هناك مسافة زمنية طويلة قطعتها البشرية منذ بداية التاريخ، دعك من مرحلة ما قبل التاريخ، استعمل خلالها الإنسان النقوش ثم المخطوط فالكتاب المطبوع فالكتابة الرقمية حاليا. وقد يبتكر الإنسان وسيلة أخرى في المستقبل. كل شكل من هذه الأشكال كان في وقته ثورة وجديدا بالقياس إلى ما قبله. أمدت النقوش علماء الآثار والمؤرخين والأنتروبولوجيين بمعلومات ثمينة أضاءت جوانب من تطور الكائن البشري. وكان للمخطوط دور أساسي في عصر التدوين في العصر العباسي، إذ بفضل المخطوطات تم التعرف على الثقافة العربية القديمة. وقد كان للمستشرقين دور أساسي في هذا المجال، مجال تحقيق وطبع المخطوطات العربية القديمة.
بعد النقوش والمخطوطات عرفت البشرية الطباعة بفضل اختراع الآلة. وقد كان ذلك متزامنا مع التباشير الأولى للعصر الحديث في أوروبا والثورة الصناعية. لا يمكن إنكار دور الكتاب في نشر وتعميم المعرفة. وظهرت في وقتنا الراهن الكتابة الرقمية.
أولا ينـبغي التمييز بين الكتابة الرقمية والثقافة الرقمية والأدب الرقمي. ذلك أن الكتابة الرقمية أوسع من الثقافة الرقمية. والثقافة الرقمية أوسع من الأدب الرقمي. تتميز الكتابة الرقمية بتعدد أشكالها، إذ تدخل في هذه الكتابة حتى الرسائل الإلكترونية المرسلة أو المتبادلة بين اليافعين والمراهقين المعبرة عن حاجات نفسية فردية وشخصية. وتتضمن الثقافة الرقمية كل أشكال الخطابات: الخطاب السياسي، والخطاب التحسيسي، والخطاب المتعلق بالتوعية {التوعية الصحية مثلا}، والخطاب التاريخي، والخطاب الأدبي، والخطاب التحليلي والنقدي الخ. أما الأدب الرقمي، وهو جزء من الثقافة الرقمية، فيتضمن ما ينشر من روايات وأشعار وقصص ونصوص درامية إلكترونيا.
للنشر الرقمي إيجابيات تقنية لا شك فيها. فهو سهل وسريع جدا من حيث النسخ، واللصق، والتحميل، والطبع، والإحصاء، إحصاء الكلمات والفقرات والسطور، الذي يتم في لمح البصر، وغيرها من التقنيات المرتبطة بالنشر الرقمي التي يوفرها جهاز الحاسوب. أضف إلى ذلك السرعة في البحث عن المعلومة. وبفضل هذا النشر أصبح بالإمكان الاطلاع على الجديد في كل الميادين المعرفية، بعد أن زالت الحواجز بين البلدان العربية بل بين بلدان العالم، وهذا مكسب ثمين. لقد كانت الجريدة والملحق الثقافي والمجلة والكتاب الوسائل المتوفرة لنشر الثقافة عموما ومنها الأدب بمختلف أنواعه. وقد يتأخر النشر حين اختيار وسيلة من هذه الوسائل، أما النشر في الإنترنت فهو سريع جدا.
كل هذه المكتسبات التقنية مهمة ومساعدة للقارئ والباحث والمبدع. لكن بالموازاة مع هذه المكتسبات التقنية، لوحظ اندفاع واستسهال في النشر الإلكتروني رغم عدم توفر النص الأدبي الرقمي أحيانا على المقومات الفنية المطلوبة.
وقد بدأ الاهتمام بالثقافة الرقمية والأدب الرقمي من قبل عدد من المثقفين العرب اليوم. من ذلك، على سبيل المثال، كتاب سعيد يقطين الموسوم بـ «النص المترابط ومستقبل الثقافة العربية نحو كتابة رقمية عربية" {المركز الثقافي العربي، 2008). استفاد في كتابه هذا من عدد من المصطلحات المرتبطة بمفهوم "النص" الموجودة في كتابيه «تحليل الخطاب الروائي" و «انفتاح النص الروائي".
بين المؤلف في كتابه «النص المترابط.. " الإمكانيات التقنية التي يوفرها جهاز الحاسوب والإنترنت والتي قد يستفيد منها النص، وقد ضرب مثالا على ذلك بالنص القرآني. كما تتبع فيه بدايات الاهتمام بالنص المترابط من قبل الغربيين ومختلف المصطلحات التي صاحبت هذه البدايات إلى حين تأليف الكتاب. هذا إضافة إلى عودته إلى الجذر ( ر، ق، م) في المعاجم اللغوية العربية لكي يحدد المعنى الجديد لمفهوم «الترقيم «وما يمكن أن يشتق منه من مصطلحات جديدة مثل الرقام والنص الرقمي. وقد كانت نتيجة عودته إلى هذا الجذر في تلك المعاجم قوله: نعاين بجلاء من خلال ما تقدمه لنا المعاجم العربية أن الرقم والترقيم والمرقوم، وما يشتق منها، تتصل اتصالا وثيقا بالكتابة والكتاب، كما أنها تضيف عنصرا أساسيا نجده يتحقق، بالصدفة، مع الحاسوب وهو المظهر المتعلق بـ: التزيين والوشي والتخطيط والنقش والحذق والتبيين وتوضيح علامات الترقيم، وسواها من العلامات التي تعطي لـ «الرقمي'طابعه التزييني المميز. ولعل في الصفات التي اشتققناها من المادة نفسها: الراقم والرقام محملة بكل الدلالات التي يمدنا بها هذا الجذر في اللغة العربية ما يسعفنا بإقامة روابط عميقة بين الكتابة والرقامة، ويدفعنا إلى تعميق تفكيرنا فيهما معا من منظور جديد ومتجدد. (ص/154}.
وحدد الرقميات الأدبية، فهي «تهتم بالأدب الرقمي وبكل ما يتصل بإنتاج النص الرقمي وأنواعه وكيفيات تحقيق ذلك، سواء على مستوى الشكل أو المحتوى أو الدلالة، إبداعيا وتحليليا'(ص/186). والنص الرقمي «متعدد العلامات'. ثم ختم كتابه بتقديم مطالب إلى اتحاد كتاب الإنترنت العرب، وقد أشار إلى مؤسسه محمد سناجلة، يتبين من خلالها حماس سعيد يقطين من أجل اهتمام العرب بهذا الوسيط الجديد المهم في إنتاج وتعميم ونشر المعرفة: الفضاء الشبكي.
لقد ربط سعيد يقطين صفة الجديد بالنشر الرقمي، على صعيد النص الأدبي الرقمي دون تمييز، وربط صفة القديم بالنص الورقي. هذا المنظور يضفي على مفهومي القديم والجديد معنيين تقنيين يتعلقان بالوسيط فقط هل هو الورق أم الإنترنت والحاسوب؟. فهل كل ما ينشر، في إطار الأدب الرقمي، في الإنترنت أدب جديد تتوفر فيه مقومات الجدة؟ وهل كله يندرج في إطار الحداثة حتى ولو كان محملا برؤية فكرية تتعارض مع قيم هذه الأخيرة؟ وهل يمكن اعتبار، قياسا على ذلك، كتابه «النص المترابط ومستقبل الثقافة العربية نحو كتابة عربية رقمية" كتابا قديما لأنه كتاب ورقي؟. أما بالنسبة إلى رأيي الشخصي عن هذا الكتاب الأخير فأنا أعتبره كتابا جديدا وحداثيا رغم أنه كتاب ورقي.
بناء على ما سبق، هل يمكن الاستغناء عن الكتاب الورقي على الأقل حسب المعطيات التقنية المتوفرة اليوم؟سعيد يقطين لم يستغن عنه بدليل كتابه ذاك، وكذلك بدليل إشارته إلى أنه يعد كتابا آخر في الموضوع أي الرقميات. لذلك لا يجب وضع الكتاب الورقي في تعارض مع الكتاب الرقمي، فلكل منهما دوره ومهمته على الأقل في الوضع الراهن. فلو كان كتاب سعيد يقطين منشورا على شبكة الإنترنت لكنت شخصيا مضطرا، لأهمية الكتاب، إلى طبعه ورقيا، والحاسوب والطابعة تحقق ذلك، من أجل قراءته قراءة متأنية ومريحة. وعلى هذا الأساس، يبدو أن هناك تكاملا بين الكتاب الورقي والكتاب الرقمي.