تفرّد سميح القاسم في عطائه الإبداعي برفضه الوقوف على أطلال الوطن، وبكاء الذي كان ولم يعُد، كما رفض تَوجيه أسْهم الاتّهامات والعتاب للذين سبّبوا ضياع الوطن وتشريد الشعب، ورأى في الناس العاديين ضحايا لم يكن بوسعهم عملُ أيّ شيء، وفي الجندي العربي البسيط الذي أرسلوه ليحمي الوطنَ ويردّ المعتدي أداة تجميل للحكّام والرؤساء العرب. وكان على ثقة أنّ هذه الضحيّة المُتمثّلة في "حسَن الكسيح" ("إلى الجحيم أيّها الليلك"، المجموعة الكاملة المجلد الخامس، ص 293-353) ستستردّ عافيتَها وتعود لتنتفض وتعمل لاستعادة حقّها، وأنّ الجندي العربيّ المُهان الذي شبّهه بالخيارة المَكبوسة سيعرف ذات يوم كيف ينتقم لنفسه ولنا نحن أيضا، سيعرف حََتْما.("إلى الجحيم أيّها الليلك، " المجموعة الكاملة المجلد الخامس، ص292). لقد أدرك سميح القاسم، منذ بداية تفتّح وعيه الوطني، أنّ الاتّهامات والعتابات لا تفيد شيئا وفقط تُثقل الهموم وتزيدُها، وتُعفي الذّات من تحمّل المسؤولية.
لهذا نجد بطل سميح القاسم الدّائم كما حدّدتُ في دراستي لحكاية (إلى الجحيم أيّها الليلك) "هو العربي الباقي فوق تراب وطنه منذ عام 1948، الإنسان الواعي الغاضب الثائر المُتحدّي الحالم الديناميكي الشجاع الإنساني. إنسان لا يُعاني من شيء غير التّركة الثقيلة التي كانت من نصيبه، وخلّفها له الآخرون. هذا الإنسان وجدَ الواقعَ الظالم يُحيط به، ولمّا أدرك الحقيقة لم يتلكأ وسارع في بدء معركة الرّفض والتّحدّي والثورة وصُنْع المستحيل. "(مجلة الجديد عدد11/12 /1977، ص9).
بداية المواجهة مع الآخر
من البداية وَضَحَتْ لسميح القاسم صورةُ الواقع الذي يعيشُه، ورفضَ التعلّق بالأوهام والأحلام المُستحيلة التّحقيق، وأدرك أنّ الواقع الجديد في الواقع العالمي والعربي القائم يجب التعامل معه بعقلانيّة وحكمة ودراية ووعي. واختار طريق المُواجهة مع الآخر بكلّ وضوحها وقوّتها "لا أيّها الأصدقاء. هذا غير معقول. قُلتُم إنّكم لم تفقدوا الحنينَ إلى هذه البلاد رغم غربة ألفَي عام، فكيف تتوقّعون أنْ يفقدَ شعبُنا الحنين إلى هذه البلاد بعد غربة ربع قرن فقط؟. سام أو حام أو يافط، هذه أمور الإثنولوجيّة لا تعنيني كثيرا. المهم أنّني فقدتُ وطنا كاملا وحقيقيّا بترابه وصخوره وأشجاره.. بناسه ومُدُنه ودكاكينه وقُراه وأثاثه وملابسه وقهوته السّاخنة.. فقدتُ وطنا في حالة جيّدة وصالحة للاستعمال مئة بالمئة.. لم يذهب هذا الوطن إلى كوكب آخر. إنّه على الأرض وتعرفون أنتم موقعَه.. تعرفون جيّدا وطني الذي ضاع بلا أيّ منطق، في زمن من المفروض أنْ ينتصر فيه المنطق .. المهم هو أنّ حروبا متكرّرة ما زالت تشوّهنا وتُنغّص علينا حياتنا منذ سنين طويلة. المهم هو أنْ تفكّروا بجدّ في سبيل ما في ثغرة ما، للخروج من حلقة الدّم المُفرغة. العدل المطلق في حالتنا هذه شيء مستحيل، لن نتّفق عليه الآن، وقد لا نتّفق عليه لعدّة أجيال. اعترفوا لي بشيء من العدل وإلاّ فسآخذه بكلّ ثمن.. أريدُ شبرا واحدا من العدل. هويّة واحدة من العدل. "دنيا" واحدة من العدل".("إلى الجحيم أيّها الليلك"، المجموعة الكاملة المجلد الخامس، ص 270-271).
وقد كان قويّا وواضحا في موقفه أنّ على قيادات الشعب الآخر أن تختار "فليس أمامها إلاّ طريقان:
الأوّل: طريق التعنّت والاستعلاء والتنكّر لحقّ الآخرين، وهذا يعني اختيار طريق الحرب، ولن يولّد إلاّ ردّ فعل حازم وقويّ وفتّاك لا يعرف أحد نتائجَه.
الثاني: وعي الحقيقة الكبرى.. واختيار درب السلام والمحبّة والتّعايش المشترك."(الجديد، عدد 11/12/1977 ص51).
لقد كانت حكاية "إلى الجحيم أيّها الليلك" كما ذكرتُ في دراستي لها: " أوّل وثيقة أدبيّة شاملة للعلاقات بين الشعبين اليهودي والعربي في هذه البلاد، وصورة أمينة لعقليّة المُضَلّلين من الشعب اليهودي، كما أنّها الوثيقة الممتازة للصراع المَبدئي الفكري السياسي، وبكلمات واضحة أقول: إنّ سميح القاسم في حكاية "إلى الجحيم أيّها الليلك" استطاع أنْ ينقلَ الصّراع العربي الإسرائيلي إلى المستوى الفكري والحضاري في شموليّة إنسانيّة" (مجلة الجديد، عدد 11/12/1977، ص51).
صحيح أنّ بطل "الليلك" لم يستطع أنْ يُقنع "أوري" بعدالة قضيّته وحقّه ورغبته في السلام والحياة معا، وظلّ أوري يرى في قَتل hلعربي الحلّ الوحيد. ولم يستطع كذلك أن يلتقي بإيلانه. ولكنه نجح في تَحْييد إيلانه وجَعْلها تقتنع ببعض مواقفه ودَفْعِها لإقناع حبيبها أوري بإمكانيّة الحياة المشتركة، وأنّ لقاء بطل الليلك ودنيا لا يكون على حساب لقائها به، فالحياة للطرفين ممكنة. "أوري.. دع هذا الشاب يذهب. لم يكن هو الذي قتلك .. الذي قتلك هو وزير دفاعنا، والذي قتلك هو.. رصاصتُك. نكّس رشاشك يا أوري واخلِ سبيل هذا الشاب، إنّه يبحث عن حبيبته "دنيا" التي فقدها بلا ذنب وبلا منطق. ما ذنبُه هو؟ وما ذنب "دنياه" ليس من حقّنا أنْ نُحمّلَ الآخرين تبَعات جريمة لم يرتكبوها .. ليس الآخرون هم الجحيم بالضّرورة.. قد نكون نحن جحيم أنفسنا! دعْه ينطلق في سبيله. لا تقُل يا أوري إنّ لقاءَه بدنيا يعني فراقنا نحن، لماذا لا نفكّر في وسيلة تجمعهما دون أنْ تفرّقنا؟ ويْل لنا يا أوري ما دُمنا نترك الفولاذ القاتل يُفكّر من أجلنا.. إنّني خائفة يا أوري ولن أخفي عنك مخاوفي.. يُخيّل إليّ أنّ لقاءَنا لن يستتبّ ولن يدوم ما لم يلتق هذا الشّاب بحبيبته دنيا ("إلى الجحيم أيّها الليلك" المجموعة الكاملة المجلد الخامس ص 359-360).
وتناول سميح القاسم في حكايته القصيرة "الصورة الأخيرة في الألبوم" (منشورات دار الكاتب عكا 1980) طبيعة المُواجهة العنيفة بين جنود الجيش الإسرائيلي ورجال المقاومة الفلسطينية والقتل المُتبادل بينهما، وتردّي الحالة المعيشيّة للمواطن العربي في البلاد نتيجة للوضع السياسي العام حتى فكّر الكثير من الشباب في الهرب من البلاد مع كلّ ما في الهروب من مخاطر. وما يُميّز "إلى الجحيم أيّها الليك" أنّها تحكي فترة زمنية من حياة سميح القاسم نفسه، ولهذا أشار على الغلاف أنّها «حكاية أوتوبيوغرافيّة»، وهذا صحيح كذلك بالنسبة لحكاية "الصورة الأخيرة في الألبوم" وإن كانت شخصيّة سميح غير بارزة هنا بوضوحها كما في "إلى الجحيم أيّها الليلك" فتبدو آراء سميح وسلوكيّاته وعلاقاته من خلال شخصية "أمير" النزقة الغاضبة العصبية.
ملعقة سُمّ صغيرة ثلاث مرّات يوميّا
وكانت أخيراً حكاية "ملعقة سمّ صغيرة ثلاث مرّات يوميّا"(منشورات إضاءات، 2011) لتكون الجزء الثالث من حياة سميح القاسم، فيها يُسجّل ما حدث له في الستّينات وبداية السبعينات من القرن الماضي، القرن العشرين. هذه السنوات الصاخبة في حياة البلاد والشعب العربي خاصة، حيث كان سميح يعمل في صحف الحزب الشيوعي ويسكن في مدينة حيفا ويُواجه كلّ صروف التّنكيل من قبل أجهزة الحكم العسكري الذي استمرّ حتى أواسط عام 1966 وباقي أذرع السلطات الأمنية. وكما في اختياره لعنوان "إلى الجحيم أيّها الليلك" أراد سميح القاسم أن يُعلن انتهاء فترة الضبابيّة والضلال وعدم الرؤية لحقيقة مُسبّبات المأساة الفلسطينية وطبيعة الصراع العربي الإسرائيلي، هكذا في اختياره لعنوان "ملعقة سُمّ صغيرة ثلاث مرّات يوميّا" قصد أن يوقفنا على مأساوية وضع الإنسان العربي داخل دولة إسرائيل وأنّه يُدفع يوميّا للانتحار الاختياريّ البطيء. ورغم أنّ موقف اليهوديّ ظلّ يتميّز بالرّفض والتشكك والريبة والخوف من كلّ ما هو عربيّ إلاّ أنّنا نجد قفزة كبيرة في العلاقات اليهوديّة العربية، والانفتاح اليهودي على الإنسان العربي. فبينما لم نجد في "الليلك" غير إيلانة وحدها على استعداد للتفاهم مع العربي وقبوله شريكا في الحياة، وفي "الصورة الأخيرة في الألبوم" فقط روتي ابنة الجنرال، فانّنا نجد في "ملعقة سمّ.." العشرات من الفتيات والشباب اليهود الذين يُصادقون العربي ويُدافعون عنه، وحتى يتبنّون مواقفه السياسية ضدّ أجهزة السلطة وضدّ المواقف الصهيونية المُعادية التي تتحكّم بغالبية السكان العرب.
يحكي سميح قصته بضمير المتكلّم، ويختار لنفسه اسما ذا مدلول "مأمون عبد الرحمن" ويوضّح من البداية أنّه يحبّ عمله الذي اختاره في الصّحافة رغم معرفته أنّه عمل غير مربح، وكان بإمكانه إتقان عمل آخر يُكسبه المالَ الكثير، لكنّ العمل في الصحافة كما يفهمه "ليس مجرّد وسيلة تعميم المعلومات وتوسيع رقعة المعرفة الشعبية، فهي فوق ذلك تسويق لرؤيا وترويج لوعي، وكرازة بموقف"(ص5). ويرسم صورة جميلة للعلاقة الإنسانية التي ربطته مع الجيران في البناية التي يسكنها ومع سكان الحي العرب، وينقل مشاهد عديدة لاجتماعات مختلفة حضرها وشارك فيها وطرح آراءه المختلفة حول المرأة والطلاب العرب في الجامعات وعلاقة السلطة مع الجماهير العربية وحواراته الحادّة مع الكثير من اليهود الذين لم تُعجبهم مواقفه.
كيف احتفل سميح القاسم ومحمود درويش بعيد إستقلال إسرائيل
ويستعيد ذكرى ليلة احتفال الشعب اليهودي بعيد استقلال إسرائيل وكيف احتفل هو ومحمود درويش تلك الليلة "رحنا نتبادل الأنخاب، ونُعدّد مآسي شعبنا وبلادنا .. لدينا مُتّسَع من الوقت أيضا لاستعادة الحكايات عن التشرّد والهزائم واللجوء ومصادرة الأرض، والحكم العسكري، والكَبّ عَبْر الحدود بشاحنات الجيش، والهويّات الحمراء، والنضال الشعبي من أجل استبدالها بالهويّات الزرقاء، التي تعني ضمان البقاء في الوطن. بين الضحك والبكاء تذكّرنا قصّة محامي الأرض حنا نقّارة ومعركة الهويّات .. وتذكرنا تلك الأغنية الدّلعونيّة التي أبدعتها سيّدة من البعنة، وصارت فولكلورا يُغنّى في أعراس البعنة وسائر قرى الشاغور.
تقول الأغنية: طارت طيّارة من فوق الليّة والله يُنصُركو يا شيوعيّه
حنا نقّارة جاب الهويّة ودَعَس ع شارب ابن غريونا
فرغت الزجاجات حتى القطرة الأخيرة. يبدو أنّنا ثملنا بعض الشيء، ولم يُعارض صديقي وزميلي الفكرة:
- قُم يا محمود، هيّا بنا، لنا الآن أن نُمارسَ كرنفالنا الخاص في هذه المناسبة الخاصّة .. الجماعة يحتفلون عند تقاطع شارع هرتسل مع شارع الأنبياء، أمّا نحن، فستنطلق مسيرتنا الاحتفاليّة من شارع المتنبي إلى شارع عبّاس، وسنكسر زجاجاتنا الفارغة على الإسفلت، فمَن يدري، قد تؤدّي شظايانا إلى فرقعة عجلات سيارة الحاكم العسكري!.
لم يُكذّب محمود خبرًا. وانتشرت شظايا زجاجاتنا الفارغة عند ملتقى الشارعين، لكن سيارة الحاكم العسكري لم تُصَب بأذى، واتّضح لنا بعد صحونا أنّ الحاكم العسكري لا يسكنُ شارع عبّاس ولا شارع المتنبي". (ص16-18).
حياة المواجهة والمطاردة
ويسرد قصّة مطاردة السلطات له منذ بدأت مقالاتُه الصحفية تُثير الرأي العام وتحرّك الناس، وكيف أنّ الرقابة العسكريّة على ما يكتب جاهزة تماما ودائما، للحذف هنا وللشطب هناك. وقد استُدعي العديد من المرّات إلى مراكز الشرطة ووُجّهت له التّهم المختلفة مثل التّحريض ومخالفة القانون والقيام بأعمال تخريبيّة، وحُكم عليه أكثر من مرّة، بالسجن الفعلي أو الإقامة الإجبارية في البيت أو إثبات الوجود يوميّا في مركز الشرطة. ويصف إحدى مُداهمات قوات الشرطة لغرفته في حيفا: "قرابة الثامنة مساء، وأنا أستمع إلى نشرة الأخبار التلفزيونيّة، بين رشفة قهوة ومَجّة قويّة من سيجارة الكنت الطويلة، قرع جرس الباب.
لم يكن هناك من موعد.
قلتُ لنفسي ، لعلّه صديق ضجرَ يُفاجئني بزيارة غير مُحبّذة في هذا الوقت .. وما أنْ فتحتُ الباب حتى امتدّت نحوي أكثر من ماسورة رشّاش صغير من طراز عوزي..
هل أنتَ مأمون عبد الرحمن؟
- أجل أنا مأمون عبد الرحمن، ماذا حدث؟
- سترافقنا إلى مركز الشرطة. خير لك أن تفعل ذلك بهدوء، هناك سيشرحون لك ما حدث.
- أريد أن آخذ معطفي وسجائري!
أطفأتُ جهاز التلفزيون. حملتُ معطفي وسجائري، وهبطتُ الدّرج مُطوّقا بهم. كانوا خمسة أو ستّة من رجال الشرطة، وكانت عند مدخل العمارة سيّارتا جيب. وضع أحدُهم كفّه على رأسي ودفعني إلى داخل سيّارة الجيب الأولى. بعد قرابة ربع ساعة كنّا في مركز الشرطة، حيث استقبلني الشاويش زكاي."(ص25-26).
وكانت التّهمة خطيرة وهي وضع متفجّرات في مصفاة بترول حيفا.
ويقول سميح: "لم أعترف بأنّني وضعتُ المتفجّرات في بطيخة، كما اتّهموني سابقا .. ولم أعترف بأنني وضعتُ المتفجّرات في مصفاة البترول، كما يتّهمونني الآن، لم أعترف، وأعلم أنّني لن أعترف بما يُريدونني أنْ أعترف به. "ويقول ذاكرا السجون التي عَرَفته واعتُقل فيها: "وفي سجن الجلمة، كما في سجن الدامون، كما في معتقَل شرطة مجد الكروم وشرطة عكا، كما في سجن صرفند العسكريّ، كما في مركز توقيف حيفا، كما في معتقل العمارة العسكري في الناصرة، وكما في معتقل شرطة بادنغتون في لندن .. فنّدتُ ادّعاءاتهم وكذّبتُ اتّهاماتهم وفضحتُ شهودَ زورهم، ولم أمنحهم متعة الاعتراف بالتخطيط للإرهاب والشّروع بالأعمال الأمنيّة العدائيّة .. وفوق كل ذلك، فلم أمنحهم حتى متعة الاعتراف بأنّني أدخّن وأحبّ النساءَ ولا أحبّ قهوتهم الأجنبيّة المُستوردة والرّكيكة والبّاهتة". (ص29).
هذه الملاحقات من الشرطة لم تفتّ من عزيمة سميح وإنّما زادته صلابة وإرادة وتصميما فكان يُشارك في مختلف الفعاليات النضاليّة ويتصدّى لليمين المتطرّف والمواقف الشّوفينيّة المعادية للعرب. لم تترك الشرطة سميح ليستقرّ في مكان إقامته وإنّما لاحقته بالضغط على صاحب العمارة ليخبره أنّه بحاجة للغرفة وعليه تركها قريبا ممّا كان يدفع بسميح للتنقّل من مكان إلى مكان حتى استقرّ به المقام عند عجوز محترمة أرملة فقدت زوجها في حرب 1948 وهاجر ابنها الوحيد وبناتها الثلاث إلى أمريكا تباعا، لتظلّ وحيدة. وقفت إلى جانبه ورفضت كلّ الضغوطات والتهديدات "إسمع يا بنيّ، اتّصلوا بي وحذّروني من تأجير الشّقة لعربي، لكنّي وبّختهم"(57).
العمل في صحافة الحزب الشيوعي وزيارة معسكر بوخنفالد
كان من الطبيعي أن يجد سميح مكانه الطبيعي بين الشيوعيين، وأن يكتب ويُحرّر في صحافة الحزب الشيوعي، رغم تعريفه لنفسه، في مصارحته لإميل حبيبي وهو مسافر معه إلى تل أبيب للتصدّي لقطعان اليمين العنصري، بأنّه "قومي عربي تقدّمي وأممي"(33). ويتوسّع سميح كثيرا في الحديث عن أعماله الصحفيّة المتشعبة وعن المهمات التي قام بها مثل مشاركته في إحياء ذكرى شهداء كفر قاسم، والرحلة إلى معسكر بوخنفالد في الغابة السوداء وكيف فوجئ "بأعلام تحمل الهلال والنجمة الخماسيّة"(ص55)، ويتأكّد من أنّ ضحايا النازيين لم يكونوا من اليهود فقط وإنّما من "الألمان المعارضين ومن أبناء الشعوب الأخرى، حيث التقوا في الصليب ونجمة داود والهلال"(ص55)، ويوقن "أنّ رماده الرمزي رماد الوحدة الإنسانيّة اختلط في مواجهة أشدّ المعارك قسوة، معركة الصّراع المُستميت بين النّور والظلام، بين الحقّ والباطل، بين العدالة والظلم، بين الحريّة والعبوديّة، بين السلام والعدوان، بين الوداعة والبطش، بين الإنسان المتحضّر وأخيه الهمجيّ المتوحّش"(ص55). ويصف الحالة النفسيّة التي طغت عليه "للحظات من الغيبوبة، بقيتُ وحدي، هناك .. كنت أسود كالغابة السوداء .. وكنتُ رمادا طالعا للتوّ من أفران الطغاة .. وكنتُ على شفير الجنون بين الضحك والبكاء .. وكنتُ صامتا حتى الموت .. وكنتُ صاخبا حتى الانفجار .. وكنتُ خارج الكينونة .. وكنتُ هنا في جحيمي الخاص والموصد بإحكام على تسونامي يبدأ بدمعة واحدة".(ص55) ويُتابع في الحديث عن المهمّات التي ألقيت عليه والرحلات التي قام بها إلى موسكو لحضور المؤتمر الدولي لدعم حركات التحرّر الوطني، وإلى روما لتغطية مهرجان صحيفة "أونيتا" الإيطالية، وإلى باريس لحضور مهرجان لومانيتيه ومقابلته المفكر الفرنسي روجيه جارودي وشاعر المقاومة الفرنسيّة لويس أراغون.
الوضع المادّي الصعب
يتوقّف سميح في العديد من المرّات عند الحالة الماديّة الصعبة التي يُعاني منها، وحاجته الماسّة للمَزيد من المال ليعيش كما يريد في ظروف أفضل من التي تُوفّرها له النقود التي يُزوّده بها الأهل والرّاتب البخس من الجريدة، واستغل إطراء رئيس التحرير لعمله في الجريدة وإخباره بأنّ مهمّات قادمة ستُسنَد إليه حتى يقول: "شكرا جزيلا على الإطراء، لكنني بحاجة ماسّة إلى زيادة مَرتبي، تجاوزتُ الثلاثين من العمر ولا أملك شيئا من حطام الدنيا سوى ما تُيسّره لي أسرتي .. وها هي أسرتي تضغط عليّ بضرورة البحث عن رفيقة عمر. آن الأوان لتتزوّج آن الأوان لتستقرّ. هذا ما يُردّده أبي وتكرّره أمي في كلّ زيارة لهما"(75-76). لكن جواب رئيس التحرير كان سريعا وواضحا:" لك أن تتزوّج المهنة كما تزوّج أبو عمّار القضيّة. عن أيّة أجور تتحدّث؟ الحال من بعضه، ومثلي مثلك، الواجب كبير والإمكانيّات الماديّة صغيرة. والعين بصيرة واليد قصيرة .. لا عليك يا عزيزي. لا عليك ولا علينا. ستتحسّن ظروف العالم، وستتحسّن بالتالي ظروفنا نحن يا صديقي ورفيقي"(ص76).
ويشكو سميح من وضعه المادي الصعب أكثر من مرّة، "لا يسمح لي دخلي المحدود والمتواضع بامتلاك سيارة"(ص9) وقوله "إنّ وضعي الاقتصادي صعب للغاية، فأنا مضطر للقيام بأعمال جانبيّة، مثل الترجمة ومراجعة بعض المطبوعات، من وقت لآخر، حتى أحَقّق دخلا ضئيلا ينضاف إلى دخلي الضئيل، لأتمكّن من ممارسة الحدّ الأدنى من الحياة الكريمة والحرّة" (ص123). وتستمر أيّامُه ما بين العمل الصحفي المُرهق، والمشاركة في الفعاليات الجماهيرية النضالية على الساحتين العربية والعربية-اليهوديّة، وحضور المؤتمرات والندوات داخل البلاد وخارجها، والمواجهة اليومية لملاحقة الشرطة له والتصدّي للمحاولات السلطوية العنصرية للنيل منه، وكل هذا لم يمنعه من مزاولة حياته العادية وإقامة علاقات إنسانية وعاطفية ويفرح ويضحك ويرقص ويغنّي للحياة.
سميح صاحب الرؤية والرؤيا، وموقفه من حريّة المرأة
اختياره للعمل الصحافي كان عن اقتناع حرّ وواع للمسؤوليّات التي يفرضها عليه وللقيود الكثيرة التي ستكبّله في حياته. وكما وضّح "تعنيني في قضيّة العمل جوانب الفكر والروح والأبعاد السيكولوجية واختياري للصحافة مهنة فيه تسويق لرؤيا وترويج لوعي وكرازة بموقف"(ص5). فعلى المستوى الاجتماعي آمَنَ بحريّة المرأة و"أنّ حرية المرأة من حريّة الرجل، والمطلوب هو تحرير المجتمع كله، ولن يجدي البحث عن حريّة المرأة بمعزل عن حرية الرجل أو عن حريّة الرجل بمعزل عن حريّة المرأة. إنّ الأوطان لا تكون حرّة بحقّ إلاّ بالمجتمعات الحرّة تماما" (ص14). وكما يُحدّد ارتباط الرجل بالمرأة وتكامل الواحد بالآخر "أنتَ أساس توازنها بمثل ما هي أساس توازنك. انتماء، الرجل والمرأة، معادلة الوجود الجبّارة بكل المقاييس والمفاهيم. تتقدّمها هنا. تتقدّمك هناك. ومعا، في المحصّلة، تُشكلان حالة الحياة .. إلى أبد غير مرئيّ وغير مؤكد وغير محتوم. لسنا إزاء مسألة حفظ النوع بالتكاثر فحسب. لا بدّ من الكتاب والسنبلة والوردة. ولا مناص من الكيمياء. أنتَ تفقه إذا أو ينبغي أن تفقه حقيقة هذه الثنائيّة الرّاسخة أزلا إلى الأبد. ولن تقوى عناصر بيولوجيّتك النفسيّة الذّاتيّة على قهر التوازن الموضوعي، أنتَ وهي، دائما وأبدا، توربينة الكَون الهائلة والمتكافئة.. والجميلة"(ص32).
التصدّي لبَيع الأرض وسرقتها، ومفهوم الأرض بالنسبة له
كانت ولا تزال قضيّة بيع وسَرقَة الأرض العربية هي قضيّة القضايا في صراع الوجود، فالأرض كما يعرّفها "ليست مجرّد فكرة. إنّها فكرة أيضا. لكنّها عضو واضح في جسَد المادّة الواضحة. وبطبيعة الحال فنحن نتوقّع من الأرض أن تُقدّم لنا شيئا ما يجمع بين هاجس الفكرة وامتلاء المادّة. وهنا تكمُن قوّة الأرض. إذا فلا بُدّ من التنسيق والمواءمة بين فكرة الإنسان في الأرض ومادّة الأرض في الإنسان. لا بُدّ من تجسيد الممكن واقتحام المعجز حتى تُتاح لنا هذه الثمرة الطيّبة والرائعة، ثمرة الأرض، وآنذاك فقط يجوز لنا اليقين: هذه هي الأرض التي هي أرضنا، نحن البشر، نحن الناس بكلّ ما توفّره اللفظة من مَعان واحتمالات."(ص24). فهو مسكون بالفزع من ضياع الأرض، و"يثقله التقرير عن ضياع آلاف الدونمات من سهل حيفا، وانتقالها من الملكية العربية إلى ملكية شركات أجنبيّة مشبوهة، وحرمان الفلاحين العرب من حقّهم التاريخي والأخلاقي في انتقال ملكيّتها إليهم هم الذين جبلوها طيلة أجيال بدمهم وعرقهم ودموعهم"(ص30). ويعترف "أنا أعشق الزيتون ورائحة التراب بعد المطر وأشجار السنديان والخرّوب والبُطم والعَبهر وسواها من أشجار جبل حيدر الساحر. كنتُ أصعد إلى الغابة المصادرة، غابة طفولتي الممتدة على عشرات الدونمات، ترك الأجداد هذه الغابة على طبيعتها لتكون مصدرا للحطب وللفحم في أيام ندرة الوقود من عهد السفربرلك وقبله وبعده." وبألم يقول: "وكعادتها فقد صادرت حكومة إسرائيل الطارئة هذه الغابة التي تعرّفتُ إلى أشجارها من أيام طفولتي"(ص47).
رؤيتُه القوميّة ومفهومه للعمل النّضالي
يُعرّف نفسه "أنا قومي عربي تقدّمي وأممي"(ص33) و"أنا لست عنصريّا ولا أحمل ضدّ أحد أيّة مشاعر عدوانيّة وإنّني الابن الوفيّ لحضارة التعايش والتسامح والتفاعل والتكافل، وكل مواثيق حقوق الإنسان الحديثة تجد لها جذورا عميقة في ثقافتي وفي وجدان أمّتي وتاريخها"(ص37) ويوضّح رؤيته للعروبة "أنا مؤمن بأنّ القومي الحقيقيّ لا يمكن إلاّ أنْ يكون أمميّا. ولا أصدّق مَن يدّعي حبّ شعبه بينما هو يتبجّح بكراهيّة الشعوب الأخرى. إنّ العروبة ليست في نظري عِرقا بل مجموعة قيم إنسانيّة راقية. والحضارة العربية الإسلاميّة حضارة العرب كلهم هي حالة انفتاح وتفاعل مع الآخر، وليست صَدَفة موصَدة ومُنغلقة تُهمّش الآخر وترفضه. وسماحة هذه الحضارة هي سرّ عظمتها"(ص73). ويؤمن سميح "أنّ لا فكاك للتّلاحم العضوي بين العرب الفلسطينيين المقيمين في وطنهم تحت الحكم الإسرائيلي، وبين أشقائهم في الضفّة الغربية والقدس وقطاع غزّة وفي الشتات.. كما أنه لا فكاك أيضا للتلاحم العضوي بين الفلسطينيين وأشقّائهم العرب. فقضيّتهم هي قضيّة قوميّة شاملة ولا تستطيع شعارات" الشأن الداخلي" و "استقلاليّة القرار"، سَلخ فلسطين عن أمّتها، رغم نَكبة هذه الأمّة بفيروسات سايس بيكو وجراثيمها المُمرّضة والمميتة"(ص12-13).
ويرى أنّ المناضل الحقيقيّ هو "في نهاية الأمر إنسان ككل البشر، ومن حقّه أن يتمتّع بالحياة قدر الإمكان، السجون والمعتقلات والمظاهرات هي نتائج حتميّة لسياسة الظلم والتمييز القومي، أمّا نحن فإنّنا أنصار الحياة الحرّة الكريمة، ونحن أنصار السعادة وأعداء البؤس، ونحن نكافح لنعيش ولا نعيش لنكافح"(ص97). وهو يناقش بعض الثوريين العرب: "لا تختلف طروحاتك كثيرا عن طروحاتي، وأقرّ بسلامة معظم ما تقول، لكنني لا أرى مبرّرا لقيام دولة عربيّة على كلّ بئر نفط وكل منجم نحاس أو حديد أو يورانيوم.. يجب أن ننتبه كثيرا إلى كلمات الحقّ التي يُراد بها باطل. أنتم على حقّ في المطالبة بالحريّة والديمقراطيّة وتكافؤ الفرص والمساواة والعدالة الاجتماعيّة .. وأنتم على حقّ في رفض الاستبداد والطاغوت والقمع والدكتاتوريّة والحرمان والاضطهاد .. أنتم على حقّ في كلّ هذه الأمور، لكن هذه الأمور لا تتحقّق بتغليب الإقليميّة والقبَليّة والعرقيّة والمَذهبيّة، على اعتبارات النضال المشترك والمنظّم لتغيير الحال، ولنَقْل الشعب والوطن من حيّز البؤس والتخلّف إلى فضاء العلم والنور والمحبّة والتقدّم"(ص107-108).
تَصدّيه للفكر الصهيوني المعادي وموقفه من الحلّ المحتمَل
أدرك سميح منذ لحظة المواجهة الأولى أنّه أمام موجات عداء وكراهيّة لا نهاية لها. وكانت السلطة الممثلة برجال الشرطة هي المواجهة الأولى، مستغلّة قدرتها على فرض هيبتها وإرادتها وتجيير كلّ الأمكانيات لصالحها، فلم تتورّع عن القبض عليه في أيّ ساعة ترتأيها وترمي به في أيّ معتقل أو مركز توقيف، أو فرض الإقامة البيتيّة وإثبات الحضور أكثر من مرّة في مركز الشرطة. لكن المواجهة تعدّت إلى فرض الرأي والموقف وتشويه الواقع وقَلب الحقائق وتزوير التاريخ وهذا لم يقبل به سميح ولم يرضخ له. فعندما قال له الضابط إلياهو: "إنْ كانت هذه الدولة لا تُعجبك فابحث عن غيرها .. عندكم أكثر من عشرين دولة"، أجابه سميح: "أنا أحبّ وطني. ولا أريد بلادا غير بلادي"(ص21). وعندما صرخ العنصريون وهم يُهاجمون مقرّ جريدة الحزب الشيوعي "قول هعام" في تل أبيب: "قوميون عرب، مخرّبون، طابور خامس". تصدّى لهم سميح ورفاقه بردّهم الحازم: "صهاينة، منحرفون، عنصريون، كلاب صيد احتلال" (ص35). ويطرح السؤال الصعب نفسَه أمام سميح: نحن أم هم؟ وهو ينظر إلى الشاب الشيوعي يهوشواع الذي شاركه في التّصدي لقوى اليمين العنصري في هجومهم على مَعقل صحيفة الحزب "قول هعام" ويسأل نفسه: "هوذا الرجل يهوشواع منهمك بترميم ذاته. ترميم وعيه وروحه. وماذا أفعل أنا هنا؟ هل أساعده في انجاز مشروعه الشخصي؟ ولمَ لا؟ قد يُساعدني ترميم شؤونه في ترميم شؤوني أنا أيضا. لكن لي أن أسال من أين أتى هذا الرجل؟ ولماذا أتى هذا الرجل؟ وهل نحن متورّطان في كوميديا أخطاء شكسبيريّة، أم هي تراجيديا لأخطاء لم يكتبها أحد بعد؟"(ص36).
ويحدّد الحل الذي يراه ممكنا للنزاع "على أيّة حال فها نحن هنا. لا أستطيع نفيَه من واقعي ولا يستطيع نفيي من واقعه. إذا، فعلينا أن نتدبّر أمرَنا. علينا تكوينَ صيغة ما لتعايش ما"(ص30). لكنّه يُحدّد شرطه في الحل "شريطة أن يكون يهوشواع صديقا وأن يكون جزءًا من مشروع تعايش لا جزءًا من مشروع ترحيل واستيطان"(ص36-37). ويوضّح مدى تسامحه وإنسانيّته "ولعلّه يُدرك أنّني لستُ عنصريّا ولا أحمل أيّة مشاعر عدوانيّة وأنّني الابن الوفيّ لحضارة التعايش والتسامح والتفاعل والتكافل، وكلّ مواثيق حقوق الإنسان الحديثة تجد لها جذورًا عميقة في ثقافتي وفي وجدان أمّتي وتاريخها"(ص37).
العلاقات العربية اليهوديّة
الرفض والشّك والخوف حكموا مواقف اليهود من العرب في البلاد وحدّدوا العلاقة بينهما، وظلّ اليهودي على موقفه الرّافض وحتى الكاره للعربي، ويؤمن أنّ الله أعطاه هذه البلاد والعربي ليس إلاّ دخيلا مرفوضا فيها، وسخّف سميح هذه المواقف والآراء "لا يا دكتور.. لا يا جاري العزيز.. فليس الله موظّفا في دائرة أراضي إسرائيل، وليس إبراهيم الخليل سمسارًا وسيطا بينكم وبين الله"(ص8). هكذا ردّ سميح على جاره اليهودي. ولم يجادل صاحب الشقّة التي كان يسكنها عندما طلب منه صاحبُها اليهودي، بضغط من الشرطة، أن يتركها (ص30). ولم يستغرب رفض العديد من اليهود تأجيره وغيره من العرب شققا للإيجار (ص58). وردّ بحزم على اليهودي الذي سأله: "أنت القومي العربي اليساري تتكلّم بحريّة في دولة اليهود الديمقراطيّة، هل تستطيع أن تفعل ذلك في دولة عربية؟"(ص93) قال: "لماذا لا تقارنون أنفسكم بسويسرا أو هولندا وبلجيكا وروسيا وسواها من الدول التي تعتمد المساواة الدستوريّة والقانونيّة التامة بين جميع القوميات المتعايشة فيها؟"(ص93). لكن الاختراق لحاجز الرفض في الجانب اليهودي بدأ ومن السنوات الأولى يُعطي ثماره من خلال التعاون والتّلاقي بين قوى اليسار في الشعبين وخاصة مَن انتسبوا إلى الحزب الشيوعي أو المقرّبين منهم.
المرأة هي النافذة المضيئة
كانت المرأة اليهوديّة هي النافذة المضيئة المادّة يدها المستعدة للتفاهم والتعاون والتعايش مع العربي، وكان الاختراق الذي رأيناه في بدايته البسيطة في حكاية "إلى الجحيم أيّها الليلك" في التحوّل الذي ظهر في شخصية ومواقف "إيلانة" وطلبها من صديقها "أوري" ألاّ يُطلق النار، وأنّ التقاء سميح ودنيا لن يكون على حساب لقائهما. وزاد هذا التحوّل عُمقا وفَهما وقبولا كما رأيناه في شخصية "روتي" بطلة حكاية "الصورة الأخيرة في الألبوم" هذه الفتاة التي وقفت ضدّ والدها الجنرال، وتعاطفت مع أمير حبيبها العربي وشعبه، وآمنت بعدالة قضيّتهم وجادلت والدها العنصري القاتل الكاره للعرب، حتى أنها في النهاية آثرت الموت على أنْ تقبل بجرائم والدها، وانتحرت مؤكّدة لوالدها أنّ موت العربي لن يكون الحلّ للنزاع بين الشعبين وإنما التفاهم والتعايش المشترك، وإذا كان والدها يرفض ذلك ولا يرى الحل إلاّ في موت العربي فسيكون الموت من نصيب الشعبين، فكما قُتل شقيق حبيبها برصاصة والدها الغادرة هكذا هي تموت بجريرة جرائم والدها أيضا التي لا تستطيع التسليم بها والقبول بالتعايش معها، فلا حياة لها إذا كان قَدَرُ حبيبها العربي الموت.
وتتّسع دائرة التّفهّم اليهودي للموقف العربي وتقبّل التّعايش مع الإنسان العربي، وكما في "إلى الجحيم أيّها الليلك" و في "الصورة الأخيرة في الألبوم" كانت المرأة اليهودية هي الأكثر إنسانيّة والأكثر تقبّلا للغير والرضا بالتّعايش معه، وحتى الارتباط معه في قصة حبّ جنونيّة. فـ"ليئة" جارة سميح من الطابق الثالث كانت هي المبادرة للتقرّب بالنزول إليه وطَرْق باب شقّته، لم تقتنع ليئة بكلام سميح أنّ الفلسطينيين هم الضحيّة وأنهم يدفعون ثمن جرائم الغرب الرأسمالي ضد اليهود، ولم تقتنع بأنّ الحركة الثوريّة الفلسطينيّة هي حركة تحرّر وطني لم تقم على معاداة اليهود لكونهم أتباع دين آخر، بل قامت على غاية استرداد الحقوق والحياة الحرّة الكريمة أسوة بكل شعوب الأرض. لم تقتنع بكلمة من كل ما سمعت ولكنها كانت راضية بشرب القهوة العربية معه، وبإقامة علاقة عاطفية حميمة وهي تتغنى بالسلام الذي لا تفقَه كنهَه الحقيقي، وتركت بين راحتيه، بعد ذهابها، نعومة أصابعها المشبعة بالشهوة السّاخنة.(ص7). وعلى عكس الرجل صاحب العمارة الذي طلب من سميح أن يخلي الشقّة آخر الشهر، بضغط من الشرطة، كانت ابنتُه على علاقة حميمية مع سميح وتُخبره بتفاصيل ما يجري.
وكانت المرأة اليهودية أكثر إنسانيّة وتفهّما وتقبّلا على المستوى الإنساني، فسميح بعد اخراجه من شقّته بضغط من الشرطة وطلب صاحب العمارة، وجد في المرأة العجوز السيدة بيركوفيتش الأرملة العجوز، التي فقدت زوجها في حرب 1948 وبقيت وحيدة بعد هجرة أولادها إلى أمريكا، الأمّ الحنون والمدافعةَ المستميته عن حقّه في مزاولة حياته اليومية بصورة إنسانية وطبيعية، وتعرّضت لأفراد الشرطة الذين كثُرت مضايقتُهم وتكرّرت اعتقالاتهم له: "ماذا تريدون من هؤلاء العرب بعد كلّ ما فعلناه بهم؟ ألم نأخذ أرضهم بقوّة السلاح؟ ألم نطرد الآلاف منهم خارج البلاد؟ والآن تريدونني ألاّ أؤجر شقّة في داري لصحفي محترم منهم؟ فما معنى حرمان العربي من استئجار شقّة؟ أليست هذه عنصريّة بكل معنى الكلمة؟ كفّوا عن شرّ هذه الثرثرة العنصرية. أنا يهمني سلوك الإنسان، قبل قوميّته ودينه ولونه ولغته .. يهمني سلوكه، وهذا المستأجر يبدو لي مناسبا جدا. دعوني وشأني"(ص57-58). وتجلّى موقفها الإنساني عندما فاجأت سميح الذي عاد من خارج البلاد بقولها: "أنا لا أنام جيّدا منذ ليلتين. منذ جاءت تلك الشّابة التي اسمها نادية. أعتقد أنها عربيّة. كانت شديدة التوتّر وهي تسأل عنك .. وحين قلتُ لها إنّك ما زلتَ مسافرًا فقد بكتْ. بكت بحرقة وهي تقول إنّها ستنتحر. ستنتحر إنْ هي لم تنجح في ترتيب أمورها معك. ثم انصرفت غاضبة دون أنْ تُضيف شيئا. وقلقتُ. وقلقتُ جدّا عليك وعليها"(ص71).
وفي تصدّيها لأفراد الشرطة كلّ مرّة يأتون لاعتقاله: "كفّوا عن مضايقة هذا الإنسان. لم يفعل شيئا سيّئا. إذا أجرم فحاكموه. أمّا أن تُصادروا حريّته بهذه السهولة وفي أيّ وقت تشاؤون، فتلك مسألة لا يجوز السّكوت عنها، إنّها إهانة لي أنا أيضا، ولكل الناس الذين يُريدون الحياة بسلام وأمْن"(ص82).
إلى جانب هذا الحب الإنساني الذي حفظته السيدة بيركوفيتش لسميح كان الحبّ الجنوني الكبير الممزوج بالوعي الفكري والاجتماعي والسياسي والثقافي الذي حملته نوريت لسميح ، نوريت الشابّة اليهودية التي صلبَ النازيّون والدَها وتعيش مع أمّها الطبيبة "مريم" التي قرّرت صلبَ نفسها على نفسها. وكرّست حياتها لتربية نوريت ورعايتها. لقد آمنت نوريت بعدالة الحقّ الفلسطيني وبإمكانية حلّ النزاع والعيش المشترك وخَلق حياة سعيدة للشعبين. وواجهت كلّ مَن قال كلاما سلبيا وعدائيّا بكلماتها الواضحة الحادّة: "ماذا تُريدون؟ نحن طردناهم من البلاد وأقمنا دولتنا على أنقاضهم، لا أريد الإصغاء للقول: أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، آن الأوان للبحث عن منظومة أفكار وعلاقات جديدة تحفظ لنا إنسانيّتنا وحقوقنا، لكنها تحفظ للفلسطينيين أيضا إنسانيّتهم وحقوقهم. إنّ مواقفنا الرسميّة لا تُفضي إلاّ إلى مَزيد من سفك الدماء. نحن أقمنا دولتنا، ولن يتحقّق لنا العيش بسلام ما لن نعترف لجيراننا الفلسطينيين بحقّهم في تقرير مصيرهم وإقامة دولتهم. وحين نتّجه للسلام فنحن لا نعمل معروفا للعرب. نحن نعمل معروفا لأنفسنا قبل الآخرين"(ص125-127). فنوريت الفتاة العاشقة المحبّة المخلصة الواعية الإنسانيّة المعترفة بحق الآخرين في الحياة والكرامة لم تتراجع عن مواقفها واستمرّت في المواجهة حتى النهاية، ولما وجدت كلّ الطرق موصدة والحلول تكاد تكون معدومة وكل أحلامها وآمالها بالحبّ والحياة الآمنة والسلام والطمأنينة مهدّدة، لم تجد من حلّ لورطتها غير أنْ تُقرّر الموت على طريقتها الاستشهاديّة(ص134)، لتكون أضحية البشرية على مذبح الحبّ والإنسانية.
وكما نوريت، كانت أمها الدكتورة "مريم" التي صلب النازيون زوجَها وصَلبتْ بقيّة حياتها لتكرّسَها لتربية ابنتها نوريت لتكونَ لها رفيقة الدرب ونَوّارة الحياة، مريم هذه التي أحبّت ابنتها ولم تكن راضية عن علاقتها بحبيبها العربي، كانت تتظاهر بالرضا والسعادة، حتى أنّها زارته في شقّته مع ابنتها نوريت وعالجته من الوعكة التي أحسّ بها، لم ترض بالقسوة على ابنتها ولكنها لم تقتنع بحبّها للشاب العربي، كانت ترى يوميا ابنتَها تندفع وراء حبيبها العربي وتبتعدُ عنها هي أمّها التي كرّست لها حياتها، ولم تستطع مريم نسيان زوجها وقَتْل النازيين له وحرمانها من حبيبها زوجها والد ابنتها وحيدتها، وترى حياتها تتهدّد من جديد بالضياع وفقدان أعزّ ما تملك، ابنتها نوريت، ومَن السّاطي عليها وسارق ابنتها؟ إنّه الشاب العربي الغريب الذي عشقته ابنتُها. كيف يمكنها القبول بذلك؟ كيف تتحمّل الفَقْدَ مرّتين؟ لقد تحملت فقدان الزوج ببقاء الابنة الغالية؟ فماذا سيبقى لها الآن إذا سرقَ العربي ابنتَها؟ هل تسمح لحياتها أن تضيع مرّتين؟ هل ترضى بمراقبة ما يجري أمامها بصمت واستسلام ورضا؟ كيف سمحت بكل الذي حدث أن يحدث؟ كيف فرّطت بوحيدتها غاليتها؟ كيف للغريب أن يدخلَ بيتَها ويسرقها فلذة كبدها؟ هل تقف عاجزة؟ هل تستسلم؟ هل تتقبّل مصيرَها؟
هذه الأفكار والمشاعر راودت وضغطت على أعصاب الدكتورة مريم أم نوريت وهي تستقبلُ، في بيتها، حبيبَ ابنتها في حفل عيد ميلاد نوريت. كانت تنظر حولها وتستمع إلى الكلمات التي تُقال ولا تُصدّق ولا تستوعب. وفي لحظة اتّخذت القرارَ وسارعت لتُحضرَ السكيّن وتُسلّطه على عنق سميح، حبيب ابنتها قَصْد ذبحه والخلاص منه وانقاذ ابنتها وحيدتها منه(ص118). للحظات وجدت الأم نفسَها قادرة على مواجهة كل شيء ومنع كلّ ما لا تريد حدوثه.
لكن صرخة نوريت وهدوء سميح تمكّنا من نَزع السكين من يد الأم وتهدئتها، ومن ثم كان مكان الدكتورة مريم الطبيبعي في مستشفى الأمراض العقليّة، وكان الطبيعي أيضا أن تكون نهاية نوريت في طريقها العَبَثيّة في هذا الواقع العَبثي أن تستشهد في عملية استشهادية في يوم احتفال الشعب اليهودي بعيد استقلاله. وأن يستدعي قائد السجن سميح المعتقل ليُخبرَه بموت نوريت ويتّهمه بتهمة أمنيّة جديدة والتّسبب في موت نوريت(ص134).
قَتْلُ أوري وضَياعُ حبيبته إيلانة في "إلى الجحيم أيّها الليلك" وموت روتي القريب من الانتحار في "الصورة الأخيرة في الألبوم" وجنونُ الدكتورة مريم واستشهادُ نوريت في عمليّة انتحاريّة في "ملعقة سُمّ صغيرة ثلاث مرّات يوميّا" يُشير إلى الهاوية المخيفة التي يدفع بها حكامُ إسرائيل أبناءَ شعبهم فيما لو تمسّكوا برفضهم للحقّ الفلسطيني. هذه العلاقات الإنسانيّة والرؤى السياسية والفكرية المشتركة بين الشعبين وجدَت العديدَ من الشباب اليهود غير الحزبيين الذين يؤمنون بها ويُحاربون لانتصارها وانتشارها بين الجماهير اليهودية. فعوديد صديق سميح ونوريت نموذجا من هذا الشباب اليهودي الرائع.
ثنائيّة المرأة والوطن
سميح ككل شاعر كبير يتدفّق قلبُه عواطفَ ومشاعر وحُبّ، ويحمل همومَ شعبه ووطنه، وجد نفسَه في هذه الثنائيّة المستحيلة الفَصل، وإذا كان حَمْل هموم الوطن والشعب قَدَر سميح ورسالته وقضيّته العادلة التي كرّس لها حياتَه، فإنّ المرأة، المخلوق الملائكي الأجمل في هذا الكون، كانت الموازيةَ للوطن والمكمّلة لتُعطي لحياة سميح نَكهتَها الطيّبة ورائحتَها الزكيّة وقيمتَها الجماليّة. فالوطن والمرأة ثنائية الوجود وشَرْط تكوّن المبدع الخَلاّق. فكما كانت بياتريس دانتي باعثةَ الوحي بالكوميديا الإلهيّة، وإلزا أراغون مُفَجرّة أجمل قصائد الحب، هكذا كانت المرأة في حياة سميح الرّاعية للجمال والطّهارة والحبّ والإنسانية والتفجّر الخلاّق، هي الفاتنة الحوريّة القُدسيّة التي معها يُقيمُ طقوسَ الحب، وعلى خُفوت ضوء الشموع ولحن الموسيقى السّماويّة يكتمل لقاءُ الحبيبين في مَشهد قُدسي مُبارك من الربّ. "سحبتُها من يديها، بلا عنف منّي، وبلا مقاومة منها، بل بتناغم وَترَيْن شَغوفَيْن في مسار لحن سمفونيّ مُتصاعد.
خطَوْنا عاريين مُبتلّيْن نحو طرواة الفراش الأبيض الواسع.
ومع تصاعد الأنين في ألحان البينوني الرّهيف، تصاعدت أنفاسُنا المتعانقة .. كلّ خليّة من جسدي ضمّت كلّ خليّة من جسدها .. تمازجنا. تداخلنا بحنان جامح ولهفة هائجة .. كفّاي تحضنان ردفيها، وتضغطان برفق .. نحوي. ونحوي. ونحوي .. أضلاعها بين أضلاعي وتدفّق خفقان قلبها في جيَشان قلبي. إنّها في جسدي، في لحمي وعظمي وعرقي ولهاثي. تختلط أنفاسها بأنفاسي وبأنفاس النبيذ الأحمر المشتعل، ليتكوّن عبق جديد أبدعته أسطورة الواقع الحيّ المجسّد، وليتناثر بامتلاء الغريزة المُباركة والحلم المقدّس، على الفراش الأبيض، مثل أوراق الورد الحمراء. وفي هذيان الشهوة وطقوس الجسد، ارتفع أنين البينوني الرّائع في حزنه المدهش في صدق إبداعه .. وتداخلت في المشهد رائحة الشمع الذائب، مع جَسَدَيْنا العاريين الممتلئين بنعمة الله وجمال الشهوة المُباركة"(ص100-101).
في لحظات التّوحّد مع الذّات
كثيرة هي الحالات التي يرسمها سميح يظهر فيها يائسا مُستسلما مُعترفا بعَجزه عن مواجهة الظلم كما في محاولة مَنعه من إيجاد الشقّة التي يُقيم فيها، واضطرّاره دخول المستشفى لإجراء عمليّة دون أن يخبر أهله بذلك حتى لا يزعجَهم، وألاّ يذوقَ الطعامَ لساعات عديدة لعدم توفّر المال لديه، ومخالفة القانون لعدَم حصوله على التصريح لزيارة أهله والسّفر إليهم وهو على يقين أنه سيُعاقب ويُحاكم ويُعتقَل باسم القانون. لكنه كان يؤمن بأنه يحمل رسالة عليه تأديتها وليس هو الذي يخون الرسالة. وقد داهمته هذه الحالة من اليأس والشعور بالعجز وهو في زيارة أهله ولم يبق له من عمر التّصريح الذي يُتيح له زيارة أهله وقريته إلاّ القليل، وبدون وعي وجد نفسَه في حالة سَرمديّة قدسيّة متجليّة: "يرفع عينيه إلى السماء المعتمة باحثا عن وجه الله المضيء ويصرخ بلا صوت: إلهي. يا إلهي. مَن أنا لأحمل كلّ هذا العذاب؟ أعطني قائمة خطاياي لأكفّر عنها واحدة واحدة.. إلهي. يا إلهي. أنذا أغمض عينيّ وأبسط ذراعيّ من شرفة أهلي المتعَبين بي وبهم.. هيذي أصابع يمناي تُداعب مُلوحَةً الموج في البحر الأبيض المتوسّط. وهيذي أصابع يُسراي تمشي كالسيّد المسيح على ماء بحيرة طبريا العذب.
صغير هو وطني يا إلهي الكبير
وحزين هو وطني يا إلهي الطيّب..
وضعيف أنا يا إلهي القويّ..
اهدني الصراط المستقيم..
أرشدني إلى رحمتك يا ربّ العالمين. أعمتني المظالم والطقوس فأنر قلبي بحلمك وأضئ سبيلي بعفوك وسدّد خطاي بغفرانك..
إلهي. يا إلهي الجميل الحيّ القيّوم هل كان أيوب النبيّ بحاجة إلى تصريح خاص من الشرطة لينتقل بديدان جسده الحيّ من موقع في وطنه إلى موقع في وطنه؟
إلهي . إلهي؟
روحي حزينة وقلبي منقبض ولا أطلب الموت..
إلهي. إلهي.
أزح هذه الكأس عن فمي. وخُذ بيدي لأنزل عن هذا الصليب"(ص39-41).
ولأنّه يؤمن برسالته التي ألقيت على عاتقه، فقد انطلق يحمل الرسالة ويقاوم قوى الظلم والظلام. فهو المأمون على حمل الرسالة وهو العبد الأمين للربّ الرّحمن الرّحيم.
الهمساتُ الخافتة القويّة والقَلقُ الذي لا يتركه أبدًا
يلاحظ المتتبع لكل إبداعات سميح القاسم الشعرية منها والنثرية، أنّ همسات صاخبة تُواكبُ كلّ إبداعاته، وقَلقا مكظوما يتحيّن الفرص للتّفجّر والانطلاق. وكأنّ سميح مسكون بهاجس غيبيّ، أنّ رحلة العمر مرسومة لتأدية رسالة قبل فوات الأوان، وخَوفُه أنْ لا يَفي برسالته، فيكون القلقُ النّزقُ، وتكون الشّطحاتُ الصوفيّة المتعالية عن الوجود لعلّه يجد فيها الخلاص والتطهّر. يؤمن سميح أن عمرَ الواحد منّا منحة ربّانيّة مُحدّدة "فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" وأنّ الجسد قميص يلبس الرّوح في رحلة العمر القصيرة، فإذا ما أسقطته وانطلقت تساقط وبلي واندثر وكأنّه لم يكن بينما الروح تنطلق في رحلاتها السرمديّة المترسّمة هَدْي الربّ ومشيئته التي لا رادّ لها. وسميح المسكون بهاجس الموت منذ تهدّده الموت وهو في حضن والده في رحلة القطار من الأردن إلى حيفا، آلى على نفسه ألاّ يستسلمَ للخوف وألاّ يركن للتذلل، فواجَه الموتَ بكل القوّة، وترصّد الموت في كل مراحل حياته، ولاحقه في تسمياته مُتحديّا مُتوعّدا ساخرا، وكانت تسميّات مجموعاته الشعرية "دمي على كفي"، "قرآن الموت والياسمين"، "الموت الكبير"، "مراثي سميح القاسم"، "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم"، "أحبّك كما يشتهي الموت"، " سأخرج من صورتي ذات يوم" فيها الكثير من السخريّة من الموت والتّحدّي له. لكنها في طياتها الخفية تُخفي همسات حارقة مُتسائلة "إلهي. إلهي لماذا قتلتني؟"وابتهالات صارخة بلا صوت: "إلهي. يا إلهي. مَن أنا لأحمل كلّ هذا العذاب؟ إلهي. إلهي. روحي حزينة وقلبي مُنقبض ولا أطلب الموت. إلهي. إلهي. أزح هذه الكأس عن فمي وخُذ بيدي لأنزلَ عن هذا الصليب"(ص40/41).
وفي حكايته "ملعقة سمّ صغيرة ثلاث مرّات يوميّا" كانت هذه الهمسة القَلقة تتردّد: "لا.ليس الموت هاجسي. إنّه شريك حياتي مثل زوجتي وأبنائي وأقربائي وأصدقائي ورفاق دربي. حين أضع رأسي على الوسادة فإنّه يُمسّدُ شَعري قائلا برفق: تصبح على خير.. وحين أجلس إلى مكتبي لأضع قصيدتي على الورق فإنّه يفتح لي قلمَ الحبر هامسًا: تفضّل. يضع الموتُ توابله في طعامي، ويسبقني إلى الحمّام ليُهيءَ صابونتي ومنشفتي. لكن الموت ليس صديقي ولا هو رفيقي. وهو يُدرك أنّني لا أحبّه، لكنه يُدرك، بذكائه الفطريّ، أنّني لا أخافه أيضا. لا أطلب الموتَ ولا أدعوه. لكن إنْ هو زارني في أيّ وقت يشاء فلن يجد لديّ ساقين مرتجفتين من قصب هشّ. سأقول له بهدوء وطمأنينة: هيّا. قُم بعملكَ. ولي الله. تفضّل! إنّما ما أتمنّاه لنفسي هو ألاّ يُفاجئها الموت قبل الكلمة الأخيرة في القصيدة القادمة. وإنّها لأمنية بسيطة وعادلة ومبرّرة. أليس كذلك؟"(ص38-39).
سميح القاسم مفجّر اللحظات الدراميّة
قال الكاتب ماريو يوسا المولود في بيرو في مقالته "لماذا الأدب؟" التي نشرها يوم 31.5.2001 ونشرتها فيما بعد جريدة هآرتس، التي يردّ فيها على الذين تنبّأوا بزوال الكتاب المطبوع واستعمال الورق والاستغناء عنه بالحاسوب: "كان الأدب وسيبقى أحد الركائز المهمة لكل الملامح الإنسانية التي بواسطتها يستطيع الإنسان التعرّف على نفسه والتحدّث مع الغير . قراءة الأدب هي حالة رائعة تُعرّفنا على أنفسنا بما فينا من نواقص إنسانية وما فينا من كمال، تكشف عن أعمالنا وأحلامنا والأرواح الخفيّة التي تتحكّم فينا، عن وحدانيّتنا وعلاقاتنا بالغير، برؤية المجتمع لنا وبالزوايا الايجابية التي نتحلى بها. بفضل الأدب حياتنا تكون مفهومة أكثر لنا ، الأدب يُقيم الحوارات بين بني البشر، ويعرّفهم على المشترك بينهم، ويتغلّب على كل الحواجز الفاصلة بين الناس. الأدب كدافع انتقادي، يطرح أسئلة صعبة ويدعو لعدم القبول بالواقع والعمل للتغيير المستمر، هو الدّافع لكل التغيّرات التي تحدث للبشرية. الأدب الجيّد الحقيقي هو الأدب المتمرّد غير الخاضع، الدّاعي للتغيير الدائم". وسميح القاسم في حكايته "ملعقة سمّ صغيرة ثلاث مرّات يوميّا" كما في كل إبداعاته هو النموذج للمبدع الذي يتحدّث عنه يوسا، المبدع الرّافض الجمود والدّاعي للتغيير الدائم والمتجاوز كلّ حدود الفَصل والمنع بما يُقدّمه من إبداع راق وجميل ومُتميّز.
فهذا الجزء من حكايته الأوتوبيوغرافيّة يؤرّخ لحقبة من تاريخ شعبنا العربي سنوات الستينات والسبعينات، وقد جاء مختلفا عن الجزءَين السابقين "إلى الجحيم أيّها الليلك" و "الصورة الأخيرة في الألبوم". فسميح يتحدّث بنفسه عن نفسه مباشرة، وإن اهتمّ بخلق التّهويم والتخييل والتشكيك بينه وبين الاسم الذي اختاره ليكونه، فقدّم نفسه باسم يحمل دلالته البعيدة "مأمون عبد الرحمن". المأمون على الرسالة والمطيع للرب الرحمن الرحيم والعامل بمشيئته ونُصرته لنشر رسالته بين الناس. وعَرّف نفسَه بالصحفي الذي شغلت مقالاته الناس وأقلقت مضاجع السلطات، ولم يذكر كونه شاعرا، وفقط في حديثه عن الموت قال: " حين أجلس إلى مكتبي لأضع قصيدتي على الورق فإنّه يفتح لي قلم الحبر هامسا: تفضّل. ما أتمنّاه لنفسي هو ألاّ يُفاجئها الموت قبل الكلمة الأخيرة في القصيدة القادمة"(ص38/39)،
اللغة السّهلة الرّاقية العَصيّة المنسابة بسَلاسة، والجارحة حدّة، إذا استلزم الموقف، هي لغة الحكاية. ولكنها تتعالى إلى رقيّ الشعر بما فيه من مَعان متداخلة وصور متشابكة وإيقاع متناسق، إذا ما سحرته الطبيعةُ بروعتها وسرقته الحبيبةُ بمخبوءاتها:
"رحتُ أتطوّح في شوارع روما الليليّة، صارخا بكل صوتي وحزني وقلقي وجوارحي: تانيوشكا! تانيوشكا! أنا أحبّك يا غاليتي. أحبّك كما لم أحبّ ولم يحبّ أحد على الأرض. أين أنتِ يا تانيوشكا؟ ها أنذا هنا بين يديك فتعالي إليّ. أريد أن احتضنك مرّة أخرى. أن أتلاشى فيك مرّة أخرى. مرّة أخرى قبل ميعاد الموت، فاخرجي إليّ يا تانيوشكا؟ ألسْتِ خلف هذا الباب؟ ألستِ وراء تلك النافذة؟ ها أنذا انتظرتك يا تانيوشكا.. هنا بجوار النافورة.. نافورة الأمنيات التي تبلّلني برذاذها الناعم كشَعرك، وأصابع يديكِ، وشفتيْكِ، ورذاذ عينيكِ.. أسعفيني يا تانيوشكا.. تعالي إليّ.. تعالي إليّ يا حبيبتي.. تانيوشكا.. تا.. ن..يو شكا!!!"(ص69-70).
وتحلّق اللغة في جوّ القدسيّة السّماويّة الطاهرة في توحّده مع ذاته وتَساميه ليكون في حضرة الذّات الإلهيّة: "إلهي.إلهي. روحي حزينة وقلبي منقبض ولا أطلب الموت.. إلهي. إلهي. أزح هذه الكأسَ عن فمي، وخُذ بيدي لأنزلَ عن هذا الصليب"(ص41).
ولم يكتف بالسرّد والحوار والجَدَل، وإنّما اعتمد استحضار النصّ المُحْكم الحياديّ في الموقف الحاسم الذي يقول لك بالكلام اللازم ما لم يقصدْكَ أنتَ بحدّ ذاتك، ولكنّك لا تُصدّق أنّه لم يُخَصّصْ لكَ ويَعنيك وحدَك. "لماذا يسمّون مؤشّرات الساعات والدقائق والثواني بالعقارب؟ لماذا العقارب؟ أهي لسعة الزمن الموجعة وغير المؤهّلة للعلاج؟ إنها مسألة قابلة للاجتهاد ومرهونة بالتأويل"(ص9). و"لا تنهض الإمبراطوريّة من لا شيء. ولا تتشكّل صدفة وعَفو الخاطر. ولا تسقط الإمبراطوريّة عرَضا وصدفة. ثمّة عوامل مُدركَة وحسابات غير منظورة تتأكسَدُ معادلاتها وتفرز المصير المحتوم" وبذكاء وتنبيه يقول: "ولا يتجاهلنّ أحد مهمّة النبوءات والقصائد"(ص18). و"الحبّ، في المحصّلة، هو الطاقة العظمى، هو القيمة العليا في المعنى والفعل والتحوّل، لا خطيئة في حبّ الذات، أولا، الخطيئة في الذات المنقطعة الأبيقوريّة. الذات المنسجمة مع الكون، القادرة على الحبّ الكلي الشامل. هي محور الوجود المفعم بالحياة. ولا خطيئة في حبّ النوع والاستمراريّة"(ص128).
اختار سميح "الحكاية" شكلا لأنها تعطي راويها حريّة التصرف بالزمان من تقديم وتأخير وحذف واختصار واستحضار، وبالمكان لتقفز به من موقع لآخر ومن بلد لثان. بالحكاية روى لنا أحداث السنوات الأقسى والأظلم عليه وعلى الجميع، وتميّزت بقيام الواحد يوميا بعملية انتحار ذاتيّة ليتغلّب على مصاعب الحياة وظلم الظلاّم، والتي وصفها باعتياد شرب ملعقة سم صغيرة ثلاث مرّات يوميّا. تمكّن من رسم عوالم مُتداخلة ومتشعّبة ومتناقضة، وشخصيات عديدة متكاملة البناء ومؤديّة لدورها المنوط بها، منها البريئة الهادئة الواعية الإنسانية المحبّبة كالعجوز بيركوفيتش وعوديد. ومنها العابرة الراغبة في اقتناص فرص الحياة الجميلة الممتعة كناديا وليئة. ومنها المعذّبة بسبب ظلم الحياة لها، والمعاناة والعذابات التي لاقتها وعذّبتها بسبب الأفكار العنصرية والكراهية التي لا حدود لها وكانت هي ضحيّة لها كالدكتورة مريم. والشخصيات الملائكية الطاهرة النادرة كتانيوشكا الروسية ونوريت.
اعتمد في حكايته أسلوب السّرد والتّتابع الخطّي لمسيرة الحياة مع قفزات زمنية ومكانية متجاوزا اليوميّات العادية التي لا تُحسَب في حياة واحدنا. مركّزا على ما فيه قيمة وأثر وتأثير، فحواراتُه الفكرية ومواجهاتُه للخصوم وطروحاتُه المختلفة في المناسبات الرسمية والخاصّة يوليها الاهتمام ويُخصّص لها الحيّز الذي تستحقه، كلقاءاته مع طلاب الجامعة ومواجهاته لرجال الشرطة والمحقّقين في السجون، وحواراته مع رجال الفكر والأدب التي كان يُجريها في البلاد وخارجها.
أخيرا
كثيرة هي الجوانب والنقاط التي كان بالإمكان التوقّف عندها والإسهاب في تناولها ومناقشتها، لكن الذي قلتُه، وأعود لأقوله: إنّ حكاية "ملعقة سُمّ صغيرة ثلاث مرّات يوميّا" حلقة مهمة وبارزة في حياة سميح القاسم التي قدّم منها حتى الآن ثلاث حلقات مميّزة، فهي لا تتَحدّد في حكاية حياة سميح كفرد، وإنّما هي حكاية شعب خرج من بين أنقاض نكبة مُدمّرة، وتعرّض للنّكسات والضّربات والطّرد والتهجير والذبح من الأعداء والأشقاء، وخرج بعد كل نكبة ونكسة وضربة وطرد وتهجير وذبح أقوى وأكثر قوّة وإصرارًا وإيمانا بقدسية قضيّته وعَدالة معركته وثقته بأنّ حلمه سيتحقق مهما طالت وبعُدَت السنون.