تقرير من فلسطين

الطغاة والحكايات: من يكتب التاريخ؟ ومن يكتب الأغنيات؟

فيحاء عبدالهادي

 

Description: http://www.al-ayyam.com/images/pixel.gif

 

لا يستطيع الطغاة رواية الحكايات. ولا يستطيع المدَّعون روايتها أيضاً. الحكاية، أية حكاية، لا تعترف بالخوف. الطغاة اليوم يعيشون بقلق. الحكاية هي واحدة من الطرق للتأكيد على أن العدالة حتمية. وبهذا الإيمان سيقاتل النساء والرجال بشراسة عالية، ولذا يخاف الطغاة من رواية القصص، فهي تشير بطريقة أو بأخرى إلى سقوطهم”.
جون بيرجر/ بريطانيا
*****
ما الذي يجمع بين الحكَّائين عبر العالم؟
هل هو إغواء الحكاية؟ سحرها وغموضها؟ هل هو شبابها الدائم؟
أم قدرتها على رواية المسكوت عنه، وكشف المستور، والتواصل مع المستمعين، قلباً لقلب، وعيناً لعين، وأذناً لأذن؟! هل هو كل ذلك؟!
تكتسب الحكاية قوَّتها من الآخر؛ فلا حكاية دون مستمعين.
وبما أن الحكاية ضدّ الأحادية؛ فهي ضد الطغاة، الذين لا يسمعون سوى صدى أصواتهم.
وهي صديقة للفقراء والمظلومين، وكل من يطلب تحقيق العدالة الاجتماعية.
من يملكون السلطة يكتبون التاريخ، ومن يعانون يكتبون الأغنيات”.
*****
قدَّمت عروض ملتقى حكايا الإقليمي الرابع 2011، في عمان، حكايا فلسطينية، ولبنانية، وفرنسية، وتونسية، وأردنية، ومصرية، وموريتانية، وإيرلندية.
تنوَّعت أشكال العروض التي استخدمت فن الحكاية، من المسرح، إلى السينما، إلى الفيديو، إلى الموسيقى، إلى الرقص، إلى المزج بين هذه الفنون. كما قدّمت عروضاً تعتمد على الحكائين وحدهم، دون استخدام أية فنون أخرى.
ومن بين تجارب الحكَّائين؛ كانت هناك تجربة مميزة من إيرلندا، ومن لبنان. جمع ما بينها اعتمادها على أداء الحكّاء؛ الأمر الذي استلزم قدرة وبراعة لا محدودة، سحرت المشاهدين: “في كل مرَّة أروي الحكاية تتغير الكلمات.. أريد أن أرى الجمهور، وأتفاعل معه، على عكس التمثيل..الحكَّاء يحتاج أن يروي لا أن يستعرض.. أحب أن أربط قصصي بحياتنا”.
*****
قدَّم الحكّاء الإيرلندي والممثل، “جاك لينش” (Jack Lynch)، حكاياته، بأسلوب شدَّ أنفاس المستمعين، ونقلهم إلى أجواء أسطورية، وخرافية، وفولكلورية.
قصَّ حكايات من الموروث الإيرلندي: “عودة ميك وعازف القيثارة”، و”ولادة أويسين”، و”الكرة الذهبية”، “والمرأة الغزال”، وحكى للصغار “فيون والعملاق الإيرلندي”، و”الفتى الذي لم تكن لديه حكاية”، وقصصاً أخرى.
تذكِّر حكايا “جاك لينش”، بالأساطير الإغريقية، والهندية، فعازف القيثارة الإيرلندي، الذي يعزف ألحاناً تهز الأفئدة؛ يستدعي عازف القيثارة الإغريقي أورفيوس” (ابن أبوللو)، الذي يعزف الموسيقى برقة، بحيث تلين قلوب جميع المخلوقات بما فيها الحيوان.
وحكاية الضفدع في “الكرة الذهبية”، تستدعي قصة الضفدع في “كليلة ودمنة”. تتشابه تجارب الشعوب، فالحيلة تذكِّر بالحيلة، والحكمة تستدعي الحكمة.
ولا شكَّ في أن تجربة إيرلندا في الحفاظ على الذاكرة؛ تجربة رائدة وملهمة.
أدرك الإيرلنديون أهمية الحفاظ على الذاكرة من الضياع، وخاصة بعد الاستقلال عام 1922، وخطَّطوا لتأسيس أرشيف قومي كبير؛ فبادروا إلى جمع حكايات الأهالي: نساء ورجالاً. أغلقوا المدارس لمدة عام كامل، وطلبوا من الطلاب أن يجمعوا قصص ذويهم، وخاصة كبار السن، فجمعوا 600,000 حكاية إيرلندية، إدراكاً منهم لأهمية التراث الشفوي، وأهمية الحكايات في بناء المجتمع والإنسان، وتأثيرها في “استعادة الحكمة في الحياة”.
*****
نسج الحكّاء اللبناني “جهاد درويش”، حكاياته، وقدَّمها من خلال عرض مذهل، استقرَّ في قلوب المشاهدين، وجعلهم يدركون أهمية الحكايات في الحياة.
بدأ الفنان بحكاية، ولَّدت أخرى، ولَّدت حكايا، لم تنته سوى بعد ساعة ونصف، عندما تحتَّم أن ينتهي العرض. وعندما سأله الجمهور عن مصدر هذه القدرة الفذَّة على سرد الحكايا دون توقف؛ أجاب: إنها الحياة، والفضل لأصحاب الحكايات، وأردف أنه قدَّم الحكايات عينها في فرنسا، وأن عرضه في باريس استغرق تسع ساعات.
حدّثنا “جهاد درويش” عن النسّاج “حسن”، الذي يحب ليلى، ويرغب في الزواج منها. وبما أنه رجل فقير، لا يملك مالاً يعينه على طلب الزواج من ابنة زعيم القرية، وبعد أن رأى درراً في حلمه؛ يقرر السفر حول البحر المتوسط بحثاً عنها. ومن بلد إلى بلد، ومن شاطئ إلى آخر؛ يستمع حسن إلى حكايات وأغانٍ ينسجها الحكّاؤون خيوط حرير، تمتدّ من بلد إلى آخر، عبر المتوسط. عاد حسن إلى قريته، بعد ثلاث سنوات، وليس في جعبته سوى الحكايات. وحين يذهب لطلب يد ليلى من والدها؛ يقدِّم لها الدرر التي اكتنزها خلال سفره، والتي أدركت ليلى قيمتها؛ ففضَّلتها على مجوهرات الكرة الأرضية.
*****
روى الكاتب الفلسطيني “سليمان الناطور”، خلال عرضه الممتع، الذي قدَّمه ضمن عروض الملتقى، حكايات عن النكبة الفلسطينية، جمعها خلال ثلاثين عاماً، هي الأعوام التي عمل خلالها على الذاكرة، وأنتج: الرواية، والسيرة، والقصة. ورغم أن الكاتب ليس حكّاء، بالمعنى التقليدي، فإنه استطاع أن يروي حكايات لشخصيات فلسطينية شعبية، كانت شاهداً على النكبة، وعاصرت الانتداب البريطاني، وثورة عام 1936، كما حكى بعض تجاربه الشخصية.
روى ما حدث معه أثناء زيارته بريطانيا، حين استوقفه الأمن، في “مطار هيثرو”، واحتجز من حقيبته كيس زعتر، ظناً أنه بارود. هنا يتخيل الراوي أن الحياة كلها، في لندن، توقفت في تلك اللحظة، وأنه بات (المطلوب رقم واحد)، ويتساءل: “أنا مش فاهم، كيف الانجليز احتلوا بلدنا ثلاثين سنة وهم ما بيعرفوا يفرّقوا بين الزعتر المطحون والبارود؟ أو أنهم يعرفون أن الزعتر يقوِّي الذاكرة، وهم يريدون أن يمسحوها عن بكرة أبيها؟!”.
أرَّخ الكاتب لذاكرة الحياة، بالإضافة إلى ذاكرة الموت، رغم أنه ليس مؤرِّخاً.
روى قصة “عبد الحسن”، البطل الشعبي، ووالدته التي مارست أمومتها إلى درجة الجنون، وقصة “بو صلاح”، لوّاح الدبكة الشعبية الفلسطينية.
وحين روى قصة “الشيخ عباس”، الذي شهد ثورة 1936، والذي أكلته الضباع لأنه فقد ذاكرته؛ ختم حكايته بحكمة استقرَّت في ذاكرة المشاهدين: “ستأكلنا الضباع إن بقينا بلا ذاكرة”.

faihaab@gmail.com
www.faihaab.com