إشكاليات المداخلة:
تندرج هذه المداخلة ضمن إحدى إشكاليات التلقي وسؤال «أي تأثير مسبق يمارسه الجمهور الذي يبحث عنه المبدع، على إنتاج النص ذاته؟" وهي تراجع مقروئية الرواية العربية الأنجلوفونية في الوسط القرائي الغربي. تتوجّه الرواية العربية الأنجلوفونية إلى القارئ الغربي تحديدا، وينطلق المبدع العربي والقارئ الغربي من أرضية معرفيّة مشتركة تمثّلت في الصور النمطية والأحكام المسبقة التي شكّلها القارئ الغربي، وبعرفها المبدع العربي جيّدا، عن العرب والمسلمين وهي صور وأحكام سلبية عموما، قوامها اضطهاد المرأة، جرائم الشرف، الإسلام فوبيا. تحاول المداخلة الوقوف عند بعض النصوص الروائية الأنجلوفونية لاستكشاف مدى استجابتها لتصوّرات القارئ الغربي عن العرب والمسلمين،ومن ثمّة المساءلة عمّا إذا كان دور المبدع العربي هو ترسيخ تلك الصور والأحكام المسبقة ومجاملة الرأي العام الغربي لتحقيق الشهرة ورفع المبيعات أم تصحيح تلك التصوّرات ومواجهة القارئ الغربي بشكل متحدّ وبطريقة ندّية؟
الرواية العربية الأنجلوفونية:
هي الرواية التي كتبها بالإنجليزية كتّاب عرب أو من أصول عربية يقيم معظمهم في بريطانيا أو أمريكا أو استراليا، ومن هؤلاء الكتّاب نذكر على سبيل المثال لا الحصر: جبرا إبراهيم جبرا، وأمين الريحاني، وجمال محجوب، ورابح علم الدين، وهشام مطر، وإدوارد عطيّة، وإسحاق ديك .. بالإضافة إلى أقلام نسويّة كان لها حضورها وقرّاؤها، ومنهنّ: أهداف سويف، وليلى أبو العلا، ومهجة قحف، وديانا أبوجابر، وفادية فقير .. الخ. ويمتدّ عمر الرواية العربية الأنجلوفونية إلى قرن من الزمان، «إذا اعتبرنا كتاب خالد (The Book of Khalid) لأمين الريحاني أوّل رواية عربية تكتب بالإنجليزية، تبعتها نصوص أخرى شكّلت عبر عشرات السنين مادّة سرديّة لفتت الانتباه إليها قراءة ودراسة ونقدا وتكريما، فقد شهد العقد الماضي حضورا متزايدا لكتّاب عرب ساهمت أصواتهم وبراعتهم الفنّية في إعادة تشكيل خارطة العالم الأدبي الأنجلوفوني، وبنوع من الجدال، وبشكل قابل للأخذ والرّد، اعتبرت أعمالهم آخر موجة لخطّ طويل من الكتابة العربية الأنجلوفونية، بدأ مع جبران وتواصل مع أهداف سويف في القرن العشرين. اختار الكثير من الكتّاب والكاتبات أن يبدعوا بالإنجليزية بدل العربية، يدفعهم إلى ذلك رغبتهم في التوجّه بكتاباتهم إلى مجتمعاتهم الجديدة: الولايات المتحدة الأمريكية، أستراليا، بريطانيا، وكندا، أو لرغبتهم في الوصول سريعا إلى مكانة عالمية، دون أن يعرّجوا على وسيط الترجمة.»(1) وكانت هذه النصوص تتوجّه لقارئ غربي ـ أمريكي أو إنجليزي على وجه التحديد ـ ومادام عمر هذه الرواية مئة عام على الأقلّ فمن الطبيعي أن يصبح هذا القارئ الغربي قرّاء غربيين ذوي مرجعيات ثقافية وتاريخية وسياسية وعرقية متباينة وفقا للمتغيّرات السياسية والتاريخية التي تتحكّم على وجه خاص في العلاقات العربية ـ الأمريكية/ البريطانية ممّا سيؤثّر حتما على العلاقة الجدليّة بين الرواية العربية الأنجلوفونية وقارئها الغربي. لذا آثرنا أن ننتهج المنهج الكرونولوجي لرصد هذه العلاقة على ضوء المتغيرات السياسية والتاريخية والأدبية التي تحكمها وتؤثّر فيها وتتأثّر بها ولنبدأ من النصوص الريادية:
الأدب المهجري الأنجلوفوني: النص/ القارئ النّد للنّدّ
كانت أمريكا هي المهد الأوّل للأدب العربي الأنجلوفوني حيث احتضنت نصوصه الرّياديّة ممثّلة في النبي (The Prophet) لجبران خليل جبران وكتاب خالد لأمين الريحاني، وقد حظي نبيّ جبران بمقروئية عالية في الوسط الغربي ـ الأمريكي تحديداـ حيث أقبل عليه القارئ الغربي بنهم شديد، إذ تذكر الإحصائيات أنّ هذا الكتاب من أكثر الكتب مبيعا عبر العالم، إذ لا يزال يطبع إلى الآن بملايين النسخة في كلّ طبعة «متجاوزا بذلك مبيعات أكابر الشعراء الأمريكان من وايتمان إلى ت. س إليوت»(2)
ولقد تنبّأت ماري هاسكل ـ صديقة جبران ـ بشهرة "النبيّ" منذ بداية صدوره حيث قالت في رسالة وجّهتها له يوم نشر كتابه «سيكون واحدا من أهمّ كنوز الأدب الإنجليزي، سوف نفتحه أثناء شعورنا بالظلام والضعف كي نجد أنفسنا ثانية، وكي نعثر على السماء والأرض داخل أنفسنا، ولن تتعب الأجيال منه»(3).
يلبّي كتاب جبران حاجات قرائية أمريكية متعطّشة لينابيع الروحانيات والسموّ الأخلاقي، هربا من جحيم المادّة وسلطة الدّولار، وقد وجدت ضالّتها في كتاب ينضح بعبق الشرق الذي انطبع في مخيال القارئ الغربي من خلال قراءاته لألف ليلة وليلة، ومن خلال كتابات بعض الأوروبيين المنبهرة بسحر الشرق على غرار جوته، وفولتير، وجيرا ر دي نرفال، وشاتوبريان ونيتشه. بالإضافة إلى ما يعرفه ذلك القارئ الغربي من أنّ الشرق هو أرض الديانات ومهد الأنبياء، وأرض الحضارات العريقة كالحضارة الفرعونية والبابلية، ومسقط رأس رجال الأخلاق على غرار كونفشيوس وطاغور وزارادشت. وقد راهن جبران على هذا الثقل الحضاري العميق للشرق الذي ترسّخ في ذاكرة قارئه الغربي، وهو يكتب له كتابه الخالد "النبيّ" ولم يكن الريحاني يكتب بعيدا عن حسابات جبران ورهاناته، فقد قدّم هو الآخر روايته الرائدة "كتاب خالد" لقارئه الغربي بنفس الثقة التي قدّم بها جبران نبيّه، كان الريحاني يرى نفسه رسول المصالحة بين الشرق والغرب، لذا أمل مع بطل روايته خالد أن يؤسّس إمبراطورية إنسانية قوامها روحانية الشرق وفنون أوروبا وعلوم أمريكا.
«وفي إطار سعيهم {هؤلاء الكتّاب الروّاد} للشهرة وإيجاد مكانتهم داخل الحلقات الأدبية الأمريكية فإنّ السؤال الذي يفرض نفسه هو ما إذا كان هؤلاء المثقفين قد لبسوا عباءة الشرق لرفع مبيعات كتبهم، وليحظوا بالقبول عبر تصوير أنفسهم في صورة العباقرة الجذّابين Charismatic Genius أو أنّ فكرتهم حول المصالحة الطيبة بين الشرق والغرب مجرّد إسهام ضمن فكر اختزالي ومتآلف حول روحانية الشرق الغارقة في طلاسمها المذهلة وعقلانية الغرب الديناميكية.»(4) تعامل هؤلاء الكتّاب الأنجلوفونيون مع قرّائهم الغربيين من موقف ندّي وترتكز ثقتهم الإبداعية على جملة من الرهانات أهمّها:
ـ تفهّمهم للذوق القرائي السائد في الأوساط الأمريكية آنذاك، وهو تفهّم مبنيّ على طول المعاشرة والخبرة المباشرة، لذا جاءت كتاباتهم إشباعا للحاجات المفتقدة والرغبات الظامئة.
ـ ثقتهم بثقل تاريخهم الحضاري قضى على أيّ إحساس بالدونيّة، أو شعور بالنقص في حضرة القارئ الغربي، لذا كان هؤلاء يكتبون في مساحة من الحرّية لا تهدّدها سلطة القارئ الغربي، الذي لم يغب لحظة عن ذهن الكاتب العربي دون أن يسمح له بأن يملي عليه أجندة إبداعه.
ـ طبيعة المرحلة السياسية والتاريخية التي كتب فيها هؤلاء الروّاد فقد كانت أمريكا تودّع مرحلة عزلتها بكثير من التسامح والتقبّل للآخرين كما أنّها لم تنخرط بعد في قضايا ومشاكل العرب والمسلمين كما يحدث الآن وبالتالي فقد كان هناك قبول نفسيّ بين النص العربي والقارئ الغربي خصوصا وأنّ معظم هؤلاء الكتّاب العربي مسيحيون، وبالتالي لم يكن لذكريات الحروب الصليبية طعم مرير في نفس القارئ الغربي، وهو يتصفّح كتابات هؤلاء المبدعين.
السيرة الذاتية: اعتذار .. واستدرار
وفي أربعينيات القرن الماضي بدأ العرب الأمريكان يحاولون اكتساب القارئ العربي والغربي دفعة واحدة من خلال كتابة السيرة الذاتية، فقد كتب أسعد يعقوب كيّات "صوت من لبنان" A voice from Lebanon 1847 وأبراهام ميتري رحباني "رحلة بعيدة" (A Far Journey) (1914) وجورج حدّاد "من جبل لبنان إلى فرمونت" (Mt. Lebanon to Vermont) (1916) وأشاد.ج. حاوي (النهايات القزحية" (The Rainbow Ends)(1942) وسلّوم رزق "يانكي سوري"Syrian Yankee (1943) وجورج حميد "سيرك" (Circus) (1950). وإذا كان الهدف العام لكتابة السيرة الذاتية هو التعبير عن معاناة تحقيق الذات وإثبات الوجود أو رصد مرحلة اجتماعية وتاريخية مهمّة مرّ بها الكاتب والمجتمع لأخذ العبرة والاتعاظ فإنّ هؤلاء الكتّاب وثّقوا سيرتهم لكسب رهان القارئ العربي والغربي في آن واح.د فوجّه للأوّل رسالة اعتذار من خلال النّص السير ذاتي شرح فيها الكاتب دواعي هجرته وأسباب رحيله، وهي أسباب قاهرة وظروف حالكة في أغلب الأحيان، ووجّه للثاني {القارئ الغربي} رسالة "طلب ودّ" واستدرار عطفه علّه يرحّب به بصفته مواطنا أمريكيا جديدا، بعبارة أخرى «فقد شرح الكتّاب في سيرهم الذاتية دواعي وأسباب هجرتهم كما في أسطر أبراهام ميتري رحباني "هدفنا أن نقهر الجهل بالمعرفة، والخطأ بالصواب، والفوضى بالانسجام، والكراهية بالحبّ، وفي الوقت الذين كان فيه كتّاب السيرة الذاتية يعتذرون للناس الذين تركوهم وراءهم كانوا يلتمسون في مذكّراتهم تعاطف الناس الذين انضمّوا إليهم {في الوطن المضيف} أَمَل أشاد.ج. حاوي الذي خدم في (Rainbow Divisions) ـ درجة أولى خاصّة في الجيش الأمريكي خلال الحرب العالمية الأولى ـ والذي قُدِّم في Distinguished Service Cross للبطولة الخارقة في أحداث فرنسا ـ أن يُقدِّم في روايته "نهايات قزحية" دليلا كافيا على (ولائه لأمريكا) ووطنيّته، وبالتالي حقّه في الاندماج والقبول. وبالنسبة إلى سلّوم رزق، فإنّ كتابة السيرة الذاتية هي جزء بسيط من دين يردّه بصفته مواطنا للأرض العظيمة : الولايات المتّحدة الأمريكية».(5)
العرب المتأوربون: النص وعقدة النقص/ القارئ وعقدة التفوّق
لم تسر الأمور على هذا النحو الطيّب في النصف الثاني من القرن العشرين وخصوصا بالنسبة إلى الكتّاب العرب المقيمين في بريطانيا فقد كانت كتاباتهم مقلّة بشكل لافت للنظر، فكتب وجيه غالي ـ المصري القبطي ـ رواية وحيدة «بيرة في حانة السنوكر»Beer in the Snooker Club عام 1964. وكتب الروائي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا «صيادون في شارع ضيّق» Hunters in a Narrow Street بالإنجليزية عام 1960 وكان للأديبة اللبنانية ريما علم الدين رواية وحيدة "من الربيع إلى الصيف" Spring to Summer عام 1963، وكانت "صبى بدوي"Bedouin Boyhood 1967 الرواية الوحيدة للكاتب الفلسطيني إسحاق ديك. ولعلّ مردّ هذا الشحّ الروائي عزوف القارئ الغربي ـ الإنجليزي تحديدا على هذه النصوص التي لم يجد فيها جديدا يثيره أو غريبا يستفزّه، فلقد أخلص هؤلاء الأدباء لتقاليد الكتابة الأوروبية، لدرجة محت هويّتهم الوطنيّة. على عكس الكتّاب الأنجلوفونيين القادمين من إفريقيا والهند وجزر الكاريبي الذي استطاعوا استفزاز القارئ الأوروبي وكسب ثقته بتحرّرهم من التقاليد الأوروبية الإبداعية، والسماح لثقافتهم المحلّية بالتجلّي في شكل مغامراتي أثبت جدواه وفعاليته. وبعبارة أخرى"«كانت كتابات هؤلاء الأدباء {وجبرا، وريما علم الدين، وإسحاق ديك} تختلف كثيرا عن كتابات أسلافهم (الريحاني، وجبران، ونعيمة) من حيث أنّها أكثر وفاء والتزاما للتقاليد الأوروبية منها للمشهد الأدبي الأمريكي آنئذ. عكست أعمالهم ـ بشكل كبيرـ تكوينهم الثقافي والتعليمي البريطاني، وستحول هذه الظاهرة دون صعود أسلوب {ولغة} أدبي عربي ـ إنجليزي. فعلى خلاف الكتّاب النيجيريين ـ على سبيل المثال ـ الذين يوظّفون الإنجليزية بتحرّر وأحيانا باستخفاف، فإنّ الكتّاب العرب الإنجليز لا يجرؤون على الإبداع {اللغوي} عبر سكّ وإدماج لغة دارجة محلّية أو على التجريب أسلوبيا.»(6)
لا يقتصر الأمر على الناحية اللغوية بل تعدّاها إلى المضمون حيث قدّموا أنفسهم وشعبهم وفقا لتصوّرات القارئ الأوروبي وهي تصوّرات سلبية أو على الأقلّ فولكلورية" لعلّ نجاح بعض تلك الأعمال لا يعود إلى أيّ استحقاق أدبي أحرزته أو أيّ تعابير غريبة تضمّنتها. فيمكن أن تعزى شعبية نصّ مثل طفولة بدوية لإسحاق ديك إلى حدّ كبير إلى الغرابة الساحرة للحياة البدوية لدى جمهور مفتون بالغرائبي أكثر مما تعزى إلى أيّ كفاءة فنّية»(7)
القارئ الغربي وعقدة الإسلام فوبيا:
ومع تزايد الهوّة بين العالم العربي الإسلامي والغرب بسبب الصراع العربي الإسرائيلي وحصار العراق ثمّ احتلاله انعدمت الثقة بين الكاتب العربي الأنجلوفوني وقارئه الغربي وخاصة مع تزايد ما صار يعرف بالإسلام فوبيا الذي تروّج له وسائل الإعلام الغربية، ووسط هذه الأشواك استطاعت بعض الأسماء العربية أن تصل إلى قارئها الغربي دون أن تسمح له بأن يملي عليها أجندتها الإبداعية، ومن هؤلاء الكاتبة السودانية الأصل ليلى أبو العلا التي ألّفت عام 1999 رواية المترجمة "The Translator وتقوم هذه الرواية على علاقة حب تجمع شابة سودانية مسلمة (سمر) ومثقف اسكتلندي غير مسلم، (رع إيزل) وكان البطلة سمر ورعة وملتزمة إلى درجة أنّها ضحّت بحبها في سبيل الالتزام بدينها، لكن حبيبها اقتنع بالإسلام دينا فاعتنقه، وزال ما يحول بين الحبيبين والزواج، وانتهت الرواية نهاية سعيدة. كانت الكاتبة تريد أن تقنع قارئها الغربي بأن لا إكراه في الدّين (قد تبيّن الغيّ من الرّشد) حتّى لو كان الإكراه يتلبّس لبوس الحبّ الجارف والعاطفة المتّقدة، وحين اقتنع رع بالإسلام دينا اعتنقه وزال تلقائيا العائق الذي كان يحول دون زواجه من سمر. ورغم أنّ ظاهرة دخول الأوربيين غير المسلمين إلى الإسلام ومن ثمّ زواجهم بنساء مسلمات ليست ظاهرة جديدة ولا استثنائية في عصرنا الراهن، إلا أنّ كثيرا من النقاد رأوا خاتمة "المترجمة" مفتعلة وغير واقعية، وزاد من إصرارهم على هذا الموقف ما صرّحت به الكاتبة عمّا اعتراها من حيرة وتردّد أثناء وضعها نهاية الرواية.
توجهت أبو العلا بروايتها إلى القراء الإنجليز الذين لم تعجبهم النهاية، وواجهها النقاد بفكرة أنّ الدين الإسلامي يحول دون هذه العلاقات العاطفية الجميلة ردّت أبو العلا في حواراتها الصحفية حول هذه القضيّة، بقولها: «لقد سئلت مرارا لم يتوجّب على رع أن يرتدّ؟ لم كان الدين عائقا أمام هذا الزواج؟ .. الخ، وإجابة على هذا السؤال كان عليّ أن أعود إلى رواية (جين آير)(8)، فمن منظور إسلامي: لم لم يستطع السيد روشستر الجمع بين برتا وجين؟ فبالطريقة نفسها عليّ كقارئة مسلمة أن أحترم ورطة جين المسيحية، لذا أطلب من القرّاء الغربيين/ المسيحيين أن يحترموا حيرة سمر المسلمة»(9). لا تستسلم الكاتبة لنزوات قرّائها الغربيين الذين تشبّعوا بأحكام مسبقة عن اضطهاد الإسلام للمرأة وإن كان هذا لا يحول دون فكرة أنّ ليلى أبو العلا كتبت روايتها تحت ضغط قارئها الغربي الذي حاولت أن تنتزع من ذهنه ترسّبات مفهومية خاطئة عن الإسلام والمسلمين وفي مستوى أبعد لعلّ الكاتبة تحاول أن تواصل ما بدأته شارلوت برونتي، فأبو العلا من خلال ربطها بين روايتها و"جين آير" توجّه رسالة مشفّرة إلى الثقافة الذكورية لكلتا الحضارتين الغربية والعربية مفادها أنّه آن الأوان للمرأة كي تضع بصمتها على التوجّه الاجتماعي لبيئتها ولذاتها متمرّدة على السلطة الذكورية التي هيمنت طويلا على الساحة الاجتماعية. وإذا كانت العلاقة بين القارئ الغربي والروايات الأنجلوفونية ذات التوجّه الإسلامي متوتّرة بهذا الشكل عام 1999 فما بالك بعد أحداث 11/ 9/ 2001 حيث تزايدت مشاعر الإسلامو فوبيا لدى القرّاء الغربيين الذين أصبحوا أكثر إقبالا على قراءة الأدب العربي الأنجلوفوني علّهم يجدون جوابا عن سؤال "من هم العرب حقّا؟"
وحاولت الروائية السورية مهجة قحف أن تعطي إجابة وافية عن هذا السؤال لقارئها الأمريكي من خلال روايتها الوحيدة "الفتاة ذات الوشاح النارنجي" The Girl in The Tangerine Scarf 2006 التي كتبت في بيئة مشحونة بالإسلام فوبيا، وحاولت أن تخفّف من هذا الشعور انطلاقا من قناعتها بأنّ الناس أعداء ما جهلوا، لذا راحت تبسط معارفها حول الإسلام "الحقيقي" كما تفهمه أمام القارئ الغربي بلهجة واثقة حينا وتبريرية حينا آخر، فإذا كان بعض الكتّاب الأنجلوفونيين يركّزون على الجانب المشرق للحياة الإسلامية، فإنّ مهجة قحف تعرض الوجه الثاني للقضية، وتحاول أن تبرّر ذلك للقارئ الغربي، فمثلا بسبب الأحكام المسبقة عن اضطهاد المرأة في البلاد الإسلامية، هذه الفكرة التي باتت شبه يقينية في أذهان الغربيين، فإنّ قحف لا تنكر الفكرة جملة، لكنّها تردّها إلى جهل الناس بالدّين أو سوء استغلالهم له، وتعطي بدائل عن ذلك، ومما يحضر للذهن فكرة الخلع الذي طالبت به خضرا شامي ـ بطلة الرواية ـ أمام زوجها جمعة، فرغم أنّ المطلب بدا متسرّعا ومقحما على أحداث الرواية ومنطقها العام، إلا أنّنا نحسّ أنّ الروائية توجّه رسالة مشفّرة للقارئ الغربي، تعلن فيها أنّ الإسلام لا يقيّد المرأة، وهاهو يعطيها حقّ فكّ العصمة الزوجيّة إن لم تستطع مواصلة حياتها مع زوجها. حاولت قحف أن تروّج للقيم الإسلامية "الصحيحة" للقارئ الغربي رغبة منها في تقليص الهوّة بين العالم الإسلامي والغربي،
القارئ الغربي .. والحريم «الاجتماعي»:
يقودنا حديثنا عن ليلى أبو العلا ومهجة قحف إلى الحديث عن الرواية العربية الأنجلوفونية النسوية، فقد ثبت إحصائيا أنّ الرواية العربية النسوية المكتوبة بالإنجليزية تحظى بمقروئية أكبر بكثير من نظيرتها الذكورية، ولعلّ مردّ ذلك ما ترسّخ في ذهن القارئ الغربي من تصوّرات وقناعات عن المرأة العربية المسلمة المضطهدة من قبل السلطة البطريركية من جهة والسلطة الدينية {الإسلامية تحديدا} من جهة ثانية، وقد رسّخت الكثير من الروايات النسويّة تلك القناعات من خلال حديثها عن تعدّد الزوجات والطلاق التعسّفي والزواج بالإكراه والزواج المبكّر، والعنف الأسري، والاستيلاء على الميراث ولعلّ الموضوعين الأكثر إثارة واستفزازا للقارئ الغربي هما فرض الحجاب وجرائم الشرف.
يميل القارئ الغربي للروايات التي تصوّر الحجاب قهرا اجتماعيا يلزمه المجتمع والدين على المرأة،، ويلاحظ أن الكتب التي تحوي عناوينها كلمة "veil" خمار، تلقى أفضلية في البيع من الكتب التي تخلو عناوينها من النغمة الشرقية (...) أحد الكتب الحديثة التي تستغل الموضوع المتكرر للنساء العربيات اللواتي لا حول لهن ولا قوة واللواتي يكن في حاجة للهروب، كان كتاب نورما خوري والذي كان عنوانه الحب المفقود (عنوانه في الولايات المتحدة الشرف المفقود) وأعلن عنه بصورة خاطئة على أنه «قصة حقيقية مفزعة" تصور القتل المتعلق بالشرف في الأردن. وقد تم خطفه من قبل ناشر كبير وباع منه 250,000 نسخة في أنحاء العالم قبل أن يتم الكشف عنه على أنه كان مجرد خدعة».(10) تتقاطع تيمة الحجاب مع تيمة الشرف في استدراج انتباه القارئ الغربي نحو النص العربي الأنجلوفوني ولعلّ أسطع مثال في هذا السياق رواية "اسمي سلمى""My Name is Salma" للكاتبة الأردنية فادية فقير التي تتحدّث عن فتاة قرويّة تورّطت في علاقة خارج الإطار انتهت بحملها سفاحا فاضطرّت إلى الهرب من رصاصة أخيها التي ستغسل عارها إلى الأبد. ولجأت إلى بريطانيا كي تبدأ حياة جديدة باسم (سالي آشر) ولكن بعد مضيّ السنوات ورغم زواجها واستقرارها وإنجابها ولدا إلا أنّها لم تستطع أن تتخلّص من ماضيها وإحساسها بالذنب تجاه عائلتها فتعود إلى وطنها حيث تلقى رصاصة العار والموت. ولعلّ هذه النهاية هي التي جعلت الكاتبة تعنون روايتها بـ "اسمي سلمى" تأكيدا على هويّتها العربيّة وعدم تقبّلها لهويّتها الهجينة، ولكن الناشر الأمريكي أصرّ على أن يكسب رهان قارئه الغربي وذلك بإصراره على أن يجعل منها رواية جريمة الشرف بامتياز، فأعطاها عنوانا جديدا "صرخة الحمامة" "The Cry of the Dove"وكتب على غلافها ما يلي: «عصرية مثل عناوين صحف اليوم، خالدة مثل الحبّ والكراهية، هي فتاة مسلمة طالبة لجوء في إنجلترا تهرب من أخ يريد أن يقتلها كي ينقذ شرف العائلة (...) "صرخة الحمامة" هي قصّة امرأة شابّة وقصّة مؤثّرة عن العشق الممنوع، والشرف المغتصب في ثقافة يُستشعَر صداها بعمق في عالمنا اليوم».(11)
الناشر.. القارئ الأوّل:
يقودنا هذا الطرح إلى الحديث عن دور الناشر في توجيه العلاقة الجدلية بين الرواية العربية الأنجلوفونية والقارئ الغربي، فقد أضحى الناشر ذا دور خطير في هذه العلاقة بوصفه القارئ الأوّل للنص، ولتعامله معه وفقا لمعطيات السوق وقوانين العرض والطلب ورغم أنّ هذا الطرح ينطبق على عمليّة تلقّي النص في كلّ مكان إلا أنّه يتّخذ في حالتنا هذه وضعا خاصّا لأنّ الناشر في هذا السياق حلقة واصلة بين طرفين ينتميان إلى ثقافتين متغايرتين بل ومتصادمتين في أغلب الأحوال لذا فعادة ما يظهر نفسه في صورة العارف بكلّ شيء، والأكثر فهما لذوق الجمهور وحاجاته القرائية، وفي ظلّ رغبة الكتّاب العرب الأنجلوفونيين الشديدة في الشهرة والظهور وتحقيق الذات فلا عجب أن يحظى الناشر بسلطة تكاد تكون مطلقة في تحديد ما يجب أن يكتب أو يقال. عموما لا تزال الرواية العربية الأنجلوفونية تبحث عن قارئها الغربي وإن وجدته فلا تزال يربطهما شعرة معاوية يحاول كلّ طرف أن يشدّها لصالحه مراهنا على مدى استعداد الطرف الأخر لتقديم التنازلات والنزول من عليائه....
قسم اللغة العربية وآدابها - المركز الجامعي سوق أهراس
هوامش:
(1) Oryang (Wen-Chin) : Literature, Interiority and violence; New Voices in Arab Diaspora, The Middle East in London, Oct 2009, p03.
(2)Boullata( Issa) et al : Tradition , Modernity and Postmodernity in Arabic Literature ; Essays in honor of Issa J Boullata, ed Kamel Abdel- Malek & Wael Hallak, by Kominklijka Brill, NV, Leiden, The Nethrlands,2000, p 321.
(3) Rega (Joseph) Layton (Rebecca) Arab- American and Muslim Writers, Chelsea House, New York , 2010p19
(4)El- Maleh (Leila) : Arab Voices in Diaspora; Critical Perspectives on Anglophone Arab literature, ed; Radope Bv, Amsterdam, New York, 2009,p05
(5) El- Maleh (Leila) : Arab Voices in Diaspora,p16
(6) El- Maleh (Leila) : Arab Voices in Diaspora,p12
(7) El- Maleh (Leila) : Arab Voices in Diaspora,p12
(8) (جين آير) رواية مشهورة للكاتبة البريطانية شارلوت برونتي(1816-1855)، بطلتها الطفلة جاين التي تنشأ يتيمة، وتسيء خالتها وأطفالها معاملتها، فتأخذ إلى الميتم حيث تعاني الحرمان، وحين تكبر تشتغل معلّمة خاصّة لابنة السيد روشستر الذي يقع في غرامها لكنّها لا تستطيع الزواج منه لأنّ تربيتها المسيحية المحافظة تمنعها من الاقتران برجل متزوّج، لكن حين تموت زوجته يزول العائق الديني، ويلتمّ شمل العاشقين..
(9) Smyth (Brendan): To love the Orientalist, Leila Aboulela, The Translator, The Journal of Men, Masculinity and Spirituality, Volume 1 Nr2, June 2007,p177
(10) بشير الشاوش : ندرة الكتب المترجمة من العربية www.atinainternatonal.org
(11) El- Maleh (Leila) : Arab Voices in Diaspora,p15