لا أعلم من هذا المزعج الذى لا تفارق يده كلاكس سيارته بهذا الشكل الدائم المستفز، لا بد أنه قد فقد سمعه و أحاسيسه معا... من فضلك أخفض صوت كلاكسك القميء.
أنغام موسيقى الجاز تتهاوى على مسامعى برقة استثنائية، دقات الطبول تدق على قلبى حتى نسقا دقاتهما معا و تزامنا فى رقصتهما، ثم تدخلت الترومبت لتهدئ من الوضع بصوتها الصادر من داخل أعماق روح نقية، و كأنها روح واحد من الهنود الحمر لم تمسسه المدنية بتلوثها بعد، صوت سحرى يمس الروح و يلطف من مشاعرها القاسية التى تولدها الحياة. نفخات الترومبت تهزنى، تدغدغ قلبى، لا يمنع استمتاعى بها سوى صوت الكلاكس المزعج...
أخفض صوت الكلاكس من فضلك...
فتحت مكيف الهواء، فالجو خانق و الشمس حارقة و قاسية جدا اليوم، تمارس ساديتها المعهودة و لكن بشكل أكثر من المعتاد، لا مبالية بعرقنا المتساقط ولا بأفأفاتنا المتتالية. برد التكييف مختلف عن البرد الربانى، يجعل جسدك كقطعة ثلج متخشبة، يبعدك عن دفئك وإنسانيتك - إن وجدت -. أوراق العمل بجوارى، على الكرسى، هواء التكييف المصطنع يصطدم بها دون أن يحركها. أوراق متناثرة، لولا علمى بمدى أهميتها لما ظننت أبدا أن بعض الوريقات الملقاة على كرسى مهمل، قد يذهب بها الهواء إلى أى مكان، تحمل بين طياتها حيوات أناس ومصائرهم. سأصطحبهم معى ليلا إلى سريرى الحديدى العتيق، تحت أضواء خافتة وفى ظل موسيقى هادئة، قد لا تكون من الجاز. أجواء رومانسية، تليق بالعبث بمصائر الناس، فأزيد صفرا هنا و أقلل آخر هناك فأغير من حيوات الناس... عندما أخترع العرب الصفر، تلك النقطة، التى تعنى الفراغ بكل كينونته، لم يكونوا يعلمون كم هى مهمة، وكم تغير تلك النقاط من حيوات و تبدل أحوالا.
أرجوك، أخفض صوت الكلاكس....
زجاجة المياه الساقعة ملقاة على الأرض بجوارى، و نقاط الماء المثلجة تترقرق على سطحها و قطعة حلوى تذوب بين جنبات فمى متسللة داخل جسدى. لدى موعد مع حبيبتى، فات منذ لحظات. الطريق المزدحم عطلنى عنها. علاقتنا تدخل عامها الثانى الآن، الملل يدب بخطواته السخيفة بيننا، و الحياة تبعدنا و تغيرنا، و لكننا مازلنا نعلم أنه لابد لنا أن نتمسك ببعضنا البعض، لسبب ما لا نعلمه. و نعلم أيضا أننا سنتعب كثيرا إن أنهينا تلك العلاقة المملة... قد يكون الملل سمة لا تفارق حيواتنا إلا بموت مفاجئ يكسر حدة الملل.
ألا زلت تضغط على الكلاكس، أيها الممل.
لقد اتفقنا أن نذهب سويا إلى السينما، فيلم رومانسى. لقد شاهدته منذ أيام، و لكن إكمالا للوحة الملل فقد صممت – هى- أن أذهب معها مرة أخرى. الفيلم لطيف، ليس متميزا، مليئا بالقبلات. قد أحتضنها أو أقبلها، قد أضمها إلى صدرى، قد تمتزج أرواحنا للحظات صافية، قد تبكى و قد أبكى لبكائها. قد لا يموت البطل فى نهاية الفيلم هذه المرة. قد أصارحها عدة مرات بحبى سرا و علانية... و لكن إن استمر الزحام بهذا الشكل فقد لا نشاهد الفيلم.
أرجوك، أخفض صوت الكلاكس من فضلك.
مرت فاتنة من أمام سيارتى، لم أكن مستعدا بتلك اللحظة المزدحمة أن تستقبل عينى هذا الجمال و السحر الخلاب، العيون الخاطفة و الجسد الملئ بالاستدارات و الانكسارات و الانعطافات، و جميعها محكمة جدا. قلبها النابض يحرك صدرها ذهابا و إيابا، و شعرها يتطاير بينما تتدخل يدها ممتزجة مع شعرها الأسود لتعيد تنسيقه. مشيها البطئ المتمهل وحركتها الجذابة تلفت الأعين و تمتع الناظرين. و أثناء دلعها اللذيذ، قابلت عينى عينيها، التقيا فتكلما و امتد الحوار بينهما و ابتسما و ضحكا حتى كادا يقعان فى العشق.
هل صوت الكلاكس مازال عاليا؟؟؟
لا أعلم السبب وراء ازدحام الطريق اليوم بالذات. لا أعلم، ولكنه قد يكون حادث راحت ضحيته بعض الأرواح البريئة أو غير البريئة و لكنها لا تعنينى فى شيء، و قد يكون بسبب مرور بعض السادة المسئولين الذين لا يعنوننى فى شيء، قد تكون مظاهرة ضد التوريث، قد يكون اعتصام الأطباء مطالبين بالكادر، قد يكون اعتصام عمال أى مصنع، وهم جميعا لا يعنوننى فى شيء... أنا فقط أريد أن ألحق بموعد محبوبتى، أريد أن أذهب إلى السينما وأن أقابلها، أريد أن أشاهد الفيلم ثانية وأن احتضنها، أريد أن أعود لبيتى و أعبث بمصائر الناس.
من فضلكم أفسحوا لى الطريق، أنا لا أطيق البقاء هنا طويلا...أيها الباعث بصوت الكلاكس، ارفع صوت كلاكسك قليلا من فضلك، أو كثيرا، و سأضغط أنا الآخر على كلاكس سيارتى... فلقد اعتدت صوته ولم يعد يزعجنى... من فضلكم، أفسحوا لى الطريق، أريد أن ألحق بمحبوبتى.