم أهلي.. ولستم أهلي.
* * *
وهكذا، ذهبت: أذكر، أننى جبت القرى، والسهول، والوديان. دخلت الأكواخ، كوخاً وراء كوخ، شققت الغابات والأحراش، أنهكني بلل المطر، أخافني الرعد،.. وكادت تفترسني، الحيوانات المتوحشة. إلا أن ما لا أنساه..وأنا في بداية جولتي.. أن اعتقلني الجنود، وأنا هائم على وجهى، بدعوى أنني، أتجول.. بحثاً عن آخرين، لأجندهم في صفوف التمرد.. عذبوني، زماناً، طويلاً.. حين يئسوا منى.. أو ربما، اقتنعوا بروايتي.. لا أدري، أطلقوا سراحى.
حتى، وأنا في نهاية جولتي تلك.. الطويلة، أذكر.. أيضاً، أن اعتقلني المتمردون، ظناً منهم، أنني أتجسس عليهم لصالح عدوهم.. ولم يتوانوا، عن، تعذيبي، زماناً، طويلاً.. حين يئسوا مني.. أو ربما، اقتنعوا بروايتى.. لا أدرى، أطلقوا سراحى.
* * *
حين، عدت إلى قرية انطلاقي.. وجدتها في انتظاري، تلك المرأة، المسنة.. والوحيدة.. والحزينة دائماً.. والتي اسمها - أشول – التقيت بها، في بداية جولة التقصي.. بحثاً، عن أهلي.. بحثاً، عن أمي. حين كنت أسأل، كل من التقي به إن كان يذكر شيئاً، عن ذلك الطفل، الذى اصطحبه أحدهم، حين أغار الجيش، على قريتهم، جميعهم فشل، في تذكر أية تفاصيل، عن حادثة، مشابهة. فقط هي.. تلك المرأة المسنة، والتي اسمها- أشول – حكت لي، عن الجيش،حين دخل قريتهم، بدعوى تسلل المتمردين، إليها.. بعد معركة، دارت بينهما.. قالت تلك المرأة، إنها.. لا تعرف إن كان زوجها، مع المتمردين.. أم لا. ما هي متأكدة منه، أن زوجها، في ذلك اليوم، كان يتبادل معهم إطلاق النار إلى أن قتل.. وقتل معه، طفلها الوحيد.. قتل وهو، بين يديها.
لست أدرى.. حسب روايتى، التي، حكيتها لهم.. ولها: فأنا لست ذلك الابن، الذي قتل بين يديها.. وبالطبع حسب روايتها هي.. فأنا إذن، وبالقطع.. لست ابنها، ولكن، ما بدر منها، كان بخلاف المتوقع.. فأنا، حتى الآن.. وهي تجلس بجواري، وأنا أجلس بجوارها في هذا المقعد، في هذه الحافلة، التي ننتظر تحركها، وبعد مرور كل هذه السنوات، التي مرت بنا، معاً: لست أدري.. هل هي عمدت أن تكذب عيناها، في ذلك الزمن البعيد، و تقنع نفسها.. أن ذلك الطفل: طفلها.. و الذي مات بين يديها.. لم يمت، تلك اللحظة، إنما هو حي يرزق، ظلت تنتظره، بكل أشواقها،عائد من جولته تلك.. لأنها ما أن رأتني، حتى أخذتني، في حضنها، واحتوتني بين ذراعيها، بكل قوتها: تبكي تارة.. وتهمس تارة.. ولدى مجوك.. مجوك ولدى.. مجوك دينق لوال ولدى. وأقول الحق.. ملأتنى الدهشة، وزودتني برعشة فرح غامر، ودافق.. أقول لكم: لقد امتلأت إحساساً، منذ تلك اللحظة.. بإنها فعلاً أمي..إنها أمي فعلاً.. وليست امرأة أخرى، تشبه أمي. ومن ذلك اليوم، أصبحت هي أهلي.. وأصبحت أنا أهلها.. كما أصبح اسمي.. مجوك دينق لوال.
* * *
أشهد، أن أمي –آشول- لم تتذمر يوماً، حين احتوتنا، إحدى العشوائيات، في أطراف، مدينة أم درمان..حيث عشنا في ذلك الحوش الكبير، المكتظ بالعديد من الأسر.. لم تتذمر، حتى حينما كانت، تداهمنا تلك الحملات، المتكررة والتي لا نعرف لها سببا.. حيث يتم شحننا، رجالاً.. ونساءً.. وحتى أطفالاً.. نمكث أياما، في معسكرات اعتقالهم..لا ندرى مصيرنا.. حتى يأتي اليوم، الذي يطلقون فيه سراح بعضنا.. ويحتجزون آخرين.. ويحكمون بالجلد على المتبقين،حتى أمي – آشول – كانوا، كثيراً ما يحكمون عليها بالجلد، حين أفيدهم، أنها، أمى.. وبالقانون، يردون.. حين يصدر منى أي اعتراض، على الخطأ القانونى، الذي يرتكبونه، في حقها المختلف.
وهكذا، عاشت معي، أصعب الأيام وأقساها.. إلي أن كان، ذلك اليوم، الذي التقيت فيه، صديقي، منتصر الزاكي
آه.. لقد ابتسمت لنا الدنيا، أنا وأمي - آشول – منذ ذلك الحين.
* * *
منتصر الزاكي، صديقي منذ كان، يسكن جوارنا، أيام كنت أعيش في منزل – منصور المكي – كنا دائماً معاً، ونحن أطفال.. قال لي، يومها.. أنه يحتاجني: فهو امتلك، ورشة نجارة صغيرة،ويرغب أن أعمل معه.. وبعدها، كان استقرارنا.. أنا وأمي- آشول – فقد أصبح لي عمل منتظم.. أصبح لي راتب شهري.. كما أصبح لي، صديق دائم..حتى أنه كان، يزورني في الحوش الكبير إلي أن تعرض، لواحدة من تلك المداهمات.. يومها حكموا عليه بالجلد.. وإن ألمته تلك الحادثة كثيراً.. إلا أنها، لم تغير شيئاً في علاقتنا، بل توطدت أكثر، وذلك.. حين دعاني هو، لزيارته أنا وأمي – آشول – في منزله، بل أكثر.. لقد أحبوا، أمي – آشول -.. أمه.. وأخته فطومة، كما تحلو، لأمه أن تناديها،، و كما يحلو، لي أنا، أن أناديها.. حينما أخلو، لنفسي.. نعم نفسي التي أزجرها كثيراً.. لأنهيها، عن التشبث بالمستحيل.
* * *
ولكني، وأنا الآن هنا.. وفي هذه الحافلة، وهم لا يعرفون عن نيتنا الرحيل: اعترف في داخلي، وبالصوت العالي..إنها – فطومة – هي التي كنت أحب، الآن فقط، يمكنني أن أحرر عاطفتي.. وأسأل، من هنا، نفسي.. ما إذا كان صديقي – منتصر الزاكي – كان من الممكن أن يرحب بى، إذا ما فاتحته، اعترف الآن لنفسي.. أنا الذي كنت متهيباً.. هل هذا التهيب والانكسار، ولدا معى، أم زرعه في داخلا الآخرون.. فحتماً، صديقي – منتصر الزاكي – كان سيرحب بي.. وحني – فطومة – كانت أيضاً لن تمانع، كيف؟؟.. قرأت ذلك، في عينيها.. أذكر، حين كانت تلتقي نظراتنا.. كنت أحس حينها إنها تركز نظراتها.. وكأنها تبحث عن شيء ما، بداخلي، ولكني أنا الذي كنت أهرب، بنظراتي بعيداً عنها، وكأني لا أريد، لها أن تقرأ فيهما شيئاً يكشفني، و الآن فقط أسأل نفسي، هل كان من الممكن، أن أتجرأ، وأطلب من – منصور المكي – أن يأتي معي ليخطب لى – فطومة – من يد أخيها – منتصر الزاكي – هل أنا حالم.. أم أنا أحلم. منصور المكي، لماذا تذكرته، منصور المكي.. قاطعته منذ زمان طويل، منذ ذلك اليوم، الذي عرفت فيه،أن ابنه – مجدى – قد قتل في الجنوب.. لماذا الجنوب؟؟، حتى الآن، لست أدرى..حين دخلت منزله الجديد، في ذلك الحي الراقي.. أذكر، أنني حتى لم أفرغ، من تعزيتي له، حتى فاجأني.. سائلاً:
لماذا.. غيرت، اسمك إلي.. مجوك دينق لوال، وقبل أن أجيبه: ولكني لم أتغير، أردف قائلاً: وكذلك يقولون، أنك تأخذ تلك المرأة العجوز، التي تدعي، أنها أمك.. وهى ليست كذلك، وتذهب بها، إلي الكنيسة، وكنت أود أن أجيبه:
كنت آخذ أمي آشول إلي الكنيسة، كما كنت، أنت تأخذني معك، إلى المسجد، ولا أزال آخذ نفسي إليه، لم يسمع ردى،حيث كان صمتي، متواصلاً.. وإن كان خيالي ذهب بعيداً، إلي ذلك الشخص، الذي أشهر سلاحه، في وجهي، يوم اعتقلني المتمردين. حين انتابهم الشك، أنني جئت أتجسس عليهم، وسألني في غضب: هل جعلوك مثلهم؟؟.. أنا أعرف هؤلاء الناس.. متى أدخلوك معهم، قطعوك من أسفل، وإذا خرجت منهم قطعوك، من أعلي، وصاح بأعلى
صوته: أكشف كي أرى.. ولكن قبل أن أشرع، في تنفيذ أوامره، وأنا أرتجف.. جاءنا صوت، من خلفنا، منتهراً:
ما هذا الذي تفعله؟؟.. أنسيت أن بعضنا، منهم.. أمن أجل هذا، نحن نقاتل؟؟.. لا، نحن نتقاتل، ليكون.. كل ذى شأن، في شأنه.. أذكر، أنني خرجت من منزل – منصور المكي – ولم أعد إليه مرة أخرى.
* * *
فجأة شعرت بأن أطراف قدمي، قد تصلبت، وأن ظهري قد تيبس.. ربما نبهني، إلي ذلك تلك الهزة، التي أحدثتها ماكينة الحافلة، وقد بدأت تدور، استعداداً للتحرك.. فبدأت في تنشيط عضلات جسدي، المحشور في هذا المقعد الضيق.. ولست أدري، أهي هزة الحافلة، أم حركة جسدى، هي التي أيقظت، أمي – آشول – من غفوتها.. أخذت تنظر ناحيتي، في حنان، ثم ربتت علي ركبتي.. وكأنها تشجعني، علي التماسك، فهي كانت، تعرف ترددي بين البقاء أو الرحيل.. أعرف أنها هي التي اختارت الرحيل، وأنا الذي استجبت لها، حين قالت.. إ نهم يحرضون الآخرين ضدنا، أخاف عليك منهم. أحسست، بأن جسدي، ارتاح قليلاً، و أن قدمي لم تعد توجعني، ونظرت إلي الخارج من نافذة الحافلة، حيث الميدان الواسع، المكتظ بالحافلات، والناس تجري هنا وهناك.. والأطفال، يتصايحون.. وممتلكات الركاب، قديمه وجديدة، بعضه يتراكم علي الطرقات، و أكثره فوق أسطح الحافلات، ندمت.. لماذا لم أخبر صدبقى – منتصر الزاكي – بنيتي الرحيل، لا.. أدري، ربما لأنه كان غاضباً، أذكر قبل يومين فقط، كنا نستعيد ذكرى تلك المداهمة، التي حكموا عليه فيها بالجلد، وحينها لم يكن، غائباً أو مغيباً.. سألني يومها، سؤالاً مباغتاً:
هل أنت مع.. البقاء، أو مع الرحيل، ولما أجبته بالصمت.. سرح قليلاً، ثم فجأة، جذبني من كتفي، وقربني إليه،ثم هامساً، حكى لي، عن ذلك، الذي كان يقعى تحت الآخر،عنوة واقتدارا.. وتلك المدلاة من ذراعه، قال حين سألوه عنها أنه يدخرها، لليوم الأسود. ضحكنا سوياً.. ولكن فجأة تجهم، وجهه واختفت ابتسامته، وبدأ يتمتم وكأنه
يحادث نفسه.. هل يا ترى، نحن أيضاً.. مثله، ندخرها.. لليوم اللأسود.
* * *
أعادتني حركة الحافلة، إلي مقعدي.. بدلاً عن خيالي، الذى ظل سارحاً وسابحاً، في سنوات عمري، وكأنني أخاف أن أودعها.. وأودع بذلك معها.. فطومة، وصديقي منتصر الزاكي.. ولكن هاهي الحافلة، قد استعدت للتحرك.. يبدو.
لذلك، بدأت في تحسين جلستي، فالرحلة طويلة.. طويلة جداً. مددت أقدامي، لأقصى مدى بلغته، تحت المقعد الذي أمامي.. اتكأت علي ظهري، مسترخياً.. إلا أنني انتبهت، إلي تلك الأصوات التي أتتني من المقعد الخلفي.. شد انتباهي ذلك الحوار الذي دار بينهم.
أرخيت أذني، جاءني صوت الأول:هؤلاء المهووسون و المهووسات، دفعونا دفعاً، لهذا الرحيل، الذي لا ندري إن كنا نرغبه أم لا نرغبه. جاءني صوت الثاني: أخاف، أن يأتيهم غداً، المهووسون والمهووسات، من جانبنا يطالبونهم بنصفهم الآخر.. بالموروث والمتوارث، أو بال....
لم أسمع جيداً، أرخيت أذني، ركزت انتباهي أكثر.. سمعت الصوت الأول:
حينها سيكون رد الآخرين جاهزاً.. واعدوا لهم ما استطعتم من... الـ...
لم أعد اسمع.. ساد ضجيج.. و.. تحركت الحافلة.
أكتوبر 2010