مع أن مهرجان الشعر العربي الذي عقد في القاهرة قبل شهرين كان كارثة بكل المعاني، فأهم ما حققه أنه أعاد شاعرنا الكبيرللقاهرة بعد غيبة طويلة، ليكتب عنها قصائده، جواهرة، المتألقة السبع تلك.

القاهرة: سبع قصائد

سعدي يوسف

 

القاهـــرة 1

 لم يَدُرْ في خاطرِ القاهرةِ الليلُ الذي نعرفُـهُ…

إنّ سماءً  أُثقِلَتْ بالنَّفَسِ الساخنِ آناءَ النهارِ

استسلمتْ لِـلّـيلِ كي تنسى قليلاً وطأةَ الأرضِ،

وكي تشربَ نوراً مُسْـكِراً يحملُنا حتى الصباحِ الباردِ ...

القاهرةُ

البيتُ الذي لم ينقسمْ بيتَينِ

والغصنُ الذي لم ينقصِفْ فَرعَينِ

والعَينُ التي تَنْعَمُ في بحبوحةِ الـجَفنَينِ ...

والقاهرةُ

المعنى الذي ظلَّ يُطِلُّ:

الوردُ والـمِسْكُ

وغصنُ البانِ والشوكُ ...

وتلكَ النعمةُ السابغةُ:

البسمةُ والنيلُ !

..............................

..............................

..............................

نأتي القاهرةْ   و

مثلَ ما نأتي إلى جَدَّتِنا بعد طوافٍ خائبٍ

أيتُها الـجَدّةُ:

كم أرهَقَنا العالَمُ !

يا أيتها الـجَدّةُ :

ضُـمِّـينا إلى أحفادِكِ المنتظِرين ...

لندن 27.02.2007

القاهرة 2

ربما شاغـلتْنا الجسورُ التي حملتْ عرباتِ الملوكِ عن النهرِ. أعمقَ كالرملِ

ينسربُ النهرُ ، يبلغُ واحاتِ مصرَ البعيدةَ، حيث التواريخُ مكتوبةٌ باللغاتِ

التي تتناسى تواريخَها. النهرُ يدخلُ في وجنةِ الطفلِ طَمْـياً وخِصباً، ويدخلُ

في نَـهدَي البنتِ. يدخلُ من عتْبةِ البيتِ. مصرُ المعابدِ حيثُ التماسيحُ آلهةٌ

والملوكُ ينامون في الغُرَفِ الـمُذْهَباتِ وفي مَرْكَبِ الشمسِ. مصرُ التي لم تجدْ

ما تُسَـمّى بهِ غيرَ مصـرَ. انـتبذْنا من الليلِ رُكناً قريباً من البحرِ. كانت

تماثيلُ من مرمرٍ غابرٍ تتراءى وترحل في الموجِ . كانت شفاهٌ تسيـلْ .

لندن 27.02.2007

القاهــرة 3

حانــة ستيلاّ

لم تكن حانةً .

ربما قبـل قرنـينِ كانت. ورُبّـتَما وُجِدَتْ قبلَ أن يُعصَــرَ الخمرُ. أعني كأن موائدَها

رُكِّبَـتْ من ضلوعِ سفائنَ غارقةٍ من زمانِ البطالسةِ. الضـوءُ يدخل كالمتردِّدِ. لا شمس َ

في مـصرَ. كان الزجاجُ القديمُ ثخيناً بفعلِ الترابِ الثخينِ. الزوايا محدّدةٌ لذويها. زوايا

السجونِ الـتي تتعتّقُ فيها الجواربُ. ماذا ؟ القبارصةُ ارتحلوا منذ قرنٍ، ولكنهم يسكنون

القـناني التي احتفظت باسمِهِم: إنه القبرصيُّ. الشرابُ الذي يترنّحُ بين العَمى والبروقِ .

ولكنها الحانةُ      

الحانةُ الحقُّ ...     

فيها انتظرْنا الزمانَ الجديدَ، وفيها شهِدنا معاركَنا، والقصائدَ تولَــدُ مُشْـرَبةً بالتمرُّدِ .   

كنّـا إذا ما ترنّحَ منتصفُ الليلِ، نرفعُ سقفَ الأغاني. سيأتي إلينا الـمُـغَنّونَ من كل فَج  ٍّ

عميقٍ. ويأتي إلينا السقاةُ وقد أصبحوا الشاربِينَ. بلادٌ مؤقّـتةٌ بين منتصفِ الليلِ والصبحِ.

لا بارَ في الحانةِ. البارُ يشبهُ أولى المتاريسِ. حصنٌ حصينٌ له حارسٌ واحدٌ. لن يمرَّ الهواةُ ... 

إذاً ، فلنكنْ مثلَ من دخلوا حانةً. ولنكنْ مثلَ مَن لم يرَوا حانةً. نحن في البرزخِ. الصبحُ جاءْ .

لندن 27.02.2007

القاهرة 4

مقهى البستان

لا أعرفُ مَن ســمّى هذا المقهى، " البستانَ "

و لا أدري سبباً ...

أعرفُ أن المقهى يحتلُّ تقاطُعَ دربَينِ ذَوَي وِرشاتٍ للميكانيك

وأكشاكٍ تَعرِضُ أضغاثاً متناثرةً بين السجّاد وأجهزةِ الهاتفِِ

والخبزِ البلديّ،

وأعرفُ أن الفحمَ هو اللونُ هنا في هذي الزاوية الدكناءِ من العالَمِ ...

أعرفُ هذا، وأُسائِلُ نفسي: مَن سـمّى البلقعَ بستاناً ؟

مَن جاءَ بما يفترضُ البستانُ: زهوراً، شجراً، وطيوراً، وإلخ ... ؟

الأشياءُ هنا متداعيةٌ

حتى لم يَعُد المرءُ  ليأمنَ  كرسيّـا .ً

والشايُ هنا أسودُ كالفحمِ

إذاً أين البستانُ؟

................................

................................

................................

أقولُ لكم: إن "البستان" هو الحُلمُ الأوّلُ بالبستان !

لندن 28.02.2007

القاهـــرة  5

ستكونُ لي بيتاً …

تلُفُّ رداءَها القطنَ المهفهفَ حولَ أضلاعي الرميمِ:

ألم تجيءْ لتنامَ؟

كم طوّفتَ في الآفاقِ حتى لم تَعُدْ تدري بأيّ سقيفةٍ انتَ!

البلادُ وسيعةٌ أبداً

وضيّـقةٌ …

وأنتَ تدورُ

كالخذروفِ أنتَ تدورُ

ترمي حبْلَكَ امرأةٌ إلى امرأةٍ إلى امرأةٍ

وأنتَ تدورُ …

فلْتهدأْ!

أقِـمْ حيثُ النواقيسُ الغريقةُ في مياه النهرِ

حيثُ الصبحُ شمسٌ

حيثُ اللوتُسُ الأبديُّ تمضَغُهُ الجواميسُ؛

اقترِبْ مني  …

ولا تجفَلْ

ألم تشعرْ بأن ردائيَ القطنَ المهفهَفَ حولَكَ ؟

الأبقارُ في الوادي

وأنت على جلاجلِها تنـــام …

لندن 28.02.2007

القــاهرة 6

"الدرب الأصفر"

حجرٌ قديمٌ يرتدي أبهى ملابسِـهِ .

المساءُ  يجيءُ مرتطِماً بأبـخرةٍ ، ومرشوشاً على الدربِ،

المقاهي في الرصيفِ

وأهلُها في الشـارعِ:

التَّبِغُ المعسّـلُ. شايُها. والفولُ أخضرَ يُثْقِلُ العرباتِ

تنتظرُ البناتُ الليلَ كي يُبْدِينَ ما يُخْفِينَ ...

أطلبُ قهوةً سوداءَ .

يسألُـني فتى المقهى:

أظُـنُّكَ لستَ من مصرَ؟

الكلامُ يطولُ ...

أطلبُ قهوةً أخرى، وأُصغي للفتى.

كان المسـاءُ  يُقِــيْمُ  حفلتَه التي لن تنتهي إلاّ مع الصّبحِ .

الأغاني سوف تبدأُ ...

ربّـما من سـَحْبةٍ تُفْضي إلى دربٍ عجيبٍ ...

قد يكون هناكَ

خلفَ ستارةِ المقهى !

لندن   28.02.2007

القـــاهرة 7

النادي اليوناني

في حمّامِ النادي تسمع موسيقى اليونانيينَ

وفي الصالةِ تسمعُ أغنيةَ المصريينَ ...

وفي الصالة تنعقدُ الأبخرةُ:

الأنفاسُ

دخانُ سجائرَ

سيجارٌ كوبيٌّ

حتى لكأنّ الدنيا تطفو في الغيمةِ ... أولَ أيامِ الـخَلْقِ .

وفي الصالةِ دمدمةٌ

في الصالةِ غمغمةٌ

في الصالةِ همهمةٌ

في الصالةِ لا تسمعُ حتى صوتَكَ ...

في الصالةِ تنسى أنك في الصالةِ

تنسى أنكَ في النادي اليونانيّ!

لندن 01.03.2007