عام فرانز فانون .. وفكر القطيعة

باريس ـ من الطيب ولد العروسي:

تميز فرانس فانون الكاتب والمناضل والطبيب المختص في الأمراض العقلية بمواقفه الشجاعة وكتاباته المرجعية والمهمة في فضح الوجود المستعمر سواء في أفريقيا أو في العالم، إذ تعتبر هذه الكتابات جزءا من حياته وممارسته اليومية، مما أفرده عن الكثير من المفكرين والكتاب الذين عايشهم أو قرأ لهم. بمناسبة إعلان عام 2011- 2012 سنة فرانس فانون، صدرت مجموعة من الأعمال والدراسات حوله، ومن ضمنها دراسة الباحث الأكاديمي الجزائري الدكتور عبد القادر بن أعراب بعنوان ' فرانس فانون رجل القطيعة' 'Frantz Fanon, lhomme de rupture'. عن منشورات 'ألفا بار' Alpha Barre، بباريس ضمن سلسلة 'النمل الأحمر في نومنا' ؛ يقع هذا الكتاب في 90 صفحة من الحجم الكبير، يحلل فيه الكاتب المسيرة الاستثنائية للمناضل فانون، والتحاقه بثورة التحرير الجزائرية بمثابة أخ للجزائريين، والتي أصبح أحد منظريها، كما عرف بمساندته لكل القضايا العادلة التي كانت تناضل من أجل الانعتاق من الاستعمار.
أكد المؤلف على أهمية هذا المناضل القادم من المستعمرات الفرنسية لما وراء البحار، والذي أعلن منذ صغره تمرده ضد المستعمر أينما كان، كما عرف فانون بموهبة كبيرة في الكتابة والدراسة التحليلية فيما بعد، بحيث أصبحت مؤلفاته مرجعا حقيقيا لكل دارس ومتمعّن في أسباب وخلفيات الاستعمار، خاصة وأنه قرأ وحلل بعض المصادر الأوربية التي تطرقت إلى تزكية العمليات الاستعمارية غير الانسانية، وعلى رأسها علاقة المُستعمِر بالمستعمَر أو السيد بالمسود، حيث ركز على تشريح الثنائية أعمال الخير والشر التي كان يتباهى بها المستعمر، فكل ما هو جيد ويدخل في مجال 'الخير' تنسب إلى أعماله، و كل أعمال الشر هي من إنتاج العالم الثالث.
وركز الباحث في كتابه على ثلاثة دوافع أساسية أدت بفانون لأن يكون رجل قطيعة من خلال أعماله وهي :
-
أولاً: القطيعة مع تاريخ فرنسا الاستعماري لاسيما وأنها كانت تدعي بأنها موكلة بمهمة 'دينية وحضارية' أي مهمة 'أخوية'، والتي هي في الواقع استعمارية بحتة. وبالتالي تبيين موقفه الواضح والصريح من فرنسا كبلد استعماري وآكل لخيرات الشعوب.
-
ثانيا: قطيعته مع المجتمع الذي ولد وترعرع فيه، أي المجتمع 'المارتنيكي' الذي استلبت منه هويته حتى وصل إلى الإنكار الذاتي فذاب في القالب الفرنسي السلبي. أي أن فانون قطع مع السياسة المحلية الراضية بالاستعمار التي كانت سائدة آنذاك والتي طبل لها العملاء.
-
ثالثا: الدافع الأهم هو عمله الكبير المتمثل في قراءته للتاريخ، والتي رأى من خلالها بأن المستعمر ما هو إلا آفة ومصيبة تحل معه أينما يحل، لأنه يرضخ كل آليات الحياة إلى نظرته الغربية والاستغرابية. وألهمت هذه النظرة الجديدة المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد فأخذ بها وطورها فيما بعد في أبحاثه عن الإستشراق. وإن كتابات فانون تميزت بكونها غير مطابقة للفكر 'الأرثوذوكسي' المتداول آنذاك، ولا تدخل ضمن التوجّه السائد في حينه.
لذا فإن مؤلفاته أصبحت مرجعا مهما بحكم أنها تنادي بالخروج من الواقع المفروض على الشعوب المستعمرة. ويعد كتابه 'معذبو الأرض' من بين أهم الكتب التاريخية الجديدة التي وجدت صدى كبيرا بشكل خاص لدى المفكرين والكتاب في الدول الناطقة باللغة الانجليزية ، حيث كان فانون ينتقد وبشدة الإمبراطوريات القديمة ورعاياها الموالين لها، فكان يرى بأن العنف الذي وظفه وقام به الاستعمار من أجل إخضاع الفرد المستعمَر بالإرهاب كان مبدأ للسلطة. ويضاف إلى هذا عدم جدوى التأسيس لحوار بناء بين المستعمَر والمستعمِر، وعليه يجب إنهاء الاستعمار والقضاء عليه لأن من جاء بالقوة لا يخرج إلا بالقوة، وذلك لطبيعة المستعمِر الاستبدادية، فالقطيعة معه ومن تصوراته ومن كل التابعين له، ونهايته لا تأتي بطريقة سحرية، بل تتطلب في الواقع عملية ثورية حتمية لا مفر منها، وهي تعتبر خطوة ضرورية لاسترجاع (بالقوة) الهوية الوطنية والأرض.
يقوم مشروع فرانس فانون على التنديد المتواصل بالفكر الاستعماري، وتعرية نزعته العنصرية القائمة على التمييز العرقي، والتي تطرق إليها بشكل مفصل في كتابه 'بشرة سوداء وأقنعة بيضاء'، حيث بين الأضرار النفسية المترتبة عنها نتيجة ممارسة التمييز العرقي على الإنسان المضطهد والمستعمَر، خاصة وأن معايشته لمرضى مستشفى مدينة البليدة الذي كان يعمل به، سواء من الجزائريين أو من الفرنسيين، قد زادت في قناعته ورسخت أفكاره التي شرح الكثير منها في مؤلفه 'معذبو الأرض'، محللا فيه البنى الاجتماعية والاقتصادية عبر المنظور الماركسي، وناقدا بوضوح وبجرأة لما سمي بالنخب الوطنية الحاكمة، والتي راحت تمارس نفس الآلية التي تركها أو جاء بها المستعمِر دون أي اهتمام بإعادة بناء المجتمع الذي تم تقويضه بسبب الاستعمار؛ فهذه النخبة كما يصورها فانون ترتدي البشرة السوداء كأقنعة للقوى الإمبريالية البيضاء، أي أن فانون طالب بصراحة واضحة باستعمال العنف الثوري كردّ على العنف الاستعماري لإخراج هذا المستعمِر وأعوانه. كما رأى أن البناء سيكون صعبا لاحقا نتيجة التركة التي خلفها وراءه في المجال الثقافي والسياسي.
لم يكن فانون رجل محترفا السياسة أو رجل حرب، بل كان إنسانا مسالما، غير أن الأوضاع المتردية وغير العادلة وإحساساته الإنسانية هي التي جعلته يعري أهم الآليات والأسباب التي أدت بالكثير من الشعوب إلى فقدان كرامتها. إنها مواقف جديرة بالتأمل والدراسة، وهذا ما قام به الدكتور عبد القادر بن أعراب حيث أسهم بعمله هذا في بحث أسباب الانقطاع الفكري والسياسي والثقافي والتاريخي كما نادى به فانون، والذي ساهم في ثورة التحرير الجزائرية بعد ما انضم إليها في بداية عام 1956، وكان بمثابة سفير لهذه الثورة، حيث مَثَّلَها في عدة لقاءات دولية، خاصة بالدول الافريقية وعلى رأسها غانا أثناء المؤتمر الأفريقي عام 1958. هذا المؤتمر الذي بدأ منه ظهور ما يسمى بتعبير العالم الثالث، حيث قدمت الجزائر آنذاك كنموذج للتحرير من الاستعمار.
لقد كان فانون شاهدا عليها كحركة تحررية وطنية، غير أن الظروف لم تسمح له برؤية الاستقلال الذي كان أحد المساهمين في بنائه، إذ أصابته المنية وهو شاب لا يتجاوز 36 ربيعا فتوفي بمرض عضال في واشنطن، ثم دفن بمقبرة الشهداء في تونس، ونقلت رفاته إلى الجزائر بعد الاستقلال حسب وصيته.
وترك فانون مجموعة من الأعمال الفكرية والشهادات التي تتميز بالجرأة والشجاعة في الطرح كمثقف مسؤول وكإنسان حر، حيث استطاع بأعماله أن ينفذ إلى أعماق الكثير من الشرائح الاجتماعية والسياسية والفكرية. وهذا دون أن ننسى علاقته الغامضة مع جان بول سارتر فيما يخص تقديم هذا الأخير لكتاب 'معذبو الأرض' الذي كان عبارة عن مفصل بينه وبين الكثير من المثقفين الفرنسيين الذين عانى الأمرين من الكثير منهم ومن السائرين في فلكهم، حيث رأوا بأنه بالغ كثيرا في نقده لفرنسا، وأنه خرج عن الأطر الفكرية المتبعة آنذاك، هذا عوض أن يحاسبوه على نقده للحكام راحوا يخلطون الأشياء مما أنشأ بينهم وبينه علاقات غامضة غير أنه لم يكن مباليا بذلك، لأنه اختار النضال من أجل حرية الشعوب، وذلك من أجل إعلاء كلمة الحق والدفاع عن كرامة الإنسان، واسترجاع الهوية الأصلية. ففانون انتقد منظري الاستعمار وحكامه وليس الشعوب، لأنها هي أيضا تعاني من عدم معرفة الحقيقة بكل جزئياتها وتعتبر ضحية للاستعمار هي الأخرى.

 

عن (القدس العربي)