مع الثورة يدخل جيل جديد من الأسئلة وممن يطرحونها معا إلى ساحة ثقافتنا الحبلى باليقينيات كما يقول الباحث المغربي. وتناول هذا الباحث ومنظوره للثورة يؤكد جدة الجيل/ النظرة والسؤال معا. فالثورة لن تكون ثورة بمعنى إعادة التطوير والتطور إن لم تكن سؤالا مستمرا، وثورة في النظرة: ثورة بنظرية وعلى نظرية

الثورة العربية: السؤال والنظرة والنظرية

عبداللطيف عدنان

«هل نقبل أن نواجه أنفسنا بما يلزم من الصرامة، بالوعي النقدي الذي كان على الدوام مصدر رؤيتنا لما نعمل ولا نعمل؟ السؤال في حد ذاته لحظة من التأمل. فهو الذي كان الضوء. وهو الذي يجب أن يظل الضوء, بعيدا عن كل احتفالية مشوشة على الرؤية.»

محمد بنيس، الحداثة المعطوبة 2004  

السؤال
يطرح السؤال حول الثورة العربية الجديدة نفسه في عدة أوجه وبصيغ متنوعة. سؤال يشملها من حيث الواقعية، من حيث الوقع، من حيث الواقعي فيها. واختلاف الأسئلة وتعددها حول هذا الموضوع هو مبدئيا اختلاف في النظرة وكذلك اختلاف في فهم نظري لما يعنيه التغيير وما تقصده الثورة. السؤال هو الآخر مسألة منظور قبل كل شيء، وعملية مرتبطة بزاوية نظر معينة تحدد مراميها وترسم أبعادها. وقد تعددت الأسئلة حول الثورة العربية. حول الحدث السياسي، حول الحراك الاجتماعي، حول الدين والدولة فيها، حول الطوباوية الدونكيشوتية فيها، حول البرامج المتمخضة عنها، هذا إلى ما لاحد له من كم وكيف الأسئلة. ومادام حاضر الثورة لم يقف بعد على أفق ما؛ وأي استشراف لأي نتائج يظل مجرد تخمين، فكل كتابة حول الثورة تظل سؤالا بشكل من الأشكال لا يتطلب بالضرورة علامة استفهام.

من حق كل عربي، وأي كان، الكلام عن الثورة. والسؤال بشأنها بالذات ليس حصرا على فئة خولت لنفسها مهمة الناطق الرسمي باسم الهم العربي مخلطة بين هذا الهم والحسابات الشخصية المحسوبة على الأنا والنرجسية. ولا من حق من تصوّر نفسه المعني الأول بهذه المهمة واستغل ظرفية الثورة ليعيد طرح نفس الأسئلة الثقافية حول شكل القصيدة أو ميزانية السينما وإن كان لهذه الأمور أهميتها كذلك في واقع الثورة. فبعد أن عرفت الثقافة العربية ركوضا طويلا وسمه ترديد نفس الاسئلة واستمناء صيغ متنوعة لنفس الاجوبة، حول المعنى وقصيدة النثر والغرب والآخر، جاءت المناسبة مواتية لطرح سؤال جديد خصوصا والظرفية منحت هذا المتن الجديد المسمى الثورة العربية. من هذا المنطلق تصبح الثورة العربية تعني كذلك جيلا جديدا من الأسئلة العربية، والأهم من هذا جيلا جديدا من الأقلام التي تطرح هذه الأسئلة.

السؤال أو التساؤل حول الثورة حولّه البعض إلى نوع من الزندقة. وفي هذه التهمة الحبلى بالشعبوية ما يدفعنا للتساؤل أكثر حول مصيرها ومسارها عوض الإعراض عن ذلك تحت ذريعة الخوف الجديد الذي أنتجته نفس الأسباب التي أنتجت الثورة.

ماذا يعني السؤال حول الثورة العربية الجديدة؟ في ثقافتنا الحبلى باليقينيات لازال السؤال يفهم كضرب من ضروب التشكيك. وهذا الأخير لا يفهم بدوره إلا بمعنى الاستهداف والتقويض والهدم. وفعلا وسط جلبة الكلام حول الثورة العربية، آذان كثيرة لم تلتقط من التأمل إلا الاستفهامات. ولم تسمع في جدلية التحليل إلا لأصوات بيانات التشكيك في فعل الثورة وفاعليتها. من هذه الأصوات لم تلتقط إشارة تدل على منظور ورؤية السائل، ليفهم سؤاله كما يجب ربما في هذا السؤال هناك شيئ ما بخصوص الثورة من الأحسن أن ننتبه إليه بكل حواسنا الخمسة وإن اقتضى الأمر بتفعيل الحاسة السادسة كذلك. وكون الثورة العربية أصبحت لها مرجعية في التاريخ الحاضر وأصبحت حدثا تاريخيا بكل المقاييس، فهذا يستدعي سؤالا مشككا ب وفي كل التفاصيل والحيثيات حولها، على الأقل انطلاقا من واجب الحفاظ عليها. الثورة العربية ثورة على صيغ عديدة للفهم العربي. بالتالي ليس السؤال التشكيكي ما يخوًّن الثورة ويضع طارحه في خانة الزنديق؛ بل فهم هذا السؤال داخل الصيغة القديمة وخارج الإطار الزمني لسياقها. وهذه هي الخيانة الفعلية التي قد تمس هذه الثورة. تاريخانية هذه الثورة تقتضي فهمها بشروط وعناصر مختلفة. لا يمكن فهم الجيل الجديد من الشباب وراءها من خلال سميائية الحراك الثوري التي تنتمي لجيل الستينات والسبعينات. كما لا يمكن إصدار أحكام تنتمي لنسق البنى الفقرية vertebral التي حركت الفعل الثوري في الماضي، على هذه الثورة التي تنتمي لبنية خلوية cellular  فرضها واقع العولمة وحركة المال والمعلومة. لا يمكن وصف ثورة الفيسبوك بنفس لغة الثورات أيام البيان الحزبي والمناشير التحريضية.

تريّث كثيرون في انتاج أي خطاب عن الثورة. وتسرع كثيرون في إصدار بيان حماسة وانتماء. الشريحة الأولى من المثقفين استفادت من درس ميشيل فوكو مع الثورة الإيرانية (نذكر كيف تحمس عالم الاجتماع الفرنسي للثورة الإيرانية في البداية، وكيف أبدى مواقف تراجع عنها لاحقا) بينما انقسمت الشريحة الثانية بين منخرط فعلي في الثورة وبين من وجد فرصة سانحة لقتل الأب. كانت الثورة لبعضهم تبرير جاهز بغاية ووسيلة. عوض النظر لأوضاع مابعد التغيير في مصر وتونس، أو تشريح المعيارية المزدوجة للغرب وبعض الأطراف العربية بخصوص ليبيا واليمن والبحرين، كانوا منشغلين جدا في تحميل خطاب سعدي يوسف ما يطيق وما لايطيق. وإن كان ما قاله هذا الشاعر، الذي له باع طويل في الإلتزام بالهمّ العربي، لم يكن مغرضا بالنسبة للثورة بالشكل الذي كانت الحماسة الزائدة في الرد عليه. كلام سعدي يوسف طرح اللبس الذي يعتري أي ثورة والخلط الذي يعتري أي تغيير من ناحية المبدأ ومن ناحية الماهية. والسؤال عن الثورة كمبدأ يختلف بدّا عن السؤال حولها كماهية. حتى نوضح ذلك نذكر كيف كانت الثورة البولشفية مبدئيا خطوة مهمة في محاربة الإقطاعية والسعي لتحقيق مجتمع شيوعي مبني على العدالة والمساواة، لكن كماهية كانت مجرد طريقة لتحقيق رأسمالية الدولة. وهذا السؤال أسكتته كاتمات الصوت الستالينية إلى أن انهارت تجربة الاتحاد السوفياتي وخلفت ورائها مافيا تيكنوقراطية. كان الأحرى بالتخمين في هذه التجربة الماركسية عوض التسطير أكثر من سطر على تجربة "الشيوعي الأخير"، التي في حسبان وفهم ما، انقضت مدة صلاحيتها.

النظرة
حين لا تسمح الظروف بتتبع الثورة العربية في الواقع، بالنسبة لهذا المغترب عن فضاءه العربي، لا يبقى من سبيل إلا عيشها كواقعية في فضاء الشاشات بتعددها وتنوعها وكوقع على الوجدان المنشغل بالتماهي مع أبطالها. والسؤال بدوره سيكون نتيجة حتمية لظرف وعي واستيعاب حدث الثورة. منطلق أي سؤال حول الثورة العربية يكمن في إطار واقعيتها من خلال بؤرة النظر التي يمنحها الموقع الذي يطرح منه هذا السؤال. لننظر لهذه الثورة من خارج الواقع، أي من داخل الواقعية بمفهومها في قاموس الصورة. كيف تتشكل الثورة العربية كواقع في النظر والنظرية لهذا الغرب الذي ابدع شيئا مهما إسمه انطباع الواقع l’impresion de realitee. وأحتفظ لعملية التشكّل هنا بعنصريها التصميمي والتركيبي لعرض هذا الجوهر أو هذه المادة المضامينية المسماة الثورة العربية. وما أعنيه هو أن واقعية الثورة العربية ليست مدى تحققها على أرض الواقع، وإنما درجة وأثر انطباع الواقع لهذا المشهد الذي أنتجه الغرب عن الثورة العربية. مشهد ليست مرجعيته بالضرورة هي نفس مرجعية الثورة في الواقع المحقق، أو حتى في المشاهد الأخرى التي أنتجت حولها. أعني هذا المشهد الذي أخرجه الغرب بعنوان الربيع العربي.

الثورة العربية محاطة بالصورة منذ بدايتها. لم تعد مسألة حضور الثورة إعلاميا مطروحة حتى في سياق الإعلام العربي. منذ بدايتها كانت هذه الثورة حاضرة حتى على مستوى الإعلام الموجه من طرف الأنظمة التي تبغي إصماتها بكل قوة. فأسلوب التعتيم المبالغ فيه لا يزيد إلا في التأكيد على وجود حركة في الشارع وغالبا ما ينتج مفعولا عكسيا. لم ينتبه الأوصياء على الإعلام العربي المسيّس والموجّه إلى الخدمة التي قدّموها للثورة. فالمواطن العربي لم يعد يعتمد التلفزة كمصدر أولي للخبر أكثر مما ينظر إليها كعضو فصامي الطبيعة: في طريقة إصراره على الحالة الصحية للنظام يفضح أكثر مكامن علته، وفي الاعلان عن نواياه الإصلاحية يبين عن أكثر من مؤشر قوي على تهافته. هذا الوسيط الكلاسيكي أصبح ميزان حرارة لحركة النظام وردّ فعله على حركة الشارع لا غير، وموضوعيته تكمن في ذاتية وجهة نظر الأطراف المضادة للثورة سواء كانت النظام أو سدنته أو عبيده. مامنحته التيكنولوجيا السيبرنتيقية للمواطن العربي شيء أقوى من ذلك. وسائط الفيسبوك والتويتر لا تنقل الخبر الذي تنفيه التلفزة الرسمية، بل تقترح مع نقله استراتيجيات لاستمرار حراك الشارع، وتوزّع استمارات العضوية للالتحاق بالثورة بشكل أسرع وأوسع مما كانت تفعله الأبواق والمناشير.

الفيسبوك والتيكنولوجيا السيبرنتيقية عموما هي هذه الوسيلة الفعالة في تحريك الثورة وتوسيع رقعتها من جهة؛ ومن جهة أخرى هي السبب العضوي ورائها. وليس أمر اقتران التكنولوجيا بالثورة كسبب ومسبّب حكرا على الربيع العربي. فعبر التاريخ كانت كل ثورة جماهيرية هي ثورة في التكنولوجيا الإعلامية أولا. لكن ما يميز السياق الآني هو كون الوسائط الجماهيرية الجديدة (بكل معنى ثوريا لكلمة الجماهير) مقترنة منذ ظهورها بسياسة رأسمالية جديدة هي العولمة. التكنولوجيا العالية لانتقال المعلومة شكلت الوسيلة الرسمية لحركية المال والتبضيع الحرة والمتجاوزة لكل أنواع الحدود الإقليمية خصوصا الثقافية منها. عبر هذه الوسائط عولبة العولمة الفضاء العربي وأثرت سلبيا على المستوى المعيشي لفئات عديدة، كما غيرت في التشكيلة الطبقية للمجتمعات العربية. وبالتالي تظل تكنولوجيا التواصل بشكل أو بآخر السبب الرئيسي وراء هذه الثورة. كاستنتاج، يمكن النظر للثورة العربية كثورة معولمة في الوسيلة والجوهر، في السبب والمسبّب.

من جهة أخرى، شكل الفيسبوك، وبقية أسرة التقنية التواصلية العالية، هذه الوسلية الجماهيرية التي حققت فكرة الديموقراطية عن بعد، والتي شرعنت سابقا وبشكل تقليدي المخطط العسكري الأمريكي في أفغانستان والعراق. كما وسّعت هذه الوسيلة من رقعة الثورة ورفعتها من المستوى الإقليمي إلى المستوى الكوني. فواقع العولمة هو واقع التكنولوجيا التواصلية وحركة الهجرة البشرية وهذا الواقع جعل المواطن العربي القاطن في المهجر طرفا فاعلا في الثورة؛ يحركها من موقعه عن بعد ملغيا كل المسافات والحدود الزمكانية. الثورة العربية الجديدة تقدم نموذجا للثورة المعولمة الشاملة، حيث تنسق أطرافها جبهات في الداخل والخارج. لذا لا يبدو غريبا أن يقمع الشارع العربي في باريس كما في الدار البيضاء. على صعيد آخر كان للثورة العربية الفضل في إستيلاد اصطلاحات جديدة تعبر عن جدلية واندماغ الثورة التكنولوجية مع الثورة الجماهيرية. أصبح الحديث عن عدة فاعلين وراء الثورة أبرزهم المنشق السيبرنيتيقي cyber dissident الذي يظهر على الشاشة منكبا على حاسوبه المتنقل lap top ويوزع مناشيره عبر فوتوغرامات داخل الفيسبوك ومن خلال هاتفه الخليوي.

وسيط الفيسبوك رفع كذلك تحديات أمام وسيط الفضائيات الذي أصبح كتكنولوجيا يبدو كلاسيكيا إن لم نقل متخلفا. فحين شكل ضربة قاضية للإعلام الرسمي المسيّس الذي يرعى مصالح الأنظمة القمعية، جعل الاعلام الحر، والذي في السياق العربي ليس إلا هذا الاعلام الذي توجهه أطراف أخرى وفقا لمصالح بعض الأنظمة، ينفتح على تجربة الثورة الإعلامية من ناحية التغطية الشاملة والسريعة من جهة، ومن ناحية التأثير على مجريات حراك الشارع من جهة أخرى. «قناة الجزيرة» تقدم نموذجا للإعلام الذي استفاد من درس الفسبوك. فهذه الفضائية تجاوزت المهمة الكلاسيكية التي تقتصر على مباشرة التغطية والتدقيق في الوصف بدافع السبق. بانتقائها للحضور في بعض الميادين العربية دون غيرها أبانت هذه الفضائية على مهمتها كفاعل داخل الثورة وكمحرض جماهيري Agit prop  فيها. تجاوُب الشارع العربي بدوره مع الجزيرة برفع شعارات تشيد بدورها، أبان عن حقيقة الدور الإعلامي لهذه الفضائية. فالانتفاظة العربية داخل مقاييس الجزيرة ليست خبرا بقدر ما هي مادة إخبارية قابلة للتوظيف، وهذه مهمة كلاسيكية للإعلام السمعي البصري بغض النظر عن مرجعيته. لكن جديد الجزيرة هو إضفاء الطابع الاستراتيجي واللوجيستيك الديني .. وقد أسهب ريجيس ديبري في كتابه دروس الوسائطية العامة عن ارتباط القناعة الدينية بالمشهد التلفزي على مستوى الشكل؛ خصوصا في اختيار لقطة متوسطة تستبطن فكرة الايقونة لتوحي بقدسية الخبر وبالتالي مصداقيته. كون رجل الدين أصبح له الميكروفون الأكبر في التعليق وتقييم الثورة العربية يمكن أن نقول أنه مع الجزيرة ندخل في جيل جديد لعلاقة الحب هذه بين التلفزة والخطاب الديني. جيل الفتوى بدقة عالية. فتوى HD .

حين تلتصق الثورة العربية مع الواقع الذي أنتجها في الميكروصورة داخل الفيسبوك تبدو في ماكروصورة التلفزة بناء مشهديا تتداخل في إخراجه قوى عديدة دورها يتجاوز بكثير مهمة النقل والعرض. وصدفة أن تكون سنة الثورة العربية هي سنة وفاة الشاعر الثوري والمغني الايقونة جيل سكات هيرون صاحب الاغنية الشهيرة التي أصبح عنوانها شعارا يرفع ضد الإعلام المسيس“The Revolution Will Not Be Televised” جيل سكات هيرون كان كذلك وراء الاسلوب الغنائي المعروف بالهيب هوب؛ وليست مصادفة أن يكون هذا الاسلوب الغنائي هو الموسيقى المصاحبة للثورة العربية بامتياز. أول ما يخطر بالبال هو انقضاء مدة صلاحية هذا الشعار المستوحى من الأغنية، خصوصا وأن حظوظ الثورة في التلفزة زادت أكثر من أي وقت مضى. ولكن ونحن بصدد لحظة تاريخية تتسم بسيطرة الخطاب المابعدحداثي بشكل أو بآخر، سنتردد في استنتاج من هذا القبيل. سيطلع علينا بودريارد بكلامه عن الصورة كعلامة دالة تفوق في أهميتها ما تدل عليه بل تعوّضه. سنتذكر حقيقة ما فتئ يكررها هذا الفيلسوف ونستخلص أن الصورة عن الثورة أهم من الثورة نفسها. كلام جيل سكات صائب لأن ما تعرضه الصورة التلفزية شيئا آخر وليس الثورة بالتحديد. من هذا المنطلق ننظر لصورة الثورة العربية داخل الإعلام الغربي. داخل أفق هذه النظرة المؤطرة بشيء اسمه المنظور الاعلامي الغربي. مشهد الثورة يتشكل بدءا بالسؤال الذي تردد منذ بداية حراك الشارع العربي: كيف لم نلتقط أي إشارة لموجة التغيير القادمة؟ صيغة هذا السؤال تفصح عن رؤية ومقاصد المنظور الغربي للثورة العربية والتي، بالتمحيص فيها قليلا، نجدها لا تخرج عن إطار الرؤية التي ينظر منها الغرب إلى العالم العربي. فالعالم العربي شبكة من المؤشرات داخل نسق المصالح الجيوسياسية والاقتصادية. وأي إشارة عن الثورة لن تكون إلا مؤشرا إضافيا يجب موقعته داخل هذه المعادلات بما يخدم النسق العام لهته المصالح.

وظف الغرب مشهد الثورة لإنتاج خطاب جديد عن الموضوع العربي، هذا الذي حصر لمدة عقد من الزمن في خطاب التطرف الديني. أهم ما ميز هذا الخطاب الجديد هو عزل الثورة داخل سياق الانتفاضة لأجل العيش الكريم، مكتفيا بالتركيز على السبب، ورابطا المسببات بانفتاح العالم العربي على تجارب ديموقراطية عبر الوسائل التي وفرتها إمكانيات الإعلام وسياق العولمة. يلغي الغرب في خطابه الإعلامي عن الثورة العربية أي خطاب سابق عليها وكأنها تأتت من فراغ. وحين تحضر في سياق الحديث أي تجربة سابقة لحراك الشارع العربي، خصوصا الملهمة بالإيديلوجيا اليسارية أو الإسلاموية، فليس لأي غرض سوى للتذكير بعدم نجاح هذه الإيديولوجيات في تأجيج الشارع العربي؛ وبالتالي التأكيد على حتمية الخيار الليبرالي، والذي ليس سوى النموذج الغربي. وكما ينتقي الإعلام الغربي الأفراد الناطقين عن الثورة من شريحة اجتماعية في ربيع العمر، ليرسخ فكرة الربيع العربي، ينتقي كذلك من السياق التاريخي والسياسي العربي ما يعزل هذه الثورة عن الخطابات العربية التي قدمت لها وعبدت الأرضية أمامها. والسبب يكمن في ما تثيره هذه الخطابات من حساسية، خصوصا التقدمية والحداثية منها، حين تشير إلى دور التبعية والارتباط بالغرب السياسي وما لعباه من دور في الوضع المأساوي الذي تعيشه الشعوب العربية. أستحضر هنا على سبيل المثال احد البرامج التلفزية السياسية في إحدى كبريات القنوات الأمريكية، حيث قلصت فترة تدخل المفكرة المصرية نوال السعدواي على حساب فترة تغطية مشاركة طالبة عربية أمريكية مباشرة من ميدان التحرير. حين بدأت تسهب المفكرة المصرية في ربط حراك الشارع المصري بالتجربة الكولونيالية والنيوكولونيالية، حولت المضيفة الانتباه إلى الشابة التي حصرت هذا الحراك في تطلعات المصريين إلى حياة أفضل. وطبعا لكنة الشابة العربية الأمريكية الفصيحة والمفردات التى استعملت لا تدع مجالا للتخمين في طبيعة هذا التطلع: إنه النموذج الغربي الأمريكي. زد على ذلك أن الاعلام الغربي متحفظ جدا في عرض الخطاب العربي، الإشكالي خصوصا، بشأن الثورة العربية. ومن بين الأسباب كون هذا الخطاب العربي، الممتد من بداية النهضة إلى الفترة المعاصرة، لا يتناغم بالضرورة مع الصدى الاعلامي الغربي. مع أن أي خطاب عربي جاد بخصوص الحدث لا زال متريثا ومتحفظا في التقييم وإصدار الأحكام.

النظرية
حين تتردد مفردات كإشارة، مؤشر، دال، ومعنى بخصوص الشارع العربي ملغية عنه صفة الانسانية، يذكرنا الغرب مرة أخرى بخطابه المعتاد تجاه العالم العربي. يذكرنا أنه الذات الدارسة ومفكك الدلالات، ومولّد المعاني وأن العالم العربي لا زال مجرد موضوع. لن يطول الوقت لتسيل النظريات حول الثورة العربية. حول العرب والثورة العربية حول كل ما هو عربي والثورة العربية. ستنزل الدراسات تشريحا في كل ما هو عربي من مجتمع، ثقافة شعبية، ثقافة راقية، خطاب سياسي، خطاب علمي؛ من منظور مابعدحداثي، من منظور مابعدنيوكولونيالي؛ من خلال المبحث الأنتروبولوجي الجديد، الذي لن يفوت الفرصة لدراسة الانسان العربي الجديد في زمن التكنولوجيا السيبرنيتيقية وتبعات العولمة عموما. فالظرفية شبيهة بتلك التي عرفتها مرحلة الستينات والسبعينات حيث فورات الانعتاق من الاستعمار والتحرر في العالم الثالث، وتبعاتها المباشرة التي تمثلت في المناداة بحقوق المرأة والأقليات، كانت وراء ظهور هذه الشعب ذات المنحى الإنساني في الأكاديمية الغربية. لا أحد ينكر أن هذا لاهتمام أغنى الدراسات العربية وأثراها بمقاربات ومناهج جديدة وطبعا أي عملية جديدة من هذا القبيل سيكون لها نتائج مشابهة. لكن هذا لا يلغي التخوف من سقوط الأكاديمية الغربية مرة أخرى في مطب الاختزالية، ونوع من البرغماتية، وتحويل هذا العالم المدروس إلى مجرد مختبر للنظريات الجديدة دون مراعاة موضوعية لخاصياته العمومية قبل الجزئية منها.

لقد أخفقت الدراسات التي اهتمت بالعالم العربي، خصوصا المابعكولونيالية منها، في عدة جوانب. امثلة على هذه الإخفاقات حسب رأي روبرت ستام (2000) نجدها في اعتمادها المفرط على السيكولوجيا واختزالها لصراعات ذات طبيعة سياسية واجتماعية في البعد النفسي فقط، مبدية أن تطلع الفرد للانعتاق والتغيير مسألة فردانية فقط وليست نتاج لمخاض اجتماعي مستند على مشروع تحرري ما ويعني المجتمع ككل. بناء على هذه الاستراتيجية في الدراسة نلمس كذلك نوعا من الانتقائية في اختيار المواد المدروسة طبقا لما يسعه القالب النظري فقط. وقد كان لهذا أثر بليغ في ظهور شريحة من المثقفين العرب، خصوصا في حقل الأدب والسينما، تنتج مادة إبداعية عبارة عن رجع عكسي يغذي النظرية المابعد كولونيالية من باب جلب الانتباه وتحقيق الذات عبر الغيرية. أذكر على سبيل المثال هذه الروائية المغربية التي تكتب باللغة الإنجليزية والتي ألفت رواية عن ظاهرة الإرهاب انطلاقا من مقادير الوصفة المطبخية التي انتجها الخطاب الغربي عن هذا الموضوع. في إحدى الحوارات مع هذه الكاتبة التي صفق لها كثيرا الإعلام الغربي، بررت كتابها وكتابتها بالرغبة في الخطاب مباشرة مع الغرب دون وساطة الترجمة. موقف كهذا يبين عن التأثير البالغ للأكاديمية الغربية على مجال الابداع العربي باسم جلب النظر للدارس الغربي. لكن أهم من هذا يبين كذلك عن هذا النوع من التبسيط والتسطيح الغربي للثقافة العربية حين يروج لكتابة عن الإرهاب من قبيل رواية ك (الإبن غير الشرعي) فهمها ومفاهيمها حول الظاهرة لا تتجاوز ما تتفضل به المادة الإعلامية، ويتناسى كتابات علمية وتحليلية وأكثر أهمية في هذا المجال، ككتابات محمد عابد الجابري أو محمد أركون.

من الإخفاقات كذلك ميل الأكاديمية الغربية إلى دراسة الثقافة العربية بتركيز أكثر على مظاهرها الشعبية أو الشعبوية على حساب الأدب والتراث وألوان ثقافية وتعبيرية تتطلب إلماما عميقا وواسعا بما هو عمومي وجزئي فيها. كما لم تدرس النظرية المابعد كولونيالية أو مثيلاتها من النظريات المابعد حداثية الثرات العربي بشكل دقيق أي من داخل خصوصياته. حين تعاملت معه من داخل القطيعة بينه وبين الفكر الحداثي غيبت جانبا مهما من هذا التراث في كونه عنصرا مفعلا للمشروع الحداثي العربي مثل مشروع السلفية عند محمد عبده. مفهوم السلفية في حد ذاته تناولته هذه الدراسات بشكل ملتبس مخلطة بين سلفية محمد عبده والكواكبي وماضوية الإخوان المسلمين. كما لم تنتبه هذه الدراسات إلى خصوصية الأدب العربي التي تكمن في لغة هذا الأدب وعلاقتها بإرثها التاريخي. مبحث غربي كالفيلولوجيا لا يمكن إسقاطه، كمنهج أو مقاربة على السياق العربي، فقط لأن العربية كلغة لا تعرف أي قطيعة داخلية مثل التي تعرفها اللغة اللاتينية مع اشتقاقاتها الرومانسية كالإسبانية والفرنسية. ولهذا يمتد الأدب العربي في ماضيه إلى 15 قرنا مقارنة مع الآداب الغربية التي لا تتجاوز أعمارها الخمسة قرون مثلما أوضح عبدالفتاح كيليطو في مؤلفه القيم لن تتكلم لغتي. في هذا العمر الطويل من الكتابة يتعايش الحلاج مع أدونيس، الشنفرى مع أمل دنقل، وكيليطو مع ألف ليلة وليلة. نادرا ما تنتبه الاكاديمية الغربية إلى هذه الخاصية.

كخلاصة يمكن الملاحظة على الدراسات الأكاديمية الغربية اهتمامها بما هو مختلف في العالم العربي دون مراعاتها لشيء مهم هو حق الاختلاف. أما على المستوى الواقعي العملي، فجدير بالذكر أن هذه الدراسات لم تؤثر من قريب ولا من بعيد على إزاحة الحيثياث التنميطية التي تلتصق في الفكر والمخيلة الغربية بشأن كل ما هو عربي. تقف جل هذه الدراسات على نتائج تستجيب لفرضيات البؤرة النظرية التي تحدد مناهجها ومراميها. كما أنها لا تعبر إلى العموم، وتظل منحصرة في الأبراج الأكاديمية وفي صالونات الفئة المثقفة، لذلك تضل دون مفعولية في التأثير على تغيير النظرة للآخر، وللعربي خصوصا، في شكل من الأشكال. لقد أبانت كارثة أبوغريب على أن النظريات والاستراتيجيات المبحثية التي استلهمتها الأكاديمية الغربية من المفكّر إدوارد سعيد لم تغادر رفوف المكتبات الجامعية ولم تنفذ إلى الإعلام والمخيلة العامة للأمريكيين تجاه العرب. المقاربة الأكاديمية الغربية للإنسان العربي ليس لها أي مفعول في التطبيق مقارنة مع المقاربة التي تخص السوق العربي أو البترول العربي التي يلمس تأثيرها مباشرة وبسرعة. حين نقف على سرعة التفعيل والرواج لنتائج البحث العلمي والفكر الاقتصادي الرأسمالي في المجتمع الأمريكي تجاه بطء وعدم فاعلية نتائج أي مبحث إنساني متعلق بالعالم العربي لن نجد بدا من استخلاص التالي: وهو أن هذا المبحث لا يخدم العرب وكل ما هو متعلق بالعرب بشكل من الأشكال. وبالتالي تصفيقنا له، واقتباسنا لمنظوره ومنهجه، هو مجرد عملية تمويه ذاتي الاستمرار فيها لن يزيد إلا في تكريس الوضع الذي نبغي تغييره من خلالها.

للغرب منظور ونظرية بخصوص العالم العربي. المراهقة الفكرية تصنم هذا المنظور وهذه النظرية في العقلية التآمرية، والسذاجة الفكرية تراهما نوعين من مد الجسور ورغبة في التعرف على الآخر والتلاقح الحضاري. ليس هناك أي شك أو أي مجال للتشكيك في الآفاق التي فتحتها هذه النظرية على مستوى المنهج والتجريبية والمقاربة والتي أغنت الفكر العربي بحساسية جديدة وعلمية لا يمكن التنكر لإيجابياتها وأكرر بإلحاح هذه الحقيقة. لكن أمام الغرب الدارس لنا، لازال الكثير من فكرنا يتأرجح بين المراهقة والسذاجة. وإن كان من سؤال يطرح نفسه الآن في هذه الظرفية بالذات، فهو متى يخلق حراك الشارع العربي حراكا فكريا عربيا موازيا يثور عن وضعية الموضوع هته التي حصرنا فيها الغرب نظرة ومنظورا. في فورة التغيير وحراك الشارع العربي سيصبح العالم العربي محط اهتمام الغرب دون محالة. اهتمام كما أشرنا في النظرية والنظرة معا. لكن هذا الاهتمام لن يفضي إلا لنوع من المقاربة والاختزال لما هو مناسب للغرب الاستراتيجي الذي لازال المتحكم الأول في فعل الغرب الأكاديمي. وأعود لنقطة البداية في هذا المقال لأذكر أني أطرح السؤال فقط. ما نصيبنا من النظرية في ثورثنا؟ ما نصيب الثورة في التنظير لنا من داخلنا؟ هل سنترك للغرب مرة أخرى مهمة الكلام فينا أم نبدع لنا وله كيفية الكلام فينا؟

فالثورة لن تكون ثورة بمعنى إعادة التطوير والتطور إن لم تكن سؤالا مستمرا. إن لم تكن ثورة في النظرة. إن لم تصبح ثورة بنظرية وعلى نظرية.

 

هيوستن 25 يونيو 2011