من مجموعة "أعاجيب الأرض"، التي كتبها الأديب والسياسي اللبناني سليم خياطة، اختار باب علامات لقارئ الكلمة، عملين قصصيين كان قد نشرا في مجلة الطليعة. القصة الأولى تعود لعام 1934 ومعنونة بـ"ضريح الشيخ طه"، والثانية كتبت عام 1935 تحت عنوان "الولي الحي".
وصف سليم خياطة مجموعته بـ"أقاصيص من المزاح الإلهي والألم البشري" وتوجها بالرأسية التالية: "لم يكن الفنان فيروكيو (أستاذ دافنشي الحكيم) ليرى أن المعجزة هي الحقيقة، بل الحقيقة هي المعجزة!" – ديمتري دي ميريكوفسكي–
ولد سليم خياطة في مدينة طرابلس (لبنان)، وانتقل في فترة من فترات حياته للعمل في دمشق، عرف عنه وضوح توجهه النقدي الماركسي، إضافة لتمسكه بالدعوة للوحدة العربية. ويبرز من سيرته الذاتية الجهد الكبير الذي قام به لعقد مؤتمر للثقافة والمثقفين العرب في مدينة زحلة سنة 1934، وفي هذا المؤتمر دعا للبحث والتشاور حول فكرة التزام المثقف والمناداة بالوحدة العربية.
كرس سليم خياطة معظم منجزه المكتوب لنشر الفكر الماركسي، الذي آمن به في شرق المتوسط، خاصة كتابه "حميات الغرب" الذي صدر سنة 1933، كما أن له كتاب بعنوان "على أبواب الحرب" (1934)، و"الحبشة المظلومة" (1936).
وفي معرض الحديث هنا لا بد من التنويه إلى أن سليم خياطة خط بقلمه وثيقة "رسالة إلى المثقفين"، ووثيقة "من أجل الوحدة العربية". وجاءت الوثيقة الأولى بمثابة بيان يوضح موقف الشيوعيين لدور الثقافة والمثقف الريادي في المجتمع، بينما أعلنت الوثيقة الثانية ارتباط الشيوعيين والتيارات القومية التقدمية المجتمعة في مؤتمر زحلة بمفهوم الوحدة وسعيهم لتحقيقها على أرض الواقع.
من جانب آخر، جعل سليم خياطة من الصحافة منبراً لنشر أفكاره وقناعاته النقدية والحوارية مع المتلقي العربي، فكرس قلمه للكتابة الصحفية، وكان له الدور الهام والحاسم في تطوير مجلة "الدهور" البيروتية سنة 1930، لصاحبها ابراهيم حداد والتي كانت صدى لمجلة "العصور" القاهرية (1927) لصاحبها اسماعيل مظهر كاتب المقال المشهور "لماذا أنا ملحد؟".
وأخذت مجلة "الدهور" تنحو في دراساتها وبحوثها منحى نقدياً جذرياً للفكر الديني يقارب التناولات التشكيكيّة بالدين، مرجحة كفة التيار المادي الماركسي في قراءة الواقع والموقف من العالم بفعل مشاركات كتاب تقدميين من قبيل سليم خياطة، ميشيل عفلق، فؤاد الشايب، جميل صدقي الزهاوي.. الخ. كذلك لعب سليم خياطة دوراً أساسياً في تمكين مجلة "الطليعة" من رؤية النور (1934-1939)، ولا يخفى ما لهذه المجلة من دور فعلي في تغذية التوجه التقدمي العلماني والعقلاني في المجتمع المديني للمشرق العربي.
وبفعل نشاطه السياسي ونضاله ضد الاستعمار، وبما عرف عنه من مواقف حادة رافضة للمؤسسة العسكرية الفرنسية الفيتشية، اعتقل سليم خياطة سنة 1940، وتعرض للتعذيب خلال فترة الاعتقال مما سبب له أذية وضرراً جسمانياً دائماً، خاصة ما يتعلق بحالات فقدان الوعي والتشتت الذهني وآلام الرأس، مما دفعه في آخر المطاف لاعتزال الحياة السياسية إلى أن توفي سنة 1965.
لقارئ الكلمة نترك على التوالي قصتين مهرتا بتوقيع سليم خياطة، ومقتبستين من منجزه الأدبي، الذي لم يعطى عناية كافية في الذاكرة الأدبية العربية على خلاف تراثه السياسي الذي جمع منذ سنوات ضمن سلسلة "قضايا وحوارات النهضة العربية" عن وزارة الثقافة في دمشق.
ضريح الشيخ طـه(1)
- 1 -
اشتهرت مدينة حماه في ذلك الزمان بضريح الولي المبارك الذي عرف أثناء حياته باسم الشيخ طه. كان مزاراً يؤمّه الناس من كل صوب. كانوا يفدون عليه أفواجاً وأفراداً، رؤوسهم محنية، ظهورهم مقوسة، بين حجاج تقاة وأشقياء مساكين، يطلبون الرضوان والغفران والشفاء. سبب هذا الإقبال على الضريح أن المرضى كانوا يشفون بلمسه، وأن المعتوهين والممسوسين بالشيطان كانوا يعقلون بإدخالهم إليه ليبيتوا فيه الليل منفردين مع عظام الولي الطاهر. أما العقيمات فكن يحبلن بالتمسح به، والحاملات أخرجن من أرحامهن الذكور إذ رقين أنفسهن بوصفة الشيخ عند مقامه الكريم، تلك الوصفة التي ما كانت بنت من بنات حواء جاوزت الخامسة عشر من عمرها إلا وتدرك أسرار طلاسمها الحيوية.
ولقد شاع عن ذلك الصالح أنه كان قنوعاً متواضعاً، يلقى بكراماته يميناً ويساراً دون أن يطلب لقاء إحسانه سحتوتاً، بل عرف عنه أنه كان يكتفي بما يمن عليه المؤمنون قليلاً كان أو كثيراً. فلا يتأفف من فقير ولا يطمع بغني، وذلك على غير عادة زمرة الأولياء والقديسين الذين ملأت أشباحهم أحلام أجدادنا الطيبين، وُكّلَ أمر الضريح، في الوقت الذي حدثت فيه قصتنا، إلى جماعة من الذين عرفوا بالصلاح، وبالسيرة الحميدة، وبالذكاء اللامع أيضاً. بفضل ذكائهم كانوا يفسرون للناس أسرار الشيخ، كانوا يتوسطون بينه وبين جماهير الزائرين توسطاً حسناً، أفاد جانب صاحب الضريح من جهة، وجانب الحجاج من جهة أخرى. مثال ذلك أنهم كانوا، إذا ما تبرع مؤمن للضريح بشمعتين، يشعلون للراقد في طمأنينة الله، لجدث الشيخ المفطور على حب السكينة والظلام، واحدة من الاثنتين فحسب، مخففين عليه بذلك احتمال مشاغبات النور. ثم يضيئون قصورهم المعتمة بالشمعة الثانية، بعد أن تبركت باسم الشيخ الذي اكتفى بأختها من دونها.
كذلك كان أولئك الوكلاء الفطنون لا يألون جهداً في شرح ألغاز الضريح ومقاصد النائم فيه للذين يراجعونهم بشأن معاملاتهم معه، وفي الحقيقة، نجد أنهم كانوا كالحكومة المنصوبة لحل مشاكل الناس والنظر في مصالحهم، بل كانوا كأهل الحكومات تماماً، أي جماعة رقيقة جلد الوجه لها ظاهر ولها باطن، ولها ما بينهما أسرار ومجاهل ليس أقرب الطرق بين نقاطها بالخط المستقيم.
غير أنهم كانوا يخدمون الناس، بعد الخصم لأنفسهم وحسبان الممكنات، بطيبة خاطر. فالمخطوط الذي أستقي منه روايتي يحدثنا عن مقعد كان استنجد بالشيخ طه، وتمسح بضريحه أكثر من ألف مرة، ليركب له رجلين صحيحتين. لكن الشيخ طه، لسب ما، تقاعس عن إجابة طلب المقعد. عند ذلك رفع هذا البلدي ظلامته إلى الوكلاء، فما كان منهم إلا أن نصحوه بهذا القول الوجيه:
- إذا لم يكن عندك ما تزكي به لاسم شيخان – عليه السلام! – فاذهب وعلق ببطنك رجلين من خشب!
ليس بمستغرب أن لا تعجب المسكين رجلان من خشب مهما كان نوعه. إنما قد يُستغرب منه أن يتقدم، من بعد، مزكيّاً بكل ما في يده، فيبيت ينتظر لنفسه نمو رجلين من اللحم والدم، على أن الأمر طال به دون أن يلحظ نبتاً جديداً في المكان الذي قطعهما منه جلاد الأمير، فأصابه غم كثير، ولم ير أحسن من أن يعود على وكلاء الضريح بالمراجعة، الذين أجابوه هذه المرة بكلام يعد أوجه مما سبق لهم، إذ قالوا له:
- إن روح الشيخ – سلام محمد عليه! – لتعرفك جيداً، وإن كنت لا تحسب ذلك، لاشك بأنك لم تقض فريضة صلاتك بانتظام، أو لعلك تساهلت بعمرك القذر، فكان عقابك شديداً. شيخنا يعلم وإن كان أكثر الناس لا يعلمون!
فيتذكر المسكين، إذ يلتقط هذه الدرر من أفواه الوكلاء، أنه كان وهو جدع صغير يهرب، وقت الصلاة، ليلعب مع أولاد الأزقة بدل الوقوف في صفوف المصلين برفقة أبيه. ثم يتقدم به تصوره من زمن شبابه، زمن كان زاهر العود، متمتعاً بنعمة السير على قدمين قويين، فتخطر في باله مأساة حياته الكبرى. تتمثل أمام مخيلته بكل ما فيها من هول.
كان ذلك في صباح ربيع من رمضان، وسط بستان على ضفة العاصي. رأى جنية حسناء يومذاك فظنها، لحلاوتها وسذاجة سيمائها، أنسية بكراً. فما كان منه إلا أن داعبها وباسطها، ثم اقتحمها، وهي سعيدة لا تتحرك، لا يبدو عليها غير هدوء الإحساس العميق بلذة لا توصف. كانت ساعة نعمة سموية، وكانت له هبة الجسد البض، النابض بسخونة لذة الحياة، فارتشف كوثر الحبور الأعلى من أصفى ينابيعه. وإذا كان في حلمه الجميل، في خلوصه إلى بهجة روحه، لم ير إلا وحسناءه المطمئنة تنتفض كالأفعى المداسة وهو لم يشبع بعد من سعادته، تفر من بين يديه، وتصيح مقهقهة وهي تتوارى نحو النهر بين أشجار المشمش والتفاح:
- ها! ها! لقد أفطرتك رمضان يا أبله!
استعرض المقعد هذا المشهد من أيام شبابه وهو أمام خيبته في رجليه، شاعراً بعد بطنين كلام الوكلاء في أذنيه، فذرف دمعة سخينة راحت تترقرق ضاحكة بين أنفه وخده. ثم قبل ضريح الشيخ طه، وراح يزحف على اليتيه الذابلتين ليضيع في حشد المؤمنين.
- 2 -
وفي ذلك الزمان وصل إلى مدينة حماه ذات يوم، بعد العصر بقليل، ثلاثة أنفار من أهل حلب.
لقد كانوا من شياطينها وشذاذها، فاشتهروا بذلك حتى دعوا "بشركاء إبليس"، أما أسماؤهم فكانت: طارق ومارق وأبو شيش.
باتوا ليلتهم في الخان الكبير، قطعوا السهرة في سمر ظريف مع صاحب الخان ونزلائه، فكانوا يروون القصص الفريدة والحوادث التي لا تصدق، لكن أغرب ما سمع به الثلاثة ذلك المساء كان خبر ولي حماه وصفات معجزاته، وإذ كانت نفوسهم نفوس أطفال كبار، فقد تعجبوا جداً وتاقوا للتفرج. إنما، لما عرفوا بأن الشيخ طه تصعب زيارته وتأخذ وقتاً، لالتفاف الخلق من حول مقامه التفاف السور المقفل الأبواب بالمدينة المحاربة ولمبيتهم عنده في الليل وفي النهار انتظاراً للوصول إليه، فقد أيقنوا بفشلهم فيما رغبوا من رؤية الضريح، وراحوا يعانقون فرشهم ويعضون مخداتهم حسرة.
بيد أن أبا شيش، وقد كان أخبث الثلاثة وأوسعهم حيلة، راح يقدح زناد فكره مثل رجل لا يعرف المستحيل في قاموسه. لم يراود الكرى عينه، رغم أتعاب السفر ورغم دبيب الحميا، الذي أكثر من تجرعه ذلك المساء، في جسمه، حتى اخترع مؤامرة تمكنه ورفيقيه من التوصل إلى المقام ولا أقول التمسح به. وعند الصباح أفضى إلى رفيقيه بالخطاب التالي:
- لقد هجرنا حلب، أيها المجاذيب(2)، لنرى الدنيا! والدنيا، بعد الذي رأيناه، لا تفرق كثيراً عن حلبنا السعيدة، الأرض أرض، الناس ناس، العناصر أربعة في كل مكان، ترى إذا كان حجم رأس البطيخ في حماه يساوي ضعفي البطيخة في حلب، هل يعني هذا أن رؤوس الحمويين أضخم من رؤوس أهل بلدنا؟ وطالما أن الأمر على ما أقول فكان من العقل أن لا نعذب أنفسنا بمزعجات السفر، لكنَّ هنالك دائماً، يا أحبابي، فرقاً بين البلدان والناس، هذا الفرق هو اختلاف الألوان والصور التي تظهر بها "الحمرنة" والمضحكات، إن هذه الصور والألوان هي التي تسلينا وتحبب إلينا الحياة بعد الشراب والنساء. لولاها، لما استطعنا أن نلعب ونتشيطن ونركب رأس هذا على ذنب ذاك، والآن أسألكم يا سميكي الأدمغة: هل هناك شكل أسخف وأجمل من ألوف الناس حول قبر زميل لنا؟ أين لنا، في الحقيقة، بمشهد أروع من مشهد حماه؟
"وكأني بنا نسأل بعضنا بعضاً، غداً إذا ما تركنا خلفنا أبواب هذه المدينة، قائلين:
"ماذا فعلنا بحماه؟ ولماذا أتيناها؟ ولم نخرج منها؟ فيها ضريح ولم نر الضريح، نروح وكأننا لم نفعل شيئاً في هذا البلد الوسخ، الذي لا يختلف عن بقية بلاد الله وساخة، ثم ماذا نلقى في حلب من تهكم الشباب إذا أخبرناهم بعجزنا، ونحن نحن، بل ونحن الذين ندعي أننا نقلب التوتة زيتونة؟ وأخيراً، أليس مجال شغلنا واسعاً بين هذه الجموع المحتشدة؟ أي مساكين أمامنا! أي نساء وأبناء نساء بين أيدينا! ألا لنتذكر ما قال أستاذنا أبو النعمان، بلل الله سراه، في محاضرته عن التدجيل: "عليكم بالحشد، لأن الشغل أصلح ما يكون حيث يتكتل الجمهور!"(3).
هنا انتهى أبو شيش، بعد أن كان طارق ومارق ينتقلان، أثناء كلامه، من التثاؤب إلى ذبول الجفون حتى كادا يصلان عالم الغفلة، فإنهما لم يكونا، كصاحبهما، فيلسوفين، ولم يكونا يحبان الكلام الكثير، كما وأن التفكير كان من عادته معهما أن يصيبهما بوجع الرأس، غير أن بلادتهما كانت تصيب المرمى في النقاط الهامة، لذلك ما كاد أبو شيش ينتهي حتى استيقظ مارق من غيبوبته الخمرية، وأجاب:
- نحن غداً مسافرون شئت يا أفلاطون أم أبيت! هذه البلد فقيرة والشراب فيها غالي، وقد بلغ من صفاقتها أن هربت منها العفاريت واليهود لقيام أهلها مقامهم، وإن هذا الولي المنحوس يعطل الشغل علينا، فلنتركه وأصحابه ليبعجوا بعضهم بعضاً. إذا كان عندك شيء من الجديد فهاته، وإلا اسكت.
فرد عليه أبو شيش:
- اسمع يا أحمق، يا كذا... يا من لا يدع خيار الناس ينهون كلامهم، عندي من أجل شيخك حيلة عظيمة، سأدعي الفالج وأجعل نفسي كالمشلول، فتحملاني إلى الضريح وتصيحان: افتحوا لنا الطريق كرامة للنبي! اتركوا هذا المفلوج التاعس يشم رائحة قبر الشيخ طه، وسعوا له، يوسع لكم الله!.
وهكذا كان. فإن مارق وطارق انقاداً لرفيقهما مقتنعين، أظهر هذا الفالج، ومثل "بروفة" دوره تمثيلاً عجيباً، بحيث أن الإنسان لو نظر إليه لقال: "مسكين هذا الحاج! كم له في مصيبته؟ وقانا الله شر الشيطان الرجيم!".
- 3 -
حمل طارق ومارق أبا شيش وذهبا به نحو المقام، حيث أخذا يصيحان بالناس: "هبونا طريقاً كرامة للنبي! وسعوا، وسع الله لكم في الجنة! إن معنا مريضاً مفلوجاً من أهل حلب، جاء يبغي التبرك بمقام وليكم أكرم الأكرمين! ألا ألف ألف سلام عليه!.
انتبه الجمع. تحولت عيونه إلى هذا الشقي الغريب الديار، كانوا ينظرون إليه بعطف، بحزن، بشعور مزجت فيه الطمأنينة على الذات بالرحمة. تحت هذا التأثير كانوا ينشقون أمام صاحبنا الخبيث، وهو محمول كالنعش، بل راحوا ينضمون إلى موكب الشياطين الثلاثة، كما هي عادة الجموع في مثل هذه المفاجآت، لقد ساعدوهم على فتح سبيلهم الوعر، فكانوا يهيبون بمن أمامهم وبمن لم ينتبه أن يعطي الطريق للمفلوج.
أخيراً، وصل طارق ومارق بصاحبهما إلى الضريح، فوضعاه عليه برفق كأنهما خافا عليه أن يصاب بأذى، وهو كالزق المبعوج يتدلى تدلياً.
أما أبو شيش، فإنه ما لبث على الضريح دقيقة حتى مد بإصبع، ثم بأصابعه جميعاً، ثم حرك يده أيضاً، واتبع ذلك بمط رجليه.
كان الجمع، في هذه الأثناء، يحدجه بنظراته. وقف كل واحد مأخوذاً بحيرته، كان الصغير والكبير يمسك أنفاسه مبهوتاً، ساكناً، فزعاً، ينتظر أعجوبة الشيخ طه بصبر متململ. لكن ما أن مرت دقيقة على إشارات شفاء أبي شيش الأولى حتى رآه القوم في شبه نوبة من التمطي والتأوه، فنوع من الاهتزاز الهستيري، ثم قفز بغتة، وقف فوق الضريح قامة معتدلة، وقف إنساناً سوياً.
عند ذلك علت من قلب الحشد تمتمة عميقة ما لبثت أن تطورت إلى هدير متدفق، فصرخ الناس، صرخوا مكبرين ومهللين، مصلين مسلمين، على الولي الراقد في ظلمة قبره وعلى آله وأقربائه، حتى آخر ذيل من أذيال الدعوة له.
لكن، كان بين الناس واحد من أهل الشهباء يعرف أبا شيش ويسكن في جيرته، لم يتبين صاحبنا عندما جيء به محمولاً إلى الضريح لما كان من مهارته في مسح نفسه، غير أنه لما نظر إليه منتصباً على الضريح، فعرف فيه أبا شيش لا أحد سواه، كاد لا يصدق عينيه. كان يعلم من أمر أبي شيش أنه ينوب على الأرض عن إبليس نفسه. إنما دهشته كانت قوية، فلم يستطع أن يتمالكها، كما وان الفضول والعصبية وغريزة كره الجار للجار عبثت به جميعاً، فاندفع يصيح بصوت أرفع من صراخ طلاب الجنة:
- أيها الكذاب! أيها الأفاك! انزل، لعنة الله عليك، عن مقام سيدي طه الطاهر... ثم توجه إلى المؤمنين:
- أنا أعرف هذا الزنديق، إنه عفريت لعين، لم يكن به حتى أول أمس فالج أو غير فالج، إنه يكذب ويشعوذ عليكم، لقد ضحك على الشيخ طه، لقد أهانه وامتهن قدسيته! أمسكوا بهذا اللعين قبل أن يفر من بينكم كشرارة الجحيم!.
سكت الجمع كمن رقي عليهم بالجمود، أصبحوا حيارى كالتماثيل، صم بكم كانوا، لا يفقهون. مرت ثوان، مرت دقيقة، ثم رجعت التمتمة وارتفع الضجيج، كل واحد استطاع أن يكوّن لنفسه قولاً أو رأياً راح يطلق لهذا أو لذاك عنان لسانه، لكن الموجة كانت تسير نحو أبي شيش، كانت موجة من نقمةِ من اِستُحمر، من أدرك حمرنته وعرف المستهزأ به، لقد لمع الشر في عيونهم، وهمَّ بعض الذين أخذتهم الحمية لهذه اللعبة أن ينقض على المتفالج، وهو لا يزال فوق الضريح، ليدفع له أجرة عمليته نقداً غالباً، "ليعمل له بدناً" كما يقولون!
غير أن الوكلاء كانوا يقظين.
كانوا أذكياء وكانوا يرقبون ما يدور حول مقام الشيخ بعين بصيرة. لقد كانوا يدركون جيداً أسرار مهنتهم. كانوا، مثل زميلهم أبي شيش، عباقرة ألعاب، فناني أحابيل، عميقي المعرفة بالدقيقة الثمينة التي تضرب فيها الضربة وبالوقت البخس العادي، محسني التمييز بينهما. لقد شعروا بالأزمة التي أثارها ذلك الحلبي الغبي، فوثب واحد منهم رأساً على الضريح بجانب أبي شيش، ودل على الحلبي الذي غرته الحقيقة صارخاً في الجمهور المتوتر العصب، بأعلى أبواق حنجرته:
- أمسكوا بالكاذب الزنديق! ويل ثم ويل لمن يفتري على الصالحين فينكر كراماتهم! إن هذا الآدمي (ووضع يده على كتف أبي شيش بحنان أبوي) كان مفلوجاً، لقد رأيناه جميعاً بأعيننا هذه، ورأينا معجزة ولينا الطاهر في معافاته. أما الأفاك فهو ذاك الواشي! أما ناكر الواقع فهو ذك اللئيم! اقبضوا على عنق هذا الأثيم! على هذا الدخيل الحسود الذي يحاول الانتقاص من قداسة شيخنا بنكران كرامته زوراً وبهتاناً. إن اللعين يكذّب ما يقع تحت أنوفنا. الكافر لا يؤمن بالأنبياء والأولياء، وسيكون عذابه عند الله عظيماً. الشيخ طه يعلم وإن كنتم لا تعلمون!...".
ما كاد الوكيل يتم كلامه حتى تماوج الحشد من جديد، ومن جديد راح يكبر ويهلل، ويصلي ويسلم، ثم مال على الرجل أولئك الذين أوشكوا ينقضون على صاحبنا أبي شيش، وانصب الناس من خلفهم دفعة واحدة، فوق ذلك الفضولي الجاهل حتى لم يعد يبين، بل أصبحوا يتلاطمون فيما بينهم يحسبون أنفسهم يلطمون غريمهم: بعضهم فوق بعض وذلك راسب فيهم، يأكلها معممة كما لم يأكلها إنسان قبله. كذلك نال الحلبي حصته. هي الحصة التي تصيب من يغره لعابه فليتلمظ لسانه بالنطق بما تراه عيناه. هي حصة من لا ينظر في عاقبة تكذيب الكرامات، من يحسب أن الأولياء الصالحين يحبون الحقيقة ويلقون فيها لذة ممتعة، ومن لا يحسب حساب الوسطاء والوكلاء في عالم التجارات والديانات.
كان المقعد، أثناء هذه الرواية، قاعداً فوق عمود بقرب الضريح مثل مار سمعان. كان شاهد الحياة على مهزلة الإنسان، وكان مهزلة في المشهد، كان له دور، ذلك أنه، بعد إذ خيبه الشيخ في رجليه، راح يقضي عمره قابعاً على العامود، قبالة الضريح، ليشهد عجائب الولي وكيف يلقي الشفاء إلى غيره، كان ذلك يعذبه، لكنه وجد في عذابه كفارة عن ذنوبه وأملاً غير مستحيل. كم كنت أحب لو صح لك، أيها القارئ العزيز، أن تتفرج على هذا الدرويش الحزين كما يتمثل لي، حياً متنفساً. فتراه ثاوياً على اسكملته الحجرية، فوق رؤوس المؤمنين، تبدو عليه إمارات الامتلاء بالإيمان كما لو كان وطاباً من جلد الماعز منتفخاً بالنبيذ اللاهب. ثاوٍ هناك بمنظره الضئيل، بشعره المتهدل اللامع السواد، بسحنته المتنافرة التقاطيع، تكتل فيها الغضون وينتأ منها أنف متضخم مرصع بالبثور، ثاوٍ على طول، وادع حالم، يقرأ آي الكتاب العزيز آناً، يتأمل الضريح آناً، ينظر إلى فخذيه المبتورين آناً، ويتذكر بعد ذلك ساعته مع الجنية فيحتار هل تساوي تلك الساعة خسارته في رجليه، أو لا تساوي... كذلك كان المقعد يقضي عمره، وإني رأيته كذلك.
غير أنه خرج، أثناء هذه المعمعة في روايتنا، عن حدود عمره. لقد أخذته سورة الجمهور، كان الحلبي يأكل الخبيط وكان هو يصفق حماساً، يود لو أن الشيخ طه يعطيه رجليه لدقيقة واحدة فقط ثم يستردهما، كي يستطيع الاشتراك في الثأر له وسكب بعض ما في دمه من الحرارة المكبوتة بالرفس والدوس، لقد انفجر وطابا إيمانه ووداعته الأبدية. كان يقوم ويقعد ويتمايل، وكان يجهش بأعلى صوته، بتهيج يخيل معه إلى الإنسان أنه كاسب به زوجاً من الأرجل الصحيحة:
- احرقوا الكافر! اقتلوا الخائن!
وبينما المقعد ينفلق صياحاً كان الناس لا يزالون يستبقون إلى الحلبي استباقاً. كل ذي رجلين دغدغ جلده بلكمة أو رفسة. خبطوه تخبيطاً، وأجادوا الضرب حتى بات التاعس بالويل. لم يكتفوا بأنهم كادوا يزهقون منه الأنفاس، بل تملقوا عزرائيل لقبض روحه.
- 4 -
أما سبب جميع هذا فمن المفهوم. كان أهل حماه يحبون وليهم ويعتقدون بمعجزاته. ها هم يرون المعجزة العجيبة تحدث حقيقة، تحت متناول بصرهم، لأحد المجهولين عندهم. طالما كانت نفوسهم تتوق لمثل هذا المشهد، طالما كانوا ينتظرون، قبل أن يأتيهم أبو شيش، تلك الكرامة الكبرى يرونها بمثل هذا الوضوح وهذه القوة، طالما كانوا يحنون إلى رؤيتها، بأعينهم بدل السمع بها أو توهيم النفس بها. فمن يكون، إذن، المتفذلك الثرثار الذي يخاطبهم بصراحة غير مرغوب فيها قائلاً ما معناه: "إن وليكم لم يجر هذه العجيبة، بل هي أكذوبة مشعوذ محتال!".
نعم – وهذا ما تفلسف به أبو شيش بعد الواقعة – نعم، إن جزاء من ينكر أمام الناس ما "يحب" أن يصدقه الناس هو جزاء أخينا بالله الحلبي. ألم يقل المعلم حمورابي: "إن وكلاء الأضرحة علموا البشر أن تكون الأكذوبة الحلوة أقرب إلى نفوسهم من الحقيقة الحامضة". والواقع، إن أبناء آدم إذا ما بنى لهم المغرورون قصور أملهم في الهواء أو على أسس الماء، ساءهم أن يجترئ على صرحهم هادم وقح، حتى ولو أن الهدم لم يكن من قصده.
لقد كان الوكلاء يعرفون ذلك، لأنهم كانوا المعلمين، لقد كانوا يعرفون أيضاً أشياء أخرى كثيرة. كانوا أذكياء جداً.
والآن، لنرجع إلى أبي شيش، فإنه اغتنم ورفيقاه فرصة انشغال الجمع بالحلبي الآخر، فانسابوا من بين الهياج، منسحبين إلى خانهم كانسحاب الشعر من العجين. هناك دعوا إليهم مضيفهم (وقد كان رجلاً بديناً، مرح الطبع، متساهلاً، له غرامان: غرام الشراب وغرام الكسب) وقصوا عليه واقعة يومهم الفريد. لقد أغربوا في الضحك حتى استلقوا على أقفيتهم عندما ذكروا كيف تخلصوا من علقتهم الملعونة بأعجوبة الشيخ طه وتدبير الوكيل الذكي. وكان صاحب الخان يقاطعهم بقهقهاته فترج لها طيات بطنه الثقيل بصورة هستيرية تُشبع الجو برائحة النكتة ودعوة الضحكة. ثم هنأهم (وقد كان رأيه في حياة زمانه ودنياه يشبه رأي أبي شيش فيهما، إذ كان قد تلقى دراسته عن المسافرين ودوابهم) لفوزهم بمشهد من أظرف وأطرف ما يمكن أن يتمتع به إنسان.
بيد أنهم لما وضعوا الكأس سارت النشوة في رأس أبي شيش بسرعة وعلى غير عادتهما معه، إذ أن جرة من أعتق النبيذ ما كانت لتهزه بعض الأحيان، عند ذلك أخبر أصحابه بأن الوكيل، بعد أن حول غضب الجمع عنه إلى الحلبي الآخر، مال على أذنه وهمس فيها بهذا الكلام:
- أريد أن أنصحك – والكلام بيني وبينك – بألا تبخل على الناس بألعابك لأنها رابحة ومسلية، لكن حذار التطاول على الأولياء، فإن هؤلاء جماعة جد وعبوس، لا يطيقون المزاح. إن اللعب معهم موضوع خطر. أما الآن، فاذهب وخبر ما شئت وما استطاع خيالك اختراعاً عن معجزة الشيخ طه ولا تنس أن تشير على أهل بلدك بزيارة ضريحه الشريف، ثم لا تنس أيضاً أن تشكره كثيراً لكرامته المزدوجة، إذ خلصك من الفالج ومن الوقعة في يد أهل حماه!..".
لما وصل أبو شيش إلى هنا ضحكوا حتى انقلبت المائدة.
(الدهور، ع5، مج3، بيروت، تموز 1934)
الولي الحي
كنت تلميذاً بدمشق يوم حدثني صديق راحل بخبر الشيخ باقر، هذا الولي الأبله الذي عاد فقتل صديقي المسكين.
أذكر الآن أنني كنت وإياه، ذات مساء ربيعي، نمشى وئيداً في شارع بغداد، تلك الجادة الواسعة الجميلة التي كانت بعد طريقاً كبيراً تشق خمائل الغوطة كالسيف الممشوق، منغرسة في بحر أخضر من الأشجار، مواج رطيب، عابق بأريج بري خفيف خاص بها. كانت عادتنا أن نلتجئ إلى تلك النزهة المتواضعة عندما يوافي الأصيل وتفتر ثغور الرياض عن تلك البسمة الحزينة نشعر منها بتعزية عن فقداننا نفوسنا، وعما كنا عليه من فتور حرارة الحياة فينا، وفيما حولنا أيضاً من البيئة، حيث كانت تنتابها فترات يبرز عليها في أثنائها آثار أسقم الكآبة ممزوجاً بأتفه السخافة المتوارثة وآلم ما في العبودية المغرقة من طبائع وروح.
كان صديقي على بقية من الإيمان، لكن روحه، مع ذلك، كانت في حيرة، ووجهه ينم عما في قلبه أكثر مما يظهره كلامه، كان يبدو عليه المعنى الذي تراه بمن أضاع شيئاً ثميناً لديه، فلما أعياه لقياه سكن، لكن ظلت عيناه تفتلان من جانب إلى جانب، وبقي جبينه يعبر عن الدهشة، كأنما لا يستطيع أن يصدق أنه فقد أعز شيء كان عليه، إنما كان في الأصل ذا طبيعة مرحة، أحسست منه ذلك بشيء من القوة، لاحظت نفسه قد احتفظت، بعد أن انتهى تفاعلها مع الحياة إلى حالة من التشاؤم والشك، بميل فطري فيها إلى الضحك، بل المسخرة، كان يعرض في أحاديثه قصصاً تشعر منها لأول وهلة بأنها تقهقه، ثم لا تلبث في قهقهتها عرقاً مراً قاسياً، فتسري في دمك برودة صامتة، شبيهة بما تحس من التأمل في أبالسة ومماسيخ كاتدرائية "نوتردام" في باريس.
صدفته لأول مرة في طرابلس الشام، يوم كان منفياً إليها. كنا نتلقى تحصيلنا في مدرسة واحدة، في صف واحد، مع أنه كان يزيد علي في العمر بعشر أو اثنتي عشرة سنة، إذ أنه قبل نفيه لم يعرف من التعليم غير "كتاب" بلدته، الواقعة على حواشي الصحراء بين سوريا والعراق، وغير مطالعاته الخاصة، ولقد أعجبت به واحترمته لأنه كان من عائلة وهبت أربعة أبطال شهداء في سبيل حرية بلادها، ولأنه هو نفسه كان ذا ماض في جهاد بلاده الطويل، وعرفته أول ما عرفته ذا نفس مثقلة للغاية، باهتة اللون تلتهم الدراسة التهاماً في غمرة من عبء النفي وهم أمور المعاش وتحصيل الديون، فوق همه الأكبر بوالدته الأرملة وإخوته الصغار. كان مركباً إنسانياً تقذفه الرياح من موجة إلى موجة، لكن رغم كل هذا لم يكسل فكره عن ضم أحلام وآمال بعيدة، متناقضة على سموها، حاله في ذلك مثل جمهور كبير من الفتيان الشرقيين الذين يتألمون من شراك وجودهم ولطماته ولا يدركون تماماً أسباب البلاء.
ثم ترك المدرسة، ومر زمن حتى التقيت به في بيروت. كان ذلك في الجامعة الأميركية، حيث استطاع أن يتخلص إليها لمتابعة التحصيل العالي، وهنا بقيت علاقتي به كما كانت في طرابلس: بحث ومناظرة في شتى المواضيع عندما يجمعنا فراغ الوقت، واشتراك في حدة الشعور الوطني مع اختلاف قليل في الرأي السياسي، وبعد بيروت التقيته مرة ثالثة في الشام، هناك نمت صحبتنا ونضجت وتفاهمنا، ثم كانت نزهاتنا في شارع بغداد، مغمورين بغروب دمشق الوردي الناعم وابتسامة بساتينها الهادئة الحزينة، فكانت صداقتنا تتعمق مع كل ساعة على تعذبنا المشترك.
لكن الأيام تمضي، وعصرنا حتى في بلادنا الحالمة عصر واجبات ومشاكل. لقد فرقت بيننا، فراح في طريقه وتابعت طريقي، ثم جاء وقت كنت أطالع فيه إحدى الصحف المحلية. كنت مستلقياً في فراشي يساورني نعاس أول النوم عندما وقعت عيناي على خبر هزني وجمدني في وقت واحد، وتلك الليلة لم أنم منها شيئاً.
قرأت أن خنجراً سفاكاً بارداً قتل صاحبي، طعنته به يد قزعة من الأمساخ الإنسانية، فأسكتت صوت الآمال الحلو في قلب الحمامة الحار الذي كان يجب في صدر صديقي. مسكين! أقول ذلك، لأنه لو جاء سولون مرة ثانية لقال: "مات هذا الفتى تاعساً، كعشرات ملايين التاعسين من زمن صاحبي قارون حتى اليوم...".
إيه يا شقيق الشباب! رثى لك قلبي كما لم يرثِ لأحد عرفته غيرك. أعلم أن الجبن لم يكن من طبعك، وأن الموت ما كان ليخيف فتوتك القاسية، ولكنني أشعر بأنه كان لا يزال للحياة والحب مرتع في نفسك، لكنني أدرك أن العالم الذي كرهته لضعفك فيه، إنما كرهته أيضاً لأنك كنت تحن إليه أجمل وأعدل مما هو عليه، ومما يصل ضعفك إلى شراسة ظلمه الممقوتة. لكنني عرفتك نويت هدم سجونك كي تتنفس صعداء الحرية وتعلم جميع من تصل إليهم كيف يحطمون سجونهمّ! وأعلم أيضاً بأنك لو دريت أن سلسلة عمرك الرطيب في مثل هذا القصر لما اقتصدت عفتك في شتم السماء. إن كنت تشفق فما أشفقت لأنك تركت خلفك أماً تبكيك ويتامى، بل لأنك لحقت بأبيك وأخويك وابن عمك من غير الدرب الذي كنت تسعى عليه. سبقوك إلى المرقد الأخير يوم استشهدوا في ثورة مجيدة، ونفسك ما كانت تطلب النوم في غير ضريح قمين بفكر جليل أو عمل كريم.
لا أدري ما الذي جاءني بذكرى صديقي وصورة الشيخ باقر. كل ما أدركه أنني كنت أنصت هذا المساء إلى مقطوعة من "بيتر جونت" لا يكاد يقف عن ترديدها فونغراف جارتي الفرنسية، نزيلة الفندق الذي أسكنه اليوم في باريس، فبعد أن انتهت المقطوعة وهدأ الجو هذه المرة، بقيت أصداء الموسيقى غير المسجلة تترنح فيّ وتتلوى على صفحة نفسي كنهر من الرؤى ينساب خلال غابة من النباتات الغريبة، ثم انتفضت أمامي قامة صديقي وكأنه خارج من القبر. كانت صورته خيالاً رقيقاً، أو تمثل لي يقص عليّ خبر الشيخ باقر أثناء تنزهنا في مسائنا بدمشق، وهاأنذا الساعة بعد أن سحبت عليه السنون ستارها من أمد بعيد، بعد أن ضمته الطبيعة إلى صدرها لتفصله عن نبضات آلامه وأمانيه – ها أنا ذا أذكره بقوة انطباع نادرة. أراه كما كان: طويلاً، نحيفاً، برأسه المتطاول كجوزة الهند، بعينه الجاحظة كقمة البندقة البرشاء. أسمع قهقهته المرتجفة. ونبرة صوته المتلجلج تحدثني هكذا بقصة الشيخ:
"...كان باقر هذا رجلاً صغيراً أبله، ولما استولى عليه الذهول في النهار والهذيان في الليل ظن به أهل قريته الخير! أخذوه رجلاًَ مقدساً صاحب عجائب. كان في عقيدتهم، أن الله أنعم عليه بالنفحة الروحانية، وأن ميزاب النور الذي ينتصب بينه وبين الوهاب أوسع ميازيب الشاذلية. وعلى هذا كانت بركته تطلب بالفتيل والسراج، والقرية، بل جميع الكورة بضياعها العشر ودساكرها؛ كانت تتقاطر إليه في المواسم والمناسبات أفواجاً وأفراداً. كلما نزلت على رؤوسهم مصيبة، أو حلت بهم حادثة من خير أو شر، زاروه ليتلقفوا عنه وحي الحق، ويستشيرونه بالذي يحسن عمله والذي يجدر بهم اجتنابه. لقد كان طبيبهم ومنجمهم، حاكمهم وسمسارهم وشريكهم وقابلتهم القانونية معاً؟ يسترحمه المصاب نجاة، والمجدود يقاسمه السعد، والعاشق المخيب أو العانس البائرة يرقيان عنده حجاب الحبيب!
تصور، يا سليم، رجلاً كهذا يجمع في شخصه قوات التشريع والقضاء والتنفيذ، فيكون طاغياً بأمره حقيقياً؛ لا كبعض الذين يطلقون على واحدهم لقب "دكتاتور" في هذا الزمان. كذلك توحدت في باقر السلطتان الدينية والمدنية. أما مظاهر هذه القوى الهائلة فكانت تبدو في تصرفاته طبيعية لا تقبل التعقيل، لا هو يفقه لها اسماً أو معنى محدوداً أو ينازع فيها، ولا الفلاحون يفقهون لها شيئاً من ذلك أو ينازعون. كانت ولاية الدولة ذاتها أسطورة في منطقة نفوذه، أتريد أكثر من الضرائب المدنية؟ كانت الضرائب تتقاعس أمام عنفوان صولجانه وغضبات لحيته، فإذا ما وفد عليه فلاح يندب سوء حظه ويشرح له في صعوبة وتهيب أن جابي التكليف الجديد سيتناول بقرته الوحيدة، ثارت في الشيخ نخوة على الظلم أي ثورة! ثم يصف لهذه الحادثة، كما يصف لأي غيرها، علاجاً فريداً، كان يستحوذ على البقرة بحجة الدفاع عنها، ثم يقول للفلاح: "اذهب الآن يا ابني، فالملاعين لن يجدوا عندك شيئاً!".
فيذهب الفلاح وقلبه يطفح شكراً وإيماناً بهذا الذي دحر "الدولة" ذاتها، هذا الذي وقف دون استيلاء القوة القاهرة على رأسماله الوحيد، هذا الذي هو في عقله صديق شخصي لله ورسوله. كانت السعادة ترتسم في عينيه إذ يجتهد رأسه في التفكير بأن البقرة أصبحت في حرز أمين عند الشيخ باقر. ذلك إلى أن يأتي أوان استعمالها فيتذكرها متأسفاً ويتأوه عن تثاؤبة حرى، ثم يلتفت متحدثاً إلى نفسه أو من معه، امرأته أو فلاح آخر، بمثل قوله: "رضي الله عن شيخنا! البقرة عنده كما لو كانت عند الدولة!".
ظل الشيخ باقر يتسامى على سلم سلطته ومعجزاته حتى قيدوه في دفتر جماعة الأولياء الطاهرين. صار زميلاً لهم، يتمتع بأهميتهم وكرامتهم وهو بعد حي يرزق! وليس أدل بينة على ذلك من أن أهل القرية بنوا له مقاماً هو في قيد الحياة. ذلك إذ كان ملء أفهامهم أن باقر لن يموت، فلماذا التأخر في رفع قباب مزاره السامي؟ ذلك يزيد في أنهم قبلة الكورة بأجمعها.
مع أن باقر كان ولياً؛ فإنه لم يكن ليميز بين الألف والباء. ذلك رغماً عن وجود دفتر أصفر وسخ معه من أردأ أجناس ورق الكتب البولاقية، خطط وشطب عليه بأنواع الرموز والأرقام والأحرف المركبة حسب موحيات الهيئة والغيب. جاءه بهذا الدفتر هدية أحد أتباعه ممن أموا مرة مدينة حلب، فكان يحشره في زناره حيث لا يخرجه إلا عند الاستشارات الكبرى في أيام وليالي الملمات، بل بلغ من غنى موسوعته العلمية أن كاد ظنه يكون بالدنيا أنها لا تتعدى تلك الأوكار اللبنية التي تؤلف قريته، والتي كان يراها كل صباح وكل مساء منتصبة كأجرار النحل أو كالدمامل على وجه الأرض، يسكنها من البشر من يكون النحل مثلهم رقياً والدمامل مثلهم نظافة! أما مجتمعات الدنيا الأخرى، وكلها تكاد تنحصر عنده في اسمي مكة المكرمة والمدينة المنورة، فقد كانا في دماغه من غير هذا العالم، كانا غيمتين من البخار السرابي آخذاً أشكال طابات دكناء، كل طابة منها شبيهة بمقام ولايته الذي بناه له الفلاحون، أما المقام، فقد كان في الحقيقة بيته، إذ لم يكن لباقر قبل تكريسه مسكن ما، لأن أهل القرية كانوا لا يزالون يعتبرونه مجنوناً إذ ذاك، فيسمحون له بالمبيت عند أبواب أكواخهم. لكن لما استفحل اختلاله، واكتسب لذلك شهرته القدسية، بنوا له هذا المزار الذي يشبه مساكنهم، التي هي بدورها تشبه أجرار النحل أو الدمامل غير المفقوءة، كما سبقت الإشارة، هذا المزار الذي بسبب كل ذلك لم يكن من المقام الصحيح سوى قبته المخروطية الشكل! وتلك المساكن التي لو كنا نريد الإطناب في استخراج واختراع التشابيه لها ما كنا لنصفها بأعشاش العصافير لما في الأعشاش من الجمال ومعاني الإنسانية.
أما عن غير مكة والمدينة، يا صاحبي، فلم يكن الشيخ ليعرف إلا نتفاً من الأخبار سمعها مع البدو وأهل الرحلة، وضغط عليها حتى تألف له منها كون خاص لم يره بعينيه سواه. كانت معرفته، على العموم، تزيد قليلاً على محفوظات أهل القرية، إذ أن من غرائب هذا الوجود أن يكون الجنون أحياناً أقرب إلى العبقرية والعلم من البلاهة، ثم لما كانت القرية واقعة في قلب مثلث زواياه مدن حلب وحماه ودير الزور، فقد حفظ أسماء هذه البلدان الشيطانية يوم اتصل به أن فيها مجموعة كبيرة من الكفار. غير أنه كان يتحسر أسفاً وشوقاً إلى رؤية واحد من هؤلاء المناحيس، إذ لم ير شيئاً من هذه المخلوقات طوال حياته. لهذا كان يوصي الكبير والصغير بأنه لما يصل إلى يدهم نفر من هذا الجنس الخنزيري الخبيث أن يأتوا به إليه ليقص له ذنبه قبل أن يلقيه في تنور الخبيز، وكان يحذرهم محرجاً من لمس هذا الذنب، وكذلك لئلا تنمو لهم أذناب من حيث يلمسون!
قد كان منكر ونكير من أصدقاء الشيخ على زعم البعض، كما أخبر واحد عن آخر أن باقر الفضيل وجد كون منكر ونكير ليسا بثعبانين ذوي قرنين، بل ملكين جميلين، يتفليان في وهج الشمس في الجنة، ويدقان للأبرار على طنبورة بدوية ساحرة لكي لا يسكت للأنغام صوت في تلك الأصقاع الرائعة، لكنهما كانا رهيبين في حدسه، لا يعادلهما رهبة غير تلك الآلات الدقيقة الصناعة التي تستعمل في التعذيب الفني للخلق، وكان "الشاروق" ألطفها في مذهبه، يسيل له لعابه لمجرد ذكر اسمه. لذلك لما أخذ يظهر الاجتهاد في طريقته كان أول ما فعله أن أدخل هذا الاسم الحسن في كماليات حلقة الذكر، فانساق من يحيون حفلات الرقص الديني أثناء السهرات الشتوية إلى الصياح والهمهمة قائلين: "القيوم، الشاروق! القيوم، الشاروق!".
أما هذا "الشاروق" فقد صوره له خياله أنبوباً كأنابيب البترول، ممدوداً في الهواء حتى يصل بين الجنة والجحيم، وفيه يرمي الله أعداءه الزنانيم، فلا يزالون يسقطون ويسقطون في بطن الظلام وهم يرتطمون بعضهم ببعض، حتى يغطسوا طي بحيرة من أثمار شجر الزقوم المشتعلة وسط بطاح جهنم!
كانت القرية في قيل وقال متواصل عن باقر، تتناقل أخباره غائباً عن حاضر وتحفظها على صفحات قلوبها مع الآيات والأمثال وأخبار الزير أبو ليلى والزناتي خليفة. كانوا لا يحكون عنه أموراً عجيبة فقط، بل يفعلون معه كما يفعل البشر مع العظام أمثال نابليون ولورانس ورودولف فالنتينو، فينسبون إليه ما لم يقل ويفعل، ويعظمون كل ما فعل وقال! من ذلك أن الجميع علموا ذات يوم، في أقل من نصف ساعة، بأن أم علي العاقر جاءته زائرة بعد صلاة العصر بقليل. وأنها جاءته ومعها قصعة كبيرة من الثريد، كانت قضت طوال يومها بطبخها وتدسيمها، وأنها بقيت عنده كل المساء تتضرع إليه بألا يبخل عليها بالخصوبة في رحمها المجدب. وأنه لما نام إثر عشائه الثقيل قام بزيارته السادسة عشر بعد السبعمئة إلى المدينتين المقدستين. تجدهم، يا أخي، حتى اليوم لا ينسون كيف نهض فيلسوفهم عند الصباح وأقبل يقص عليهن خبر زيارته الطريفة، فيصف لهم كل ما شاهد وما لم يشاهد وصفاً دقيقاً بديعاً كأنما هو الفنان الأعمى ديمودوكليس ينشد عن يوم الزهرة والمريخ، أو هو ابن العربي يقص سياحة المعراج! ذلك حادث سجل في تاريخ القرية كأبيض صفحاتها وجهاً في رأي الكبير والصغير.
أما أم علي فقد كانت زوجة فلاح اسمه أبو علي. لكن ظني بأن ليس في وسعك أن تفهم كيف ينتسب رجل وامرأته العاقر، وهما زوجان لا ولد لهما، إلى نجل لا وجود له واسمه الكريم مع ذلك علي ابن أبي علي. إنما السبب في هذا يعود إلى كونهما أرادا التفاؤل بإقبال خلفهما عليهما في استلاف الاسم له والتكني به مقدماً، مع أنهما – وهذا مما ضاعف حسرتهما – لم يتبينا أي أثر يدل على قدومه السعيد، ومما زاد الطين بلة كون أبو علي ضيق العطن متقرف المزاج، لايني لحظة عن إيساع أم المومأ إليه (والباقي رهن عالم الغيب) لوماً وتقريعاً لتأخرها في جلب وارثه وشبله الكريم، فكان لسان حال هذه الشقية ما قالته أعرابية ذكية إذ طلقها ناكحها لمحلها في البنين وخصبها في الإناث: "إنما الذي أعطينا أعطينا!" ثم ما طال عليهما الحال حتى أدى أخيراً إلى نتيجته الطبيعية، فقام الشيطان بينهما يشاغب ويعبث كما يحب، وعليه، فلم يعد أبو علي يلوم ويشتم ويشبع، بل جاءته عادة اكتسابية قبيحة في أنه صار ينهال على الشقية لطماً ورفساً كلما انتصبت في خياله آمال المستقبل، كلما تذكر وليده الحلو الذي يظهر بأنه كان يتقاعس عن الموافاة إلى الدنيا لقلة ميل به إلى التسرع في اختبار الشقاء. ولعله سمع بخسران صفقتها و"اندوش" سلفاً من صياح أمه وأبيه وهو لا يزال بعد في بطن العدم، فغدا كالأتان العنيد كلما شداه نحوهما ازداد عنداً وتراجعاً!
وفي ذات يوم كان الطقس جميلاً، كما يقول الفرنسيون. لكن أبا علي أصبح وهو لا يستمرئ عذوبة ذلك الجو اللطيف، لأنه كان في حلة منذرة من أزمة أعصابه. طوال الليل ظل يهذي بمثل قوله: "تعال يا علي! ليش طولت الغيبة يا حبيبي؟ لعنة الله عليك، تعال!...".
لذلك لما جاءته أم علي بالخبز والبصل ليفطر، سألها فيما إذا لم يكن في البيت من لبن رائب. وإذا أتته بطاس يطفح باللبن الرائب الطازج الدسم، لعق منه بسبابته لعقة أنيقة فوجده حامضاً. وبما أنه وجده حامضاً، فقد غارت الأنوار في عينيه ورأى نجوم الظهر من السخط والانفعال، لأن كل الحق في حموضة اللبن يعود على أم علي التي لم تجلب علياً.
تناول الطاس ورماها بها، فلم يصب سوى يده وحصير القش ووجهها برشاش أبيض، تناولته بدورها وهوت به على أم رأسه، فتطايرت ارب الفخار كشظايا قنبلة. لكن مخ أبي علي دار على نفسه عدة دورات داخل قحفه من دوخة الألم، فوثب وبين عينيه والدنيا جدار أسود، وبينه وبين أذنيه مزيج من فحيح وطنين. هي المرة الوحيدة التي نسي فيها محروسه علياً منذ شهور، فقد كان يرعد ويزبد ويخور كثور مطعون، تندلع فيه وتنفجر كتلة من الكرامة الجافة المتجمعة في غرائز الرجولة الحاكمة منذ عشرات القرون!
ثم أمسك من شعرها بقبضة، وبالقبضة الأخرى أسال الدم من منخرها ولثتها، وأعمل رجله في كل ما هشّ من جسدها أو يبس، لاطماً، لاكماً، داعساً، وباعجاً. كعويل القطط في ليالي الشتاء علا صياح الطرفين، وتصادمت الآنية والحوائج في الجو، طائرة على أجنحة الغضب الأعمى من جانب إلى جانب!
لكن فجأة، وهي على وشك الإغماء (ولا يخفاكِ أن نساء القرى والبدويات لا يغبن عن حواسهن بسهولة المدنيات) – فجأة، كالصفعة على غفلة، وثبت إلى خلد الخبيثة خاطرة تحسن أن تكون أمثولة سياسية لأميرٍ ميكيافيليّ، لقيصر بورجيا أو فردريك الكبير مثلاً. يقول الناس أن الاختراع ابن طبيعي شرعي للأم "ضرورة"! لكن أية ضرورة، أية! أشد عصباً من حاجة ضبط اليد في حيازة صاحبها وزجر الساق عن تعدي حدودها؟ ثم ماذا تظن قد فعلت هذه النابغة اللوذعية؟ أقبلت رجل أبي علي من الكعب والأخمص؟ أتماوتت أم مثلت دور الغيبوبة؟ هه! لم يكن شيء من كل ذلك. لقد استنجدت لسانها فقط! ألا بورك اللسان من سلاح بتار في يد المظلوم الفطن! وبورك من درع وسيف معاً معلقاً بين فكي المرأة. إنه بعض الأحيان كطلق المنجنيق في فمها الرطيب – وقد كان في هذه المعركة كذلك، إذ صاحت أم علي بأعلى أصواتها:
- مجنون!.. يا ناس ياهوه مجنون! أبو علي أضاع عقله في الليل! الشيطان دخله من مناخيره. خلصوني، خذوه... إلى الشيخ باقر خذوه!... يا هوه، يا بشر، يا بقر، يا باقر... خلصونيييي... أبو علي جن جنونه!"
في هذه الدقيقة كانت جماعة من الفلاحين تمر بوكر والدي علي، ولم يكونوا ليبالوا الصياح، لفهمهم بأن ما يقوم بين الرجل والمرأة من هذا القبيل شيء عادي، لولا أن اسم الشيخ الكريم رنّ في آذانهم رنيناً ووجد في قلوبهم مستقراً عميقاً، وعليه، فقد تدخلوا في المعركة العائلية، ومسكوا بتلابيب أبي علي على اعتقاد راسخ منهم بأنه "ملطوش" مسحور، وبأن واجبهم الإنساني يفرض عليهم أخذه حالاً عند سماحة الشيخ باقر باعتباره وليهم، طراد شياطينهم وطبيب مجانينهم! ولما وصلوا بأبي علي إلى الشيخ وشرحوا له عوارضه، أجابهم هذا البار بقوله: "عال، عال! سأعصر الملاعين من قبله!" إنما لم يأذن لهم بالرحيل قبل أن يوثقوا الزوج العاق بحبال متينة من وبر الإبل، وذلك لئلا تقوم الأبالسة في غيابهم نحوه بتصرفات لا تحمد عقباها. بعد ذلك فقط أذن لهم بالانصراف مع بركته.
أغلق الشيخ باب المزار، فلم يبق تحت القبة غيره وأبي علي المشدوه، لا ثالث لهما ولا شاهد يشهد ويبكي من الضحك – سوى ملائكة الله وأرواح القوم الصالحين!
ثم تحرك الشيخ متباطئاً، وعينيه جامدة جاحظة تكاد تطلع من أسفل جبهته الضيقة. تقدم نحو أبي علي المجندل على الأرض كبالة من القطن أو كشوال من الملح، وهو يلاعب بيده غصناً يابساً غليظاً معقداً كذنب الضب، وهبط على غريمه ضرباً وتخبيطاً منتظماً، موقعاً توقيعاً، كمن ينظف سجادة سميكة من غبار سنين طويلة. صدق الله العظيم! عين بعين، وسن بسن، وأنف بأنف – بل بأكثر.. حكمة وحكم القوة زوجة الحق!
واظب الشيخ – بيض الله وجهه وكرم لحيته – على ضرب أبي علي تماماً، حتى كان هذا التاعس يحدث نفسه كل مساء بأن الفرج في غد، لكن غداً يأتي وباقر على ديدنه وليس من أنسي أو جني يلقي إلى صراخ المسكين أذناً.. ذلك لأن طرد الشياطين لم يكن في نظرية هذا الولي البار عملية جراحية بسيطة للروح، بحيث تنتهي عند مجرد استعمال العصا مرة أو مرتين. بل كان باقر يخالف في تجاربه، وخصوصاً مع أبي علي، سنة معظم الأولياء والقديسين الأكرمين في هذا الشأن، فإن عقلية صاحبنا كانت كعقلية قسم ممن نطلق عليهم في عصرنا اللماع لقب العلماء، فنجعل لذلك من فريضة جلد المسكون واجباً مرتباً يشبه وظيفة مدنية رسمية، لها مواعيدها المضبوطة ودوامها الدقيق. هذا، وقد ظهر عليه أنه أحب وظيفته إذ أخذها من قبيل الرياضة المسلية، الأمر الذي لم يوافق، طبعاً، مزاج أبي علي ورقة أديمه! كان – سلمت يده! – لا يضيع ثانية من مواعيده، كأن في جيبه أضبط ساعة موجودة. كان جرّاحاً ماهراً يعالج طبابته الشاقة بحلم وتروٍ، يلعب العصا بجلده في رشاقة العذراء. لو رأيته في نشوته إذ يترنح لأنغامٍ كموسيقى الطبل المثقوب عندما يعمل في تلك العجيزة نبوته، فيخور التاعس كالبقرة الحبلى عند الوضع، أو يعمد إلى الانتحاب كجرو ابن ساعتين!
جاءت أم علي ذات صباح لتسأل عن صحة بعلها، فلما رأت باقراً يقوم إلى شغله قالت في قلبها وعلى فمها ابتسامة الجيوكوندا: "لله دره!" ثم ألقت نظرها إلى قرينها في شموخ وشماتة وكأنما عيناها تقولان: "يا رذيل، يا ابن الكلب! تستحق أكثر مما يطعمك إياه وليك الأبله! تعلم الآن أمثولة تفيدك؛ وجرب بعد اليوم أن تعاملني كما تعامل حمارك!" ولم تكن توسلاته أو دموعه تفيد في تلطيف قلبها نحوه، فقد جمدت فيه العاطفة عليه لما عانته منه كرامة لعيني المغفور له علي. ولما رجعت من عند الشيخ، وصدرها مثلج برداً وسلاماً، عاد أبو علي إلى التململ كالأسد في قفصه كلما يبادره باقر بعمليته، فيقفز عن الأرض بكله، لا من رجليه أو أيديه، بل من بطنه أو عن ظهره، ويتلوى كالدودة لينزع عنه رباطه الوثيق. أخيراً يركبه اليأس من نجاح محاولاته، فيفزع إلى باقر والدموع تذرب من مآقيه متوسلاً كالثكالى، هائجاً كالدب المطعون: "دخلك يا شيخي! تعطرت لحيتك يا حبيبي! ارحمني، اتركني، صدقني! لست مجنوناً يا الله، بل تلك العاهرة اللعينة فعلت بي كيت وكيت!"
لكن أمراً لم يمنعه عن المضي في سبيله راكباً على رأس عنيد. فكان جوابه الأوحد الدائم المسكون: "إبليس سكنك! لعنة الله عليه وعليك كيف يتكلم بلسانك الأسود! (وهذه العبرة كانت لقنته إياها أم علي درء لمثل هذه الطوارئ المنتظرة) ألا تسمع عليّ يا جحش حتى اطلعه من بطنك، فأريحك وأريح العباد من شركما!" (وأما هذه العبارة الأخيرة التي تتناول "راحة" البشر والعطف عليهم فقد علمته إياها تجارب الكرامة وتجاربها، فغدا يستعملها في جميع أشغاله).
ثم لا يزال يشتد في الضرب، ويحمي وطيس الخبط واللبط، إلى أن تغيب فريسته عن صوابها، فيحسب ذلك علامة على موت الشياطين ويكف عن عمله ليتنفس الصعداء بل ليتذوق شعور الظفر في قلبه وينعم متلذذاً بنتائج قدرته العجيبة، لكن سرعان ما تخيب آماله عندما يرجع الوعي إلى أبي علي، فيفيق من إغمائه وتفيق معه شياطينه الزرق!
قلما تخون تلك الآلهة المسماة "بالضرورة" إنساناً، يا صديقي. خصوصاً في حالات العذاب التي لا تكون خارقة وتتناول الوسعة حلها. لقد ساعدت أم علي على التملص من نكبتها، فليس بالمستغرب أن تهرول إلى نجدة بعلها إذ يهيب بها وهو يقاسي الأمرين. وذلك ما حدث، حيث وافى يوماً موعد الطبابة فتصنع أخوانا الغيبوبة وهو لم يأكلها بعد إلا قليلاً، فخيل إلى باقر أن العفاريت التي تسكنه لم تعد تقوى على المعاندة، لكن ما عتمت أن انقضت فترة سكون قصيرة حتى فتح غريمه عينيه على مصراعيهما وتعقل. أمرّ يده على جبهته وفرك محاجره بقبضتيه مثل الذي يستيقظ في أجمل مرتفع من حلم شيق، فيروح محاولاً استجماع شتاته ليسعد به أكثر ما يستطيع قبل أن يختفي في سرداب الفناء، ثم حملق في الشيخ بنظرة وديعة ساذجة، وما لبث أن أتبعها، في لهجة فيلسوفية ناعمة وفصاحة دقيقة كفصاحة المتألمين من أوهامهم، بقوله:
"أنت، يا شيخي، في الحقيقة ولي عظيم. أنا كنت مجنوناً، سكنتني رعية عدو الرحمن. أليس كذلك؟ لكن ها أنا ذا نجوت من شره، لعنة الله وغضب الرسول وغضبك عليه! كرامتك، يا شيخي، قتلته. قتلته نهائياً وحياة عمتك! طيرته من جوفي، يا شيخي، لأنه وجد في جهادك وعلمك دحراً له خزياً. أحمد لك يا كريم الكرامات، ولا حمد إلا لله! لن أنسى معروفك. سأكون من عبيدك. دعني أقبل رجلك النظيفة! سأخبر أم علي (وشتمها في سره أوسخ شتيمة) بأفعالك وأمجادك، فتوافيك الليلة لتقبل نعلك الشريف (وسبها مرة أخرى). وسأقول لها أيضاً، يا شيخي، أن لا تنسى لك طبخة ناهية من الثريد وجدياً مشوياً رخصاً طيباً أهديكه، فتجلبهما لك معها هذا المساء نفسه".
هنا سكت أبو علي وظل ينظر في الشيخ المطرق في تأملات عميقة سعيدة تدور حول عظمته الباقرية، التي استيقظ عليها من نوبة عتهه المتواصلة بفضل منخس الأماديح، وقد صوبها إليه أسيره بمهارة. إنما ظل ينظر فيه هذه المرة لا بألم وتماوت، بل بعيني بنت هوىً خبيثة، ولم يترك تمثيل دوره عند ذلك، بل ضرب بهراوته الكلامية ضربته الأخيرة على رأس الشيخ عندما جدد الخطاب إليه، فعاد إلى أبلغ مما سبق من قوله، يطنب فيه ويقرظ، ويصلي على الشيخ ويسلم، وينهي كل ذلك قاطعاً، كجهيزة كل خطيب، ببيتين كان قد نظمهما شاعر القرية في مديح الولي الحي:
من ذا الذي ما ساء قط؟ * * * * ومن له الحسنى فقط؟
"بويقر" الهادي الذي * * * * عليه "عزريل" هبط!
وعجيب ما كان لذلك الخطاب الشيشروني الناعم من وقع فجائي فعال في نفس باقر. كيف أسال دمعه فرحاً، وأحنى ظهره حباً وحدباً على أبي علي، وكيف حركه إلى فك عقاله كأنه مسحور بطلسم وبسملة، وكيف أنه حالما فك ذلك العقال الشديد رأى أبا علي ينقلب عليه مزمجراً، فيظل يدغدغ له كيانه بنفس العصا التي استعملها معه الشيخ حتى عصر الماء من جوفه وأخرج الزبد من شدقيه، وكيف ولى من ثم طائراً إلى البيت ليعانق أم علي المحروس عناقاًَ لا أدري كيف كان ولم ألقَ أحداً يصفه لي!
إنما لم نعجب؟ أليس أن للأولياء الصالحين، حتى وللذين منهم يقيمون على حدود العقل ممسوسين، أنوفاً حساسة الشمم تؤثر فيها ألفاظ التبجيل المتسامية، فترتفع حرارتها حتى تتبخر كالشمع في آتون أو البخور في كانون؟ إن لهم أيضاً لعاباً يسيل حين تذكر لهم الجداء المشوية وقصع الثريد والقبلات الشعرية من أحذيتهم الطاهرة. أي صديقي! ليست هذه الأمزجة (وكان رفيقي الراحل مولعاً حتى الهوس باستنتاج العبرة الملموسة من كل شيء، وتطبيقها بصورة خاصة على الحالة الراهنة) من ميزات جماعة مضحكة من المتأدبين وصغار المتزعمين عندنا فحسب. بل يشاركهم فيها أيضاً، كما ترى، قديسو القرى البلهاء والمجاذيب!"
لما انتهى محدثي إلى هنا من قصته كنا في طريق العودة من نزهتنا. كانت الشمس قد غابت، والغسق صحراوياً، هادئاً، يطفح منه نور رمادي أزرق، فيهيمن فوق طبقة خيالية قاتمة من ظلمات البساتين المياسة وهي مطمئنة إلى نومها الباكر، العميق، المعطر، غارقة في ظلالها "الدافنشية" الغامضة.
لقد استولى علي سكون الجو؛ ورحت أشرب جمال الليل الزاحف بكلي، ثم تحركت أفكاري بكسل. ولا أدي لماذا لم أفهم ما عناه صديقي في آخر كلامه حتى تبعته في إزعاج أحلام الطبيعية بالتأمل السياسي، مشيراً إلى العبرة المحلية التي أستخلصها بقولي:
- وأي المتأدبين والمتزعمين تعني؟
فأجاب:
- أو تجهل إلى هذا الحد يا صاح؟ أولئك الذين تراهم يتواثبون متناكفين كالقردة على الفستق!
ثم أردت ان أحول مجرى الحديث لئلا نصل إلى موضع ألمه، فسألته:
- هل روايتك صحيحة؟
- أجل، صحيحة! وقد وصلت الدولة يوماً إلى الشيخ باقر الذي كان يزاحمها ويشارك "البك" شركة قانونية لا احتجاج عليها في الاستيلاء على محاصيل الفلاحين وبقراتهم. لقد ملكت منه مقبضاً مرة، فمسكت به وأرسلته إلى سجن القلعة بدمشق، ومن ثم إلى البيمارستان فوق بيروت، وذلك عندما ذر قرن فتنة كاد يشعلها باسم الله وميزاب الشاذلية في سبيل احتكار الحكم والجباية في القرية وتلك الكورة. وكما تعلم جيداً، كثيراً ما كانت ترضى الدولة عندنا بشركة كبار رجال الغيب والولاية السماوية فضلاً عمن تحت درجتهم من زمرة أصحاب العمائم والقلانس، وذلك على سبيل إفراز بدل أتعابهم من أجل ولايتها هي. بيد أنها لا تقبل أبداً باحتكارهم، فتثير وإياهم مجادلات عنيفة في هذا التنازع على وحدة السلطان. أما قصة علي وباقر، فقد سمعتها مع والدي من "البك" المذكور نفسه وهو أحد معارفي، ويملك رقبة بضع ضياع من كورة الشيخ باقر انتقلت إليه عن أبيه الذي كان صديقاً للمرحوم والدي. لقد اتصلت به قصة الولي الحي ومعجزاته من رؤساء القرى والفلاحين، والقصة مشهورة هناك. على أنها لم تكن الصحة بعينها فهي حقيقة واقعة بدلالتها العامة.
"وقد كان صاحبي "البك" ذات يوم في بيروت، فجاءني إلى الجامعة الأميركية مقترحاً علي زيارة العصفورية، حيث كان متوجهاً لإطلاق سراح الشيخ باقر على إثر التماسات أناس من أهل قريته ورجاء قائمام القضاء. وكل هذا الأخير يبغي من باقر، استعماله في إقناع الفلاحين، المهددين بشبح المجاعة بعد إمحال الموسم، بدفع الأعشار عن طوع. فقد عجز القائمام عن تنفيذ هذه المهمة بسبب حالتهم البائسة من جهة، ولعدم اعتياد الفلاحين الدفع زمن كان باقر يشن الغارات على الشيطان ويملك فيهم عزيزاً من الجهة الثانية...".
قاطعت صديقي لملالي من حديث المال والدولة ومؤامرات العيش، وبادرته بسؤال الطفل الذي لا يحب أن تنتهي قصة جدته:
- وماذا حدث لأبي علي بعد ذلك، هل سمعت عنه شيئاً؟
فأجابني وهو يضحك:
- صدقني لا أعرف. إن كل ما استحوذ على اهتمامي، ما في الحادثة من صور وحيلة مضحكة. طبعاً، لم يرسل أبو علي امرأته إلى الشيخ مع الجدي والثريد، ولكنه قد يكون ذبحها في هيجته المضرية ليعقد نكاحاً على غيرها عساها تأتيه بعليه العزيز! لاشك أيضاً بأنه كان عاقداً على عدة نساء غير أم علي من قبل أن يعرفها. لكنهن لم يفدنه في القسم الثاني من مطالبه منهن، إذ يظهر أن الجدب كان فيه لا فيهن... وهذا قل أن يكون بين أهل البداوة والفلاحين، اللهم إلا من يزور المدن منهم، أولئك الذين لا تلبث أن تشيع هديتها الفظيعة إليهم بين جميع قومهم بسرعة وقوة انتشار غريبة...
هذه حكاية صديقي الراحل وحواشيها، رواها لي إحدى الأمسية التي كنا نحاول أن نخلع عنا فيها قشور شبابنا الجاف. لقد خطر لي وخطرت معه واقعة الولي الحي ساعة أسكرتني الرؤيا الفاتنة للفنان "جريك" منذ سمعتها من غرفة الجارة الفرنسية في مطلع هذه الليلة الشرقية التي أقضيها مع أفكاري في باريس. ولقد يكون باعث تذكاري الطويل المتداخل هذا، ذلك الطيف الأخرق الراقص بين أنغام الموسيقي الشمالي الشهير. أعني به الموسوس القروي الآخر "بيتر جونت" المحبوب، جوابة أحراج الجبال السكاندينافية في مخيلة أبسن الروائي.
وقد مر بفكري هذه الليلة شيء آخر أيضاً. هو الخبر الذي هزني وأحزنني عن صديقي. تذكرت أنني كنت قرأت في تلك الصحيفة التي نعته إلى كون التحقيق القضائي أظهر من أحوال وأوصاف المجرم الذي أسكت أنشودة الحياة في قلبه: إنه منجم معتوه أمّ حلب منذ سنة من ذلك الوقت من قرية كذا في كورة كذا، إن أهل تلك الناحية كانوا يدعون له النبوة والولاية الروحية، إنه كان قد أرسل مرة إلى بيمارستان العصفورية فوق بيروت، إنه قتل صديقي بطعنة من خنجر صدئ في ثديه، وإن اسمه الأول والثاني "باقر" لا غير.
طلع عليّ الصبح والأصداء البعيدة التي بعثتها أنغام فونغراف الغرفة المجاورة، في أول المساء، تتلاشى من جو عالمي الخاص الذي أعيشه هنا مع ماضيّ. فأشعل لفافة وأحملق في رسم على الحائط من خلال الدخان. ويبين لي كأنما الصورة تحترق، ثم كان سؤالاً كبيراً لا معنى له قد بدأ وأنهى كل شيء:
لماذا تكون الحياة حقائق وعجائب ممزوجة؟ لماذا لا تكون صوراً موسيقية؟
(الطليعة، ع2+3، س3، بيروت، شباط وآذار 1935)
الهامش
(1) تناقض روح هذه الأقصوصة معنى جاء لبوكاتشيو في إحدى مرويات "الديكامرون".
(2) لم يكن أبو شيش، رغم أنه فيلسوف، فقيهاً في اللغة. لذلك تراه لا يفرق بين الجمع والمثنى.
(3) تذكرني محاضرة أبي النعمان بهتلر وموسوليني وإضرابهما الكثير في هذه الأيام. والله إن أبا شيش ليصلح أستاذاً لهم.