البحث عن ابن رشد
بعد مشاهدة فيلم " المصير" يكون من الطبيعي إثارة أسئلة من قبيل. لماذا تم اختيار "ابن رشد" لصناعة فيلم عنه؟ وهل مثل اختياره ضرورة فكرية وفنية كان من المستحيل بسببها اختيار أية شخصية أخرى؟ وألم يكن من الممكن أن يستبدل به شخصية معاصرة يكون نسيج أحداث حياتها من ظروفنا التاريخية الراهنة؟
لا تنبع تلك الأسئلة من خوف على قدسية الصورة التاريخية المعروفة عن ابن رشد، لكن مصدرها الأساسي طبيعة الرؤية التي حكمت صناعة يوسف شاهين لهذا الفيلم، وهي رؤية استخدمت "ابن رشد" كوسيلة تعكس قضايا معاصرة مثل تحالف السلطة الحاكمة مع الجماعات الدينية المتزمتة، وأخطار المد الأصولي وضرورة مقاومتها.. إلخ، هذه الرؤية تجعل الشخصيات التاريخية خارج زمانها ومكانها. وتتعامل معها كالكتب المقدسة بأنها صالحة لكل زمان ومكان، غير قادرة على النطق لكن يتم فقط استنطاقها، شخصيات "حسب الطلب".
مخالف لهذا ، رؤية أخرى تنطلق من قيمة "البحث" والتي ترى التاريخ ليس شيئا اكتمل واتضحت معانيه، ولا ينقصه سوى أن نردد مواعظه على أسماع زماننا، التاريخ من هذه الرؤية منطقة يتساوى فيها ما نعرفه وما لا نعرفه، منطقة تكثر فيها إمكانيات أو احتمالات لا يتم التصريح بها في كتب المؤرخين، وتتطلب إعادة القراءة لتكشف لماذا توارت تلك الإمكانيات، وكيف تم تشكيل تلك الشخصيات التاريخية عند المؤرخين، وما الذي تم استبعاده، وما الذي تم الترويج له؟. تلك الرؤية التي تقوم على البحث وإعادة القراءة تتحقق في قصة قصيرة ونص نقدي تناولا شخصية ابن رشد.
القصة للكاتب الأرجنتيني خورخى لويس بورخيس "بحث ابن رشد، والنص النقدى للناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو بعنوان "ترحيل ابن رشد". ليس عبثا أن يكون عنوان كل من العملين يشير إلى البحث والحركة، والرحلة، وليس إلى النهايات والثبات كما يتضح في عنوان "المصير". فبورخيس وكليطو ينطلقان من مساءلة ابن رشد، والتنقيب عن المضمر في شخصيته وفترته التاريخية، وعما يعنيه لكل منهما بعد كل هذه القرون. من بداية قصة بورخيس نجد ابن رشد مشغولا بالتفكير في دلالة كلمة "تراجيديا وكوميديا" اللتين وردتا في كتاب فن الشعر لأر سطو، ومواكب لتفكيره هذا كتابته الرد على كتاب "تهافت الفلاسفة" لأبى حامد الغزالى. هكذا بدأ بورخيس من حالة حوار ابن رشد مع أفقين يبدوان مختلفين لكنهما يجتمعان في شخصيته، ويمثلان سر خصوصيته، أفق إغريقي يشرح فيه أرسطو، وآخر إسلامى يعكف خلاله على إثبات عدم التعارض بين علوم الشريعة وعلوم الحكمة، ويتأكد هذا الحوار في جلسة لابن رشد مع أصدقاء يمثلون فئات مختلفة في المجتمع الأندلسى آنذاك: الرحالة، الفقية ومقرئ القرآن والشاعر، يتناقشون في قضايا دينية وأدبية، ويحاورون "أبا القاسم الأشعرى" فيما رآه في ممالك الصين من مشاهد تمثلية ـ مسرحية ـ أديت في إحدى المنازل. الحوار في هذه القصة يعكس طبيعة الهموم الفكرية والثقافية لهذا العصر، وهو مع حيويته وتدفقه قادر على أن يرينا طرق التفكير والتدبر لدى هؤلاء العلماء، على عكس حوار فيلم "المصير"، الذي يشعرك بأنه حوار بين شخصيات تعيش في أحياء القاهرة المعاصرة، لكنها لحكمة لا يعلمها أحد يرتدون ملابس عصر آخر ويتحركون في أماكن ليست أماكنهم.
خيال بورخيس استطاع تجسيد تلك الأفكار بحيث لا تظل جامدة أو أفكار مجردة، مثلا حينما يحدثهم أبو القاسم عما شاهده في الصين فيسأله فرج، مقرئ القرآن – ما إذا كان هؤلاء الأشخاص – الممثلون يتكلمون؟ فيجيبه بأنهم يتكلمون ويغنون ويفيضون بالحديث، فيرد فرج، إذا ما من حاجة إلى عشرين شخصا، إن راويا واحدا يستطيع أن يروى أي شئ مهما كانت أحداث روايته معقدة.
فكرة الراوي الواحد القادر على رواية أشعار الكثيرين من الشعراء، والتي كانت لها موقعها الخاص في الثقافة الإسلامية هي التي تشكل طريقة وعى جلساء ابن رشد بفن التمثيل، وكيف يتم تحويره ليصير كقصيدة شعر، وليس كدراما قائمة على الصراع بين المصائر المعتمدة. إن طبيعة ثقافتهم الإسلامية هي التي تحجب عنهم مالا يندرج فيها، حتى ولو كان على حد تعبير القصة: "إن ما نبحث عنه غالبا ما يكون في متناول يدنا". لذلك يرتضى ابن رشد بشرح التراجيديا على أنها المدائح والكوميديا يعدها الهجاء بل يؤكد أن صفحات رائعة من الكوميديا والتراجيديا يذخر بها القرآن. ومعلقات الحرم!!.إن قلة ما هو معروف عن سيرة ابن رشد في كتب المؤرخين لم يمنع بورخيس عن كتابة إحدى إشكاليات تلك الشخصية وحضارتها التي تنتسب اليها، ولم يمنع خياله من تجسيد تلك الإشكاليات.
وإذا كان بورخيس يقدم لنا ابن رشد في حركاته وسكناته وحواراته مع رفقائه فإن كيليطو يعيد قراءة مشهد نقل جثمانه على أحد جانبي الدابة، ووجود كتبه ومؤلفاته في الجانب الآخر. إن المشهد الذي لا يتجاوز الأسطر الستة في كتاب محيى الدين بن عربي "الفتوحات المكية" يبحث فيه كيليطو عن الفراغات التى تركت، وعن المعاني التي ظلت غائبة عن شهود هذا المشهد: ابن عربي والفقيه أبو الحسن محمد بن جبير، وأبو الحكم عمرو بن السراج الناسخ. أن دفن ابن رشد في قرطبة يمثل دفنا ثانيا لأنه دفن شهورا قبل ذلك في مراكش. وكما يرى كيليطو يمكن تأويل هذا القرار على أنه تكريم للفيلسوف وتشريف ذكراه. لكن من ناحية أخرى "يمكن كذلك الاعتقاد بأن جثمان ابن رشد لم يكن منظورا إليه بوصفه منبعا للكرامات والنعم، فلم يحتفظ به في الأرض الإفريقية وطرد من جنوب المتوسط"
ولنسأل أسئلة، حتى ولو كانت غير مقبولة، أي البدايات أكثر إيحاء بالدلالات بشخصية ابن رشد وعصره. هل بداية "المصير" القائمة على حرق مؤلفات ابن رشد ومترجمها في فرنسا بقرار من الكنيسة؟ أم بداية بورخيس والتي كشفت عن خصوصية هذا الفيلسوف؟ أم المشهد الذي توقف عنده كيليطو؟ لا أقصد المفاضلة بالمعنى البسيط هذا أفضل من ذلك، لكن إظهار القيم التي تحكم كل منهم في إبداع عمله. بورخيس وكيليطو انطلقا من إمكانيات، من أسئلة بقدر ما تخص ابن رشد وعصره تخص أيضا الصلة التي نريد أن نقيمها معه، كيف ننظر الآن إلى ما كان يحاوله مع التراث الاغريقى والاسلامى وكيف ننظر إلى ترحيل كل تراث هذا الرجل بل وشخصيته إلى شمال البحر المتوسط، إلى أوربا. بداية "المصير" تردد الشائع المجيد بأن أوربا كانت غارقة في الظلام والحضارة الإسلامية في ازدهار. لكن الشائع ليس هو هدف المبدع الفنان، أو حتى الناقد الفنان.
يختم كيليطو كلامه ب "دفن ابن رشد لم ينته بعد" في إشارة واضحة إلى أنه مازال بعيدا كقيمة فلسفية وإنجاز حضاري عن ثقافتنا المعاصرة وأنه لم يزل في حالة رحيل إلى الشمال ما دامت النظرة إليه من قبل المعاصرين العرب تسجنه فقط في إطار الجد العظيم أو الشخصية التي نسقط عليها أفكارنا ولا نقيم معها حوارا. إن الثلاثة الذين شاهدوا مشهد نقل الجثمان اكتفوا بتأمل حكمة أن مؤلفات الرجل تعادل جثمانه، دون أن يمدوا الصلات مع تلك الأفكار والمخطوطات، وكما يقول كيليطو "فإن مراسيم دفن ابن رشد تشكل لحظة في تاريخ البحر المتوسط، لحظة تبعد فيها الفلسفة إلى الشمال. يبدو آنئذ ابن عربي وصاحباه بمثابة متفرجين يبعثون على السخرية، على مشهد تغيب عنهم دلالته الحقيقية."
هل كان صناع "المصير" هؤلاء المتفرجين الذين يبعثون على السخرية؟! سؤال آخر، لكنه هذه المرة يبحث عن فن خلاق لا يستدعى سخريتنا!!
عفريت مراتي
تتعدد أوجه الزوجة ـ شادية ـ في فيلم "عفريت مراتى"، عن طريق هذا المرض النفسي النادر – كما يقول الزوج – وهو تقمص أدوار البطلات في الأفلام التي تشاهدها هروبا ًمن أوقات الفراغ القاتلة في حياتها الزوجية. من البداية نرى الزوجة متقمصة شخصية "مارجريت جوتييه" بطلة "غادة الكاميليا" تتحرك بها في أرجاء الشقة، وتتكلم بلسانها وتنادى زوجها ب "أرمان" عاشق مارجريت، ثم تموت أو تتقمص دور الموت، وفي نهاية المشهد يحمل الزوج ـ صلاح ذو الفقار ـ زوجته (الجثمان) إلى السرير (القبر) ، ليعود يشرح لصديقه ـ عادل إمام ـ طبيعة مرضها، ويعدد له الأفلام التي تقمصت أدوار بطلاتها ومنها أفلام لمخرج الفيلم نفسه: فطين عبد الوهاب، وبطولة نفس البطلة شادية.
الشخصية تقدم لنا هنا من خلال مرايا عديدة لا تعكس صورتها بل تعكس إمكانيات تلك الصورة، إمكانيات مكبوتة تبحث عن سبيل لتخرج وتتنفس، وتظهر قدرتها على أن تكون نداً لما يفترض أنه الأصل. لعبة مثيرة أن تنظر لنفسك في المرآة فلا تراها، وترى آخرين يعيشون داخلك، وتتعرف على نفسك فيهم، وتلعب من خلالهم لعبة أن تكون "آخر" مجهولاً بالنسبة لك، لكنه يعيش من زمن في رغباتك المستحيلة. هكذا نرى الزوجة تتقمص دور"ريا" في فيلم "ريا وسكينة" لصلاح أبو سيف، وشخصية "إيرما الغانية"، وفي النهاية شخصية زوجة زعيم عصابة، وإنما في هذه المرة الأخيرة ليس عن طريق فيلم تشاهده، بل عن طريق لعبة ـ علاج ـ يلعبها بإتقان زوجها وأصدقائه بنصيحة من صديق (عماد حمدى) حتى تشفى زوجته. ويتفجر الضحك من هذا التراوح بين الأدوار ـ المرايا، ضحك يكشف في إحدى معانيه أن الحواجز وهمية بين اللعب والجد، بين الأنا والآخر، بين الصورة والواقع، ويتأكد هذا في لعبة الشطرنج التي يداوم على لعبها الزوج مع أصدقائه، فكل المشاهد التي يلعبون فيها الشطرنج ترتسم فيها على وجوههم الجدية ووقار وصرامة اللعبة. ويتضح في النهاية أنهم كانوا قطع شطرنج حركها ببراعة صديقهم في الشطرنج وزعيم العصابة. فتحت سطح الجدية يتخفى ضحك يعلو كلما نسوا أنها لعبة على كف عفريت، وكأن حياة أبطال هذا الفيلم لعبة داخل لعبة إلى ما لا نهاية.
ولا يشمل التقمص الزوجة فقط، وإنما يشمل الجميع، فهم بلا استثناء قادرون على أن يكونوا ما يجهلونه في داخلهم، بشرط أن تواتيهم الفرصة، فيصير الزوج وأصدقاءه عصابة يتصرفون كما ينبغي لعصابته أن تتعرف، فما يظنونه لعبة هو في الحقيقة وجوه أخرى لهم، لتلك الرغبات المحرمة المبعدة في غرف اللا شعور. (ومن أجمل مشاهد الفيلم، عودة الزوجة متقمصة شخصية "إيرما" إلى بيتها مصطحبة معها زبون ـ إبراهيم سعفان ـ في نفس الوقت الذي كان يستضيف فيه الزوج مديره في البنك وزملاءه، ومن خلال غناء الشخصية المتقمصة تنفضح الأقنعة الهشة للضيوف الذين يتجاوبون ـ رغم قمع الزوجات ـ لإغراءات "إيرما". حالة التقمص تتعدد أشكالها في هذا الفيلم، لكنها تقوم على أرضية أن الجميع يؤدون سيناريوهات متوهمة، وليست حقيقية أو أصيلة حتى لو أيقن أصحابها بذلك، فالثنائيات الصارمة تسقط: أصل ـ صورة، كذب ـ حقيقة، لتحل مكانها أدواراً متعددة كلها داخل الإنسان الفرد، تتصارع فيما بينها، فيطهر دور ويتراجع الباقي، ثم يتغير التراتب في حين آخر وهكذا، أشبه بلعبة الكراسي الموسيقية من لم يفز هذه المرة، ربما يفوز في جولة قادمة دون نفى له أو تغييبه.
والمثير في هذا الفيلم، أن المتفرجين يوجد من يمثلهم أو يقوم بدورهم داخل الفيلم، وأقصد الخادمة (نبيلة السيد) التي تتفرج من وراء باب المطبخ على الفيلم الذي تؤديه الزوجة، ونجد هنا حالة أخرى للتقمص، تقمص المتفرج لما يراه حتى وإن كان صامتا يتفرج فقط. لكنه مسحور بهذا العالم التمثيلي، وينسى كل ما حوله ـ يظهر هذا في نسيان كل ما يطبخ ويفور على النار ـ ، فهو وإن كان يشاهد تمثيلاً لكنه في الواقع يعيشه وكأنه حقيقة، أو لنقل بعبارة أخرى يعيشه وكأنه هو ذاته وقد تحققت على الشاشة أو تولى العالم التخييلى أن يكون بالنيابة عنه، وتتضاعف حالات التقمص لدى المتفرج الذي يشاهد "عفريت مراتى" فهو يعيش أولاً: ما تؤديه الخادمة ـ المشاهد، داخل الفيلم، ثانياً: الدور الذي تتقمصه الزوجة، ثالثاً: ردود أفعال من يقع عليهم آثار التقمص من الأبطال، رابعاً: شخصية الزوجة قبل التقمص وبعده، خامساً: أجواء الأفلام التي يتم إعادة تمثيلها، سادساً: أحداث فيلم (عفريت مراتي) نفسه.
تداخل الخيوط المستمر أشبه ما يكون بشبكة تضم أكثر من صيد وليس صيداً منفرداً ووحيداً. والضحكات التي تتفجر على مدار الفيلم، تجعل تورط المتفرج فيما يشاهده لا يصل إلى النهاية، فهو مشارك ومشاهد، داخل اللعبة وخارجها، يتقمص الدور ويتفرج على نفسه في نفس الوقت، الكوميديا هنا تسحر لتكشف، تجعلنا نتقمص أدواراً عديدة لنعرف. والملفت للنظر أن أفلاماً عديدة لفطين عبد الوهاب تلعب هذه اللعبة، لعبة التقمص لتنير جوانب مختلفة من الشخصية. في (مراتى مدير عام) تتقمص الزوجة دور المدير والزوج دور المرؤوس، في (كرامة زوجتي) تتقمص الزوجة شخصية الخائنة لزوجها، وفي آخر أفلامه "أضواء المدينة" تتقمص فرقة استعراضية بأكملها أفراد أسرة تركية ثرية.
في كل هذه الأفلام وغيرها، نشاهد فيلماً أو أفلاماً داخل فيلم، وممثلين يتقمصون أدواراً مختلفة نابعة من أدوارهم الأصلية، انفراجة أزمة أية شخصية في تلك الأفلام تكون بتقمص آخر، وأن تكشف لمن حولها قدرتها على أن تؤدى الدور المطلوب حتى ولو كان غير متوقع منها، وفي نفس اللحظة التي يتقمص فيها الشخص دوراً ما من أجل الآخرين، يساعده هؤلاء، بتقمص أدوار تتجاوب مع دوره. كان فطين يفعل هذا في الوقت الذي كان أساس الفكر المهيمن هو أن يثبت كل فرد في هويته وموقعه، وأن يعرف الحدود والواجبات، وأن الواقع يمكن وضعه في كبسولة تحيلنا إلى عمالقة. في معظم أفلام فطين عبد الوهاب لا حدود بين الأنا وصورها المختلفة، وأن اللحظات التي تبدو بسيطة أو عادية تذخر بألوان الطيف، ويظل سؤال دائم يلوح في أفلامه كيف نعيش تلك اللعبة؟ وتتعدد الإجابات، وما إن نطمئن لإجابة حتى نجدها (ع الحافة) غير مستقرة، لتدفعنا مرة أخرى إلى البحث عن طريق آخر. وقد نسعد بنهايات هذه الأفلام السعيدة، لكن تظل المشاهد التي كانت فيها لعبة التقمص في ذروتها هي الأقوى، وهي القادرة على أن تعيش معنا بعد ظهور كلمة النهاية.
رومانسية الضابط
"أنت يا توأم الروح، يا منية النفس الدائمة الخالدة. يا أنشودة القلب في كل زمان ومكان. مهما نأيت ومهما هجرت. عندما تشاهدين القرص الأحمر الدامي على وشك الغروب. ارقبيه جيداً. فإذا ما رأيت مغيبه، فاذكريني". هذه الكلمات الشهيرة، والتي تتردد على لسان عماد حمدى في فيلم "بين الأطلال" 1959 إخراج عز الدين ذو الفقار، تكشف عن سمات عديدة للأفلام الرومانسية الميلودرامية التي اتخذت قصصها من روايات ليوسف السباعي، وشارك هو في معظمها بكتابة الحوار. ومن تلك السمات: الفناء في المحبوب، وهي إن كانت فكرة صوفية في الأساس، لكنها هنا في تلك الأفلام تصير ممثلة في شخصيتين يجمعهما غالباً حباً مستحيلاً أو فرض عليهما ـ بشكل قدري ـ أن يكون مستحيلاً، ورغم ذلك فإن الحب بينهما يستمر إلى الأبد بكل عذاباته وحتى وإن بدت غير منطقية. الحب من هذه الزاوية "حياة" حدودها هذان الشخصان وخارجهما لا قيمة لشئ ، الروائي محمود في "بين الأطلال" يحب منى ـ فاتن حمامة ـ ولا يستطيعان الزواج لأنه لا يستطيع التخلي عن زوجته المريضة، وفي النهاية تعود من سفرها، وتستطيع أن تعايش ـ كما شاء القدر ـ اللحظات الأخيرة لمحمود وهو في فراش الموت، وتعيش بعد ذلك وفية لحبه بين أطلال قصره، ترعى ابنه، وتتردد في ذاكرتها الكلمات الشهيرة التي ذكرناها. وفي "إني راحلة" لنفس المخرج ـ 1955 ـ تقرر عايدة "مديحة يسرى" أن تموت جوار حبيبها الذي رحل ـ عماد حمدى أيضا ـ فتحرق البيت الذي يضمها لأنها لا تقدر على أن تعيش بعده.
الفناء في المحبوب مرتبط دائماً بكوارث لابد أن تحدث للعاشقين اللذين لا حول ولا قوة لهما، لتؤكد الكوارث التي تتوالى أنهما سيظلان معاً، رغم أنف " القدر " ـ الكلمة السحرية في تلك الأفلام ـ وإنهما وإن لم يتحقق حلمهما على الأرض سيتحقق في السماء كما تعتقد "منى" في بين الأطلال، وكما يحدث مع الراقصة ـ هند رستم ـ في "رد قلبي" ، حينما تصاب في حريق القاهرة، ويحترق احتمال أن تفوز بقلب على ـ شكري سرحان ـ لكن هذه الكارثة ساعدت على تقريب "انجى" ـ مريم فخر الدين ـ و"على" الحبيبين القديمين، بعد أن باحت الراقصة وهى تحتضر بسر خطاب بعثته "إنجى" ـ وأخفته هي حتى تحتفظ بحبها المستحيل. مرتبط بهذا، بإنه حب خارج قوانين الزمان والمكان. حب له صفات إلهية، لذلك فإن الممثلين غالباً ما ترتسم على وجوههم ملائكية تبعدهم عن تلك الأرض التي لا تحقق حلمهما ـ حبهما، وجه فاتن حمامة في "بين الأطلال" وهي تطل من شباك في البلد الذي اغتربت فيه مع زوجها، وفي نفس اللحظة يطل عماد حمدى من شباك في القاهرة، ويمتزج الوجهان اللذان يلتقيان رغم المسافات والزمن وقد شمل وجه كل منهما نور سماوي يرفعهما إلى صفاء الحب الإلهي، مديحة يسرى وعماد حمدى وقد انتهى بهما المطاف في " إني راحلة" في مكان بعيد يكاد أن يكون مهجوراً ويبدوان كائنين ليسا من هذا العالم، وتصير الطبيعة البكر هي صانعة تلك المشاهد، فتمنحهما ما يحتاجان إليه من ظلال ونور وأماكن يطلقان فيها مشاعرهما.
الطبيعة في هذه الأفلام امتداد لما يحدث للأبطال العشاق، تتأثر بأدنى تغير يحدث لهم، وتعبر عن هذا التأثر بكل وضوح وقوة، تموت زوجة محمود ـ سميحة أيوب ـ بعد أن أنجبت له الولد الذي يتمناه فتغضب الطبيعة بريحها وأشجارها وكأنها غاضبة من هذا الجزاء، ويوصيها محمود في أن تذكره عند مغيب الشمس، في إشارة إلى تماهيه مع إحدى مفردات الطبيعة التي شاركتهما معاناة حبهما. ومن المفارقات أن يوسف السباعي في مقال له عام 1948 عن فيلم "الروح والجسد" لحلمي رافلة، انتقد الكوارث والأحداث غير المنطقية "ابتدأ الفيلم بداية ممتعة، وجرت فيه الحوادث الطريفة خفيفة لطيفة ـ هكذا في المقال ـ وفجأة بدون داع وجدنا الفيلم يلتوي وينقلب فيتخذ طريقاً أخر مليئاً بالمصائب والأحزان، فيصدم بطل الفيلم ـ محمد فوزي ـ مرتين بواسطة عربتين " يذكرنا هذا بما حدث لمحمود في بين الأطلال، وإصابته في حادث عربة وهو يسوقها مخموراً، وتلحق به "منى" قبل موته.
وفي سياق تلك الرؤية الرومانسية الميلودرامية، يكون من الطبيعي أن يصبح البعد السياسي فيلماً مماثلاً لقدرية أحداثها، فيتبدى الضباط الأحرار الفرسان المنقذين ـ وكان السباعي واحدا ًمنهم ـ الذي وهبتهم الأقدار لإنقاذ المصريين من عهد الفساد، ويجلجل في أسماعنا صوت "على" في رد قلبي معلناً قدوم الثورة، ليبعث بعلي رئيسا للجنة مصادرة أملاك الأمير، أو والد "إنجى" حبيبته التي نراها هابطة السلم في قصرها نحو "على"، في إشارة إن الثورة قلبت الأوضاع وأرغمت ساكني القصور على الهبوط، وقد تدخل قدر الثورة من قبل لينطق الريس عبد الواحد ـ حسين رياض ـ ويشفيه من الخرس ويكون أول ما ينطق به "تحيا مصر". إن "رد قلبي" امتداد لـ"إني راحلة"، في الأخير نجد الضابط أحمد يرفض طلبه بالزواج من عايدة بنت أحد الباشاوات، قبل الثورة، وفي "رد قلبي" نجد المعجزات تتحقق، ويخرج على وإنجى معا من القصر لكن مع أثر من العهد القديم البائد، رصاصة من أخي إنجى، قبل أن يصيبه على في مقتل، فرصاص أحد الضباط الأحرار صار قادراً على أن يجهز على ما تبقى من هذا العهد حتى وإن كان مصاباً.
إن تيمة الفارس المنقذ مبعوث الأقدار، تظهر في شكل آخر، في فيلم مولد يا دنيا ـ 1975 ـ لحسين كمال، وهنا كان السباعي مسؤولاً عن القصة والسيناريو والحوار، فالحب المستحيل الذي ذكرناه تحول في هذا الفيلم إلى قصة مستحيل تصديقها إلا لكي نستمتع بكلمات عبد الرحيم منصور وألحان بليغ حمدي وغناء عفاف راضى ، فالمخرج المسرحي عادل ـ محمود ياسين ـ يصادف مجموعة من النشالين وهم يغنون ويرقصون، فينتشلهم من مستنقع الإجرام ويخلق منهم فرقة استعراضية تلاقى النجاح، ويتوج الأمر بزواجه من زبيدة ـ عفاف راضى ـ النجمة الأولى للفرقة. وتكملة للمفارقات، كتب السباعى مقالاً عام 1948 ناقداً فيلم "عنبر"، بعنوان "تحبيشة" وكأنه يوضح المسار الذي سينتهجه في "مولد يا دنيا": "تحبيشة متقنة مصنوعة من الضحك والغناء والموسيقى والرقص، وإن هذا النوع من الأفلام لا ضرورة لاعتماده على قصة قوية ولا ضرورة أن تكون الحوادث كلها منطقية ولا معقولة بل يكفى أن تستطيع الحوادث ربط الاستعراضات الغنائية الفكاهية المطلوب إظهارها".
نستطيع أن نصف تلك الرومانسية الميلودرامية عند يوسف السباعي أنها "رومانسية الضابط"، الضابط المعتاد على أن ينفذ الأمر أولاً حتى ولو كان يرفضه، ثم يشكو للقائد بعد ذلك، بغض النظر أن هذا الأمر ربما يعرضه لحتفه. هكذا العاشق في تلك الأفلام، خاضع للأقدار سواء الإلهية أو الثورية لا يرد لها أمراً، ويجد في خضوعه لها تأكيدا لمعاني التضحية ورقى ونبل أخلاقه حتى ولو تذمر منها قليلاً. وصف طه حسين "السباعي" بأنه المؤرخ القصصي لعهد الثورة، وقد ظل السباعي وفياً لأن يكتب أحداث الثورة على مدار السنين من خلال رواياته. بناء السد العالي في "أقوى من الزمن"، تجربة الوحدة مع سوريا في "جفت الدموع"، والانفصال وفشل الوحدة في "ليل له آخر"، معارك شدوان وحرب الاستنزاف في "العمر لحظة"، هذا على سبيل المثال فقط، ووفياً لقاعدة الضابط الذهبية في أن يمزج الحدث السياسي بقصة حب محتشدة بالميلودراما، وفي كلا البعدين هو الضابط الذي ينفذ الأمر أولاً، بل ويتماهى معه.