كيف يتحول النقد في السنوات الأخيرة، وبتأثير من اقتحام الميديا لكل جزء من حياتنا اليومية؟ هذا السؤال الذي يطرحه الناقد خالصا إلى ضرورة أن يراجع النقد تاريخه المعاصر، لا في مغارب الكرة الأرضية فقط بل في مشارقها أيضا.

تحولات النقد في زمن الصورة

فخري صالح

يتجه النقد في السنوات الأخيرة، وبتأثير من اقتحام الميديا لكل جزء من حياتنا اليومية، وتفوق حضور الصورة على الكلام، إلى تحقيق نوع من الكتابة النقدية التي تصل بين النص والعالم، بين الكتابة والمشكلات الراهنة التي تعترض تقدم البشر وتعيق تطور الإنسانية. وهو، بهذا المعنى، يحاول جاهدا التخلص، ما أمكنه ذلك، من الكتابة المعقدة ذات اللغة الاصطلاحية التقنية التي شاعت خلال العقود الأربعة الماضية بعد الثورة البنيوية في ستينات القرن الماضي، والتي جعلت اللغة ومفهوم النظام مركز الاشتغال النقدي وغاية النظرية الأدبية. ولم تحد نظريات ما بعد البنيوية، بتياراتها النصية وما بعد الماركسية والنسوية، عن التوجه العام لتلك الثورة البنيوية التي أحلت النص في قلب النظرية وهمشت (دون قصد ربما، وبسبب غلبة الروح التقنية على اشتغالها النقدي على الأرجح) منتج النص والسياق السياسي ـ الاجتماعي ـ الثقافي الذي يتخلق فيه النص ويكون ثمرة غير مباشرة له.

انبثقت هذه الرؤية النظرية من سياق ثقافي غربي نظر إلى العلوم، الطبيعية والإنسانية، بوصفها حقائق يمكن اختبارها، وقياسها بطريقة موضوعية. وسعى البنيويون إلى تفحص العناصر المكونة للموضوع الذي يدرسونه، سواء أكان ذلك الموضوع نصا أدبيا أو عملا موسيقيا أو علاقة قرابة في علم الأنثروبولوجيا، للتوصل إلى الوحدة النظامية التي تقوم في أساس ذلك الموضوع، ويمكن استنادا إليها تفسير العلاقات جميعها التي تظهر ضمن ذلك النظام. ومن هنا ظن البنيويون أنهم قادرون على التوصل إلى الموضوعية العلمية، التي تدعيها العلوم الطبيعية. ولم تدرك البنيوية أنها مجرد ممارسة من ممارسات القراءة وليست علما. وهو الأمر الذي شددت عليه تيارات التفكيك المنبثقة من وعي لنفسها بوصفها نظرية للقراءة لا علما يمكن التحقق من فرضياته وتطبيق نتائج دراسته على موضوع معين في حقل آخر يشبهه. لكن مشكلة التفكيكية أيضا تتمثل في انشغالها بالنص، مثلها مثل تيارات البنيوية المختلفة، وعدم اهتمامها بالسياقات السياسية والاقتصادية، وغياب أي التزام سياسي في ممارستها.

ويبدو أن الانتشار الواسع للنظرية الأدبية، وقدرتها على الامتداد إلى حقول ومناطق جديدة كانت في السابق حكرا على بعض المعارف والعلوم الإنسانية، وكذلك معالجتها للممارسات والتعبيرات الإنسانية المختلفة بوصفها نصوصا خالصة، قد أدى إلى ترهل النظرية وابتعادها شيئا فشيئا عن إدراك الشروط السياسية والاجتماعية التي تجعل من "النصوص التي تقرؤها النظرية ممكنة الوجود. لقد تحولت النظرية"، بحسب روبرت شولز (Textual Power سلطة النص، 1986)، "إلى ممارسة سحرية كتيمة" hermetic وأصبحت النصوص تنعكس على ذاتها ولا يمكن إسنادها إلى مرجع، ولذلك فهي بعيدة عن متناول النقد وعن حقل بحثه.
يعتنق شولز، في تعليقه على هذا النوع من النظرية الأدبية المنسحبة من العالم، موقف إدوارد سعيد الذي يطلق عليه الأخير اسم "النقد الدنيوي"، أو العلماني، مقابل ما يسميه في الصفحات الأخيرة من كتابه The World, the Text and the Critic "النص والعالم والناقد" (1984) "النقد الديني". ويرى سعيد أن " النصية Textuality فرع من فروع النظرية الأدبية غامض وملغز ومطهّر إلى حد بعيد وغالبا ما تعزل النظرية الأدبية، كما تمارس في الدراسات الأكاديمية الأمريكية الآن، النصية عن الظروف والأحداث والإحساسات الفيزيائية التي جعلتها ممكنة الوجود وصيرتها واضحة ومدركة بوصفها نتيجة للعمل والجهد الإنسانيين." ويختلف سعيد مع هذه الممارسة انطلاقا من كونه يرى أن النصوص الأدبية "في أكثر أشكالها مادية منشبكة بالظرف والزمان والمكان والمجتمع. إن النصوص موجودة في العالم [الدنيا]، ومن ثمّ فإنها دنيوية." (ص: 35) وعلى هذا الأساس فإن هدف النقد الدنيوي هو "الوصول إلى إحساس مرهف بما تستلزمه قراءة أي نص، وإنتاجه وبثه، من قيم سياسية واجتماعية وإنسانية." (ص: 26)

انطلاقا من هذا الفهم لوظيفة النقد يميز إدوارد سعيد بين النظرية والوعي النقدي "فالوعي النقدي هو إدراك الاختلاف بين المواقف، وإدراك الحقيقة التي مفادها أن لا نظام، أو نظرية، يمكن أن يستنفدا الموقف الذي منه انبثقت أو إليه انتقلت هذه النظرية (...) إن الوعي النقدي هو إدراك مقاومة النظرية، وإدراك ردود الفعل التي تثيرها النظرية في التجارب والتأويلات الملموسة التي هي في صراع معها. وفي الحقيقة أنني أريد أن أذهب بعيدا وأقول إن عمل الناقد هو توفير مقاومة للنظرية، وفتح هذه النظرية على آفاق الواقع التاريخي، على المجتمع والحاجات والاهتمامات الإنسانية. إن عمله هو أن يحدد الشواهد الملموسة المستخلصة من الواقع اليومي الذي يكمن خارج أو بعد منطقة التأويل." (ص: 242)

تمثل الفقرة السابقة التي اقتبسناها من إدوارد سعيد واحدا من أكثر المواقف المضادة للنظرية، بتياراتها البنيوية والنصية بعامة، وضوحا وقوة. إن سعيد، رغم كونه واحدا ممن أسهموا في تطوير آفاق النظرية الأدبية المعاصرة في الغرب بخاصة والعالم بعامة، يفضل النقد على النظرية، ويسعى من خلال نقده لها إلى إعادة الاعتبار للنقد والتاريخ والوعي المستند إلى الممارسة الإنسانية التي وقفت منها النظرية، بعامة وعلى الأقل في أكثر أشكالها انحيازا للنصية، موقف عداء. من هنا يبدو الجدل حول مشكلات العالم الراهنة، من قضايا عودة الاستعمار والعولمة الاقتصادية، التي تسعى لكي تكون عولمة ثقافية تمحو الثقافات الأخرى وتعمل على تسييد ثقافة بعينها هي الثقافة الأمريكية، وكذلك قضايا البيئة وارتفاع حرارة الأرض، هو ما يحدث ثورة جديدة في النقد الأدبي في الوقت الراهن. وإذا كان النقد البنيوي، بنسله المتعدد من المعارف النصية، قد غفل سابقا عن العالم من حوله، وما يدور فيه من حروب طاحنة بين الأمم والثقافات، بما في ذلك حرب الصور الرمزية، ومحاولة فرض ثقافة بعينها صورتها ورؤيتها للعالم على الثقافات الأخرى، فإن النقد الراهن، الذي بدأ بنيويا، وانتهى ثقافيا كما يدعي عدد من نقاد العالم، بمن فيهم عدد من النقاد العرب، يتنبه إلى ضرورة وصل النقد بالعالم والعودة مجددا إلى التأمل في العلاقة المعقدة التي تقوم بين النصوص والعيش اليومي للبشر.

يعيد الناقد البريطاني تيري إيجلتون، وهو واحد من النقاد البارزين لظاهرة ما بعد الحداثة، تفحص الأسباب المشكوك فيها التي تدعم أهمية النظرية، ويدعو من ثمّ إلى نقد ثقافي يتواصل مع حاجات المجتمعات الإنسانية، ويرنو إلى المشكلات الفعلية التي تأكل قلب القرية الكونية الحالية. في كتابه After Theory "ما بعد النظرية" (دار بنغوين، لندن، 2004) يشدد إيجلتون على القول بأننا نعيش زمن أفول النظرية، وانبثاق نوع من القراءة الثقافية تأخذ في الحسبان ما يدور حولنا من تفاعل الثقافي والسياسي والاقتصادي. إنه زمن يهيئ لاصطفافات جديدة تنسف ما سبقها من تحالفات تشكلت في غرب الستينات والسبعينات. ويتخذ إيجلتون من الخارطة السياسية التي تتشكل في الوقت الراهن منطلقا للمناداة بنقد ثقافي يتخلص من النظرية التي أصبحت مغلقة على نفسها تنظر في أعطافها فرحة بلغتها السرية المغلقة التي لا يفهمها إلا عدد محدود من الأشخاص.

لربما لهذه الغاية يكتب إيجلتون، صاحب "النقد والأيديولوجية"، ذلك الكتاب الصعب الذي يتكلم لغة ما بعد ماركسية قريبة من لغة الفيلسوف الفرنسي الراحل لوي ألتوسير، بلغة فيها الكثير من السخرية والروح المرحة والإشارات الشعبوية في كتابه "ما بعد النظرية"، وكذلك في كتب أخرى سبقت هذا الكتاب الذي يشكل انعطافة حادة في تجربة هذا الناقد الذي تعود أصوله إلى إيرلندا بأزماتها المتلاحقة وعلاقتها المعقدة بالمملكة البريطانية المتحدة. إن إيجلتون معني بتقريب النقد من جمهور عام معتاد على قراءة الصحف ومشاهدة محطات البث التلفزيونية، التي لا عد لها ولا حصر، والتي تسببت في تقليص عدد قراء المجلات والكتب الجادة؛ بل إنه مصمم، وهو أستاذ النظرية الأدبية والنقد الثقافي في جامعة مانشستر البريطانية، على الكتابة بلغة يفهمها القراء العاديون الذين يجهلون الرطانة النقدية، التي شاعت خلال نصف القرن الأخير وتسببت في عزلة النقد عن القراء وأدت إلى تكون جماعات صغيرة منعزلة عن السياق العام تتكلم لغة كتيمة سرية شديدة الصعوبة.

من هذا الباب نقول إن النقد بحاجة إلى مراجعة تاريخه المعاصر، لا في مغارب الكرة الأرضية فقط بل في مشارقها أيضا، لأن الشرق ينقل الآن عن الغرب ويعيد إنتاج وعيه النظري. وتقتضي هذه المراجعة فحص الأسئلة التي قامت عليها النظرية الأدبية منذ العقدين الأولين من القرن العشرين، بدءا من أسئلة الشكليين الروس وانتهاء بأقوال فلاسفة ومنظري ما بعد الحداثة الذين رفضوا ما سموه السرديات أو الحكايات الكبرى، وطالبوا بالاهتمام بالحكايات الفرعية الصغيرة، فأسقطوا في طريقهم مفاهيم الحقيقة والسلطة والعدل والمقاومة، لأن تفسير العالم غير ممكن، فكيف بالإمكان تغييره!

يبدو النقد، والقراءة الثقافية بعامة، على مفترق طرق إذا، خصوصا أن أسئلة علاقة النص بالعالم، والإمبريالية الثقافية، وعلاقة الكتابة بالإمبراطورية، تعود بقوة لتحتل نصوص الكتاب والنقاد والفاعلين الثقافيين. وقد كان الراحل إدوارد سعيد قد نبه منذ أكثر من ربع قرن إلى العلاقة الوطيدة التي تقوم بين النص والعالم، وطالب بما سماه الوعي النقدي الذي يوفر للناقد مظلة ينطلق منها لفحص كيفية إنتاج النصوص ودورها في مقارعة السلطة أيا كان شكل هذه السلطة. ومن الواضح أن نقادا آخرين، في هذا العالم، يلتقطون الرسالة ويدركون أن التيارات الجديدة في النقد، ومن ضمنها ألوان النقد الثقافي المختلفة ونقد ما بعد الاستعمار وتيارات النقد النسوي، تعيد طرح الأسئلة العتيقة المتصلة بالدور السياسي والعام للناقد، ومن قبله الكاتب، فالناقد، الذي هو قارئ ومؤول للنصوص، ومن ضمن ذلك نص الحياة نفسها، ليس راهبا في صومعة النقد، بل مؤول لعلاقة النص بالحياة والسياقات السياسية والاجتماعية التي تحيط به. ولعل الناقد العربي، الذي يرى العالم ينهار من حوله، في ظل الهجمة الإمبريالية الشرسة التي تشنها أمريكا وإسرائيل على الوطن العربي، مطالب الآن بالخروج من شرنقته النظرية ليعيد فحص علاقة النصوص التي تنتج بالشروط السياسية والاجتماعية، وتجربة الاستعمار العائد إلى أرضنا بقوة في بداية القرن الواحد والعشرين.