تقدم الكلمة في هذا العدد، ديوان شاعر مصري خف حنينه للثورة، ويعيد قراءة تفاصيله الصغيرة بتهكم صريح من بداهة الأشياء. شاعر ينحاز لقصيدة النثر، لا يراوض البلاغة بقدر ما ينصت لأنين كينونته وعوالمها البوهيمية حيث لا شعارات كبرى، ولا حدود لوطن الكتابة المفتوح لا على عوالم إيروتيكية، بل على العالم التي تخطط أفقه القصائد.

حصيلتي اليوم.. قُبلة (ديوان شعر)

أشرف يوسف

تلغراف
رداً على رسالتِكِ الأخيرةِ من الغربة
أنا شخصٌ فارغٌ ياأمي
عشتُ سجيناً لقُبلةٍ في فمي
لأنّي مازلتُ ريفياً، لي فأسٌ وعلى ذراعي
أن تحملَها
حين تمضى "السنين" من فراغٍ يحتقرني
إلى فراغ يمجّدني
كأنني كومبارس صامت
يعلِّم الخاسرينَ الرقصَ على إيقاع يدك
ويدكِ طيبة الذكر تبذر القمحَ في كلّ الأركان.
هكذا يتحللُ سجنُكِ الأبديُّ إلى معنى يربطني بكِ
في طرقاتِ الحواري والأزقة؟

روحي يائسةٌ تناضل للوصول إلى ظلّي
أسحبُه من تحتِ ثيابِ فتاةٍ صادفتْ جسدي
لنجهشَ معاً بالبكاءِ على مآسيكِ الكبيرة
أيتها الوردةُ الذابلةُ التي ضاجعها أبي.

كينونة
في البدء كانت القُبلة مصنعاً للرجال
ينادونها فرادى وجماعاتٍ
عبيدك نحن
نحبُّ اسمَكِ ونحبُّ أن يتهجاهُ الآخرونَ
بحراً بحجم المدن الصغيرة.

ضربتُ لها موعدًا بين دفتي كتاب،
على غصن زهرةٍ،
في الظلّ تحت قامة التماثيل الكبيرة
لنذهبَ معاً أنا وهى كحبةٍ من ذوات الفلقتين,
وكلُّ شيء يحدثُ يختلطُ بما يمنعها
إذا تأخرت الجميلةُ، الفتاة.
فمتى يمكن للخيال أن يكون سكندرياً؟

التلوينُ بالأحمر
قلتُ يكذبونَ عليكَ
لأنَّهم لا يستطيعونَ أنْ يعلِّموكَ أن تكونَ
إنساناً
هل أنتَ حقاً وريثُ ذاتِك؟

سمعتُ أنني سلعةٌ معروضةٌ للبيع
أينما سأرحلُ زمني غزيرُ اليأس
يهبط ُ الشِّعرُ فيه لا مفرَ
فهو قلبُ البصلةِ يبكى لأجلهِ حامِلو السكاكين,
طلباً للثأر من قارئ
يحلمُ بفناءِ الكتبِ.
سأفعلُ ما بوسعي، وأمحو منطقَ السلعةِ

"اضغطْ على الزرِّ ونحنُ نقومُ بالباقي"
خلفي العقولُ الكبيرةُ الفارغةُ
وأمامي قنينةُ خمرٍ.. ولا أحدَ يسكرُ معي.
غابتْ حبيبتي في قلبِ الصحراءِ المجاورةِ لسريري
فاستيقظتُ وأنا أجري
من غرفةٍ إلى غرفةٍ
محتجاً ضدّ الله
وضدّ الجميع.

ولكلِّ بيتٍ.. ولكلِّ يوم
بأكثرَ من ذاكرةٍ للغد
حصيلتي اليوم.. قُبلةٌ
سأهَبُكِ إياها من كبائنِ التليفونِ المنتشرة
على الطريق الذي يمرُّ بسفارة العدوِّ الأمريكي,
وبجوار إخناتونَ ورفاقِه.

صباحُ الخير يا عراق,
صباحٌ مخلوطٌ بجميع الوجوه
المنكفئةِ خلفَ عُرْيكِ
كالفلاحينَ في زمن حصاد القمح.
جئتُكِ من المخابئ,
تجويفاً موصولاً بالضجيجِ والشائعات.

مَن الثائرُ؟
مَن المُرتَشي؟
صوتُكِ بعيدٌ وآتٍ
إلى قارةٍ تحتضنُ نهرَ النيل الذي يبدو
كملاكٍ يشتغلُ بالإبرةِ
لتكملة أيادٍ وسيقان مبتورةٍ
في حوادثِ القطارات.
وتحت شرفةِ شاعر
ينقصُه الإيمانُ بالحجر
كأجمل جمادٍ في يد الأطفال.

بـ تلويحةٍ ما
في ليل المعتقلاتِ التي في رغْوة عتمتها
نصفُ إلهٍ يحكى عن نصفِه الآخر
أرى وجهَكِ مرهوناً بالبُطء.

ـ هل أنتِ صفاتي؟
يا أختَ العناق السريع كالمسافرين.
بعد كلِّ لقاءٍ
أُخصِّبُ فشلي مع صديقاتي القديمات
بالبكاء الجماعي على بغداد.
ما الخطأُ؟
ما الصوابُ؟

ماتَ حنيني إلى الثورة
ولا أحدَ يحتضنُ فضيحتي.
عشتُ كثيراً
من غرفةٍ إلى غرفةٍ
أحملُ مصباحاً
يُنسيني لمعانُه في الظلام
صدمةَ أن أكونَ مشروعَ خائنٍ
يداه في بنطاله,
يتحسسُ بهما رُزمةَ الأوراق المالية.
ولا يأسفُ لكلِّ عابرٍٍ
حاول أن يفكَّ أزرارَ وحدتِهِ
بالتساؤل عن هدفٍ عام.

أيُّها البعيدُ
أقبلْ بالجُرْحِ,
وأنا بالقُبلةِ
لعناقٍ لا يُحتملُ
قبلَ اكتمالِ خوفِ الخائفينَ.
يسقط ُ النسرُ من زيِّ القادةِ والعَلم
يسقطُ،
ليُنادونِي باسمي.
ويبقى من الحمائمِ ريشُها
يتخبطُ فوقَ رأس الصَّغير حتى ينام.

أنا الموصوفُ بالغريبِ
أُريدُ مذياعاً ومؤخرةَ عربةٍ
أَطوفُ بهما بلداً ببلدٍ
وأعلنُ احتجاجي.
أَبعْدَ كلِّ دورةٍ للأرضِ
حولَ نفسها
يتحدثُ باسمي الذي صارت الميادينُ العامةُ
وأماكنُ عبادتي
ـ بحَمْدِه وتَسْبيحِه ـ ثكناتٍ عسكريةً؟!
أتساءلُ:
لِمَ حشَدْتَ جنودكَ هُنا بعيداً عن الحدود؟
هل أنتَ خائفٌ منى؟

لا حيلةَ لك
ما هو قادمٌ يلدُ رصاصةً
تدورُ خلفَكَ في كلِّ مكان
فما بالُكَ لو حدثَ ذلك وأنتَ قابضٌ بكلتا يديك
على عُضْوكَ الرَّخْو؟
لنْ يكتملَ ما بدأتْ.
أقترحُ عليك ولستُ فداءَكَ
بعدَ وضْع ملاءةٍ على وجهكَ
مخضَّبةٍ بدَمِ طفلٍ
أنْ أناديكَ
يا خائنُ.
هل حان الوقتُ لكي أتمنطقَ بكراهيتي وأُعْلِنَها لك؟

حيثُ لا يوجدُ ظلمٌ يملَؤُنِي بالحنين
إلى الحرية
ولا يوجدُ عدلٌ يملَؤُنِي بالحنين
إلى الطيران
كلَّما رأيتُ صورتَك كبيرةَ الحجمِ
متجاورةً مع لافتةِ "حافظوا على نظافةِ مدينتكم".
عارٌ عليكَ أن تتحدثَ باسمي
علانيةً وبدونِ مواربةٍ
فلكلِّ طاغيةٍ هاويةٌ
ولكلِّ ثائرٍ حزبٌ "مُرتشي"
ولكلِّ جاسوس مركزٌ لحقوق الإنسان المَحلي
ولكلِّ ثورةٍ ميدانُ رمايةٍ برصاص حيّ

ولكلِّ مولودٍ في رحمِ أمِّه
ولكلِّ بيتٍ... ولكلِّ يوم ٍ
حلْمٌ بالصُّرَاخْ.

أقنعةُ المدن الصغيرة
قرويٌّ ومعتادٌ على أقنعةٍ كثيرةٍ،
ليُسلّي نفسهُ..
صنعَ للطيور أقفاصاً,
وللحبِّ بيتاً بدلاً من ساحةٍ للرقص
تُفضي إلى ممرّاتٍ تنتهي بقُبلةٍ
في الرُبع ساعةِ الأخير.

قرويّ ومعتاد على فنّ الملاحة
في حيّز البارات الرخيصة بِوَسَطِ البلد,
نقلةٌ روحيّةٌ للتّعارف بيننا
تُلغي كلتا يديه الكسولتين,
وهو يشدُّ شبيهَهُ من المرآة.

أيّامهُ معي
محاطةٌ بغرفتين وصالة,
أخافُ مواجهةَ الخدوش فيما بيننا
أسيرُ بمحاذاته في اتّجاه مختلف
ينقصنا طرفٌ ثالثٌ يُرعبُني
وهو يتخلّص من جنسيّتي
مقابلَ أن أعيشَ سالماً
من أيّ سوءٍ بين فخذيّ
أو حتى على قفاي المُفْترض.

هو ابنُ نوادي الصيد
وأنا ابنُ أمي في مكتبةٍ عامةٍ
يلْتصقُ وجهي بسطح الأرض
لو صار لكلّ عشرةِ عصافيرَ شجرةٌ
ويدٌ مفتوحة.
هو الأبُ
وأنا في عين الأمّ يدٌ مخلوطةٌ بحبل.
هو الذئبُ يتنصّلُ من ذئبيّتهِ
ليصيرَ حَمَلاً تتبادلهُ النظراتُ العطوفةُ
والكارهةُ لطبيعة الذئب.
وأنا قابلٌ للّطيّ كالجرائد المُلقاةِ
من نافذة قطار المحافظات الذي يمرُّ بالقُرى.

هو المنْظرُ الطبيعيُّ لنافورةٍ
ماؤُها ورذاذها كراهيةُ الذاتِ
ومحيطُها إخفاءُ طاقةِ الحبِّ عندي,
هو بذاته الرقمُ الأعظمُ، والأكثرُ مبيعاً
لروح المجتمع المدنيّ.
وأنا العاديُّ الذي صار مدهشاً
والمدهشُ الذي صار عادياً.

قايضْتُ ظلَّ الأشجار بما تناولني عيناه من وهم
ودم.
جَلَبَ لعينيَّ العمى

واعتدتُ على تسميةِ الأشياءِ بغير أسمائها
أَسميتُ الوردة وردةً
والأوقات الحالكةَ أوقاتاً حالكة.
من الآن فصاعداً
أعلنُ ضعفي في هذه المدينةِ المثبتةِ بحذاءٍ
في قدم.
لتعذرْني التعاسةُ
إنْ كنتُ أعطّل مشروعَها على الأرض,
فصّلتُ لها شعاراً على قفاي المرصَّع بالنجوم
وسألتها كتلميذٍ: متى وكيف أخطك فماً
للحبِّ من طرفٍ واحدٍ.

صانعة الأكفان
أياديهِم مجتمعةٌ
جَرَّت الجدرانَ الوقحةَ بجانبِ بعضِها
ورسمتْ بلداً يكلِّمُ الموتَ داخلَ سفينةِ نوح.
موتٌ، يا موتُ!!
اصعدْ لنا معَ الهواءِ,
محمولاً على زفير الملكة.
أيتها الحريةُ، يا صانعةَ الأكفانِ
كلُّنا تحت رموشِك
نهبط ونصعدُ ـ من تلقاءِ أنفسنا ـ
نغزلُ حبلاً من الدموعِ,

يتسلَّقُهُ إلهٌ اسمه الشعبُ
قرر أن ينتحِرَ من أعلاه,
ولأيامٍ نمدحُهُ بفَرْدِ أرواحنا داخلَ عينيهِ الخجولتين,
ونزُمُّ الشفتين أثناءَ سماع اسمه,
ثم نطردُهُ مرةً واحدةً من قلوبنا,
متفرجين على بقيةِ جسدِه يتوارى في الترابِ
باسم الأبِ والابنِ والسيدةِ...
التي جعلتْ من الكتابِ وطناً.
كَمْ من ذراعٍ وراءَ الحدودِ يحتضنُ فراغاً باسمك.
هل أنتِ رسالةٌ سماويةٌ أمْ صفةٌ من صفاتِ
العبيدِ الجددِ أمْ مرآةٌ تقولُ للأعمى: أنتَ أعمى.

فراغ الأوقات الحالكة
يا شعراء العالم اتحدوا!
فانتظاري نوعٌ من الكذب
صَبُّوه في كلماتي الراكعةِ على ركبتيها
وأوصلوني إلى الحضيض.
يا شعراء العالم اتحدوا!
أمام عينيّ شعبٌ يُباد
فشلتُ أن أمدّ أطفاله بالحليب
ليلحظهم "أبانا" الذي يبكى في السماء
ضاحكين متحاضنين.
يا شعراء العالم اتحدوا!
سئمتُ حزباً شيوعياً
فشلتُ أن أجعله شيوعياً على بعد مترين من غرفتي

لأنّي أفندي
أجالس المثقفين القعدة
وأهش على قصائدي.

كم مرةٍ قلتُ إنكم أصدقائي
لا أدرى كم مرة

هل سمعتم عن وردةٍ ضاجعتني
وفشلتُ أن أكون شاعرها العظيم؟
كانت ـ لو تهوى ـ تستحيل زغباً
لا يلبث أن يصير مثل أبخرة غائمة ومبللة.
تلمسني فأهرع لالتقاطها بين أسناني
ألمسها فتشيخ.

أنتم يا شعراءَ وردتي
جلّ ما أخشاه أن تكونوا مثلي متفرجين.

خطوط فاصلة
وقال الربُّ الأخيرُ:
"عادي.. جدا"
أمتلك قلماً محايداً
وكارل ماركس ألدُّ أعدائي
أما عن طبقي المفضل فهو الخراء
ورأى جامعو قمامةِ الشهرةِ هذا حسن.

لم نكنْ غائبين فلماذا لمّا نطق كنّا
نردد: " صحّ.. صح.. صح "
على كلّ فإن المروءة تتطلب أن
نصارحه القول: "أحسنتَ أيها السيد".

لعبتي المفضلة
بالقدري.. ضيعتُ حياتي عاشقاً للبط ء
يقودني آخرون ضعافٌ مثلي
يهابون الميكروباص وعربةَ النقل
ونقطةَ المرور البعيدة
سواءٌ كنتُ مندفعاً بأقصى سرعةٍ أو أنتظر في المرآب.

خطاي إلى الأحلام ـ ملعبي الأخير ـ
شقاوة ُعفريتٍ غلام
يلفظونها آخر الليل بالماء والصابون الملقى
بلا خجلٍ أو استئذان على كنبتي الخلفية
وعجلاتي الثلاث.

مشيتُ في الوحل.. ومشيتُ على التراب..
ومشيتُ تحت السماء..
أكتملُ بركابي الغلابةِ ويكتملون بي
وألعنُ سائقي في السراء والضراء.
لا أملَ ولا يأسَ لديّ
عملتُ لسنواتٍ بهلواناً
كلُّ ما عليّ هو الانتظار
هييه الانتظار ـ لعبتي المفضلة ـ
كان يجعلني أعرف حيلَ الكلام
"ألغي و أمسح وأعدِّل" النداء
بين إيثاكَتَين متقابلتين يفصلُهما وحلٌ
وأشجار.

أما فيما عدا ذلك ـ يا صاحبي الطيب ـ
لم أكن لأغامرَ وأخرجَ في أسفارٍ طويلة
فأنا في النهايةِ.. "توك توك".

رسائل الشيخ
إلى محمد عبد السلام

اعتدلَ ظهري فجأة
واختطفَ قلبي شيخ وجدته يوشوشُ إلى جانبي
"أقبِلْ ولا تخف...
إنني لا أكره أحدا".

البيت
سريرٌ لفردٍ.. وماعدا ذلك من الغرفة
ـ تلك التي اعتدتُ أن تكونَ غرفتي ـ
يسكنُ في مخروط الإضاءة غير المباشرة
الطاولة الصغيرة.. دولاب الحائط.. المشجب.
ليس في المحل متسعٌ لغير المخطوطاتِ الحميمة
والرثاءِ للنفس أحياناً
وعدمِ استبعاد المفاجآت.
ما على الحائط تهاوى كريش.. لا ثقلَ ولا صوت
وما تبقّى خفَّ وتخلخل
تقشر الطلاءُ رؤى وسحباً
ما الذي يخرج من باطن الأرض في الليل
ويمكثُ في الشقوق حتى تزورَها البلابل؟

ما الذي في العالم يا صديقي يحملني على التنقلِ بلا كللٍ بين الدقائق؟
أخذتُ ملاحظاتٍ كثيرةً عن أشياءٍ كثيرةٍ
مذكراتٍ مقتضبةً دوّنتُها بدقةٍ ما أمكن
ليبدوَ كلُّ ذلك مفهومًا وقابلاً للتذكر.
اعتدتُ أن أستطلعَ الفهرس، أختارَ فصلاً
وأحتفيَ بفقرة أعلقُها على الحائط
الآن كلما وقفتُ بالفهارس أتعثرُ
ولا تبوحُ الكتب.
الآن ومثل آثار أصابع الطيور المهاجرة على
وجه الأرض لا يكاد يلوحُ شيء ذو معنى موثوق.
الآن يا صديقي الذي أهداني كتابين
أرى العالمَ يتقدم أتوناً فاغراً مستعراً

يأتي على المعارفِ والرجال والنساءِ والحجارة
شيءٌ ما بلا ثقلٍ ولا لونٍ ولا حضور
يأتي ثم يذهبُ فلا يبقى لشيءٍ قوام.

الغسق
الغَسقُ لا يزال..
غَصَّتِ الطرقُ بحركة عاطلين
لا يكفّون عن ذهاب وذهاب
وذهاب وعودة
إلى المكاتب والدواوين والمعاملِ والورش
ومصانعَ عتيقةٍ وأخرى من الفورمايكا.

ستتراءى لك الأشياءُ وراء خيوطِ عناكبَ بعيدةٍ.
انحسر الغسقُ في الغسق.. إذا أردتَ التيقنَ من شيء
فاترك أيامَ الإجازات، أيامَ العمل، الاستئذانَ,
الإذنَ بالانصراف، المقهى، الساعةَ، النادي

كرسيَّ الحديقة العامة، محطاتِ المترو، صالاتِ البنوك,
المحافلَ السريةَ، خلوةَ النميمة.
اعتقلْ حافلة بلا أرقامٍ أو قطاراً على غير موعدٍ
وبغير قضبانٍ
وانتحِ زاويةَ إحدى العرباتِ واسترخِ..
على غير موعدٍ سوف تلتقي ـ حتما ـ الغسق.

باعان للخفة
دع الجميلة، الفتاة
فلسببٍ لا نعلمه تدرك أن حضورَها
يملأُ جناحي الطائر بما يكفى لملء السفح والأفق.

طلبتُ الاستغناءَ أو النسيانَ ثم الاستعلاءَ مع التذكر
فلما استقرَّ الاستغناءُ واستوى النسيانُ والتذكرُ لم يبقَ إلا أنه بين السُّموتِ سمتُكِ هو القابلُ الضامُّ المحتوي وبين الأصواتِ صوتُك هو المعلمُ الحكيمُ.
وغايتي ليست أكثرَ من أنْ تحتويَ يدي يدَكِ
التي تمتنعُ على الاحتواء. فهي اليد خفةٌ بلا
ثقلٍٍ ولطفٌ بلا تحدد.

فلتكن يدُكِ ويدي فِلقتي نابتةٍ أقربَ إلى قلبي
لا نهديكِ.
نعومتُك وقوةُ ذهنك، باعان للخفة
حضورُك يا عزيزتي بات يستوي وغيابَكِ.
سيأخذ ذلك وقتَه ليتبخرَ حبي إلى رائحةٍ عالقةٍ بجسدينا. تلك الرائحةُ التي تلوذ بها الفتياتُ الصغيرات ويزاحمهُم عليها الصبيانُ..
يا أختي البعيدة َالبعيدة.

أبي
سيدي يا صاحبَ الظهرِ القائمِ والحركة المعجَّلة
برغم تقدّم السنين وتقلباتِها الكثيرةِ التي جرتْ
يا حسنَ الصوتِ والديباجة... يا أيها الذي يكثرُ
من الوعود، أيها القائمُ كعمودٍ زُرع في أرض عرَاءٍ ثم اجتاحَها العمرانُ الجديد.

أبي... إنك تقتاتُ ببراعةٍ على الأفكار الميتة
وما يدهشني.. تلك الحيويةُ الآسرةُ الدافقة.
إنني أرثى لحالك
كم أنت فقير لأنّ أمي
لا تراكَ غيرَ متهوسٍ مفتونٍ وعاجز
لا يعرفُ كيف يصنعُ لنفسهِ كوباً من الشاي.

شاعر من مصر
ــــــــــــــــــــــــــ
مواليد 24 مايو 1970.
أصدر ثلاث مجموعات شعرية: