أربعة وعشرون عاماً مرت على استشهاد الفنان المبدع ناجي العلي وما زالت أعماله تحلّق في فضاءات الوطن في تحد واضح و ملموس وتساؤلات جمة: أين وصلتم؟؟ وماذا حققتم؟؟ ولماذا لم تطبق المصالحة على أرض الواقع؟؟ وتستفزنا تلك الأسئلة لأنها تشكل في داخلنا حراكاً وطنياً وسياسياً ولكننا نبقى مقصرين في الإجابة على تساؤلات رسومات الشهيد ناجي العلي، لأنها محفورة في واقع النضال الفلسطيني وبقيت تلك الأعمال نبراساً لشعبنا ولمثقفيه وأدبائه. وإذا كنا نتذكر في هذا اليوم الفنان ناجي العلي فإننا نسأل أنفسنا ماذا قدمنا لموروثه الفني، فهل افتتحنا مدرسة فنية باسم ناجي العلي وهل عملنا على تخصيص جائزة سنوية باسم هذا الفنان؟؟ وأنا هنا لا أريد أن أعاتب مؤسساتنا الفلسطينية الكثيرة والكثيرة جداً على تقصيرها بحق هذا الرمز، ولكن لا بد لنا ان نستنهض همم تلك المؤسسات والشخصيات الوطنية والثقافية من اجل عمل شئ جماعي يليق بقامة هذا الفنان.
إن الكتابة عن فنان الكاركتير ناجي العلي في ذكرى رحيله شيئ صعب، فالكلمات تبقى عاجزة عن الايفاء بحق هذا الفنان الذي حمل على كاهله عذابات الشعب الفلسطيني وراح يجسدها من خلال رسوماته المميزة، والتي شكلت بجوهرها تحديا للواقع الذي يمر به هذا الشعب، فكانت هذه الرسومات بمثابة رواية فلسطينية مبدعة للرد على الرواية الاسرائيلية.
واذا كنا في هذا اليوم نستذكر ناجي العلي فإنه من الأجدر بنا أن نقدم لمحة موجزة عن هذا الفنان الذي عشق الارض والثورة ولد عام 1937، وهاجر مع أهله إلى جنوب لبنان عام 1948 واستقر في مخيم عين الحلوة، ودرس الابتدائية في مدارس المخيم، واعتقلته القوات الاسرائيلية وهو صبي صغير، فأثرت تجربة السجن في حياته ومواهبه، وقد بدأ يرسم على جدران الزنزانة التي كان يقيم بها رسومات تدل على رفضه لسياسة الاحتلال، وقد شكلت هذه البداية توهجا لدى ناجي العلي، حيث بدأ يرسم لوحاته بعد خروجه من المعتقل، وكان للراحل الكبير الكاتب غسان الكنفاني دور هام في دعم هذه الموهبة من خلال نشر أول لوحة لناجي العلي في مجلة الحرية العدد 88 لعام 1961، وبعدها بدأ الاهتمام يتصاعد برسومات ناجي العلي، حيث سافر في عام 1963 إلى الكويت، وعمل محرراً ورساماً ومخرجاً صحفياً في العديد من الصحف الكويتية مثل الطليعة والسياسة والقبس، ثم انتقل للعمل بجريدة السفير اللبنانية وبعدها القبس الدولية.
وعندما نتحدث عن ناجي العلي فإن من الأجدر بنا أن نتطرق إلى شخصية حنظلة التي ميزت رسوماته، وأن هذه الشخصية التي ابتدعها ناجي العلي تمثل صبياً في العاشرة من عمره وأول ما ظهر هذا الرسم في الكويت عام 1969 في جريدة السياسة الكويتية، حيث يعرف عن حنظلة بأنه أدار ظهره للناس وعقد يداه خلف ظهره، وأصبح حنظلة ماركة مسجلة لرسومات ناجي العلي وهي ترمز للفلسطيني المعذب والقوي رغم كل التحديات، أما ناجي العلي فيقول: "إن حنظلة هو بمثابة الأيقونة التي تمثل الانهزام والضعف في الأنظمة العربية".
وفي الثاني والعشرين من تموز عام 1987 امتدت إلى صدره رصاصات الغدر أثناء عمله في لندن وبقي في غيبوبة حتى توفاه الله في التاسع والعشرين من آب بنفس العام.
إن رسومات ناجي العلي والتي تقدر بأربعين ألف رسم كاريكتوري تمتد على مساحة الوطن، جميعها تتميز بالنضوج الفكري والسياسي والنقد اللاذع تبقى خالدة في سماء الثقافة الإنسانية، وإنه لا بد لنا من أن نكرم الراحل ناجي العلي بضرورة إعادة جثمانه ليدفن بأرض الوطن لأنه أقل عمل يقدم احتراماً وتقديراً لهذا الانسان، وإذا كان ناجي العلي قد غاب عنا جسداً فان حنظلة قد ظل شاهداً على العصر وحتما سنرى وجهه عندما يتم تحرير فلسطين وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
من مقولات الشهيد ناجي العلي:
أنا شخصياً منحاز لطبقتي
منحاز للفقراء
أنا لا أغالط روحي ولا أتملق أحداً الفقراء هم اللذين يموتون وهم اللذين يعانون معاناة المناضل الحقيقي
دائم العطاء الذي يأخذ حقه من خلال حق الآخرين وليس على حسابهم.
لي موقفي من الجماهير الكادحة والمسحوقة والمغبونة تاريخياً.
أحاول التقاط همومي وتمتزج في داخلي الهموم وفي ظلها أرسم حتى أنني أعشق همومي.
رسومي ليست للعرض، انها لغة تعبيرية وأراهن على روحي لتوظيفها في سبيل قضيتي.
ليست مهمتي إبراز الإضاءات والإنجازات، إن عملي هو الرصد وكشف الالغام.
يقولون إن علينا أن نغلق ملف القضية الفلسطينية، وأن نحلها كما يريدون لنا أن نحلها. وأقول لهم: إن كنتم تعبتم ففارقونا.
إنني ملحد بالأنظمة من خلال التجربة وليس بالتطاول عليها، ففي كل العالم لم يأخذ الحاكم فرصة أربعة أو ثمانية سنوات، حتى يعاد انتخابه من جديد.
بعض المثقفين يشكون أن سقف الديمقراطية واطئ، وأنا أحس أن القهر هو الذي ينتج وكل مثقف فيه ضمير يستطيع أن يجد رمزه.
جئنا فقراء فلسطينيين، ورجعنا فقراء هنود.
إن الظواهر الشامخة تتخطى كل الحواجز وتصبح كالشمس الساطعة، تهدي ضوئها ودفئها وحرارتها للجميع..
ماذا يقول حنظلة عن نفسه ؟؟؟
يقول حنظلة عن نفسه: اسمي حنظلة، اسم أبويي مش ضروري، أمي اسمها نكبه، تاريخ ولادتي عام النكسة، جنسيتي: أنا مش فلسطيني، مش أردني، مش لبناني، مش سوري، مش مصري، مش حد، باختصار ما معيش هوية، ولا ناوي أتجنس، محسوبك إنسان عربي وبس، التقيت صطفة بالرسام ناجي، كان كاره شغلو لأن مش عارف يرسم وناوي شغلة غير هالشغلة، قلتلو انت انسان جبان وبتهرب من المعركة وقسيت عليه، وبعد ما طيبت خاطرو، عرفتو عن نفسي، وأني انسان عربي واعي وملتزم، قلتلو أنا مستعد أرسم عنك الكاريكاتير كل يوم، وفهمتو أني ما بخاف من حدا غير من الله.
يقدم ناجي العلي مولوده حنظلة بالقول: ولد حنظلة في العاشرة من عمره، و سيظل دائماً في العاشرة، ففي تلك السن غادرتُ الوطن، وحين يعود، حنظلة سيكون بعد في العاشرة، ثم سيأخذ في الكبر بعد ذلك... قوانين الطبيعة المعروفة لا تنطبق عليه، إنه استثناء لأن فقدان الوطن استثناء... وستصبح الأمور طبيعيةً حين يعود للوطن.
ويقول: لقد رسمته خلافاً لبعض الرسامين الذين يقومون برسم أنفسهم ويأخذون موقع البطل في رسوماتهم. فالطفل يُمثل موقفاً رمزياً ليس بالنسبة لي فقط، بل بالنسبة لحالة جماعية تعيش مثلي وأعيش مثلها... قدمته للقراء واسميته حنظلة كرمز للمرارة، في البداية قدمته كطفل فلسطيني لكنه مع تطور وعيه أصبح له أفق قومي ثم أفق كوني إنساني.
وقال: ولد حنظلة أيقونة تحفظ روحي وتحفظني من الانزلاق، حنظلة وفي لفلسطين، وهو لن يسمح لي أن أكون غير ذلك، إنه نقطة عرق من جبيني تلسعني إذا جال بخاطري أن أجبن أو أتراجع.
يعتبر حنظلة من أكثر الأيقونات شهرة في العالم، فهو ذاك الطفل الصغير الذي يدير ظهره لخيبات هذه الأمة وقهرها وينظر نحو شروق الشمس دائماً، لا نرى وجهه إلا في انتصارات الأمة، ولا نرى عيناه إلا عندما تتحرر فلسطين وسائر أرضنا العربية، بثيابه الرثة وشعره الأشعث وبأقدامه العارية.
يمثل حنظلة كل الأمة العربية من مشارقها إلى مغربها، رافق ناجي العلي في كل لوحاته و حينما اغتيل الفنان ناجي العلي بقي حنظلة وحيداً ينتظر عودة فارس جديد.
أما عن ناجي العلي فيقول عن نفسه: اسمي ناجي العلي. ولدت حيث ولد المسيح، بين طبرية والناصرة، في قرية الشجرة بالجليل الشمالي، أخرجوني من هناك بعد 10 سنوات، في 1948 إلى مخيم عين الحلوة في لبنان. أذكر هذه السنوات العشر أكثر مما أذكره من بقية عمري، أعرف العشب والحجر والظل والنور، لا تزال ثابتة في محجر العين كأنها حفرت حفراً. لم يخرجها كل ما رأيته بعد ذلك.
أرسم.. لا أكتب أحجبة، لا أحرق البخور، ولكنني أرسم، وإذا قيل أن ريشتي مبضع جراح، أكون حققت ما حلمت طويلاً بتحقيقه. كما أنني لست مهرجاً، ولست شاعر قبيلة – أي قبيلة – إنني أطرد عن قلبي مهمة لا تلبث دائماً أن تعود ثقيلة، ولكنها تكفي لتمنحني مبرراً لأن أحيا.
متهم بالانحياز، وهي تهمة لا أنفيها. أنا لست محايداً، أنا منحاز لمن هم "تحت"، الذين يرزحون تحت نير الأكاذيب وأطنان التضليلات وصخور القهر والنهب وأحجار السجون والمعتقلات، أنا منحاز لمن ينامون في مصر بين قبور الموتى، ولمن يخرجون من حواري الخرطوم ليمزقوا بأيديهم سلاسلهم، ولمن يقضون لياليهم في لبنان شحذاً للسلاح الذي سيستخرجون به شمس الصباح القادم من مخبئها.. ولمن يقرؤون كتاب الوطن في المخيمات.
كنت صبياً حين وصلنا زائغي الأعين، حفاة الأقدام، إلى عين الحلوة.. كنت صبياً وسمعت الكبار يتحدثون.. الدول العربية.. الإنكليز.. المؤامرة.. كما سمعت في ليالي المخيم المظلمة شهقات بكاء مكتوم.. ورأيت من دنت لحظته يموت وهو ينطلق إلى الأفق في اتجاه الوطن المسروق، التقط الحزن بعيون أهلي، وشعرت برغبة جارفة في أن أرسمه خطوطاً عميقة على جدارن المخيم.. حيثما وجدته مساحة شاغرة.. حفراً أو بالطباشير.
وظللت أرسم على جدران المخيم ما بقي عالقاً بذاكرتي عن الوطن، وما كنت أراه محبوساً في العيون، ثم انتقلت رسوماتي إلى جدران سجون ثكنات الجيش اللبناني، حيث كنت أقضي في ضيافتها فترات دورية إجبارية.. ثم إلى الأوراق.. إلى أن جاء غسان كنفاني ذات يوم إلى المخيم وشاهد رسوماً لي، فأخذها ونشرها في مجلة "الحرية"وجاء أصدقائي بعد ذلك حاملين نسخاً من "الحرية" وفيها رسوماتي، شجعني هذا كثيراً.
حين كنت صبياً في عين الحلوة، انتظمت في فصل دراسي كان مدرسي فيه أبو ماهر اليماني، وعلمنا أبو ماهر أن نرفع علم فلسطين وأن نحييه، وحدثنا عن أصدقائنا وأعدائنا. وقال لي حين لاحظ شغفي بالرسم "ارسم.. لكن دائماً عن الوطن".
وتوجهت بعد ذلك إلى دراسة الفن أكاديمياً، فالتحقت بالأكاديمية اللبنانية لمدة سنة، أذكر أني لم أحاول خلالها إلا شهراً أو نحو ذلك، والباقي قضيته كما هو العادة في ضيافة سجون الثكنات اللبنانية. كانوا يقبضون علينا بأية تهمة، وبهدف واحد دائماً: هو أن نخاف، وكانوا يفرجون عنا حين يملون من وجودنا في السجن، أو حين يتوسط لديهم واحد من الأهل أو الأصدقاء.
ولآن الأمور كانت على ما كانت عليه، فقد فكرت في أن أدرس الرسم في القاهرة، أو في روما، وكان هذا يستلزم بعض المال، فقررت أن أسافر إلى الكويت لأعتل بعض الوقت.. وأقتصد بعض المال.. ثم اذهب بعدها لدراسة الرسم.
ووصلت بالفعل إلى الكويت عام 1963، وعملت في مجلة "الطليعة" التي كانت تمثل التيار القومي العربي هناك في ذلك الوقت.. كنت أقوم أحياناً بدور المحرر والمخرج الفني والرسام والمصمم في آن واحد، وبدأت بنشر لوحة واحدة، ثم لوحتين، وهكذا كانت الاستجابة طيبة. شعرت أن جسراً يتكون بيني وبين الناس، وبدأت أرسم كالمحموم، حتى تمنيت أن أتحول إلى أحد آلهة الهند القدامى.. بعشرين يداً.. وبكل يد ريشة ترسم وتحكي ما بالقلب.. عملت بصحف يومية بالإضافة إلى عملي، ونشرت في أماكن متفرقة من العالم.
كنت أعمل في الكويت حين صدرت جريدة "السفير" في بيروت. ولقد اتصل بي طلال سلمان وطلب مني أن أعود إلى لبنان لكي أعمل فيها. وشعرت أن في الأمر خلاصاً، فعدت ولكني تألمت وتوجعت نفسي مما رأيت، فقد شعرت أن مخيم عين الحلوة كان أكثر ثورية قبل الثورة، كانت تتوفر له رؤية أوضح سياسياً، يعرف بالتحديد من عدوه وصديقه، كان هدفه محدداً فلسطين، كامل التراب الفلسطيني.
لما عدت، كان المخيم غابة سلاح، صحيح، ولكنه يفتقد إلى الوضوح السياسي، وجدته أصبح قبائل، وجدت الأنظمة غزته ودولارات النفط لوثت بعض شبابه، كان هذا المخيم رحماً يتشكل داخله مناضلون حقيقيون، ولكن كانت المحاولات لوقف هذه العملية. وأنا اشير بإصبع الاتهام لأكثر من طرف، صحيح أن هناك تفاوت بين الخيانة والتقصير، ولكني لا أعفي أحداً من المسؤولية، الأنظمة العربية جنت علينا، وكذلك الثورة الفلسطينية نفسها.
وهذا الوضع الذي اشير إليه يفسر كثيراً مما حدث أثناء غزو لبنان.
عندما بدأ الغزو كنت في صيدا، الفلسطينيون في المخيمات شعروا أنه ليس هناك من يقودهم، اجتاحتنا إسرائيل بقوتها العسكرية، انقضت علينا في محاولة لجعلنا ننسى شيئاً اسمه فلسطين، وكانت تعرف ان الوضع عموماً في صالحها، فلا الوضع العربي، ولا الوضع الدولي ولا وضع الثورة الفلسطينية يستطيع إلحاق الهزيمة بها، والأأنظمة العربية حيدت نفسها بعد ” كامب ديفيد “.
في الماضي كانت الثورة الفلسطينية تبشر بحرب الأغوار بالرجب الشعبية، العدو جاء باتجاهنا وكل قياداتنا العسكرية كانت تتوقع الغزو، وبتقديري، ورغم أنني لست رجلاً عسكرياً ولم أطلق رصاصة في حياتي، أنه كان من الممكن أن تجتاح إسرائيل لبنان بخسائر أكبر بكثير، وهنا تشعر أن المؤامرة كانت واردة من الأنظمة ومن غير الأنظمة، أقصد مؤامرة تطهير الجنوب والقضاء على القوة العسكرية الفلسطينية وفرض الحلول ” السلمية” وتشعر أنه مقصود أن تقدم لنا هذه “الجزرة” لكي نركض وراء الحل الأمريكي.
هذا هو الوضع العربي والوضع الفلسطيني جزء منه، بتقديري أنه كان يمكن أن نسدد ضربات موجعة لإسرائيل، ولكن مخيماتنا ظلت بلا قيادة، وكيف لأهاليها أن يواجهوا الآلة العسكرية الإسرائيلية !
الطيران والقصف اليومي من البر والبرح والجو، بالإضافة إلى أن الوضع كان عملياً مهترئاً، قيادة هرمت، ومخيمات من زنك وطين، اجتاحها الإسرائيليون وجعلوها كملعب كرة قدم، ومع ذلك وصل الإسرائيليون إلى بيروت وحدود صوفر، والمقاومة لن تنقطع من داخل المخيمات وبشهادات عسكريين إسرائيلين وبشهادتي الشخصية اعتقلت أنا وأسرتي كما اتعقلت صيدا كلها وقضينا 3 أو 4 أيام على البحر.
بعد أن تم الاحتلال، كان همي أن أتفقد المخيم لأعرف طبيعة المقاومة والقائمين بها، أخذت معي ابني _وكان عمره 15 سنه وذهبنا في النهار، كانت جثث الشهداء ما زالت في الشوارع والدبابات الإسرائيلية المحروقة على حالها على أبواب المخيم لم يسحبها الإسرائيليون بعد، تقصيت عن طبيعة المقاومين فعرفت أنهم أربعون أو خمسون شاباً لا أكثر، كان الإسرائيليون قد حرقوا المخيم والأطفال والنساء كانوا مازالوا في الملاجئ، وكانت القذائف الإسرائيلية تنفذ إلى الأعماق وكان قد سقط مئات الضحايا من الأطفال في المخيم وفي صيدا.
وبشكل تلقائي عاهد هؤلاء الشباب أنفسهم أنهم لن يستسلموا وأنها الشهادة أو الموت، وفعلاً لم تستطع إسرائيل أن تأسر أي واحد من هؤلاء الشباب. في النهار، في ضوء الشمس كانت إسرائيل تنقض عليهم. وفي الليل يخرجون هم بالأر بي جي. فقط.
هذه صورة مما حدث في مخيم عين الحلوة، وأنا شاهد ولكني أعرف أن هناك صوراً أخرى في مخيمات صور والبرج الشمالي والبص والرشيدية.
كان الناس في الملجأ وفي الشارع يدعون لله ويسبون الأنظمة وكل القيادات ويلعنون الواقع ولا يبرئون أحداً، ويشعرون أنه ليس لهم إلا الله ويتحملون مصيرهم.
جماهير الجنوب بما فيها جماهيرنا الفلسطينية المعترة (الفقيرة ) هي التي قاتلت وهي التي حملت السلاح ووفاء لهذا الشعب العظيم الذي أعطانا أكثر مما أعطانا أي طرف آخر، وعانى وتهدم بيته، لابد من أن يقول المرء هنا إن مقاومي الحركة الوطنية اللبنانية قد جسدوا روح المقاومة بما يقارب الأسطورة.
وفي رأيي أن الإعلام العربي مقصر في عملية توضيح روح المقاومة الحقيقية.
40 ألف صورة رسمها الفنان ناجي العلي و ماخفي لا يدخل في الحسبان، و كانت رسوماته المصنوعة من الحبر الأسود قد تجاوت كل الخطوط الحمراء للأنظمة العربية قبل غيرها، و في 22 تموز 1987 وصل الفنان إلى شارع آيفز في لندن حيث تقع صحيفة القبس التي عمل بها، ليفرغ مجهول الهوية رصاصة في رأسه، ليسقط ناجي على الأرض و يفارق الحياة في 29 تموز 1987، لكن حنظلة بقي موجوداً في الذاكرة العربي ليصبح رمزاً لأكثر من جيل.