آفاق جديدة: فن الكتابة الرقمية

. أسس الكتابة الرقمية

سعيد يقطين

الكلمات المفاتيح: الكتابة الرقمية ـ كتابة النص القرآني ـ الترابط النصي ـ الوسائط المترابطة.
1. تقديم: الكتابة صناعة:
1. 1. لم تكن عملية الكتابة، منذ أن اخترعها الإنسان، محاولة منه لتقييد ما كان يتلفظ به بواسطة الصوت، ولمنعه من التلاشي والضياع عن طريق حفظه وضمان استمراره فقط، ولكنها كانت أيضا اكتشافا وممارسة لصناعة. قوام هذه الصناعة: أداة للكتابة وفضاء لها. تطورت هذه الصناعة مع الزمان، وكان هدف الإنسان أبدا هو تحسين أداء الأدوات والبحث عن الفضاءات المثلى التي كان يستعملها للكتابة، ويعمل على تجويدها للقيام بوظيفتها بشكل أحسن. كان استعمال الورق ثورة كبرى في مجال صناعة الكتابة لأنه عوض كل الفضاءات المحدودة التي كانت تستعمل لتقييد الكلام وتسجيله، وصار بديلا عما خلاه من الفضاءات القديمة ( سعف النخل، العظام، الطين، رق الغزال،،، ). وجاءت المطبعة لتشكل طفرة نوعية في مسار الكتابة وصناعة الكتاب. فصار المخطوط بذلك عبارة عن مرحلة تستتبعها مرحلة أخرى هي طباعته لضمان رواجه وتلقيه على نطاق واسع. وبعد المطبعة، بدأ استعمال الآلة الكاتبة التي وفرت اسنخدام الكتابة لأكبر عدد من الكتاب وسرعت عملية إنجازها بالقياس إلى الكتابة باليد، إلى أن جاء الحاسوب الشخصي وسيطا جديدا للكتابة فصار الأداة والفضاء معا، فانتقلنا بذلك من النص المكتوب إلى الشاشة. خلال كل هذه الصيرورة، نجد أنفسنا أمام تطور صناعة الكتابة والنص. وإن كان هذا التطور بطيئا جدا. لقد استدعى الانتقال من الشفوي إلى الكتابي مرحلة طويلة جدا من الزمان. كما تطلب العبور إلى الطباعة محاولات ودهورا. ولم يتأت الوصول إلى المرحلة الأخيرة التي صار فيها استعمال الحاسوب الشخصي أساسيا في عملية الإنناج النصي سوى بضعة عقود.
1. 2. إن اختراع الأداة والفضاء الخاصين بالكتابة والعمل على تطويرهما لم يكن فقط محاولة من الإنسان لضمان تقييد النص وجعله يقاوم الزمان. ولقد كان هذا فعلا هاما وإنجازا عظيما في تاريخ البشرية. ولكنه كان أيضا يؤثر على النص في ذاته. إن أدوات الكتابة تحدد نوع الكتابة أيضا، وكلما تطورت أدوات الكتابة ووسائطها تطورت وتعقدت عملية الكتابة وخضعت لمتطلبات الوسيط الجديد وخصوصيات آلياته سواء على مستوى الإنتاج أو التلقي. لقد صرنا مع التكنولوجيا الجديدة للإعلام والتواصل وهي تفرض الآن نفسها على عملية الكتابة، نتحدث عن نمط جديد من الكتابة هو ما بات يعرف ب" الكتابة الرقمية ". لكن بعض المواقف المتسرعة ترى أن هذه الكتابة لأنها وليدة التكنولوجيا غير ذات قيمة، وأن الكتابة بالقلم أهم، والتعامل مع الكتاب أفضل. ما لا ينتبه إليه هؤلاء هو أن القلم والمطبعة أيضا تكنولوجيا أي صناعة. وكل صناعة لا بد لها من مستلزمات ضرورية للتحقق. كما أنها تفرض نفسها على نمط إنتاج النص وتلقيه.
2. كتابة النص القرآني:
2. 1. كان المسلمون في صدر الإسلام يتداولون سور القرآن الكريم وآياته شفاها وفق الطرائق التي كان يبلغهم الرسول (ص) إياها. كانت محاولات للكتابة القرآنية في عهد الرسول (ص) الذي لم يأمر بجمع القرآن في حياته. "جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي بكر فقال إن القتل قد أسرع في قرّاء القرآن. وقد خشيت أن يهلك القرآن فاكتبه.فقال أبو بكر: فكيف نصنع بشيء لم يأمرنا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر ولم يعهد إلينا فيه ؟ فقال عمر: افعل فهو والله خير فلم يزل عمر بأبي بكر حتى أرى الله أبا بكر مثل ما رأى عمر". ( المقنع في رسم مصاحف الأمصار،لأبي عمرو الداني ). لكن مع الزمان بدأت تطرح اختلافات في تلاوة بعض الآيات القرآنية، وكان لموت العديد من حفظة القرآن الذي واكبوا مرحلة تلقي النبوة، أثره الكبير في الوعي بأهمية تعجيل نقل الكتاب من التداول الشفوي إلى الكتابي وخاصة في عهد عثمان بن عفان. سميت هذه المرحلة في التاريخ العربي بعملية جمع القرآن. وكان حصيلتها " المصحف الإمام " الذي سيوزع على الأمصار. كان المصحف الإمام خاليا من النقط والشكل. ولقد عمل الجامعون ( وعلى رأسهم زيد بن ثابت ) على كتابة القرآن وفق حفظهم له وبناء على ما بين أيديهم من آثار كانت مكتوبة. وحين كانوا يختلفون في رسم بعض الكلمات، لاختلاف اللغات، كان المرجع لغة قريش. غير أن الكتابة الخالية من التنقيط والتشكيل سيتولد عنها الاختلاف أيضا في قراءة بعض الكلمات وإعرابها، كأن تقرأ: فتبينوا، فتثبتوا. وكان من الضروري الانتقال إلى تقنية تفرضها عملية الكتابة وهي عملية تنقيط الكلمات وشكلها. وبحسب تنوع القراءات وتعددها، فرضت مسألة الوقف نفسها، فأدرجت العلامات الفاصلة بين الآيات " الوقف عظيم القدر جليل الخطر، لأنه لا يتأتى لأحد معرفة معاني القرآن ولا استنباط الأدلة الشرعية منه إلا بمعرفة الفواصل " ( الإتقان للسيوطي). وكلما ظهرت اختلافات جديدة بصدد القراءة كانت ضرورة تجاوزها تتم عن طريق تطوير تقنية الكتابة وآلياتها.
2. 2. إن الانتقال إلى الكتابة، ليست فقط عملية نقل الصوت إلى حرف أو رمز أو خط. أو كما قال ابن عباس: الخط لسان اليد. فالقارئ ( في الشفوي ) ينطق الكلمات جيدا، ويحرص على تجويد مخارج الأصوات، فيتوقف، ويغير نبرة الصوت بحسب تنوع مقامات الكلام. يقول ابن الجوزي في النشر " لما لم يمكن القارئ أن يقرأ السورة أوالقصة في نفس واحد ولم يجز التنفس بين كلمتين حالة الوصل، بل ذلك كالتنفس في أثناء الكلمة وجب حينئذ اختيار وقفة للتنفس والاستراحة وتعين ارتضاء ابتداء بعده، ويتحتم أن لا يكون ذلك مما يحيل المعنى ولا يخل بالفهم ". ومعنى ذلك بتعبير آخر أن للشفاهية قواعدها وتقنياتها الخاصة بها. حين ينقل النص من الشفاهي إلى الكتابي لا يمكنه الحفاظ على القواعد والتقنيات الصوتية بهيآتها المخصوصة. بل إنه يستعيض عنها بخلق تقنيات وقواعد مختلفة تتصل بالكتابة (رموز خطية أو علامات تمثل تلك الهيآت الشفاهية). ومن هنا جاءت حركات المد والتضعيف والإدغام والوقف،،، وغيرها من العلامات الخاصة بالكتابة التي تعمل على جعل النص المقروء مناظرا للنص الأصلي المنطوق. وكل من يتعلم تلك القواعد والتقنيات الكتابية سيقوم بقراءة القرآن على غرار ما كان به يتلى في البدايات الأولى لظهوره. وستتكفل عدة علوم من علوم القرآن ( التجويد ـ القراءات ـ أسرار ترتيب القرآن،،، ) والتي جاءت متساوقة مع تقنيات الكتابة، ومستجيبة لضروراتها لتدقيق هذه القواعد والتقنيات مع الزمان.
إن كل هذه العمليات جميعا، وكل واحدة منها، في حد ذاتها، عملية بناء لأنها تعمل على نقل النص من معمار شفوي إلى آخر كتابي. يمكننا إعادة تقسيمها إلى قسمين كبيرين:
أ. رسم الكلمة: التنقيط ـ الشكل ـ الإملاء ـ علامات الوقف ـ الفواصل.
ب. تنظيم النص: ترتيب السور والآيات من جهة، والأحزاب والأجزاء من جهة أخرى. وطرحت قضايا تتعلق بالترتيب: هل بحسب نزول الآيات والسور أم بحسب طول النص وقصره.
كل هذه العمليات تبرز لنا بشكل واضح أن الكتابة صناعة، وليست عملية بسيطة كما يتوهم البعض. لقد استدعت زمانا طويلا وعملا متواصلا، وأن لها شروطها وعلومها التي ستظهر لتدقيقها وتسهيل عملية استيعابها واكتسابها.
لقد كانت الآيات القرآنية تنزل منجمة، وبحسب الظروف والمناسبات، ولم ينزل القرآن الكريم دفعة واحدة، كتابا مكتملا. إن القرآن الكريم نزل، تبعا لذلك، على شكل " شذرات " نصية. وكان المسلمون يوظفون تلك الشذرات النصية حسب الحاجة ( الصلاة ـ الدعاء ـ الاستشهاد،،، ). لكن الانتقال إلى الكتابة، وتكوين " المصحف " جعل، بالإضافة المسلمين أمام ضرورات عدة، تتعدى رسم الكلمات وتمييز حروفها، وشكلها لإزالة الإبهام إلى ضرورة تنظيم هذه " الشذرات " وبنائها وفق نسق محدد، نجد من يبحث عن أسراره وعلله وأصوله، ليجلعها ذلك تنتظم في " كتاب" واحد.
إن الانتقال من " الشذرات " إلى " الكتاب" عملية جديدة لم تكن تفرضها الشفاهية، ويبرز ذلك في " بناء" النص القرآني بكامله في كتاب، وليست عملية البناء هذه غير "تنظيم النص". إن تنظيم النص عملية معقدة في أي كتابة، وسنلاحظ أن أهم أسس الكتابة الرقمية سينهض على هذه العملية.
 

نعاين أن هذه النسخة تسمح لنا بالقراءة الخطية تماما كما في الكتاب المطبوع مع فارق واحد هو أننا نقرأ النص على الشاشة، وننتقل بين الصفحات بتمرير مؤشر الفأرة على مصعد الصفحة، أو تمرير مؤشر الفأرة وقد تحول يدا صغيرة في هذا البرنامج على جسد النص. إن تقنيات هذا البرنامج محدودة رغم أنه يسمح على الأقل بتوظيف خانة للترابط بين الفهرست السور والنص، لكنها معطلة هنا في هذه النسخة. كما أن بالإمكان استعمال خانة الصفحات لتسهيل عملية الانتقال بين صفحات النص. إن محاكاة النص المطبوع الثابتة لا تعتمد أي مجهود سواء في تصميم النص أو إعداده أو تلقيه، فهي تتم من خلال عملية تصوير النص المطبوع أو مسحه، ثم نقله إلى الشاشة بواسطة البرنامج الخاص بذلك. 2. 4. 2. محاكاة النص المطبوع المتحركة: لايختلف النمط اثاني عن سابقه إلا من حيث كونه مقدما بصيغة برنامج معالجة النصوص (WORD). إنه يحافظ على النص كما هو، وهو يقدم أحيانا من خلال خط عادي أو من خلال الرسم العثماني الذي يحمل كخط للتمكن من رؤية النص القرآني بواسطته. وفي ما يلي نموذج من هذا النمط:

(ش. 2. صيغة الوورد )

تصدر هذه النسخة بفهرست للسور مكتوبة باللون الأزرق مما يشي للمستعمل بقابلية توظيفها عبر تنشيطها للانتقال إلى السورة المراد الاطلاع عليها. إننا هنا أمام توظيف للترابط بين النص القرآني ومناصاته ( عناوين السور). وبهذا البعد الترابطي تختلف هذه النسخة عن نظيرتها الثابتة. هذا علاوة على كونها تمكننا من مختلف وظائف برامج معالجة النصوص الرقمية. وأهم ميزة تمكننا منها هي وظيفة " البحث "، إذ يمكننا بواسطة الخانة الخاصة بالبحث كتابة كلمة معينة فيرصدها البرنامج ويستخرجها لنا حيثما وجدت في النص. كما أنه يقدم لنا إمكانية تحديد بعض السور أو الآيات بقصد طباعتها للاستعمال بسهولة ويسر أووظيفة القص واللصق لشذرات من النص لتخزينها أو إدماجها في نص معين قيد الإعداد.

2. 4. 3. التحويل: البعد الترابطي:
إذا كان النمطان السابقان يقومان على محاكاة النص المطبوع بكيفية ثابتة أو متحركة، فإننا مع النمط الثالث أمام عملية تحويل النص المطبوع والانتقال إلى توظيف الكتابة الرقمية عن طريق استثمار بعض، إن لم نقل، أهم مقوماتها. ونقدم مثالين لهذا التحويل: بسيط ومركب.

 

نلاحظ من خلال هذا البرنامج أنه يمكننا من معاينة المناصات والنص على السواء، وأنه يمكننا من الانتقال بين أجزاء النص بواسطة تنشيط أحد المناصات. كما أننا نلاحظ أيضا الطريقة الجديدة التي كتب بها النص القرآني. إنها بخط عادي، مختلف عن الرسم العثماني، هذا علاوة على وضع الآيات بشكل يستقل بعضها عن بعض. وفي هذه الكيفية من الكتابة يتم التشديد على رقم الآية باعتباره مؤشرا للاستقلال. إن هذا البرنامج يختلف عن السابقين، وأهم خاصية تستوقفنا فيه هي بعده الترابطي، وتشديده على البعد الشذري للآيات.