نقْلةُ اليقين من مُعتَقَد الكلمات إلى معتقد الصور هو من إرث المتكلمين المناطقة، مذ حسبوا أمرَ الوجود قائماً بذاته، في خلوص الدِّين إلى أحكام التقدير والتدبير، اختصاصاً تنهض به الكلمةُ.
ذهب الإسلام بوجوب ذلك إلى المدوَّنة من حروف اللوح الكليِّ، والمسيحية بوجوب ذلك استعارةً من الله وَصَفَ الكلمةَ حقيقةً من حقائق وصفه. ثم استُكملتِ الصيرورةُ ببزوغ الصور من السَّنْف قامت به الكلمةُ صريحةً في التقدير الديني للوجود: "كُنْ". وقام بها التقديرُ في علْم النشأة، الذي يحتمل قربى الإعراب منطقاً. ففي هذا العلم أن العنصرَ البادئةَ خميرةً للحياة هو المُحْتَسَبُ كلمةً، والصورَ الناشئة أشكالاً من الخمائر هي التقدير الواجب للوجود المحتجب في الكلمة، كزعمنا في الإعراب أن ظاهرَ تصريف الحركة خفْضاً، ورفعاً، ونصباً، يستقيم بـ "وجودٍ محتجبٍ" هو كلمة غير موجودة، فيُبنى التصريفُ على محذوف مفترَض في سياق الجملة، قائم على "التقدير".
سبقت الكلمةُ الصورةَ تصريحاً في معتقدات، وتلميحاً في أخرى. بل اجتمع للمعتقدات، بأجمع أجمعها، وجوبُ قيامٍ على المخاطبات لساناً: آلهة تتكلم. آلهة تُرى، أو لا تُرى، لكنها تتكلم. بلا كلمة التصريف، والتعريف، ليست الآلهةُ آلهةً. عليها أن تتكلم من عماء الهياكل، والعروش، أو من مكشوف ألوان الآلهة نفسها خطوطاً وأبعاداً، قائمة في أبَّهة التهويل بالجبروت، والتفخيم بالمُكنة وجلالها.
قد يستقيم، بزعمٍ آخر، أن الكلمة، والصورة، تجاورتا بزوغاً في عقل التقدير، أو تتالتا بفارقٍ ضئيل في السَّبق مُعْتَقَد النظر إلى الخلق بسَبْقِ الكلمة وجوداً على ظهور الصور قَلَقٌ في بعض المنطق. فلو لم تحصل الصورُ ـ الأشكالُ الخلائقُ قادرةً على السمع، والنظر، لظلَّ احتسابُ الكلمة وجوداً ليس إلاَّ من غالبِ التقدير محضاً. الكلمةُ وُجدت لتُقال في معقولٍ من زمن النشأة حتى لو كانت "هناك"، من قَبْلِ قَبْلٍ، في العقل الكليِّ علامةً أثيراً، أو حروفاً نافرةً غائرةً على لوح العِلْم في مُطْلَقه.
ربما لن يستقيم لمثلي، في وقوفه على حافة قُبْلَةٍ لا أعرف إن كانت الحياة مهيَّأةً لها، إلاَّ مبادأةَ المدوَّنةِ بالحبر هذه، بقليلٍ من إسرافٍ شكليٍّ عن غَلَبة المراتب. لكن هذا "الإسراف الشكلي" سعةٌ من وجودٍ مابعده ليس ماقبله، مُذ يتأوَّل مثلي وجودَه على بُعْدِ شبرٍ من الفروق الكبرى ـ بُعْدِ الكلمة مُعتَقَداً في الحضور عن الصورة مُعتقَداً في الحضور، مع بعض التحفظ عن تمامية المعنى.
في تأويل أحوالنا نقداً، أو تحريضاً، أو مجابهةً، ينتمي مثلي إلى الكتابة. أنا أحصر الأمرَ، هنا، في رقعة الخيار السياسي تحديداً، وهو ما تتَّفق معه بادئةُ المقالة ذات الإسراف الشكلي، من لجوء إلى مراتب الكلمات ومراتب الصور. لقد كتبتُ الكثير، مثل غيري، أو أقل ربما، غضبَ قلبي من النظام العربي، بتحليل قدْر المستطاع، في المقالة تحديداً صِرْفةً بشكوى السياسة، أو بشكوى أدبٍ في السياسة، أو برعونة الجريح من الوجود إلى جوار عَدْلٍ على الحافة النهائية. وقد خصَّصتُ النظامَ، في بلدي المحتل سوريا، بالتحريض صريحاً على العائلة الوارثة، حتى أن مقالاتي برمَّتها، الأدبية والوجدانية، كانت تُنزع نزْعاً تمزيقاً، في سوريا، من صفحة الصحيفة اللندنية، التي كتبتُ فيها سنينَ متتاليةً، على نحوٍ نصف شهري. أما كُتبي فقد مُنعت منذ ظهورها، حتى ما قبل أعوام قريبة قليلة جداً، حين لم يَعُد في مستطاع الرقابة منعُ الناس من إدخال كتبي الصادرة في لبنان إلى سوريا.
مازلت في سياق المستطرد استطراداً لا منجى منه كي أكمل دائرة انتمائي إلى مصير المكتوب نقداً، وتحريضاً، وجَبْهاً بالكلمات لا حيلةَ لي بغيرها. غير أنني أجد نفسي، في التكليف الأخلاقي الحاصل من حرائق بلدي، مرتبكاً: كان للمقالة معنى التخصيص في نقل العقل إلى استعراض الظلم، والإهانة، واحتقار الوجود مُرتَّباً عن يديِّ الحاكم الدموي، بالصور في الكتابة مترجمةً إلى كنايةٍ، ومجاز، وتوصيفٍ لونٍ ـ بيانٍ من مقاصد البلاغة إحياءً للخيال يستفزُّ الوجدانَ، أو يثير اللوعة، أو يستنهض التأملَ في المصائر جاريةً إلى مسالخ آباء النهب. حَجْبٌ كثيرٌ، ومنْع، وحصارٌ للمطبوع، أنزلَ المقالةَ منزلةَ الطريدة، قبل بزوغ مشاعية النَّقْل إلى عالم الرتبة الضوئية للإنترنِت. هذا بعض حساب المقالة من عدل الأرقام بات ينهض به، على قَدْرٍ خارق، عالمُ التصوير بالآلة.
كنا، جميعاً، على قُرب من التلفاز حاكماً بانتقائية المشيئة المُراقِبة، نقدِّر للصور مباذلَ من سخاء الخيال بصراً لا يحصره الوصفُ. كنا نرى العالم من حولنا، مؤيِّدين للصور، مستنكِرين للصور، مكفِّريْنَ بالصور، متَّفقين على عدلها أيضاً. لكن بزوغها علينا من شوارع بيوتنا أقامت لها منبتاً في الكيان عاصفاً، مستطيراً، طاحناً لا تقدر المقالةُ على استنابةٍ في شأن حاصلها ـ حاصل الصورة: إنها هي التي تستطيع تدويلَ الجرح. فعلى قدْر ما كانت المقالةُ، ببعض التمنِّي والتعزِّي، "صورةً" تأخذها الكلمة إلى نظر العقل، باتت صورةُ الآلة ـ عدسةً أو هاتفاً محمولاً ـ هي "المقالة" تختطف العقل إلى كلمة الشكل مستعرِضاً شقاءَ المشهد، ورعبه الصامت أو الناطق بألسنة الوجود بالبشري، وأُمم مذهبه. فهل أحالت الصورةُ المرئية مقالاتِنا إلى مرتبةٍ في طلب الرحمة بانحسار اختصاصها؟ المقالات، نفسها، باتت مشاعاً مراعيَ لا يُغلق دونَها بابٌ، لكنَّ لها نقصان اللغة في العبور. الصورة تولد بلغةِ نفسها أصالةً في العنصر، مترجمةً إلى لغة نفسها أصالةً في كل بصرٍ كالهواء لا تخطئ ترجمتَه رئةٌ. سنعترف، على نحوٍ مَّا من قبول مراتب الحقائق، أن خروج الأرض، في أمصارنا، ناكصةً على دورة العبودية، لا تأخذها إلاَّ الصورة من يدها إلى غَلَبة الأعزل. الصورة دِيْنُ المنطق نهائياً في التبليغ. بل هي عدلُ البرهان. لا وصفَ لغةً يلمس وصفَ العين الأخرسَ للوجدان: رجالٌ من زريبة الوحش يرقصون على أجساد المقيَّدين مرميين على بطونهم، بوجوه تفترس من غير قضم، أو عضٍّ، أو نهش. حنجرة مغنٍّ مقطوعة أُفرغَ فمُه من اللسان. جسم صبيٍّ مُنَخْرب بالطلقات. هراوات لا تتوقَّف سقوطاً على رأس مستسلمٍ جالس أرضاً لا يعرف بمَ يقي رأسه. قناصة تطلق النار من شرفة على مصوِّر بآلة الهاتف. دبابات إلى حرب لافي الجولان، بل في بيوت الأهل. ركلٌ مصحوب بشتائم للحرية "الدَّنس" في بلد لم يشهد، منذ استقلاله، إلاَّ دنس العائلة الدموية "الخالدة" أباً، وحزباً من غلمان العائلة. تحطيم للمرْكبات يؤديه حرافيش البعث الطلائع في النَّكال، والقتل من خلف عسكر "القائد". أزيزُ موتٍ. صرخاتٌ، ثم الإصرار، يليه الإصرار، في المشهد قائماً على غلبة الهتاف بسقوط النظام ـ الوليد الأخير من سلالة الكفر بالإنسان حرًّا.
حقبة ما قبل الصورة شائعةً على نحوها المُجتاح، بأناقة الحرية في الآلة الصغيرة تختلس من المشهد ثقةَ العين، كانت حقبةَ انتظام المنطق مدافَعَةً عن الحرية إقناعاً فكراً، بحصالة البيان قدْر مستطاعه، فيستتبُّ للجماعة، والجمهور "معتَقَدٌ" ناظم، هو حقيقة تحزُّبه نهجاً في النظر، أو عصبيَّةً في إدارة المجابهات نزوعاً إلى بناء المِثال "المقالةُ" الحقبةُ بلوغاً بالعقل إلى إيمانه بالحرية، والمقاصد الجامعة للاختلاف في الحرية، كانت يدَ مِلَّة الناس مثلي جاءوا بالكلمات إلى المنازلة خجولةً، أو صاخبةً، أو وقحةً، أو هوجاء، أو جسورة، أو متهوِّرة، أو لطيفةَ المأخذ في عروض مقاصدها إقناعاً تتسقَّطُها الجماعةُ، والجمهور، بما تبني عليه خيالَ وجودها من فكرة العدالة والحرية. لكنَّ "المقالة"، قبل استتباب السلطان الكلي للصورة عن ثقة الآلة بصناعة اليقين، هي على قلقٍ مفرط من سُبل المنع، والحجب، تصير بها يدُ الرقيب إلى نكسات كبرى في بلوغ المعاقل ـ أرض القراء. كانت تصل ولا تصل. تُهزم قبل مسيرها، أو بعد مسيرها بقليل. أنا لا أريد، في تقسيمٍ مفترَضٍ لـ"الحقبات"، الخلوصَ إلى "خطْفٍ" مَّا للإختصاص تقوم به الصورةُ، مذ باتت الصورة انتقالاً من "حقبة" المُعتقد النَاظم للجماعة، والجمهور، بسلطان "المكتوب"، إلى ثقة العين بإيمانها رؤيةً لا كتابةً. تبقى الصورة سياقاً من الثقة في ناظمٍ "محذوفٍ"، كحال الكلمة المحذوفة في الإعراب تقديراً. وهذا الناظم "المحذوف" هو لغة الحروف واقفةً في الظل، من وراء الصورة. الكلماتُ لم تزل في نسيج اللون والخطوط تؤدي المعنى مُختَزَلاً إلى إيماءات: "يسقط النظام" ـ تلك كلماتٌ من الأفواه منطوقةٌ، فيما تحمل الأيدي أقمشة، وألواحاً، تكمل الصورةُ أسبابَ جهادها: خطوط بالدهان مكتوبة توضيحاً: "ارحل يا بشار". "الشعب يريد إسقاط النظام". "الله، وسوريا، والحرية"، مع انتقالٍ لكلمة "الحرية" سَجْعاً، ترتيلاً، من مقام إلى آخر في الصوت نظْماً.
في أحوال كأحوال بلدي تتراجع المقالة، بحكم اختصاص المشهد جريحاً، مَهُوْلاً، فتتقدم الصورةُ كلَّ طبع في التحليل الصامت بالكلمات. أحسُّ بالعجز راهناً حتى الاختناق. قد يتعلل أمثالي بأنهم جمعوا حصالةً، في سَيْر الزمن بهم كُتَّاباً، من نقد النظام موزَّعةً على عقود من أعمارهم، مذ لم نعرف نظاماً غيره ـ كبرنا عليه بخيال النظر إلى العبودية حياةً لا سواها. أَقرأَ الجيل الخارج بهتافه العاري إلى مشهد الموت شيئاً من حَصالة أعمارنا لغةً؛ من الحَصالة تلك الشقية الطعينة؟. لا أظن. آخرون، ربما. لكنْ ليس هؤلاء ذوو الهتاف العاري نَمَوا على بُعْد بوصةٍ من شبكات الإنترنِت جمعتْ لهم العالمَ على مثالٍ لا يشبه حيواتِهم: عالمٌ حرٌّ، بقدْر أو بآخر، يُشتَمُ فيه الحاكم، وإدارة الحاكم؛ ويتبادل مقاعدَ نيابة الجماعات ممثلون أحرار في اختلافهم عن الحاكم؛ ويُساءل الحاكمُ عن تصريف سلطانه على مبعث الأهواء فيه وفي خُلصائه المنتفعين. سوريا، التي استحالت، بنعمة البعث، خندقَ الجبْهِ عن مصالح إيران، واستحالتْ بنعمة العائلة الحاكمة صاعقَ النماء الموقوت للطائفية رتَّبتهُ حصانةً ضد الكثرة بعقل الخوف، هي من آخر "مزارات" الخوف اليوم، ومن آخر حصون جبروت الفساد اختصاصاً تتقنه العائلة. هؤلاء اليفاع، والخليطُ المجاوِرُ أحلامهم بأحلامهم من معتنقي أمل الحرية بأعمارٍ شتَّى، لا يعرفون حكمةً من الوجود ممسكاً عليهم، وحدهم من دون الأصقاع إلاَّ إيران وبعض القليل القليل، نَفَسَ الحلم بمخاطبة شرطي بلا خوف. لسوريا حدود على دول يستطيع أهلها مخاطبة الحياة بأحزاب، وهيئات، ووسائط من علوم النقد، من لبنان، إلى الأردن، إلى تركيا، إلى العراق المنكوب، لكن القادر على بسط مائة صحيفة في الشارع ناطقة بجسارات مُعْتَقَدها، فلماذا لا تكون لأهل سوريا حدود على مذاهب قلوبهم مفتوحة كالحدود بين تركيا وسوريا؟. لا يبشِّرنَّنا أحد بالخوف من غياب "تمثيل" للحلم السوري في معارضته. المتعجلون إلى الشك في اقتدار الجماعات إلى ضبط "ناظم" للمجابهات، وإدارة الناظم، ليسوا بأرباب حيلة تؤخذ على محمل توصيف التمرُّد السوري، بل ناطقون عن رغبات الحاكم، الذي مزق فكرة اجتماع النقد عليه تنكيلاً، وسحلاً، وذبحاً، ومطاردة، أربعة عقود. أيريدون لزواج بالهتافات، في حقل القتل، أن ينجب، بنفخٍ "قدسيٍّ"، طفلهُ المخلِّص كاملَ النطق، والمنطق، والتشريع؛ طفلَه الإدارةَ المكتملة من موجبات البدائل عن قائمٍ أثَّث الحياة أربعين عاماً بالمغاليق، والأسوار، والحصون؛ وببشرى التبعية، وبتفصيل العمارة نظاماً من هندسة الدم العائلي، وانتماء المُعتقَد العائلي؟. ألا تنجب السيرورات الكبرى، عند النظَّار من رعاع الشك، مطارحةً من خيال الجماعة في شؤون الإدارة، والتدبير على موجبات من حقوق العدل، وتسيير السياسة على عدل الحق، والتشريع لنواظم قيام الدولة على قدسية الحرية؟. تمرُّدات كثيرة، عفوية، خلقت ـ بعد استتباب ـ نُظماً للعدالة. الهتاف بالحرية، في وجه الحاكم الدموي، إعلانٌ بوضع الحياة على سكَّة يقينها حياةً ـ ذلك هو المُفْتَتَحُ التاريخُ على القاعدةِ العقل بعد استثناءٍ نحتَه النظام بآلة احتكار القوة، وبعصبية العائلة تحصيناً، أربعين عاماً، ليكتمل لهُ نقلُ الاستثناء إلى مقام القاعدة توريثاً عن توريث في النسل "الخالد". ربما لن يتوقف المسعجلون إلى الشك في تمرد السوريين أمام مذابح الدبابات على "جبهات" شوارع المدن السورية "يحرِّرها" النظام، لتكون المرة الأولى يحرر فيها أرضاً، ولتكون المرة الثانية في توريث المجازر من أب إلى ابنه في حماة. يريدون "بياناً تأسيسيًّا" مفصلاً بفكرة التمرُّد، وقواعده؛ "مشروعاً" إلهيًّا منجزاً بتمام بنوده في اختصاصات إدارة الدولة، وشرع مجتمعها. يريدون التسليم، بعد لمسٍ بالعين لا بالقلب، لسطور "البيان" مدوَّناً تشريعاً بلا نقصان لـ"إدارة الوجود" قياساً إلى مناهج الأنظمة المرفهة بـ"الجماهيرية" سلطةَ كفرٍ بالجمهور، و"الحرية والاشتراكية" نعمتين للسيد وآله أحراراً يتشاركون في النهب، و"الوطنية" حُكراً على الحمد للبقاء على الحافة منذ الولادة حتى الموت. يريد المستعجلون إلى الشك، عن قصدٍ في المنطق إلى تفضيل الحاكم ونظامه "الراسخ"، مطابقاتٍ من "برامج" المتمرد السوري قياساً على "برامج" حزب الفشل القائد للشعب من فشل إلى فشل، ليبقى وحده "ناجحاً"، مثالاً في التفضيل. لابأس أسيفرح رعاع التبشير بالخوف من التمرد السوري، والشك في اقتدار القائمين على ترتيب معارضتهم دستوراً (لن يُغيَّر في خمس دقائق، بعد اليوم، لتوريث ابنٍ أو حفيد) إن سلَّمنا ـ نحن ـ بأن أمر العودة بسوريا إلى ذاتها قد يستغرق أربعين سنة من التيه بلا تدبير؟ إنْ "وافقناهم" على تأجيل قيامة سوريا، التي سيجرها النظام إلى مذابح دماً وشِقاقاً، وتفكيكاً، في التيه أربعين سنة؟ ليكن. ستعود سوريا، بعد أربعين سنة سيدةَ المكان بحصالة العدل. لكن سوريا ستخذل "بشرى" التأجيل بعودتها مُلكاً لناسها، بعد تيهٍ أربعين سنة في صحراء عائلة الحاكم، وخمسين سنة في صحراء البعث الحاكم سيأتي بيان التمرد السوري مفصَّلاً بحقائق الدولة القادمة دولةً نهجاً من مذاهب الحياة. وإلى ذلك الحين نبشر المستعجلين في الشك أن هؤلاء الخارجين بهتافاتهم العارية إلى الموت لا يخافون بشرى النظام بالسلفية. النظام، في سوريا، هو "السلفية" التكفيرية وجوداً مطبوعاً، ومتطبِّعاً ومنهجاً في السلوك بالمعتَقَد إلى إخضاع الآخر. أليست السلفية ادِّعاءَ احتكار الحقيقة طاهرةَ الأصول؟ ما الذي أبقى البعث للسلفية التكفيرية في مادة الدستور الثامنة، باحتكار حق الحياة في سوريا، وسياسة الحياة في سوريا، وإدارة الحياة في سوريا، وبإحقاق "الخلافة" في العائلة "المختارة" للقيام بديْنِ مُلكيَّة البشر، والتراب، والحجر، حصْراً إلى الأبد؟: سلفيَّةُ تكفيرٌ باجتهاد دموي تحت اسم الله، وسلفيةٌ بعثٌ للتكفير بكل حزب آخر يزاحمه على إدارة الحياة تحت اسم الدولة.
السوريون لا يخافون تلويح النظام بالسلفية عن يد الطائفية يستثيرُها دعاوةً. دخل أبُ الحاكم الوريث إلى لبنان، منتصف سبعين القرن الماضي، بدعوى إطفاء الحرب الطائفية مباركاً بتأييد الأمريكي غير المقتنع بالزعم (هو الأمريكي يصرِّح، اليوم، أنه لا يصدق مزاعم النظام تهويلاً بالسلفية، والطائفية). كانت الحرب الأهلية، المشؤومة، في لبنان، على مقاصد في بناء النظام، وخيارات النظام. خرج الكل خاسراً إلاَّ نظام الأسد خرج بربح ثلاثين سنة احتلالاً من عمر البلد، واقتصاد البلد، وتوزيع المغانم وظائفَ على الأتباع (اليتامى غداً). وها هو النظام ينزع إلى التهويل، ثانيةً، بالذي وافقه الأمريكي، مرة، قبل عقود، ليلجم الفلسطينيَّ واليسارَ الحليف، متواطئاً، آنئذ، مع المزعم الملفَّق فاقرَّ الأسدَ "منقذاً". ها هو النظام عائداً بالتهويل ذاته متوسِّلاً دعم الغربيِّ في لجم شعبه. تهويل رعاة البعث بعودة الذئب أخرجت الأمريكي إلى علن التصريح في احتقار مزعمه. الأمريكي يعرف رعاة البعث تواطأ معهم مرة على الزعم بظهور الذئب في لبنان، قبل عقود. والسوري، الذي تُرِكَ طويلاً في زرائب الرعاة، لن يخيفَه زعمُ التهديد بذئب السلفية. لا خوف من السلفية مذ ليس أمام السلفية ذاتها، في نزوع الجمهور إلى حظِّه من الحقِّ كاملاً في العدالة لخيالِ حياته، وخيالِ مُعتَقَده، إلاَّ المجيء إلى حكمة القانون اختصاصاً، وعَقْده خياراً لقيام الدول الآن. لا يخاف السوريون السلفيَّةَ، التي ترى بعيني طباعها أن لا حُكم، بعد الآن، لآيات ادعاء الحقِّ مطلقاً، والحقيقةِ مُطلَقَةً. والسوريون لن يخافوا قيام المسجد نيابةً عن الشارع يشؤون الشارع تكليفاً من أحكام الضرورة. زَعْمُ الحرص على نُقلة الحرية "طاهرةً" من عبث الدينيِّ بها، بأخذ المسجد زمامَ النُّقلة، هو كزعمهم الشكِّ في وحدة الحلم السوري ومُعْتَمَده معارضةً منجَزَة المناهج. كلُّه لعب على ألفاظ النظام في تكليف نفسه علاءَ الأحديَّةِ لا يُغالبه منهجٌ على الأحدية، أو التشارُك. لقد "اعتُقِل" الشارعُ الرصيفُ، والساحة، والميدان، والقارعةُ، والزُّقاق، وسطوح العمارات (تنكَّبها القناصون) بدبابات النظام، فهل يرتئي المختصُّون في فُتيا "طاهرية الحرية" عن الشارع، لاعن غيره، خروجَ الجمهور إلى أزقَّة كلماتهم المفضية إلى كمين إقرارِ الحاكم على الحكم هتافاً بالحرية؟ إنهم يريدون الجمهور مستحصليْنَ "ترخيصَ" الشارع، كزعم النظام ناطقاً عن بذْل "الإحسان" القانوني بالتظاهر عن ترخيصٍ بعد تمحيصٍ يعرف الله، والعباد، وأهل الشك في "طاهرية الحرية" من عبث الدينيِّ واستئثاره، أنها من سماجات منطق البعث. السوريون لن يخافوا قيام المسجد ـ المَعْقل الأخير الناجي لاجتماعهم من هدم النظام للخلاءات، والأعراء، والهواء في الخلاءات والأعراء تقويضاً بمعاول فِرقِ العائلة القتلة ـ مقامَ الطريقِ الشارعِ.
لم يَعُدِ المسجدُ من مقاصد فردوس السماء، بل من مقاصد عدالة الأرضيِّ قدْرَ ما يستطيع الأرضيُّ، وعداً بالحرية، إعادةَ السماء شارعاً للهتاف بالحرية.