يقدم محرر (الكلمة) هنا قراءة مسرحية لأهم المشاهد التي أسفرت عنها الثورة المصرية الراقية، ولدلالات الصورة فيه. وكيف تحثنا على التفكير في آليات تحقيق أهداف الثورة في الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، وفي عملية تحقيق إسقاط النظام بكامله وبناء مشروع نهضوي جديد.

«النوم في القفص» .. ومستقبل الثورة

صبري حافظ

إذا كان 11 فبراير علامة فارقة في تاريخ الثورة المصرية الراقية التي حظيت باحترام العالم وتقديره، فإن 3 أغسطس هو العلامة الفارقة الثانية في تاريخ تلك الثورة التي لاتزال تخط طريقها لتكون واحدة من أهم ثورات العالم، وأكثرها تحضرا. فما يميز الثورة المصرية، ويعزز سحرها وتأثيرها الطاغي على بقية العالم، هو ما يميز مصر الحضارة نفسها، أي التحضر والتمسك بالموقف الأخلاقي الأعلى، إزاء أكثر النظم استبدادا وهمجية وزراية بالقانون، وأبشعها فسادا وخيانة للوطن في تاريخها الحديث. فلا يقل مشهد مبارك وراء القضبان أهمية عن مشهد إعلان نائبه عمر سليمان عن تخليه قسرا عن منصبه، وخلعه عنه يوم 11 فبراير. يفصل بين المشهدين أكثر من خمسة أشهر وعدد كبير من المليونيات التي أكدت وعي الثورة بأهدافها، وبمؤامرات أعدائها ضدها معا، وإصرارها تحقيق شعاراتها الثلاثة: الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية.

لأن هذا المشهد، يسجل أول ظهور علني لمبارك منذ خطابه العاطفي الركيك، عشية ما يعرف الآن بـ«معركة الجمل»، التي برهنت على بربرية نظامه وفساده معا، وعلى بدائيته التي تعتمد على الإبل وعلى راكبيها الذين لايقلون غباء وبدائية وتخلفا عن الإبل التي يمتطونها. وإذا كان مشهد خلع مبارك قد تميز بغيابه عنه، وإعلان نائبه، المعين قبل أسبوع، تنحيه عن منصبه بوجه جامد متجهم. (لاتنس قارئي العزيز كم النكت التي تفجرت عن الراجل الواقف وراء عمر سليمان أثناء هذا الإعلان) فإن مشهد «النوم في القفص» اتسم بحضوره، وهو حضور يعلن عن الغياب أكثر مما يعزز الوجود ويؤكده. إنه مشهد يليق بجدارة، بمن كانت آخر معاركة هي معركة الإبل الفاشلة. فإذا كان مصمموا معركة الإبل يدركون أهمية الصورة وتأثيرها، فإن الصورة التي ظهر عليها مبارك المخلوع مسجى على سرير المرض؟ الغياب وراء القضبان، بينما يحاول ابناه اللذان احتميا بسلطته، وعاثا تحت سطوتها في الأرض فسادا، حمايته من الكاميرا، أتت هي الأخرى بأثر عكسي تماما كذلك الذي أحدثه الخطاب العاطفي الركيك، والمشفوع في الصباح التالي بهجوم الإبل.

قراءة مسرحية للمشهد:
لذلك سأقدم هنا قراءة لدلالات هذه الصورة العميقة، وللجانب المسرحي فيها، كي أكشف عن بعض محتوياتها المضمرة، وعن بعض الرسائل التي وجهتها، وقد تحولت الآن إلى أيقونة من أيقونات الثورة المصرية النبيلة. فبالرغم من نفي رئيس المحكمة الجنائية التي بدأت بمحاكمة حسني مبارك وعصابته، المستشار أحمد رفعت، وتأكيده «نحن نجلس على كرسي القضاء وليس على منصة مسرح»، فإن ما جرى يستحق قراءة مسرحية، توظف أدوات قراءة العرض وفنون الفرجة، وألاعيب الصورة، في عصر أصبحت فيه الصورة أداة أساسية لا في نقل المعلومات فحسب، ولكن في تحديد معايير القوة، ورسم تراتبات السلطة أيضا. فمن يصنع الصورة، ويتحكم فيها، يستطيع أن يفرض رؤيته، وسلطته معا على متلقيها. وإذا كانت مفردات الصورة حاضرة، فإن صناعها غائبين عن المشهد، كغياب مبارك عن مشهد تنحيه أو بالأحرى خلعه.

ولم أكن أنا وحدى من أهتم بالجانب المسرحي من المشهد برغم نفي المستشار أحمد رفعت له، فقد وصفت صحيفة الجارديان البريطانية ما جرى في اليوم التالي وهي تؤكد على أهميته لا لمصر وحدها، وإنما للعالم من ورائها، بأنها لحظة درامية أو تطهرية معا dramatic or cathartic بالمعنى الأرسطي للمصطلح، وأنها أحد أهم اللحظات التي أسفر عنها هذا العام في العالم. فالتطهر بالمفهوم الأرسطي هو الأثر الناجم عن الخوف والشفقة التي يولدها في نفس الجمهور سقوط البطل في المأساة، وتأمل المشاهدين لتقلبات مصيره، ولطبيعة الخطأ التراجيدي الذي أسقطه من حالق. لأننا أمام لحظة انقلاب درامي حقيقية، تسفر عن وضع حسني مبارك حرفيا في «القفص» كرد على وضعه مصر كلها معنويا في قفص الهوان والتردي والتبعية للعدو الصهيوني البغيض. إنها لحظة انقلاب كامل أصبح فيها من كانوا يتصورون أنهم وضعوا الشعب المصري في قفص، وأن باستطاعتهم التحكم فيه بعد قهره، وتوريثه لأبنائهم، هم الذين يتحركون في القفص: محمد حسني السيد إبراهيم مبارك وولديه علاء، وجمال الذي توهم، بل تصرف لسنوات على أساس، أنه سيرث مصر عن أبيه، وسيواصل العبث بمقدراتها كما فعل أبوه من قبله.

والواقع أن الانقلاب الدرامي الذي تفضح فيه الصورة الخطاب هو من أهم مظاهر الصورة التي انتجها ربيع الثورات العربية. من صورة القذافي المجنون وهو يصرخ من فوق أطلال خرابته، رمزا للخرابة الليبية المعنوية الكبيرة التي دمرها طوال أربعين عاما، ويتوعد شعبه الذي يصفه بالجرذان بأنه سيطارده «زنقة زنقة»، وقد أصبح هو الآن الجرذ المطارد في مجارير المياه «زنقة زنقة». إلى صورة بشار الأسد الذي ورث الحكم عن أبيه، وورث عنه لقب بطل ما يسمى بـ«المقاومة والممانعة»، فامتنع نظامه عن إطلاق رصاصة واحدة ضد العدو في الجولان لأكثر من أربعين عاما، ثم فتح كل نيران الجيش السوري الثقيلة، وحرك دباباته ضد المدن السورية التي تقول لا للاستبداد، وتطالب بالحرية! بشار المغيب عما يدور حوله، وهو يصعد المنبر كل مرة متعاميا عن الدم الذي ولغت فيه كل أقدام من حضروا للتصفيق لخطاباته المكرورة التي تفضحها صور المظاهرات. إلى صورة على عبدالله صالح الذي صعقته الثورة، فاسود وجهه، واحترق جسده، وتكلست يداه، وكأنما ضربته صاعقة اللعنة الشعبية، وإن لم تجهز عليه بعد. كل هذه الصور التي ينقلب فيها السحر على الساحر، ويتعرى في ضوئها الخطاب الرسمي كعاهة، هي جزء من مفردات خطاب الحرية والكرامة الجديد الذي طرحته الثورة في الساحة العربية الواسعة، وكشفت عبره عن مدى بؤس الواقع العربي كله.

فما هي دلالات الصورة التي ظهر عليها مبارك المخلوع بنومه في القفص يوم 3 أغسطس المشهود؟ لقد ظهر مبارك بشعرة المصبوغ وذقنه الحليق وساعته الغالية، وحركاته التي لا تنم عن أنها حركات مريض، وإنما حركات متمارض يمثل دور المريض. فتمثيلية التمارض جربها قبله مستبدون طغاة وعملاء للولايات المتحدة الأمريكية مثله، من عينة جزار تشيلي بينوشيه، وأفلتوا بسببها من المحاكمة في بريطانيا قبل سنوات. ولكن تمثيل مبارك كان رديئا، إخلاصا لتاريخ طويل من رداءة الأقوال والأفعال. فقد دفع محاموه بأنه غير قادر على الوقوف أمام المحكمة، فما كان منه إلا التمدد على سريره أمامها، يلعب بأصبعه في وجهه تارة، وفي وسخ أنفه أخرى. وقد توهم أن ظهوره على هذه الشاكلة الأفقية، قيل أنه رفض دخول القفص على مقعد متحرك، قد يستدر العطف عليه. ويشغل الشعب المصري عنه بمسلسل ردئ يستحق تسمية «النوم في القفص». أما الولدان: علاء وجمال وقد ارتديا «أوفرول» السجن الأبيض، برغم سواد أعمالهما، وحمل كل منهما لمرارة المفارقة نسخة من «المصحف»، وكأنهما قد تابا وأنابا وعادا إلى طريق الحق بعد طول ضلال، أم أنه الكذب والنفاق حتى في حمل «المصحف»؟ فقد رفضا، كما قيل، المقاعد ووقفا حائطا يسعى جاهدا لحماية أبيهم وحجبه عن كاميرات التصوير. فلا تعرف إن كان الولدان يخفيان أبيهما كعار/ عورة؟ أم يخفيان عنه عبء الموقف وذل هوانه؟ وهما اللذان استظلا بفيء سلطته، واختفيا وراء جبروتها المطلق ينهبون مصر حتى دمروها. لكن هذا الوضع الذي انقلبت فيه الأمور (فبعد أن كان الابنان يختفيان وراء الأب، يتستران بسطوته، ها هما يبذلان جهدهما لإخفائه كعار، وهما من جلب له قسما كبيرا من العار الذي يرفل فيه الآن) يكشف عن انقلاب أكبر في علاقات القوة التي عاث الأب وابناه بها في مصر فسادا، ثم أصبحوا الآن جميعا في القفص، ملاحقين بما اقترفت أيديهم. يكاد بياض ملابسهم ينطق بسواد أفعالهم.

وما أن بدأ الكلام، ونادى القاضي على المتهم الأول، حتى جاء الصوت قويا منتبها مسيطرا على كل كلمة: «أفندم! أنا موجود» ليس فقط بوضوح النبرة المتغطرسة المألوفة، ولكن أيضا بقوة مفرداتها العسكرية القديمة «أفندم!» ثم جاءت الجملة التالية حاسمة لأي شك: «كل هذه الاتهامات أنا أنكرها كاملة» لتكشف لنا أننا أمام ممثل ردئ، وليس أمام مريض ضعضعه الوهن. وبدأ بعدها التناقض بين المظهر والمخبر في الإعلان عن نفسه، حتى أكملت بقية الفصول عمق التناقض. وحولت المسرحية إلى مهزلة.

فقد كانت القاعة تغص بالمحامين، في أروابهم المسرحية، وصراخهم المألوف. ولكن المؤسف والغريب أن فريق المحامين الذين يتولون الدفاع عن مبارك المخلوع وحفنة من أفراد عصابته، كان كبيرا ومن أشهر المحامين بمصر في أروابهم القشيبة، بينما كان فريق الادعاء عن الضحايا، وهم أكثر من ألف، من صغار المحامين وليس في طاقة أغلبهم اقتناء الأرواب الغالية. بل كان عددهم لمرارة المفارقة (إذ يمثلون أكثر من ألف مدعي، بما فيهم المدعي الحق العام، أي حق المجتمع المصري بملايينه الثمانين) أقل من عدد محاميي المتهم وعصابته، إذ بقي عدد كبير من محاميي الإدعاء خارج قاعة المحكمة، غير قادرين على دخولها لأسباب قيل أنها أمنية، وكأن دولة الأمن لم تسقط بعد، ولم يمثل إمبراطورها (حبيب العادلي) في القفص المجاور؟!. وسرعان ما حول تراكم التناقضات المأساة الرامية لإثارة الشفقة والتطهر إلى مزيج من الفارس، الذي يلجأ للهزل والمبالغات العبثية، والجروتيسك الذي يعتمد على التشويه المتعمد والسخرية وجماليات القبح الذي تكفل مبارك بتزويد الجمهور به وهو «يلعب في مناخيره». وأكمل المحامون مزيج الفارس والجروتيسك. فبعد أن طلب محامي المتهم الاستماع لأقوال أكثر من ألف شاهد، جلب أحد محاميي الضحايا معه «ختّامة» مطالبا برفع بصمات مبارك المخلوع ونجليه، وهناك من صرخ طالبا تحليل الحمض النووي له ولابنيه، للتأكد من أنه مبارك، وليس شبيهه الذي يزعم أنه حل محله بعد موت الأصل عام 2004.

أسئلة المشهد/ الصورة المهمة:
لكنه إذا كان هدف المأساة هو إثارة الشفقة والخوف وصولا للتطهر، فإن هدف الفارس والجروتيسك هو التسلية والضحك. فهل كان تحول المحاكمة إلى مهزلة مسرحية يستهدف تسلية الجمهور وامتصاص غضبه المتزايد لعدم تنفيذ أهداف الثورة؟ أم أنها الخطوة الأولى في مسيرة متكاملة لإسقاط النظام وتحقيق أهداف الثورة في الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية؟ هل ستفتح هذه المحاكمة بمبادرتها غير المسبوقة صفحة جديدة في علاقات القوى السياسية؛ يصبح فيها الشعب هو مصدر كل السلطات، ولا يعلو فيها رأس، حتى لو كان رأس الحاكم نفسه، على القانون؟ أم أنها ستكتفي بتسجيل مدى رقي الثورة المصرية وعدم لجوئها لأي إجراءات استثنائية، وإتاحتها الفرصة لأكبر المجرمين في حق الشعب المصري للدفاع عن نفسه؟ هل هي محاكمة رد الاعتبار لمصر التي مرغها المتهم في حضيض الهوان والتبعية؟ أم هي عملية تضحية برأس النظام حتى يتم الحفاظ على النظام دون تغيير؟ بعد أن اكتشف النظام أمام الضغط الشعبي والمليونيات المتكررة أنه لابد من محاكمة مبارك كي يستمر نظامه في الحكم. كل هذه الأسئلة وغيرها تطرحها الصورة، ولابد من التريث عندها!

ومن البداية أحب، وقبل أن أطرح شكوكي حول ما يدور، أن أبرز الجانب الإيجابي في الصورة. فمجرد ظهور مبارك في القفص، يحاكم أمام قاضيه الطبيعي كمصري، أرسل مجموعة من المؤشرات الإيجابية عن رقي الثورة المصرية وتحضرها. وهو بلاشك واحد من الإنجازات المهمة التي تحسب للثورة المصرية التي أذهل تحضرها العالم، ورد لمصر كرامتها، بعدما مرغتها سياسات مبارك الرديئة في الوحل لعقود. والواقع أني ألاحظ، من متابعتي لردود فعل هذه الثورة على المثقفين في بقاع مختلفة من العالم، وعلى النخبة الغربية خاصة، أن العالم يقدر الثورة المصرية أكثر من تقدير الذين يحكمون باسمها لها، سواء أكان المجلس العسكري أو الحكومة الانتقالية. وقد حان الوقت لكي يعي كل من يحكمون باسم هذه الثورة وينطلقون من شرعيتها، أن احترام شرعية هذه الثورة والعمل على تنفيذ أهدافها ليس مهما لمصر فحسب، لأنه استثمار مهم في مكانتها في العالم وفي رأسمالها الرمزي فيه، ولكن مهم أيضا لمن يحكمون في تلك المرحلة الانتقالية أمام التاريخ والمستقبل. ولو وعوا وانطلقوا من شرعية الثورة ومن أهدافها في كل توجهاتهم لما تأخرت محاكمة مبارك كل هذا التأخير من جهة، ولما أصبح ضروريا أن يعود الثوار بين الفينة والأخرى إلى ميدان التحرير في مليونيات تحث على تنفيذ مطالب الثورة وأهدافها من جهة أخرى.

ولنعد إلى الأسئلة التي طرحتها صورة «النائم في القفص» وقد أحاط به ولداه، والتي تناقلتها وكالات أنباء العالم وإعلامه. فالصورة المقلوبة هي النتيجة الطبيعية لثورة تطيح بالوضع القديم كله، تقلبه رأسا على عقب، وتكشف كل سوءاته. فظهور مبارك المخلوع وابنيه بملابس السجن البيضاء، وقد حمل كل منهما نسخة من المصحف، ليست إلا جزءا من تلك الصورة المقلوبة التي لم تنطل مسرحيتها على أحد. ولا تدل فيها الملابس البيضاء على نصاعة الطرف، ولا حمل المصحف على الاستقامة والتقوى، لأن الشعب كله يعرف سواد أفعال الولدين، واعوجاج مسيرتيهما من أجل مراكمة الثروة والجاه بلا رادع من دين أو ضمير. وهي صورة لا تقتصر الدلالات التي تبثها، بما في ذلك الفزع في بعض النفوس، على مصر وحدها. إذ يمكن أن يكون هناك بدلا من علاء وجمال، والجسد المسجى على السرير الأبيض، بشار وماهر الأسد أمام جسد واره الموت في «قرداحة» وما زال شبحه حاضرا، ولايزال ينتظر محاكمته على ما سفك من دماء سورية قبل رحيله، وما يسفك الولدان حتى اليوم من دم زكي بلا رادع من دين أو ضمير. ويمكن أن يكون مكانهما سيف الإسلام وخميس يستران جسد مجنون مصبوغ الشعر أيضا لمعمر القذافي، يختبئ كالجرذان في جحر جديد كل يوم، بعدما توعد شعبه بالويل والثبور ووصفه بالجرذان. ويمكن أن يكون لأبني علي عبدالله صالح، أو لحفنة من أبناء عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود أو غيره من الطغاة العرب الذين أرسلت الصورة بلاشك الرعب إلى قلوبهم، فازدادوا تخبطا وارتباكا.

صحيح أن انقلاب الصورة كتقلبات مصائر البطل في المآسي المسرحية تستدر الشفقة وتثير العطف، وتفضي عند أرسطو للتطهر. فقد تنفس الشعب المصري الصعداء بعد رؤية هذه الصورة. وانشغل بها، كما انشغل بها العالم كله، تعليقا وتحليلا، وزاد الشعب المصري بطبيعته المعهودة فوقهما بالتنكيت أيضا. ولكن لابد ألا يتحول التطهر إلى تنفيس يفثأ الزخم الثوري، ويصرف الثورة عن أهدافها الأساسية المعلنة. ولابد ألا يكون تقديم مبارك للمحاكمة، بأي حال من الأحوال، هو الثمن التافه الذي يدفعه نظام مبارك كي يواصل الاستمرار في الحكم، ولو برموز جديدة ووجوه مختلفة. فلم يكن هدف الثورة هو إسقاط رأس النظام فحسب، ولكن كانت إرادة الشعب هي إسقاط النظام كله، وبناء نظام مغاير يحقق للشعب المصري الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية.

والواقع أن الصورة التي تكشفت عنها المحاكمة قد بلورت سطوتها، وشغلت لا المعلقين العرب فحسب، بل المعلقين الغربيين كذلك. فهي صورة عامرة بالدلالات الواقعية منها والاستعارية. فمجرد ظهور رئيس عربي، طالما مارس الاستبداد والحكم المطلق، وفصّل الدستور على مقاس عائلته وعصابته، وتصرف في مصر وكأنها عزبة خاصة، وليست وطنا لشعب عريق له حقوقه فيها، واعتمد على آلة قمع أمنية جبارة لإرهاب الشعب وإخراس صوته؛ لابد وقد أرسلت أكثر من رسالة لأمثاله من الحكام المستبدين العرب، الذين لا يستمدون شرعيتهم من رضا شعبهم عنهم، والذين يعتمدون مثله على القمع الأمني. لذلك دافع أكثرهم عن المتهم، واستخدموا ذرائع هشة لطلب العفو عنه، وبذل بعضهم الرشاوي السخية لتحقيق ذلك، وسعى الكثيرون منهم لمنع هذا المشهد والإجهاز على الصورة قبل أن تتكون.

بين الرعب والعقد الاجتماعي السياسي الجديد:
وأولى الرسائل التي بعثت بها الصورة لهم ولغيرهم، هي أن عهد الاستبداد والحكم المطلق، واستمداد الشرعية من مزيج من القمع الأمني والتبعية للخارج قد انتهى إلى غير رجعة. لا في مصر وحدها، وإنما في المنطقة العربية كلها التي إذا ما اشتكى بلد منها تداعت له سائر البلدان بالسهر والحمى، وإذا ما نهض بلد فيها، تداعت له بقية البلدان باليقظة والثورة. إن وضع مبارك في القفص هو بداية محاكمة كاملة لحقبة عربية كانت الأسوأ في التاريخ العربي الحديث، تلك التي عرفت باسم «الحقبة السعودية»، أو حقبة حكم العائلة بالمفهوم الصقلي للعائلة/ المافيا، والتي أصبحت فيها مصر مجرد أداة لتنفيذ المخططات الأمريكية/ النفطية/ الصهيونية في المنطقة على حساب مصالحها التاريخية والاستراتيجية في العالم العربي من ناحية، وفي بقية دوائر مصالحها الإقليمية في أفريقيا وغيرها من البلدان من ناحية أخرى.

فيوم 3 أغسطس، من الناحية الرمزية، هو يوم رد الاعتبار لمصر والمصريين: فمن أرادها بسوء قصمه الله. وهو يوم تجسيد سلطة الشعب وسلطة القانون. هو يوم نهاية علاقة الإذعان، وبداية عهد المساءلة القانونية لكل من يتولى أي سلطة، حتى رأس السلطة نفسه! إن هذه المحاكمة هي أول تأسيس حقيقي لهيبة الدولة المصرية القائمة على سيادة القانون، والتي مرغها مبارك المخلوع في حضيض الفساد والتبعية والذل والهوان. وهو لهذا كله يوم تنفيذ الحكم المعنوي بالإعدام على مبارك وعصابته، ولا يبقى إلا جمع الأدلة القانونية، والفراغ من الإجراءات الضرورية لإعدامه فعليا. فأنا لا يهمني الإعدام الجسدي، قدر الإعدام الرمزي لكل ما مثله مبارك ونظامه من قيم فاسدة فجة وممارسات كريهة: قيم فساد نظام الحكم، والتبعية للمخطط الأمريكي النفطي الصهيوني في المنطقة، وتقزيم مصر والزراية بدورها ومكانتها. وهي رسالة لكل حاكم في مصر وفي غير مصر، بأن لا شيء يعلو على سلطة الشعب وسلطة القانون. فقد أصبحت هذه الصورة، شاء من شاء وأبى من أبى، بداية عهد جديد، وبداية عقد اجتماعي وسياسي جديد، ينهض على أن للشعب كل حقوقه في وطنه، وهو مصدر كل السلطات، وأن النظم التي لا تقوم على شرعية شعبية هي نظم بائدة، حتى وإن كانت لاتزال تمارس الحكم، أو تلفظ أنفاسها الأخيرة، أو تتشبث بالسلطة بالقهر والقتل والجنون.

وحتى لا تتحول المحاكمة إلى مسرحية هزلية يمتزج فيها الفارس بالجروتيسك، أو إلى مسلسل درامي طويل ينشغل به الشعب المصري عن ثورته الحقيقية، لابد أن تكون المحاكمة بداية لتغيير بنيوي في المجتمع المصري، وبداية لرسم مشروع جديد لنهضة مصر، وخريطة طريق واضحة لتنفيذ هذا المشروع. فإسقاط النظام الذي طالب به الشعب في ثورته يتطلب مشروعا وطنيا جديدا، وتغييرا جذريا وبنيويا في النظام الحاكم في مصر. حيث لا يمكن أن تعود لمصر الوطن، ولا للمصريين الشعب، كرامتهم المستلبة بدونه، ولا يمكن أن تتحقق العدالة الاجتماعية المبتغاة بغيره؛ مشروع لا يسمح باستمرار الوضع على ما هو عليه، ولا بترقيع النظام وتجميله برتوش مفضوحة، ولا بتركيز الثروة في يد حفنة من اللصوص الذين تجمعوا حول العصابة الحاكمة التي أسقطتها الثورة، وأصبح أكبر رموزها الآن في القفص. وإنما يوظف الزخم الثوري الجديد، والطاقة الجبارة التي فجرتها ثورة مصر في بنيها، والمكانة الجديدة التي حققتها مصر في المجتمع الدولي بسببها، لخير الأغلبية العظمى من الشعب المصري، وليس لإثراء حفنة من اللصوص المحترفين كما كان الحال مع نظام مبارك المخلوع.

لابد إذن من صياغة مشروع نهضوي شامل، يعي ضرورة الإفلات من أنشوطة الرؤية الأمريكية الصهيونية لمصر، ولدورها التابع. ويضع خطوط سياسته الخارجية العريضة التي ترد عن مصر بعض العار الذي جلبته عليها سياسات نظام مبارك التابع والعميل للعدو، بصورة يعترف فيها العدو بأنه الذخر الاستراتيجي له. نظام يولي ادوات النهضة الأساسية من استثمار في التعليم والصحة والزراعة وتحرير الاقتصاد من أي تبعية أهمية قصوى. نظام ينهض على أسس اقتصادية جديدة تستعيد ما ضاع من مصر وما نهب منها. ولكن لابد ألا نكتفي بالتركيز على استعادة الأموال المنهوبة من الخارج، وأن نجعل هذا الأمر ستارا يحجب أهمية بل حتمية استعادة الأموال المنهوبة في الداخل. لابد من التركيز على الأموال المنهوبة في الداخل أولا، وفتح ملف كل العصابة: وتفعيل قانون: من أين لك هذا؟ وليس قانون الغدر وحده. لابد من فتح ملفات عملية نهب القطاع العام، وهو ملكية الشعب الخالصة، في غيبة هذا الشعب ودون أي تفويض منه، فيما سمي بالخصخصة، وفتح ملفات بيع ارض مصر، وعمولات الأسلحة، والمعونات الأجنبية والعربية.

فالتهم الثلاث الموجهة إلى محمد حسني السيد إبراهيم مبارك هي مجرد عناوين ثلاثة لمجالات أساسية في سياسة فاسدة أضرت بمصر وأدت لتدهور كل شيء فيها. ولابد أثناء المحاكمة السياسية للنظام، فليس بين التهم الموجهة له قانونيا تهمة الخيانة العظمى بعد، من إثارة جدل واسع حول هذه العناوين الثلاثة يعيد تثقيف الشعب المصري ويفتح عيونه على واقعه ومستقبله. فبيع الغاز للعدو الصهيوني هو عنوان على سياسات التبعية الكاملة لمخططه البغيض، ووضع مصلحة العدو قبل مصلحة الوطن، بل والتآمر معه على ضرب الأشقاء العرب في لبنان وغزة. لذلك كان طبيعيا أن تنصب صحف العدو الصهيوني مناحة على ما يدور، وأن تنادي بالعفو عنه بذرائع واهية، وهي التي لم تعف عن أي من المتورطين في الهولوكوست مهما كانت ذرائع كبر السن والمرض. لأن تجريم أي تعامل تفضيلي مع العدو الصهيوني، يرسل رسائله المزعجة لعدو كان يعتبره ذخره الاستراتيجي الأول في المنطقة. أما التربح من المنصب والفيلات فهو عنوان إساءة استخدام النفوذ والفساد الكامل الذي أصبح القاعدة وليس الاستثناء في عهد مبارك البغيض. حيث بنيت مؤسسة الفساد التي تعملقت في عهده فوق ركام مؤسسات مصرية عريقة دمرها نظامه كمؤسسة استقلال القضاء، ومؤسسة استقلال الجامعة وعلميتها، ومؤسسة استقلال الضمير الثقافي والشعبي الذي تكفل بتدميرها إدخال المثقفين للحظيرة والإعلام المشبوه. أما قتل المتظاهرين فهو عنوان بارز ودامٍ لقتل خير ما في مصر، وبطريقة منهجية مستمرة على مد عقود؟

فلم يكن مبارك مجرد فرد أساء استغلال سلطاته، وسرق الأراضي والفيلات، ولكنه كان رأسا لنظام قمعي كامل، ولعصابة كاملة استفادت من هذا النظام بدرجات متفاوتة. لذلك يجب ألا تصبح المحاكمة تضحية برأس النظام، كي يتم الحفاظ على النظام نفسه، بمعنى لا يجب أن يحاكم مبارك من أجل أن يواصل نظامه الحكم، وإنما لابد من إسقاط النظام برمته ومحاكمته. كما لابد أن يرافق هذه المحاكمة تطهير شامل يجهز على شبكة النظام الأخطبوطية والمتغلغلة في شتى مناحي المجتمع. تحكم وتنهب وتفسد وتدمر الحرية والكرامة. فبدون هذا التطهير الشامل لن نستطيع تغيير النظام، وتأسيس بديل له يحقق العدالة الاجتماعية المفقودة، والتي كانت أحد شعارات الثورة المهمة.

مشروع  النهضة البديل وهيئة العدالة والمصالحة
وما أتمناه هنا هو ألا نكتفي بدلالات هذه اللحظة التاريخية الكبيرة والتي أشرت إلى بعض جوانيها، وإنما أن تتحول هذه اللحظة التاريخية الفارقة في تاريخ مصر الحديث، إلى بداية لمسيرة طويلة تتغيا تحقيق أهداف الثورة وشعارها الأساسي «الشعب يريد إسقاط النظام». فالإرادة الشعبية التي فرضت خلع مبارك، ثم فرضت تقديمه للمحاكمة، تعي أن رأس النظام ليس هو كل النظام. وأن مشروعها الكبير في تحقيق الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية لا يمكن أن يتحقق إلا بإسقاط نظام مبارك الذي مرغ مصر في حضيض التردي والتبعية والهوان بالكامل. لذلك لابد ألا تلهينا الصورة عن دلالتها الحقيقية، وهي انقلاب الأوضاع كلية، مصر تحكم ممثلة في الادعاء والقاضي والنظام كله، كل النظام، لا رأسه الفاسد وحده. في القفص. لذلك من الضروري أن تكون هذه الصورة هي الخطوة الأولى في عملية شاملة ومعقدة تسير بمصر في طريق جديد.

وأقترح أن تبدأ هذه العملية بأن ترافق هذه المحاكمة القانونية لمبارك وعصابته، محاكمة سياسية وشعبية مفتوحة للنظام كله. أدعو حكومة شرف والمجلس العسكري لتفعليها وتأسيس «هيئة العدالة والمصالحة» على غرار اللجنة التي شكلها نظام نيلسون مانديلا للخروج بجنوب أفريقيا من كابوس النظام العنصري البغيض. وتأسيس لجنة معها «لجنة مشروع نهضة مصر» تحول لها الهيئة كل اكتشافاتها عن مواطن الخلل والفساد والتي ستسفر عنها محاكمات الهيئة المفتوحة، كي تستفيد منها في بناء مشروع للمستقبل لا سبيل فيه إلى تكرار أي من أخطاء الماضي ومسالبه. فقد كان نظام مبارك كابوسا طويلا لابد من اليقظة الكاملة، على صعيد الوعي والمعرفة منه. وهو أمر لا يتأتى إلا بمحاكمة سياسية وشعبية مفتوحة تقوم بها «هيئة العدالة والمصالحة» ويساهم فيها كل المثقفين والناشطين الشرفاء الذين لم يتلوثوا بالعمل مع نظام مبارك، وتبلور للرأي العام مبررات إسقاط هذا النظام بشكل تفصيلي كامل. وتضع حقائق الممارسات الفاسدة في كل المجالات أمام الشعب بوضوح، كي يتعلم من دروسها، وكي يعي حقيقة ما دار وما يدور في بلده. وتحدد من خلال عملها معايير تنتهي بها عملية الخلط البشعة التي تتبدد بها جهود الثورة، وتبث الفرقة والتناحر في صفوفها. والتي يزعم فيها أعمدة نظام مبارك المخلوع أنهم من أنصار الثورة، بل يزعم بعضهم أنهم من الذين بشروا بها، بصورة يخلقون معها مناخا تطرد فيه العملة الرديئة التي يمثلونها العملة الجيدة الراغبة حقا في بلورة أجندة الثورة والسهر على أولوياتها.

و«هيئة العدالة والمصالحة» هيئة لإجراء محاكمات سياسية وليست قانونية، وهي هيئة سياسية وطنية لا يهمها الثأر أو القصاص، بقد ما يهمها ترقية الوعي وتحقيق الإجماع الوطني حول مشروع مستقبلي واضح. لجنة تتناول بالتفصيل الشديد وعلى مرأى ومشهد من الشعب كله (لذلك لابد أن تكون جلساتها متلفزة، تعوض عن جلسات محاكمة مبارك التي قرر القاضي انهاء بثها) توجهات هذا النظام السياسية التي أجهزت على مكانة مصر المرموقة وقزّمتها، لا في منطقتها العربية وحدها، وإنما في أفريقيا وآسيا وبقية بلدان العالم حيث كانت تحظى بمكانة قيادية مرموقة. لا المكانة السياسية وحدها، وإنما مكانتها العلمية والثقافية والإعلامية وغيرها، فبعد أن كانت مصر في طليعة دول تلك المناطق المختلفة في تلك المجالات جميعها قبل حكم مبارك، ها هي في الحضيض في كل مجال من تلك المجالات المهمة. ليعرف الشعب بالحقائق وبالتفاصيل كيف حول مبارك مصر إلى تابع ذليل للسياسات الأمريكية والصهيونية في المنطقة، وإلى «ذخر استراتيجي» للعدو الصهيوني البغيض.

ولابد أن تتناول هذه الهيئة/ المحكمة توجهات النظام الساقط الاقتصادية التي دمرت الاقتصاد المصري ونهبت أصوله، سواء في مجال الأراضي أو المؤسسات الإنتاجية المختلفة التي كان في طليعتها القطاع العام. فلابد من فتح كل تلك الملفات المهمة: ملف الأراضي، وملف بيع القطاع العام المملوك للشعب دون تفويض من هذا الشعب، وملف التسليح وعمولاته، وملف الديون والمعونات الأجنبية والعربية المختلفة (فلابد ألا تمر مقولة مثل مقولة شخص تافه مثل معمر القذافي بأن مبارك كان يجيئه متسولا، يشحذ على الشعب المصري). لأن عرض تفاصيل ما جرى في سياسات مبارك الاقتصادية التي قامت على النهب والفساد، هو الأساس الذي سيبلور أمام مصر ملامح مشروع نهضتها الجديدة، وطبيعة النظام الاقتصادي البديل الذي يجب عليها أن تؤسسه حتى تحقق عبره نهضتها الاقتصادية، ورخاءها القادر على ردم الفجوة الواسعة بين الأثرياء والفقراء.  كما لابد لها أن تتناول سياساته الاجتماعية التي وسعت الفجوة بين الفقراء والأغنياء بشكل غير مسبوق، ولا حتى في العهد الملكي البائد، وزجت بما يقرب من نصف الشعب المصري تحت خط الفقر، وشوهت جغرافيا مصر بأن تركت فيها سرطان المدن العشوائية ينمو كالفطر، وتتكاثر فيه كل الأوبئة الاجتماعية والصحية الناجمة عن الفقر المدقع والمسكن غير الملائم. ولابد أيضا من فتح ملف الخدمات المختلفة التي بنتها أجيال من أبناء مصر بالجهد والعرق، من التعليم إلى الصحة، والثقافة وحتى الطرق والمواصلات. وكيف انهارت جميعها في ظل هذا النظام الفاسد المهين.

فليس الهدف من أي من الهيئة أو اللجنة هو القصاص، لأن ثورة برقي الثورة المصرية وتحضرها لا تستهدف القصاص، ولا يشغلها الانتقام، وإنما يهمها إزاحة كل مخلفات العهد القديم وقمامته جانبا، تماما كما كنس الثوار ميدان التحرير بعد الثورة، وأعادوه إلى أفضل مما كان عليه قبلها، والشروع في تحقيق أهداف الثورة وتأسيس شرعيتها. وإنما الهدف هو إجراء عملية تطهير فعلية وضميرية تقوم بعملية فرز تجهز على هذا الخلط الذي ساد في كل المجالات، ودفع العملة الرديئة لطرد العملة الجيدة من ساحة الثورة. وأدى إلى الانقسام والتشرذم والخلاف. لأنه بدون ذلك لا تتأسس أي ديموقراطية حقيقية ولا يتبلور أي وعي شعبي حقيقي بمشروع يتجمع حوله الشعب. وبهذا يصبح نوم مبارك في القفص، هو البداية الحقيقية لصحوة مصرية تحقق أهداف الثورة، وتصبح جديرة بنبلها ورقيها الحضاري.