مصادفات استهلالية:
هل يمكن أن نقرأ شيئا في تلك المصادفة التي جعلت علمين كبيرين من أبرز أعلام الأدب العربي الحديث: محمود المسعدي ونجيب محفوظ يولدان في نفس العام، عام 1911؟ حيث ولد محمود المسعدي في أوله (28 يناير 1911) بينما ولد نجيب محفوظ في نهايته (11 ديسمبر 1911)، وقام كل منهما بدور مرموق في أدب أمته يختلف كثيرا عن الدور الذي قام به الآخر؛ غير أن اختلاف المسارات لا ينفي تماثل المنطلقات. فقد بدأ كل منهما الكتابة في ثلاثينيات القرن العشرين. وجاء كل منهما من الطبقة الوسطى في مجتمعه بما لهذه الطبقة، أو بالأحرى بما كان لهذه الطبقة، من دور دال وتاريخ مشترك في المجتمعات العربية. وتعلما كلاهما في التعليم المدني لا الديني كما كان الحال مع الكثيرين من أضرابهما. ودرس أحدهما الفلسفة، بينما شغف بها الآخر وأشبع بها كتاباته. وقيض لكل منهما أن يمتد به العمر إلى مشارف القرن الحادي والعشرين. حيث رحل كل منهما في الرابعة والتسعين من عمره، (رحل المسعدي في 16 ديسمبر 2005، بينما رحل محفوظ في 30 أغسطس 2006). وكان هاجس كل منهما أن يضيف الجديد إلى الأدب العربي، وأن يفتح أمامه مسارات غير مطروقة، وأن يلعب به دورا في حياة أمته وفي ثقافتها معا.
فمن يتأمل الآن منجز الكاتبين الكبيرين، برغم اختلاف مساريهما، يجد أن كلا منهما قد عمل، على مد المتن الأدبي الكبير الذي تركه لنا، على إرساء قيم العقل والحق والحرية والعدالة وترسيخها في ثقافته. وأن قيمة العقل وحرية الفرد كانت هادي كل منهما في كل ما كتب وفعل طوال مسيرته الخصبة المعطاء. والسؤال الأول الذي تطرحه هذه المصادفة هو لماذا اختلفت المسارات برغم تماثل المنطلقات؟ وبرغم أن الاجتهادين دارا في سياق ثقافة واحدة هي الثقافة العربية الحديثة، وفي ظل مشروع واحد، هو مشروع التحديث والتحرر وإنجاز الاستقلال الوطني. ولماذا اختار كل منهما طريقا مغايرا للآخر، برغم تماثل الغايات التي رام كل منهما تحقيقها. أما السؤال الثاني، عن سر اختلاف المآلات برغم تماثل المنطلقات، وهو سؤال ربما يلقى بعض الضوء على السؤال الأول، فإنه ينبع من أن مئويتيهما تحل بعيد قيام ثورتين كبيرتين في بلديهما. إذ سبقت الثورة التونسية شقيقتها المصرية وكانت من بين عناصر إلهامها البارزة. وها هو الاحتفال الكبير بمئوية المسعدي، رسميا وشعبيا،(1) يكشف عن أن الثورة التونسية تسير على درب الوعي بمنجزات مثقفيها، وإعطاء من ساهموا في ترسيخ قيم الحق والعدل والحرية ما يستحقونه من الاهتمام والدرس والتقدير. خاصة وأن ثمة مصادفة دالة أخرى هي تواقت الندوة العلمية للاحتفال بمئوية المسعدي في بيت الحكمة مع مراسم تنصيب أول رئيس تونسي منتخب بناء على شرعية الثورة التونسية الجديد.
بينما يكشف غياب أي احتفال رسمي في مصر بمئوية نجيب محفوظ، عن تعثر الثورة المصرية وتخبطها في براثن الثورة المضادة ومتاهاتها المدلهمة. بعد أن انقلب عليها من يحكمون زورا باسمها، وواجهوا الثوار في نوفمبر بشراسة تفوق تلك التي واجههم بها نظام الفساد والهوان والتبعية البائد الذي مازال يحكم رغم تبدل الوجوه. بل إن تعرض نجيب محفوظ الآن في مصر، وفي شهر مئويته الذي يمر دون أي تكريم حقيقي لائق، للاغتيال المعنوي للمرة الثانية على أيدي فقهاء الظلام في بلده، الذين يسمون حزبهم لمرارة المفارقة بـ«حزب النور»، لدليل لمن لايزال يبحث عن دليل على تعثر الثورة المصرية ووقوعها في أحابيل أعدائها في الداخل والخارج. خاصة وأن اغتيال نجيب محفوظ المعنوي يكشف عن استمرار التردي والهوان. إذ عانى نجيب محفوظ أثناء حياته من محاولة آثمة على حياته، من نفس فقهاء الظلام الجهلة الذين يفتون الآن بضرورة منع أدبه لأنه أدب دعارة يحض على الرذيلة. بينما يتظاهرون بفضل فسحة الحرية التي أتاحتها لهم الثورة، مع أنهم لفرط انتهازيتهم لم يشاركوا فيها بل أثموها مع كل خروج على أولى الأمر، أمام السفارة الأمريكية مطالبين بالإفراج عن أميرهم السابق المدعو عمر عبدالرحمن الذي أفتى بقتل نجيب محفوظ، والمسجون في الولايات المتحدة لضلوعه في جرائم إرهابية.(2) وهو أمر يكشف عن حدة المأزق الذي يعاني منه العقل المصري أمام الهجمة الوهابية الشرسة التي تستهدف كل انجازاته. وليس محفوظ إلا النموذج والرمز الكبير لتلك الانجازات. وتضيف هذه اللمسة الأخيرة بعدا آخر للسؤال هذه المرة لاختلاف المآلين، مأل المسعدي الذي يحظى بالاحتفاء والتكريم في تونس، ومآل محفوظ الذي تنهال عليه معاول الجهل والتأثيم في مصر، بعد أن أشرنا إلى اختلاف المسارين، مما يمنح السؤال عن اختلافهما هذا مشروعية إضافية.
شروط البدايات .. تبايناتها ودلالاتها:
يهدف هذا البحث إلى الإجابة عن هذا السؤال لا من خلال تحليل المضمون الذي ينطوي عليه متن كل كاتب من هذين الكاتبين الكبيرين، لأن هذا يحتاج إلى كتب، بل كتبت فيه عدة كتب بالفعل. وإنما من خلال تحليل محتوى الشكل الذي اختاره كل منهما للكتابة. فمن يتأمل الآن منجز الكاتبين الكبيرين، برغم اختلاف مساريهما، يجد أن كلا منهما قد عمل، على مد المتن الأدبي الكبير الذي تركه لنا، على إرساء قيم العقل والحق والعدل والحرية وترسيخها في ثقافته. وأن قيمة العقل والدعوة لتحكيمه في كل شيء، وحرية الفرد ومسؤوليته إزاء واقعه ومجتمعه، وقيمة الحياة الحسية الممتعة الخصبة الجديرة بأن تعاش وأن يحتفى بها، بطريقة تجمع بين دينوسيوس وأبوللو، كانت هادي كل منهما في كل ما كتب وفعل. لكن ما يميز كل منهما عن الآخر هو المسار الذي انتهجه كل منهما لتحقيق تلك الغايات، وهذا هو سر التباين والاختلاف الكبير من البداية بينهما. أقول ان اختلافهما يعود إلى تباين بداياتيهما الإبداعية برغم أن المشترك بين مسيرتيهما التعليمية أكثر من المختلف. فقد بدأ كل منهما بالتعليم التقليدي في الكتّاب وحفظ القرآن، ثم واصل كل منهما تعليمه المدني حتى المرحلة الجامعية، حيث أنهاها المسعدي في الأدب العربي بجامعة السوربون عام 1936، وواصل بعدها وبشكل متقطع بسبب الحرب ووقوع فرنسا تحت الاحتلال، دراسته العليا في الأدب العربي القديم، بدراسة قيمة عن الإيقاع في السجع العربي، بينما أكمل محفوظ دراسته للفلسفة بجامعة القاهرة عام 1934، وانتظم بعدها في سلك دراسة الماجستير في الفلسفة الإسلامية مع أستاذه مصطفى عبدالرازق الذي تلقى بدوره تعليمه في السوربون، بدراسة عن مفهوم الجمال في الفلسفة الإسلامية، وإن لم يكمل محفوظ تلك الدراسة، كما لم يكمل المسعدي دراسته في دكتوراه الدولة هو الآخر، كل لأسبابه المختلفة.
لكن تشابه المسار لم يتمخض بأي حال من الأحوال عن بدايات أدبية متشابهة أو حتى متقاربة، وإنما عن بدايتين مختلفتين إلى حد كبير منذ أن استهل كل منهما الكتابة واختار بدايته. والبداية كما يقول إدوار سعيد في كتابه المهم (البدايات: القصد والمنهج) «ليست نوعا من الفعل فحسب، ولكنها إطار عقلي، وهي نوع من العمل، وهي موقف أو اتجاه، ووعي. وهي مفهوم ذو طبيعة ذرائعية، براجماتية، كما يحدث حينما نقرأ نصا صعبا، ونتأمل كيف نبدأ أو أين كي نستطيع أن نفهمه. ونسال أين بدأ الكاتب عمله ولماذا؟ وهذا أمر نظري حينما نسأل إذا ما كان ثمة أية منطلقات معرفية أو منجزات متفردة تتصل بالبدايات بشكل عام. فلكي يبدأ أي كاتب فإن عليه أن ينطلق من شيء مرتبط بنقطة محددة للمغادرة.»(3) أي أن البداية ذات صلة دائمة، مهمها كانت درجة وضوح هذه الصلة أو إضمارها، بالمنطقة التي تبارحها، وبالسياق الذي تتبلور فيه، وبالهدف الذي تسعى إلى تحقيقه. فهي عند إدوار سعيد وكما يقول العنوان الفرعي لكتابه المهم ذاك، وهو من أهم الدراسات النقدية التي بحثت موضوع البداية حتى الآن، قصدية، أي أنها نشاط قصدي له صيرورته، وإن كانت تنطوي بالضرورة على البداية من جديد أو إعادة البداية، فالتكرار مضمر في بنية البداية وفي صيرورتها معا، كما يبرهن سعيد في دراسته تلك، لأنها ليست خطية أو تعاقبية. حيث أن غايتها هي انتاج الاختلاف مع ما تبارحه، لأن كل بداية حقة هي انتاج للاختلاف: واقتراح للجديد والمختلف. والبداية بهذا المفهوم الذي يطرحه سعيد لها هي صنو المشروع الأدبي الجديد الذي يقترح جديده واختلافه معا. وهي ليست بأي حال من الأحوال صنو عمليات التهجي الأولى في الكتابة، أو التجارب والمحاولات المختلفة التي تجسد البحث عن مسار، قبل العثور حقا عليه، والتي يمر بها كل كاتب. إن البداية بمفهوم سعيد المهم لها هي المشروع الذي يختاره الكاتب ويبلوره بعمله الأساسي الذي يطرح «بداية» جديدة ومغايرة في ثقافته. وهي لذلك ليست محاولات التهجي الأولى في الكتابة عند المسعدي مثلا في نصه الأوليّ «بظاهر القيروان»(4)، والمنشورة بـ(العالم الأدبي) عام 1930، وإنما هي بمشروعه الأدبي الذي بدأ بـ(السد) و(حدث أبوهريرة قال) وما تلاهما من أعمال. وليست البداية المقصودة عند نجيب محفوظ هي بداياته الأولى في المقالات الفلسفية،(5) أو حتى القصص القصيرة المئة التي جمع شيئا منها في (همس الجنون)، وإنما بالرواية وخاصة رواياته التاريخية الفرعونية الثلاث. فهذه الأعمال هي البدايات بالمعنى الذي يقصده سعيد، والذي ينتج جديده واختلافه معا.
ولأن انتاج الاختلاف هو هدف كل بداية جديدة بحق، فإنها تسعى مبدئيا وقبل مبارحة نقطة المغادرة إلى تأسيس علاقتها مع ما تعرفه من نصوص: إما بالاستمرار أو بالقطيعة. وسنجد هذا متجليا بوضوح في عمل كاتبينا الكبيرين. حيث تشكل قطيعة محفوظ مع بنية السرد وأشكال الخطاب الأدبي العربي المختلفة، وصلا مع بنية سردية غربية يعلن انحيازه لها بوضوح منذ بداية مشروعه الروائي. أما المسعدي فإنه على العكس من محفوظ يعلن منذ عنوان عمله السردي الأول (حدث أبوهريرة قال) وصله مع الخطاب الأدبي العربي بحكاياته وأخباره وعنعناته ونوادره. في محاولة لإزاحة محتوى هذا الخطاب الديني الطهراني وطرح العالم الحسي بلذاته واشواقه ولواعجه المختلفة في مواجهته، وإحلاله محله. إنها بداية الإزاحة والإحلال دون القطيعة أو الرفض. كما أنهما كليهما يجدان أن عليهما تأكيد تلك البداية بتكرارها. فيكتب نجيب محفوظ ثلاث روايات تاريخية فرعونية، قبل أن ينصرف إلى الرواية الواقعية التي يكتب فيها سبع روايات، وما لا يقل عن عشرة أفلام، قبل أن يبحث من جديد عن بداية مغايرة في أمثولته الرمزية (اولاد حارتنا) ثم في روايات ما عرف باسم الواقعية النقدية .. وهكذا. أما المسعدي فإنه كان يعود لبداياته عدة مرات، بصورة يمكن معها التعامل مع أعماله الإبداعية الأربعة على أنها تكرارات أربعة لبداية واحدة. إذن كان كل منهما يعود لبدايته كي يؤكدها، أو بالأحرى كي يبلورها ويصوغها كبداية بحق. إذ يحرص كل منهما على أن يبدأ بداية جديدة تضمر قطيعتها مع ما سبقها من بدايات، بما في ذلك بداياته هو نفسه السابقة عليها، فقطيعة محفوظ مع الرواية التاريخية، تضمر صلاتها المراوغة بها، تماما كما تضمر قطيعة (السد) مع (حدث أبوهريرة قال) صلتها الملتبسة بسابقتها. فكما يقول سعيد «إن البداية، مهما تكن جدتها، ليست كلية جديدة، ولكنها تسجل تحويرات حقيقية في ظروف الفكر والنص معا».(6) وهي في حالة محفوظ والمسعدي دالة على ما جرى في ثقافتهما.
يقول إدوار سعيد، إن اختيار البداية كموضوع للدراسة كان في حقيقة الأمر بالنسبة له سعيا لطرح البداية كموضوع عقلاني وكإمكانية متيحة Rational and Enabling وهو موضوع أبعد ما يكون عن أي اهتمام بالإخفاقات المنطقية، أو بالعبث غير التاريخي. لقد حاولت أن أصف المجهود الجبار الذي تنطوي عليه أي محاولة لوصف البدايات في التاريخ بأثر رجعي».(7) ويطرح سعيد مفهوم البداية في تعارضه مع مفهوم الاصل لأن الأصل مقدس وأسطوري ومتميز بذاته وفي ذاته كأصل. أما البداية فإنها علمانية عقلانية ينتجها البشر، ولذلك يعاد تمحيصها إلى مالا نهاية. وهذا المفهوم الخاص بالبداية كموضوع علماني وقادر على أن يمنح الإنسان إمكانيات إضافية على الفهم والفاعلية معا، هو السر، كما يقول سعيد، في تجدد الاهتمام بفيكو (المفكر الإيطالي جيامباتسيتا فيكو 1668 – 1744) وهو المفكر المحوري وراء عدد من أطروحات كتابه، ولكن أيضا في نقد الهيمنة، وإعادة تمحيص التواريخ المهملة والمهمشة، كتواريخ النساء وغير البيض وغير الأوربيين، والاهتمام متعدد المناهج والمقتربات بالنصوص والنصية، وفكرة الذاكرة المضادة والأرشيف، وتحليل التراث، أو بالأحرى حسب تعبير إريك هوبسباوم التراث المخترع.
البداية اللازمة .. والبداية المتعدية:
فمفهوم البداية عند سعيد مفهوم متراكب ومتشابك المكونات والمستويات ومتعدد الأبعاد، على عكس مفهوم الأصل النقي ببعده الواحد. وهو مفهوم يرى أن البداية عملية وصيروة من التعالقات والترابطات، حيث يبدأ عنده بالعلاقة الجدلية الفعالة بين السردية Narrative والنصية Textuality والتي أدت لديه إلى ضرورة القيام بدراسة عن تاريخية النص وما تعنيه نصيته من ناحية، وعن كيف أن كلا من الشكل وتمثيلاته في النصوص السردية ينهضان من ناحية أخرى على رغبة Desire (لها سلطتها ومشروعيتها في الوعي السردي ومنتهكه منه في آن) في محاكاة الصيرورة الحياتية في الميلاد والازدهار والموت. وقد تطورت عن هذا الترابط والتعالق بين السردية والنصية نظرية في السلطة تربط بين التأليف والملكية الأبوية والقوة، وتمد هذا الرباط إلى التاريخ الاجتماعي للممارسات الثقافية من استخدام الخطاب واستغلاله والسيطرة عليه إلى تمثيلات الحقيقة والآخر. ومن هذه الممارسات يدلف بنا المفهوم وبشكل ملموس إلى مشارف أطروحة الهيمنة وكل تجلياتها المتعينة حسب مفهوم جرامشي لها، وخاصة كما تتبدى في مجتمعات مابعد التحديث والصناعة، حيث تصبح الهيمنة لعبة مراوغة وبالغة التعقيد في إخفاء ما تنطوي عليه من حثّ وتلاعب، وإبراز ما يبدو أنه الاقتناع والتراضي.(8)
والواقع أن البداية كمفهوم معارض لمفهوم الأصل هو كما يؤكد سعيد في تأملاته حول كتابه في مقدمة طبعته الثانية عام 1985، هو ابن الحداثة وفكرها المتمرد على المنطق السببي وتسلسل التتابع الخطي البيولوجي الذي يربط الأبناء بآبائهم، في آلية السبب والنتيجة واحدية البعد، ويسعى بدلا من ذلك لربط الظواهر بشبكة معقدة من التعالقات الفكرية والفلسفية والمعتقدية والأيديولوجية وغيرها من الروابط ذات الطبيعة المؤسسية وليست الطبيعة الأسرية كما هو الحال في التتابع الخطي البيولوجي. فهذا المفهوم ابن مرحلة بزوغ التنظيمات المختلفة على أسس ترابطية، من التنظيمات المهنية والأحزاب السياسية والنقابات، وحتى مؤسسة الدولة بما تطرحه جميعها من مفهوم مغاير للسلطة وعلاقات القوة، وهو في الوقت نفسه وثيق العلاقة بدراسات ديريدا وفوكو وأدورنو التي تكشف عن حقيقة هذه التعالقات الجديدة وكيفية تخلل علاقات القوى لها، بل وممارستها لدورها فيها.
كما ينطوي هذا التصور المغاير الذي يطرحه سعيد للبداية على تصوره المختلف للنقد الأدبي والذي ينفر من فكرة التعامل مع النقد الأدبي باعتباره نشاطا مغلقا وجنسا أدبيا مستقلا عن الدراسات والممارسات الإنسانية المختلفة. ويرى أن الأدب والفلسفة والتاريخ والخطابات الاجتماعية وكل صيغ الكتابة التي يمارسها البشر في أي لحظة تاريخية هي في حقيقة الأمر مترابطة أو متشابكة مع بعضها البعض. صحيح أنه يتم في كثير من الأحيان الفصل بينها على أسس مهنية أو معرفية، لكن هذا الفصل يكون في رأيه من أجل تحقيق أغراض اجتماعية من نوع أو آخر. وأن النقد الأدبي، إذا ما أراد أن يصبح بحق نقدا أدبيا، وليس مجرد شكل من أشكال الاحتفاء بالروائع الأدبية، عليه أن يتعامل مع الفجوات، والتشابكات، وكل عواقب ما يدعوه رايموند وليامز بالكتابة في المجتمع. ولا يقلل أي من هذا من قيمة الكتابة وقوتها، سواء أعزلت عن غيرها من النشاطات أم لم تعزل، ولا يمنع النقد من التمحيص الكامل لمفردات النص، ودراسة دلالات أن تكون كل كلمة منه في موضعها الصحيح. وإذا ما كان هناك مكان خاص للنقد الأدبي، وهو الأمر الذي يسعى كتابه إلى إبرازه، فهو تمحيص هذه الخبرة المستمرة بالبداية وبالبداية من جديد، وإعادة تمحيصها، بصورة لا تسعى لتخليق أي سلطة حكمية ولا إلى تبرير أي شكل من أشكال المعتقدات الجامدة، وإنما تستثير نشاطا واعيا له أهداف معرفية جمعية وغير قهرية.(9)
«فمهوم البداية يرتبط في كل حالة بمفهوم الأولوية والأهمية والسبق. لأن البداية تختار بهدف الإشارة والتوضيح وتحديد زمن تالٍ، ومكان وفعل. لأن تحديد بداية ما ينطوي أيضا على تحديد قصد يترتب عليها ... لأن البداية هي الخطوة الأولى في الانتاج القصدي للمعنى».(10) فما هو في هذا الحالة الانتاج القصدي للمعنى الذي تنطوي عليه كل من بداية المسعدي وبداية محفوظ. هنا لابد من العودة إلى تمييز إدوار سعيد بين البداية اللازمة والبداية المتعدية، بالمعنى النحوي للزوم والتعدي. فالبداية اللازمة، وهي ما يدعوها أيضا بالبداية النقية Pure or Intransitive Beginning هي البداية التي لاقصد لها إلا أن تكون بداية، بمعنى أن تكون الأولى. أما البداية المتعدية Transitive Beginning فهي «البداية الإشكالية الطارحة لمشروع Problem or Project-Directed Beginning فإنها تفترض الشروط التالية: عقل فردي يرغب في المشاركة في حقل من حقول النشاط العقلي، كما هو الحال مع المؤرخ الذي يريد أن يكتب تاريخ س أو ص، وبالتالي فإن عليه أن يجد بطريقة عقلية خالصة النقطة الملائمة التي يبدأ منها عمله. وهو أمر ليس سهلا، لأن اختيار بداية يضفي عليها مكانة معينة تنبثق من قدرتها على أن تقصد كل ما سيترتب عليها أو يصدر عنها.»(11)
محفوظ والمسعدي .. دلالات البداية وسياقاتها
حينما قرر نجيب محفوظ بعد محاولات أولى في كتابة المقال الفلسفي والقصة القصيرة أن يكرس جهده الإبداعي للرواية، وأن ينجز عبر شكلها الغربي الناجز مشروعه الكبير، وهو مشروع يتسم بالتعدد منذ البداية لأن محفوظ حينما بدأ كتابة رواياته التاريخية الفرعونية كان ينتوى، وهو يترسم خطى مشروع الكاتب الاسكتلندي الشهير والتر سكوت نموذجا، أن يكتب التاريخ المصري كله في روايات متعاقبة، كان واعيا بأنه يختار هذا الشكل لأنه يسعى لتأسيس مشروع تحديثي على أساس غربي، وفق تصور سلامه موسى، أكثر من ساعدوه فكريا وأثروا عليه في تلك الفترة الباكرة من حياته. فاختيار شكل الرواية الغربية ليس منفصلا عن كل اختياراته الأخرى الفكرية منها مثل الانحياز للعقل والتحديث، والسياسية مثل حزب الوفد ومنطلقه الوطني الليبرالي، وشكل الرواية الحديثة باعتبارها مؤسسة ديموقراطية تتيح للكاتب أن يرسم مصائر شخصياته وأحداثه. كما كان اختيار العودة بالرواية إلى المرحلة الفرعونية شديد الارتباط بالسعي لتجذير المتخيل الوطني المصري في ماضيه الفرعوني العريق، في فترة بلغ فيه الولع بمصر الفرعونية لا في مصر وحدها، وإنما في الغرب كذلك، ذرى غير مسبوقة بعد اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون عام 1922.
كان محفوظ يريد لتلك البداية أن يكون مشروعا ضافيا يكتب فيه التاريخ المصري كله بدءا بالمرحلة الفرعونية، لكن صرفته عنه أحداث الواقع وشدته تصاريفه إلى كتابة الحاضر في مرحلة واقعية/ بلزاكية هذه المرة، بلغت ذروتها في (الثلاثية: بين القصرين، قصر الشوق، والسكرية). بصورة نجد فيها أن تماسك البنية الروائية وتقليديتها في المرحلتين التاريخية والواقعية يناظر تماسك المجتمع الذي يصدر عنه ووضوح أهدافه في الاستقلال والتحرر. وما أن بدأت تناقضات واقع ما بعض الاستقلال في التبلور، وأحلامه الوردية في التخثر حتى أخذت البنية الروائية نفسها في التحول كي تستوعب تلك التناقضات الجديدة. إذ توشك التغيرات الروائية التالية لانتهاء الثلاثية، من بنية الأمثولة الرمزية Allegory في (أولاد حارتنا) إلى بنية الرواية السجالية Contestational Narrative المترعة بالأصوات الاحتجاجية في روايات ما يدعوه البعض بالواقعية النقدية التي بدأت مع (اللص والكلاب) واستمرت حتى (ميرامار). ثم تواصل الجدل في متنه السردي الكبير بين تحولات البنية الروائية وتحولات الواقع على مد مشروعه الكبير الذي أنجز فيه أكثر من ثلاثين رواية، بصورة انتهت بعد حوارها التناصي الدال مع صيغ السرد العربي المختلفة (من الرحلة إلى الملحمة الشعبية في الحرافيش إلى ألف ليلة) إلى تفككها الدال والبديع معا في (حديث الصباح والمساء) و(أصداء السيرة الذاتية) أن تكون بنت البحث عن بنية قادرة على استيعاب تلك المتغيرات الاجتماعية/ السياسية/ الفكرية، وعلى صياغة هذا التفكك والهوان وغياب المشروع الوطني أو حتى الاجتماعي الموحَّد والموحِّد. فتحولات البنية السردية عند محفوظ من أشد مرايا تحولات المجتمع المصري قدرة على رصد ما انتابه من تغيرات. لأن السعي لاحتياز المعرفة الممكنة، يتطلب الوعي بأن المعرفة لا تكمن في الكلمات، وإنما في طريقة تنظيمها وكتابتها، وخلق علاقات قراءتها وسياقات تلك القراءة الجديدة وتلقيها. بمعنى أن تماسك البنية أو تفككها هو ما يكشف لنا حقيقة المشروع الأدبي من ناحية، والمشروع الاجتماعي والسياسي من ناحية أخرى.
بينما اختار محمود المسعدي أن تكون بدايته بهذا العمل السردي الشيق والفريد (حدث أبو هريرة قال) بصلته الحميمة بالتراث وبالخبر العربي القديم وعنعناته، وقطيعته معه في آن عبر شكله التجريبي غير المسبوق، وببنيته القائمة على الانطلاق من حديث البعث الحسي بأشواقه ومواجده وثمرات الجسد التي تؤول دوما إلى العطب، وصولا إلى حديث البعث الروحي الآخر المضمخ بالدم والموت واكتناه سر لا يدرك كنهه أبدا. وبتلك التجربة الحوارية الذهنية (السدّ) بمناخها المسرحي التعبيري، واستقصاءاتها الفكرية الفلسفية حول الوجود والموت والتي لاتقل فرادة عن استقصاءات (حدث أبو هريرة قال) وانتهاكاتها للمحرم وسبرها لغير المألوف. ثم واصل تنويعاته على تلك التجارب الفريدة في (مولد النسيان) و(أيام عمران) و(المسافر)، واكتفى بتلك التجارب الإبداعية الخمس التي توشك كل منها أن تكون بداية مغايرة في بحث موصول عن الشيء نفسه. فلم يكن المسعدي وفق هذا التصور الذي طرحناه لموضوع البداية يعود إلى الأصل، أو يطرح أصلا بشكل جديد، وإنما كان يؤسس بداية جديدة تعلن نسبها للأصل واختلافها معه في آن. فلم يكن المسعدي في حقيقة الأمر يعود إلى تراث حقيقي أو مخترع، وكل تراث كما يقول إريك هوبسباوم مخترع إلى حد ما، وإنما كان يؤسس بداية جديدة مثله في ذلك مثل محفوظ تماما.
فالأسئلة التي تطرحها هذه الدراسة كي تفتح بابا جديدا للبحث في أعمال الكاتبين الكبيرين هي: هل ثمة علاقة بين بداية المسعدي اللازمة النقية ومآل مشروعه في الثقافة العربية؟ وهل فتحت بداية محفوظ الإشكالية المتعدية، والتي اندفع في مجراها نهر الرواية العربية الكبير من بعده الباب أمام تلك العواصف والأنواء التي يعاني منها، ويعاني منها مشروعه؟ وما هي العلاقة بين البنية النصية وسياقات تلقيها؟ هل تساهم في توسيع أفق التلقي، أو في تقليصه؟ وهي أسئلة جديرة بأن تثري فهمنا لأعمال كاتبينا الكبيرين، وتشق في الوقت نفسه طريقا جديدا للبحث يرهف وعينا بطبيعة مسيرتنا الثقافية ومآلاتها.
هوامش:
(1) جاء هذا البحث نتيجة لدعوة كريمة من بيت الحكمة التونسي للمشاركة في ندوة علمية أقيمت في سياق الاحتفالات الرسمية بمئوية محمود المسعدي في الفترة من 12 – 16 ديسمبر 2011 بقرطاج، تونس.
(2) بلغت انتكاسة الثقافة المصرية حضيضا غير مسبوق في تسعينيات القرن الماضي حينما دس أحمق جاهل أمي لم يقرأ له حرفا سكينه في رقبة نجيب محفوظ الذي كان يمد يده ليصافحه، يريد قتله تنفيذا لفتوى جاهلة أصدرها حينها عمر عبدالرحمن. وكان وقتها من نجوم فترة الانحطاط تلك، والذين تهتم بهم الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت ترعى طوال ثمانينيات القرن الماضي كل صنوف التطرف الأحمق باسم الإسلام (تمهيدا لشيطنته بعد ذلك بأعوام قليلة): من أسامة بن لادن وطالبان في أفغانستان، حتى عمر عبدالرحمن في مصر. وقد هرب منها بعد القبض على أعضاء من تنظيمه للسودان، ثم سافر إلى الولايات المتحدة بتأشيرة خاصة جدا، أصدرها مندوب مكتب «المخابرات المركزية الأمريكية» في السفارة الأمريكية بالسودان، ووفرت له الحصول فور وصوله، وضد كل القواعد المعمول بها في الولايات المتحدة نفسها، على البطاقة السحرية الخضراء Green Card والتي لا يحصل عليها أي مهاجر للولايات المتحدة إلا بعد العمل الشاق لسنوات طويلة. كان عمر عبدالرحمن وقتها، وحينما كان يصدر الفتاوى التي يحلل فيها قتل كاتب كبير بقامة نجيب محفوظ ومكانته الدولية، هو رجل المخابرات المركزية الأمريكية المدلل، كما كان أسامة بن لادن نجمها الأثير في الوقت نفسه. لكن وطبقا للقانون البديع الذي بلورته ماري شيللي قبل قرنين من الزمان في روايتها المهمة (فرانكشتاين) فإن مصير من يخلق أي كائن شائه مثل فرانكشتاين ويرعاه، هو أن ينقلب عليه ربيبه ويقتله. هذا ما حدث مع عمر عبدالرحمن الذي اتهم بمحاولة تفجير مركز التجارة العالمي في نيويورك وحكم عليه بالسجن، ثم مع أسامة بن لادن الذي يقال أنه فجر هذا المركز بالفعل في أحداث 11 سبتمبر الشهيرة. وإن كان هناك من الذين يؤمنون بنظرية المؤامرة من يقول إن الولايات المتحدة كانت واعية وهي تخلق فرانكشتاين وترعاه، وتحث حليفتها الأساسية في المنطقة وهي السعودية للحفاظ عليه حيا وقادرا على إحداث الدمار أينما تشاء ووقتما تشاء، بالأخطار المحتملة لانقلاب فرانكشتاين ضدها، ولكنها خاطرت بقبول تلك الأخطار لوعيها بأنها طفيفة، بل تافهة، بالمقارنة بما يحققه لها فرانكشتاين من خدمات: ألم يعجل بانهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية معه؟ ألم يساهم بكسره لعدوها في جعلها القوة العظمى الوحيدة في العالم لأكثر من عقدين من الزمان ترتع فيه كما تشاء؟ ألم يساعدها على شيطنة الإسلام وتكريس العداء له، لا في الغرب وحده وإنما فيما وراء الغرب كذلك، كي لا تقوم للمنطقة العربية المترعة بالاحتمالات الكبرى قائمة؟ ألم يوفر لها الذرائع لاحتلال أفغانستان وتدميرها، ثم احتلال العراق وتدميره والاستيلاء فيه على أكبر مخزون نفطي معروف في العالم؟ ألم يوفر هذا كله لربيبة الولايات المتحدة الأخرى في المنطقة، وأعني دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، مناخا أتاح لها ترسيخ الاحتلال وتكريس تبعية مصر لها، والمنطقة كلها وهوانها؟
(3) راجع مقدمة إدوار سعيد للطبعة الأولى من (بدايات)، ص xxi. Edward Said, Beginnings: Intention and Method (London, Granta Books, 1997)
(4) راجع الأعمال الكاملة لمحمود المسعدي، والتي تقع في أربعة مجلدات ضافية، جمع وتقديم وبيبليوجرافيا محمود طرشونة (تونس، دار الجنوب، 2002) المجلد الأول، ص 449 – 455.
(5) وهي المقالات التي كان ينشرها في ثلاثينيات القرن الماضي في مجلة (المعرفة) ومجلة (المجلة الجديدة) لسلامة موسى.
(6) إدوار سعيد، المرجع السابق، ص xiv.
(7) راجع مقدمة إدوار سعيد لطبعة عام 1985 من (بدايات)، ص xviii.
(8) راجع مقدمة إدوار سعيد لطبعة 1985 من (بدايات)، ص xix.
(9) راجع مقدمة إدوار سعيد لطبعة 1985 من (بدايات)، ص xx.
(10). إدوار سعيد، (البدايات) ص 5.
(11) إدوار سعيد (البدايات) ص 50.