مرة أخرى ـ وعدد الزيارات لعدد فبراير يتجاوز واحد وأربعين ألف زيارة لموقع (الكلمة) ـ لابد من أن أبدأ بشكر القراء على ثقتهم الغالية تلك، ودعمهم للكلمة. لأن هذه الاستجابة لمشروع (الكلمة) الفردي المستقل هي حادينا للعمل على توسيع أفقه وتجويد اختياراته، وتطوير أدواته المهنية والتقنية على السواء. وكلما التف القراء والمثقفون حول هذا المشروع ودعموه ـ بالمساندة والقراءة والرأي معا ـ كلما كفل له هذا النجاح والتوسع والاستمرار. لذلك أرجو من قراء (الكلمة) الاستمرار في قراءتها، ونشر أخبارها بين أصدقائهم. فليس للكلمة أي دعاية إلا حماس القراء وحديثهم عنها لبعضهم البعض. وقد أثلج صدري أن يتصل بنا عدد من المثقفين والكتاب ويتطوعون للانضمام لفريق العمل بها من ناحية، أو لتأدية بعض الخدمات الإعلامية التي تساعد على نشر أخبارها، ولفت أنظار القراء إليها من ناحية أخرى. لهؤلاء جميعا أعرب عن امتناني وشكري.
وقد استمرت رسائل القراء والمثقفين في الوفود معبرة عن ارتياحها للمشروع وحماسها له. وأعترف بداءة بأن بعض هذه الرسائل كانت تحمل لي دهشة المفاجأة ـ بعدما تصورت أنه لم يعد ثمة ما يثير الدهشة بعد كل ما عاشه أبناء جيلي من صدمات. وكانت أولى دواعي الدهشة هي أن الحقيقة تجاوزت كثيرا حدود الخيال والتصورات. فعندما كنت أتحدث مثلا في الافتتاحيتين السابقتين عن أن نشر (الكلمة) على شبكة المعلومات الدولية (ألإنترنيت) يمكنها من تجاوز الحدود الجغرافية والسياسية التي تعوق انتشار المجلة المطبوعة، كان تصوري قاصرا في أغلب الأحيان على خبرتي وخبرة جيلي الذي عانى من حدود القطيعة العربية، ومحاكمة المطبوعات على الحدود الجغرافية العربية التي طالما منعت كثيرا من مجلات وطن عربي ما من اجتياز حدود وطن آخر شقيق وصادرتها. كنت أعبر عن المرارة التي كثيرا ما عانيت وعانى غيري في الوطن العربي منها بعد نشر مقال أو قصة في مجلة لا تدخل وطن بعض كتابها. فيسمع الكاتب أن عمله نشر، ولكنه لايستطيع أن يراه مطبوعا، أو يعرضه على أصدقائه وخلصائه لقراءته.
كان هذا ما عنيته حينما تحدثت عن تجاوز الحدود، لأن قدراتنا التصورية تكون عادة مشروطة بخبراتنا التي صاغت هذه التصورات، وربما رسمت حدودها معا. ولم يدر في خلدي أن شبكة المعلومات الدولية قد أسقطت كل الحدود الجغرافية على إطلاقها، وبطريقة غير مسبوقة في التاريخ. لا بين أقطار الوطن العربي التي وفدت على (الكلمة) رسائل من كل بلدانه تقريبا، ولكن الحدود الممتدة وراءه، والتي أصبحت تشكل أرض المنافي العربية الشاسعة. صحيح أنني لم أندهش حينما جاءتني رسائل من المنافي الأوروبية المختلفة ـ ألم أمض ردحا طويلا من عمري في أحدها ـ ولكن كثيرا ما أدهشني أن تأتي رسالة من أوكرانيا أو من كندا أو من استراليا وغيرها من الأماكن التي لم تخطر لي من قبل على بال باعتبارها أماكن يمكن أن تقرأ فيها مجلة أدبية عربية. فقصيدتا زياد آل الشيخ ـ الشاعر السعودي ـ المنشورتان في هذا العدد جاءتا من كنبرا باستراليا، وكان ضمن قصائد العدد الماضي قصيدتان لإيمان مرسال جاءتا من كندا.
إذن فقد وصلت (الكلمة) بفضل هذا الوسيط الجديد ـ النشر الالكتروني ـ إلى أربعة أرجاء المعمورة كما يقول التعبير البلاغي القديم حقا لا مجازا. من كندا في أقصى شمال الكرة الأرضية إلى أستراليا في جنوب نصفها الجنوبي. هذه الحدود الجغرافية الشاسعة تجاوزت بلاشك حدود تصوراتي القديمة عما تطمح إليه (الكلمة) على الصعيد الجغرافي. كان همي الأول أن تصل (الكلمة) إلى كل ارجاء الوطن العربي، فها هي تجوب المعمورة من أقصاها الكندي إلى أقصاها الاسترالي. وتصل إلى كل عربي مهما كان منفاه الاختياري أو القسري. لقد تجاوز الواقع حدود التصورات بحق، فهناك فرق كبير بين أن تكتب عن عبور الحدود الجغرافية كنوع من الأمل أو التمني، وبين أن تجيء الرسائل التي تؤكد ذلك الافتراض النظري، وتتجاوز كل حدود تصوراته. ومع تقلص الرقعة الجغرافية تقلص الزمن كذلك، فالرسائل التي كانت تحتاج إلى أيام، وأسابيع في الماضي، وكانت تتلكأ في الطريق شهورا، إذا ما هاجم قطاع الطرق خيول البريد القوية ـ كما كنا نقرأ في الروايات القديمة ـ أصبحت تنتقل ما بين أربعة أركان المعمورة أيضا في غمضة عين. ولا يؤثر شيء على تصوراتنا لأنفسنا ولوضعنا في العالم قدر تغير المكان والزمان، أو بالأخرى تغير تصوراتنا عنهما، وهو التغير الذي يتم بمعدلات متسارعة تدفعنا، بل وتملي علينا، أن نلاحقها.
وبالرغم من أن هذا هو العدد الرابع ـ ولاتزال المجلة تعاني مما يدعوه أحد أصدقائي المسئولين عن جانبها التقني والتنفيذي بمشاكل التسنين ـ التي يعاني منها الأطفال في شهورهم الأولى، وخاصة في جانب التنفيذ الإليكتروني للمجلة، فإنها بدأت تستجيب للمتغيرات التي تطرحها عليها آليات تلقي جمهورها لها. وأولى هذه المتغيرات هي نشر رواية كاملة في كل عدد، كنت قد بدأت هذه الفكرة على استحياء، بنشر رواية قصيرة في العدد الأول، ولكن ما أن نشرنا رواية صنع الله إبراهيم الجديدة (التلصّص) حتى تلقينا سيلا من رسائل الاستحسان، ومبادرات من روائيين يرغبون في نشر رواياتهم كاملة لدينا. ومع أننا كنا قد برمجنا فصولا من روايات للنشر، إلا أن الآراء رجحت نشر الرواية الكاملة. لأن حدود الحيز التي كانت تفرضها المجلة الورقية ـ وتجعل من المستحيل نشر رواية كاملة دون أن يستغرق هذا الأمر معظم صفحات العدد ـ قد أزالها النشر الإليكتروني، وأزال معها مبرر نشر المجتزءات من فصول الروايات. وأكد نشر رواية على بدر الجديدة (الركض وراء الذئاب) التي تنشر لأول مرة في (الكلمة) ولم تنشر من قبل ورقيا، واستجابة القراء الواسعة لها هذا الاتجاه. بل لقد جاءنا اقتراحات من نوع بل لقد جاءنا اقتراحات من نوع إذا كنتم تنشرون رواية كاملة، فهل لديكم مانع من نشر (ديوان) شعر كامل. وقد استجبنا لهذا الاقتراح أيضا بنشر (ديوان) محمد سعد شحاتة في هذا العدد.
أما الموضوع الآخر فهو الملف الذي حظي هو الآخر باهتمام القراء، ودفعنا هذا الاهتمام إلى الاهتمام بدورنا به. ونقدم في هذا العدد ملفا ما كان من الممكن إخراجه بهذه الصورة التي جاء عليها لولا حماس الكاتبة الفسطينية الموهوبة حزامة حبايب التي اقترحته على المجلة، وتطوعت لتنفيذه بتمكن واستيعاب واقتدار. وإني إذ أوجه لها شكري على ما بذلته من جهد، أعرب عن امتناني للدور الذي قامت به مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت، لأنهم وفروا لنا المادة التي يتكون منها القسم الثاني من الملف حصرياً، ونخص بالشكر الكاتب والصحافي صقر أبو فخر. قلت أنه لولا حماس حزامة حبايب وتطوعها لما خرج هذا الملف بتلك الصورة المستوعبة التي جاء عليها. والواقه أنه لولا تنامي أصدقاء المجلة، وتطوع عدد من المثقفين لدعمها بالعمل الطوعي من أجلها، لما خرجت (الكلمة) بالصورة التي تجدونها عليها اليوم.
وأود أن أؤكد هنا أن (الكلمة) لا تبحث عن الدعم المادي، وإنما عن الدعم الموقفي والفكري من الكتاب والمثقفين الذين يشاركونها منطلقاتها، ومن القراء الذين يلتفون حولها، ويتابعون قراءتها كل يوم. ومما يثلج صدورنا تزايد عدد الراغبين في مراسلة (الكلمة) ومن يبعثون لها بإنتاجهم. وكلما تصاعدت الرغبة في الكتابة للكلمة والنشر بها، كلما أصبحت بحق تعبيرا عن حاضر الثقافية العربية، وتجسيدا لضميرها الحيّ. فـ(الكلمة) وهي تطمح أن تقدم خير ما في جعبة الثقافة العربية من إنجاز تحتاج إلى التفاف المثقفين من كتاب ومبدعين حولها، وإلى أن يبعثوا لها، لا بإنتاجهم وحده، وإنما باقتراحاتهم لملفات ومحاور يشعرون بأنهم يريدون أن يروها على صفحات مجلتهم (الكلمة) مجلة الثقافة العربية الحرة والمستقلة.