في هذه القراءة التي يخص بها الكلمة، الناقد المغربي، نتعرف على أحد الوجوه الروائية الحديثة اليوم في المشهد الروائي الجزائري من خلال نصه المحكوم بوعي حفري ساخر وهو ما يؤشر على دور التخييل الروائي في كتابة التواريخ المنسية، ففي مقابل سرد السلطة الذي يبسط تاريخا أحاديا ل(الثورة)، بوصفه التاريخ الحقيقي، تنتج الرواية سردا انبثاقيا انتهاكيا، يزرع التشكك والتفكك في خطابها..

الخيال الانتهاكي في رواية «دمية النار»

محمد بوعزة

مثل خرائطي جديد بمفهوم "جيل دولوز"  يعود الروائي" بشير مفتي" في رواية "دمية النار"(منشورات الاختلاف2010) إلى الماضي ، ليحفر بمطرقة التخييل في "الطبقات الرسوبية" لمرحلة التحرر من الاستعمار والشروع في بناء الدولة الوطنية، كاشفا عن مناطقها المظلمة،  مما يضع الصورة الرومانسية التي رسمها الجيل الأول  من الروائيين لهذه المرحلة على أنها فترة اليوتوبيا الاشتراكية موضع السخرية والهدم.

بهذا الوعي الحفري الساخر يؤكد الروائي " بشير مفتي"، دور التخييل الروائي في كتابة التواريخ المنسية، وتشخيص الأصوات المقموعة. ففي مقابل سرد السلطة الذي يبسط تاريخا أحاديا للحدث (الثورة)، بوصفه التاريخ الحقيقي، تاريخ الأمة، تنتج الرواية سردا انبثاقيا انتهاكيا، يزرع التشكك والتفكك في خطاب السلطة، حيث تنبثق الأصوات المقموعة من هاوية نسيانها، بما يغير شروط الخطاب التي صاغت سلطة الماضي. تتأكد هذه الوظيفة النقدية  بمجاوزة الروائي الرؤية الرومانسية وتبني منظور انجلاء الأوهام، حيث يكشف الجانب المظلم ،المسكوت عنه، الذي حول  الثورة إلى سلطة كليانية تستحوذ على كل مفاصل المجتمع ، وتحول الفرد إلى مسخ، مادة بدون روح، مجردة من مثلها العليا.

الكاوس/ ميتافيزيقا السرد
لا ينبغي أن يفهم من توضيحنا للبنية الانتهاكية لخطاب  الرواية على أنها رواية سياسية. فعلى الرغم من أن ثيمتها سياسية  (تشريح السلطة) إلى أن بؤرتها وجودية ميتافيزيقية مفتوحة على "الاستطيقا السلبية"   بمفهوم "أدورنو"، استطيقا العدم والنفي الذاتي. فالنص يكتب في عنف زمنية متشظية لذات متلاشية (البطل رضا الشاوش). هذه الزمنية تتضمن تفكيك بنية الخطاب بما هو تصوير خطي للقصة و وتمثيل شفاف للأطروحي المباشر، لأن موقع التلفظ ينشطر  في زمنية الكاوس (فقدان البصيرة)، حيث تتدحرج الذات خارج المركز نحو المجهول، منشطرة بين ما كانت عليه (الماضي) و ماهي عليه (الحاضر) و ما ترغب أن تكون عليه، بدون نقطة ارتكاز تسند محاولة استعادة ذاتيتها المفقودة (هل كنت أقاوم ذلك الفقدان...في تلك الدوامة كان كل شيء فقد وجهه، مثلما فقدت أنا روحي، صار العماء كليا، والهياج اللامرئي للحيوان المفترس كليا هو الآخر، صرت أنا ولست أنا، صار الخيط الرابط بين الأول والثاني معدوما، ولم يعد وجهي يحيل على وجهي..) (ص119).

 في انكسار نقطة الارتكاز، التي تتمثل في فقدان البطل لكينونته(قيمه ومثله العليا)، يتشظى الحكي في شروخ هذه التجاذبات الأنطولوجية،  ويغرق  العالم الروائي في العماء الكلي ب "سقوط المثل العليا" .  ولذلك يتم  على صعيد المتخيل تأكيد هذه الرؤية الميتافيزيقية بعملية  ترميز للصراع بين الذات (رضا الشاوش) والمؤسسة (السلطة) باستعارات رمزية وجودية ترتقي به إلى صراع ميتافيزيقي بين الخير والشر، بين النور والظلام، بين النظام والكاوس، بحيث تحل الاستعارة الشيطانية محل بشاعة الواقع. سلطة في عنفها وغرابتها تفوق خيال الروائي، يتم الانفلات من واقعيتها بعنف المتخيل الذي يحول الواقع إلى شظايا وكوابيس مدمرة للذات والرؤية، بحيث لا يتبقى من الواقع  سوى آثار علامات منقوشة في صيرورة المحو. سلطة من فرط تسلطها وانتشارها لا تحضر في النص سوى في صورة أشباح كافكا، موغلة في سديميتها وفي أسطوريتها. عبارة عن  جهاز ينتشر ذاتيا ويتوسع وفق قانون الانتظام الذاتي ليهيمن على العالم الروائي، (أتقرب كل مرة خطوة أو خطوتين من تلك الجماعة، أو الجهاز، أو المنظمة، أو العصابة، لكنها عصابة تحكم، تسير كل شيء بيدها، ولها آليات وقوانين، ومظاهر خادعة، كان الأمر يبدو لي مخيفا، مروعا وأحيانا سورياليا)  .

يبدو وكأن الأمر يتعلق بجهاز آلي  تديره قوى خفية ، غير مرئية ( كانت الفكرة تأسيس جماعة في الظل تحمي البلاد وتسيرها من خلف ستار) (ص127)  لذلك يجد البطل "رضا الشاوش" نفسه في فخ شبيه بوضع كل من شخصية "جوزيف ك" في رواية "المحاكمة" وشخصية المساح في رواية "القصر" لكافكا، يواجه سلطة لها طابع متاهة بلا حدود، ولا شكل،  ولا تسمية، لا يستطيع الخلاص منها .من فرط تجريديتها" تحضر" في صورة كابوس (من الآن يمكن أن تعتبر نفسك واحدا من الجهاز...كنت الأحدث في الجهاز الذي لم يكن له حتى تسمية يمكن أن تؤكد وجوده، وللحظات ظننت أنني أتخيل فقط، وأن هذا الذي أعيشه ما هو إلا كابوس سأستيقظ منه في أي لحظة، فكيف يكون هذا ممكنا.) (ص133)

الصعود/ ذروة السقوط
لتأكيد بشاعة عالم السلطة في سيرورته التدميرية للفرد،  تختار الرواية على مستوى أشكال التخييل، تشخيص العالم في شكل الهجاء أو الرومانس المضاد، بمعنى أنها تقدم العالم الروائي (الخيالي) في صورة أسوأ من العالم الحقيقي، حيث يؤكد عالم الهجاء القبح والفوضى. فالرواية تعبر عن مأزق عالم بشع، محكوم بحتمية السلطة، ينتقل من سيء إلى أسوأ (الأمور تنتقل من سيء  لأسوأ، لهذا أطلب منك العناية بنفسك) (ص87) . ويعاش فيه الزمن الرديء على أنه نوع من الكاوس .

 ما تركز عليه الرواية في بناء نموذجها الإنساني هو قانون التحول باعتباره مكونا تشييديا وحافزا للحكي.  في مسار التكوين،يخضع بطل الرواية "رضا الشاوش" إلى تحولات غير متوقعة، ضمن سياقات ذاتية واجتماعية وتاريخية معقدة، يتداخل فيها الخصوصي بالعام. يأخذ التحول في المتخيل صورة المسخ بالمفهوم الكافكاوي، حيث يتحول البطل   من شخص مثالي رومانسي، يحب الأدب والكتابة، وتحث ضغط عوامل متعددة،  إلى شخص متوحش قاتل مأجور.و يتم هذا التحول الكارثي على مراحل، في كل مرحلة   يفقد البطل جزءا من إنسانيته، ويقترب من هاوية السقوط الكلي.

 يبدأ مساره مراهقا متطلعا للمعرفة، شغوفا بالتعلم، يغرم بواسطة معلمته بحب الأدب وقراءة القصص. غير أن هذا المسار الطبيعي يتعرض لارتجاجات عنيفة مع فشله في أول تجربة حب. وتتضاعف هذه الأزمة العاطفية، بسبب عدم قدرته الخلاص من عقدة أبيه مدير السجن، الذي تلطخت يداه بتعذيب المعتقلين المعارضين للنظام.

هكذا يتشكل مسار تجربته  كحلقة مغلقة من الإخفاقات، إخفاق في الحب، فشل في استكمال الدراسة ، عقدة الأب القهرية، اغتصابه للمرأة التي أحبها. تكتمل هذه الحلقة الجهنمية من السقوط الشيطاني بانضمامه إلى الجهاز الأمني الذي يتحكم في دواليب الحكم بالبلاد ، حيث يتحول إلى قاتل مأجور ينفد عمليات قذرة لفائدة النظام.

و على الرغم مما يحققه البطل من ارتقاء على صعيد المال والنفوذ في الجهاز الأمني، بارتقائه أعلى المراتب، إلا أنه يخسر كل شيء في النهاية. فالثمن الذي يدفعه مقابل هذا الصعود الفجائي هو تنازله عن مبادئه وقيمه (وبينما كنت أتقدم في سلم الترقي التدريجي نحو الصعود لقمة فقدان الروح، كان سعيد عزوز يتعثر بعض الشيء) (ص121)، وتكون النهاية المأساوية حين يقتل على يد ابنه غير الشرعي الذي انضم إلى جماعة متطرفة مقاتلة.

 المفارقة إذن، أن كل ارتقاء في مراتب الجهاز السلطوي  يواكبه سقوط في الروح، وتشرد شيطاني في المجهول. وبالتالي يمثل  صعوده صورة ساخرة للسقوط، أو ما يسميه ملتون "السمو الرديء" (عجيب أمر الحياة ..لقد وصلت للذروة فإذا بها تظهر لي كهاوية مفتوحة، سرداب مظلم، قلعة محصنة ولكن فارغة...) (ص152).

إن "الصعود الهزليّ" ساخر بسبب القيم المقلوبة للعالم المنحط. (يختلط الزمن فلا يعود يمشي على رجليه ولكن على رأسه).  الثورة تغتال أبناءها الأوفياء لمبادئها، وتكافئ الوصوليين والانتهازيين، والاستفادة من الخيرات الاجتماعية مرهونة بمدى الولاء للنظام ، أي لجماعة السلطة المتحكمة في موارد النفوذ والمال والقوة.

 وإذا كان محكي البطل في بنيته العميقة يحاكي على نحو ساخر نموذج البحث، فإن مغامرته لا تنتهي بعودة ظافرة. على الرغم مما يحققه البطل من نفوذ وسلطة داخل الجهاز، فإنه لا ينعم بالاستقرار، بل يسقط في دوامة التفسخ والانحلال . من المنظور السيميائي الذي يحدد أنماط الوجود، لا  تتمكن الذات (البطل)  في نهاية برنامجها السردي من نقش وجودها كذات محققة، حيث أن ارتقاءها في الجهاز لا ينقلها إلى حالة الاتصال مع موضوع القيمة، وكل من ينتج عن هذا الارتقاء (أي نمط الوجود كذات محينة) هو  التحول/ المسخ. لا يتعلق الأمر إذن، بقصة ظافرة. إذ تشكل نهاية الصعود ذروة السقوط.

في النهاية تنتصر منظومة الفساد (السلطة)، ويفقد قيمه، يتحول إلى جسد بدون روح، إلى  مادة فاسدة لا تصلح سوى للقتل. وإمعانا في السخرية من مصير البطل، يستعير المتخيل وعلى غرار نموذج كافكا   صورة "دراكولا" لوصف هذا التحول ، حيوان مفترس يعيش على امتصاص دماء الآخرين.

 الملاحظ أن التحول/ المسخ يتم في المرحلة التي ينضم فيها البطل إلى الجهاز. ولهذا التموضع دلالته من حيث إحالته على النسق الأكسيولوجي للنص.إنه يحدد البعد الإيديولوجي لمنظومة الفساد، بمعنى  أن هذا التحول تقوم به المؤسسة الإيديولوجية للسلطة، وذلك بخلاف التحول مثلا في رواية "أحلام بقرة" للروائي المغربي محمد الهرادي، الذي تقوم به المؤسسة الطبية، حيث يخضع البطل لتحول من الإنساني(بشر) إلى الحيواني (بقرة). وتستدعي ثيمة التحول علاقات تناصية وشيجة بين النص ونصوص معاصرة في مقدمتها رواية المسخ لكافكا، والنص نفسه في لعبته المرآوية  يكشف عن انتسابه لهذه السلالة الكافكاوية (وأنا في العاشرة من عمري عندما أهدتني معلمة العربية قصة "المسخ" ومن يومها لا أدري ماذا حدث في رأسي، سكنتني ذبابة الأدب، كما جنون القصص والخيالات..)(29)

وإذا كان سرفانتس  بحسب إدوارد سعيد (النقد والمنفى) يحقق لبطله نوعا من الخلاص  الجزئي، لأن دون كيخوت يتدبر أمر بقائه بعيدا عن التلوث في نقاء قصده وقادرا على نقل شيء من إشعاع شعره الظافر، على الرغم مما فيه من مثالية مجردة وسخرية من النفس، إلى خصمه المنتصر، فإن البطل بتخليه عن مثله العليا، وانضمامه للجهاز  يسقط في التلوث، ويصبح عرضة للكاوس  (العماء) .

 ما تشخصه الرواية  إذن، هو سرد دائري بدون خلاص، لأنها لا تقدم أية حلول لإشكال البطل. يعيش "رضا الشاوش"  حياته هاربا من صورة أبيه السجان المتسلط، ويخوض تجربة الخلاص من عقدة الأب ،لكن مغامرته تنتهي  بالسقوط في دائرة أبيه، يتحول إلى شخص مثله يقتل الناس  لفائدة النظام  (لقد قررت أيامها عدم الحديث عن أبي، لقد خرجت من تلك القوقعة نهائيا، ولم يعد لي أية علاقة بماضي ذلك، كنت هاربا منه، مع أنني كلما هربت كلما عدت، حتى أيقنت بأنني مرتبط به بخيط سحري، ومندمج حتى العظم  بداخل تلابيبه، لقد فتحت الباب أخيرا لنفسي كي أكون مثله، شخصا ينفذ الأوامر ويعيش بلا ضمير. صرت أبي بشكل لاواع) (ص122)

إذا كانت هندسة الدائرة هي ما يحكم مسار البطل، بما يؤشر على  نوع من الحتمية في المصير، وعلى زمنية مغلقة، لا تتيح أي مجال للتغيير، فإن المتخيل كما سنرى، يشخص على المحور الانشطاري نماذج انتهاكية ، استطاعت أن تخرق دائرة السلطة، وتخلق إشراقة أمل للتحرر والتغيير، وبالتالي تقدم بدائل جديدة، حتى وإن كانت تتحرك على مستوى الهامش، فإنها تحدث اختراقات عميقة في نسق السلطة، وتحضر كعلامة إنسانية مشرقة وسط عالم المسخ والظلام الذي يلف المتخيل الروائي ( كان تفانيه (عدنان) وإخلاصه لموقفه منذ ترك البلاد مختارا المنفى والحرية على العيش حيث يستلذ الحياة في بلده أمرا مثيرا للإعجاب. مسار آخر غير مساري، كما لو أن الحياة تريد دائما أن تقدم للعالم نموذجين واحد يغرق في عتمتها، وآخر يشع بنورها، ولقد كان يبدو لي من بعيد كنقطة ضوء لن أصيرها..) (ص153)

 انبثاق هذه الديناميات البديلة من داخل النظام، رغم الانتشار الميتافيزيقي للسلطة على مفاصل المجتمع،  يؤكد أنه ما من حتمية مطلقة قادرة على بسط نفوذها على مجموع الكلية ،"  فإن ما هو جدير بالتكرار القول إنه، مهما بلغت سيطرة عقائدية ما أو نظام اجتماعي ما من الاكتمال الظاهري، فستكون ثمة دائما أجزاء من التجربة الاجتماعية لا يغطيانها ويسيطران عليها. ومن هذه الأجزاء تنبع حالات كثيرة جدا معارضة واعية للذات وجدلية معا. وليس هذا على القدر من التعقيد الذي يبدو عليه. فمقاومة بنية سائدة تنبع من وعي متصور، بل ربما كان أيضا ناشطا، من قبل أفراد وجماعات خارج تلك البنية وداخلها بأن بعض سياساتها، مثلا خاطئة.ّ" (إدوارد سعيد ،الثقافة والإمبريالية ص298)