رغم أن المذابح أتت على البشر والحيوان والحجر في بلاد الألم، ثار الشباب المصري وانتفض، إلا أن الأيام برهنت أن الثورة سرقت من قبل شركاء العهد البائد، وعليه لابد للثوار من استئناف الفعل الثوري والخروج إلى الميدان والإعلان عن قدرتهم على استعادة الحق ولو بالدماء النازفة.

أمسيات القتل على (الهوا)

عيد اسطفانوس

لا أعرف لماذا انهمرت على الذاكرة ليلتها كل هذه الزخات من تلك المشاهد القديمة لمذبحة الخنازير الشهيرة في المقطم، ومعها تداعت على الأسماع صيحات التكبير والتهليل التي تعالت هادرة مع كل طعنة في (قلب كل خنزير)، وللأمانة فإنه يحق للمصريين الزهو بهذا الإنجاز الرائع كدليل على قدرتهم على الفعل بعد عقم طال لنصف قرن من الزمان وبالتحديد منذ حرب أكتوبر العظيمة فقد انشقت الأرض عن طوابير طويلة من الشاحنات واللوادر أتت من كل حدب وصوب، واجتمع فجأة على قلب رجل واحد مئات من الجزارين (المتطوعين) بسكاكينهم المسنونة، ولم يعرف الناس ـ وقتها ـ من نظم وأدار ومول هذه العملية بهذه الحرفية البالغة وهذا الاقتدار، مع أنه باستثناء السد العالي وحرب اكتوبر فقد غرق المصريون في نصف شبر ماء، وكم من كوارث ومحن تخبط فيها الجميع في البر والبحر والجو، بدءاً من احتراق القطارات بركابها وهى تسير بسرعتها على القضبان وحتى غرق العبارات واشتعالها بركابها وسط البحار مرورا بسقوط الطائرات وانهيار البنايات كل يوم ناهيك عن الجثث المختلطة بهياكل السيارات المحترقة على الطرق كل ثانية والسيول الجارفة التي تمحو قرى بأكملها.

وللوهلة الاولى لا يبدو أن هناك رابطاً بين هذا الحدث الذي جرى منذ سنوات وبثته الميديا حياً (على الهوا) وهى الأمسية التي أبيدت فيه حيوانات بدعاوى ثبت كذبها بالدليل القاطع، وبين الأمسية التي نحن بصدد الحديث عنها وبثتها الميديا أيضاً (على الهوا) وهى التي مر عليها اليوم أكثر من أربعين يوماً، تلك الواقعة التي أبيد فيها بشر بدعاوى يصعب وصفها بالكذب فالكلمة تبدو عقيمة أمام حقيقة كالشمس وهى أن بشراً يطلبون حقوقهم بطرق سلمية تم إطلاق المدرعات عليهم كالضواري الكاسرة لتسحق عظامهم مع لحمهم مع دمهم. لكن يبدو أن صيحات التكبير والتهليل التي أطلقها وقتها المشجعون احتفالا (بتطهير البلاد) أظن أن هذه الصيحات هي التي كانت العامل المشترك بين الأمسيتين، أي أمسية قتل البشر وأمسية قتل الخنازير، ويبدو أن هذه الصيحات هي التي فجرت مخزون الأسى الكامن في الذاكرة، فالصيحات والتكبيرات في الحادث الأول كانت تعبيراً عن الفرح لإبادة حيوانات نجسة (طبقا لثقافة المهللين والمكبرين) لكن ترى ما هو السبب في إطلاق هذه الهتافات الاحتفالية مع مشاهد دماء وأشلاء وجماجم لبشر انفجرت وانتثر محتواها على الارصفة ترى ما هو المشترك الذي أدخل السرور والحبور إلى القلوب في الأمسيتين أمسية قتل البشر(على الهوا) وأمسية قتل الخنازير.

وأرجو من القارئ أن يجد لي ولو قدرا يسيرا من العذر عن هذا الانفعال الذي سببته تلك المشاهد الوحشية في تلك (الأمسية) الدامية التي اختلط فيها الهواء بجزيئات الدماء التي تناثرت مع أشلاء البشر على كورنيش ماسبيرو، كما سببه أيضاً الهواء المحمل بجزيئات الحقد والكراهية التي يبثها العنصريون الحكوميون من ميديا الدولة ويبثها عنصريو القطاع الخاص من الميديا النفطية لتحريض عرق على عرق بالإضافة لغابات اللحى ومكبرات الصوت التي غطت كل أرجاء المحروسة تبث سموم الكراهية والتحريض على القتل على مدار الساعة، تبث هواءاً مشبعا بموجات الكذب والتدليس والنفاق والتقية الخبيثة، ففي هذه الليلة السوداء ـ ونحن هنا لانقصد ليلة قتل الخنازير على (الهوا) فوق جبل المقطم ـ نحن نقصد ليلة قتل البشر (على الهوا أيضاً) على ضفاف النيل حيث تعرض المصريين لأبشع وأحط طريقة يمكن بها تحويل أمة بأكملها إلى عصابة من القتلة حيث كانت تلك الجرعة الاخيرة المركزة تركيزاً شديداً هي حلقة من برنامج تحريض مدروس وممنهج بعناية فائقة وممول بسخاء شديد من جهات مشبوهة لمحو خصال حميدة كمنت في نفوس المصريين منذ فجر التاريخ، لأنهم كسكان ضفة نهر لديهم موروث من احترام الحياه كزراع يرقبون ويحتفون بمجرد برعم يبدأ في تنسم الحياه على غصن في نبتة أرض حيث يدركون أن الدماء لا تصنع حضارة وأن العنف لا يولد غير الخراب، إن هذا الكم الهائل من سموم التحريض الذي تم حقنه في شرايين المصريين طيلة هذه العقود لو قدر لجزء ضئيل منه أن يسرى في عقولهم أو قلوبهم لكانت قد جرت انهار دماء في شوارع المحروسة، وكما تم معرفة حجم كذبة الخنازير الهائل، فقد تم ايضاً معرفة منفذيها وهم الآن في غياهب سجون تصحبهم موجات من التشفي والشماتة والإهانة التي يستحقونها وأكثر منها بكثير، وكما لطخ وجه العاصمة بعد إبادة الحيوانات التي كانت تخلصها من مخلفاتها الصلبة لطخ وجه الوطن كله بعد دهس البشر الذين كانوا ينادون بالتخلص من مخلفات الفكر والثقافة والتمييز والعنصرية، وإن كان قد أمكن إزالة المخلفات من شوارع العاصمة فلا يمكن إزالة مخلفات هذه المذبحة البشرية التي أصبحت وشماً بارزاً ملوناً لن يزول إلا عندما يلقى منفذوها مصير أقرانهم منفذي مذبحة الخنازير، وما تلاها من مذابح بشرية، مذابح الاقباط في طول البلاد وعرضها ومذابح كل المصريين في ثورة يناير في التحرير، وفي كل الجمهورية وبقية مذابح البشر الابرياء التي أصبحت دماؤهم مستباحة لعصابات حكام تحالفوا مع الشيطان وعصابته، اللذين باعوا مصر وأمنها واستقرارها وسلموها للوهابيين ليعيثوا فيها قتلاً وتدميراً وتفجيراً وحقداً وكراهية وفرزاً وتمييزاً وتهميشاً إلى آخر مفردات القاموس العنصري الذي وضعت مفرداته في الربع الخراب خصيصاً لإسقاط أم الدنيا.

وهي قد سقطت بالفعل سقطت كشاه جريحة وسط ذئاب لئيمة. ومع تداعى الذكريات المؤلمة لاحتفاليات القتل المتتالية وبينما نهم بختام هذا الطرح تفوح الآن رائحة دماء جديدة أي أمسية قتل جديدة (على الهوا)، أي بوادر احتفالية جديدة بدأت فعالياتها عندما هب المصريون مرة أخرى لاستعادة ثورة سرقها المدلسون، احتفالية قتل على الهواء ويعود المصريون مصلوبون أمام الشاشات مجدداً لمتابعة مشاهد الموت ومشاهد القتل بدم بارد لشباب غاضب ثائر على أوضاع مزرية كانوا يظنون أنها قد ذهبت مع نظام بائد، لكنهم استيقظوا على حقيقة مرة وهى أنه يجب أن يدفعوا ضريبة جديدة من الدماء ليستعيدوا الثورة التي سرقها شركاء النظام السابق وحاولوا طمس وجه مصر الحضاري المشرق وجرها للخلف قرون طويلة، تنفيذاً لرغبات رعاتهم ومموليهم الذين اهتزت عروشهم ورصدوا المليارات لإنقاذ عملائهم وتسويف محاكمتهم حتى تفشل الثورة وتموت تطلعات التغيير التي قادها التونسيون والمصريون، نعم رصدوا مليارات النفط كي تموت الثورة إلى الأبد. لكن الشباب الشرفاء خرجوا مجدداً إلى الميدان ليعلنوا لسراق الثورة أنهم قادرون على استعادتها، وهاهم يستعيدونها لكن بثمن جديد دماء شهداء جدد سبق ودفعوه لكن هواة اللغي في الدماء استهوتهم أمسيات قتل البشر وها هي أمسية قتل جديدة (على الهوا) وهذه المرة ليست لقتل الاقباط فقط ولكن قتل كل المصريين، المصريين الذين تجرأوا ورفعوا رؤوسهم في يناير وطالبوا بحرية وعدالة ومساواه لكن قوى الشر والظلام وأدت حلمهم ودفنته في قبور مظلمة حفرتها أيادي سبق وباعت هذا الوطن لحساب أنظمة ارتعدت فرائصها خشية أن ينجح المصريون في إطلاق شرارة الحرية في هذه المنطقة المنكوبة من العالم، وطيلة شهور عشرة والمحاولات مستمرة بإصرار لتحقيق هذا الهدف السامي وهو دفن الثورة ومعها الثوار إن أمكن، واليوم في نوفمبر خرج المصريون لكن ليس كما خرجوا في يناير فهم قد وعوا الدرس جيدا وفي هذه المرة لن يعودوا إلا بعد تطهير البلاد من رؤوس النظام ومعاونيه هؤلاء الذين اختطفوا الثورة، وتطهير البلاد من هؤلاء الذين قسموا المصريين بأديانهم وأعراقهم ومذاهبهم وتوجهاتهم وهو المناخ الفاسد الذي يخنق أي ثورة ويؤصل لاستمرار مسلسل أمسيات القتل على (الهوا) وأمسيات القتل على (الهوى).