ما أشبه الليلة بالبارحة، بل ما أشبه ما يدور في بيروت الآن وجرحاها بما دار فيها تقريبا قبل قرن من الزمان، وأهم من هذا بموقف سورية منه.

قضية "جريح بيروت"

زيارة فرقة جورج أبيض وسلامة حجازي إلى دمشق عام 1913

أثير محمد على

الـزيـارة
مع بداية صيف 1913 شرع الجوق المتشكل من اتحاد فرقتي جورج أبيض وسلامة حجازي بتحضير جولته إلى مدن "الديار السورية"، مثل يافا، وحيفا، وبيروت، وحلب، ودمشق على عادة الفرق المصرية حينئذ. جمهور هذه المدن المسرحي كان ينتظر بتوق قدوم الفرق المصرية في مواسم الصيف، وليس من المبالغة القول أن الفرق المصرية عامة، وفرقة جورج أبيض وسلامة حجازي خاصة، تركت أثراً لا يمحى في ذاكرة مدن شرق المتوسط، فقد سدت فراغاً كبيراً بسبب قلة العروض المسرحية المحلية فيها. وصلت الفرقة إلى محطة دمشق في جولتها الصيفية في شهر تشرين الثاني عام 1913، حاملةً في صرتها حفنة من المسرحيات المتنوعة التي حالف عروضها إقبال باهر، مثل: "لويس الحادي عشر"، و"غانية الأندلس"، و"عظة الملوك"، و"تلماك"، و"روميو وجوليت" وبعض المونولوجات الشعرية المتفرقة.
الأثر الطيب الذي قوبلت به الفرقة دفعها للموافقة المبدئية على تقديم عرض "جريح بيروت"، بناء على طلب الجمهور الدمشقي، إلا أن تدخل السلطات وعدم منح الفرقة التصريح اللازم أعاق بالطبع تحقيق هذه الرغبة. قبل أن يتم البحث حول ملابسات وأسباب منع عرض "جريح بيروت" يدرج بعض مما حفظته الصحافة في دمشق من إعلانات حول هذه الزيارة المسرحية كي نقترب من اللغة الدعائية للمرحلة وذائقة الجمهور الفنية خاصة الموسيقية:

"مسرح زهرة دمشق
جوق جورج أبيض المشمول برعاية الحضرة الخديوية
الشـيخ سلامة حجازي، جورج أفندي أبيض، عبد الله أفندي عكاشة
يجمل بإدارة الجوق، وقد أسعدها الحظ بموافقة حضور الجوق إلى مدينة دمشق الفيحاء في هذه الأيام السعيدة، أيام عيد الأضحى المبارك، أن ترفع إلى الأهالي عموماً، ولحضرات السادة المسلمين خصوصاً، عبارات التهاني بحلول هذا العيد سائلة المولى عز وجل أن يعيده عليهم أعواماً مديدة مقرونة بالخير والاسعاد. وفي الوقت ذاته تعلن عن عزمها على إحياء ليالي العيد الميمونة بتمثيل رواياتها الأدبية. ففي مساء يوم السبت (ليلة الأحد) الواقع في 8 تشرين الثاني غربي سنة 1913 الساعة الثالثة عربية يبدأ الجوق بتمثيل رواية
لويس الحادي عشر
ويقوم بأهم أدوارها (أي دور لويس ملك فرنسا) جورج أفندي أبيض يتخلل الرواية ألحان من وضع الأستاذ الكبير سلامة أفندي حجازي ويطرب الحضور خلال الفصول الموسيقية الوترية برئاسة عبد الحميد أفندي علي أسعار الدخول

لوج لأربعة أشخاص

كرسي بالصالون

ليرة فرنساوية

بشلك > 4 " (2)



مسرح زهـرة دمشق
الشيخ سلامة أفندي حجازي
جورج أفندي أبيض، عبد الله أفندي عكاشة
مساء يوم الأحد (ليلة الاثنين) الواقع في 9 تشرين الثاني غربي سنة 1913 الساعة الثالثة عربية يمثل الجوق رواية
(عظة الملوك)
(أغاني) أوبريت موقع ألحانها على نغمات الموسيقى الوترية ويقوم بأهم أدوارها الممثل البارع والمطرب المعجب عبد الله عكاشة ويطرب الحضور خلال الفصول الموسيقى الوترية برئاسة عبد الحميد أفندي علي
أسعار الدخول

لوج لأربعة أشخاص

كرسي بالصالون

ليرة فرنساوية

بشلك > 4 " (3)



قام المتفرج الذي لقب نفسه بـ "أبو الحسن" بالتعليق على أسعار بطاقات الدخول للعروض المسرحية التي قدمتها الفرقة وأرسل لجريدة القبس الدمشقية وجهة نظره في الموضوع، كما أنه وبشكل غير مباشر عكس في كلماته فهمه لغائية الفن المسرحي "الوعظية" والتعليمية والتربوية.

"التمثيـل فـي دمشـق: يسرنا، وأيم الحق، أن نرى في دمشق جوقاً يمثل لنا الروايات الأدبية التي تعطشنا إليها منذ زمن بعيد، وقلة الأجواق العربية في البلاد العثمانية يدفعنا إلى الإقبال على هذا الجوق الذي حضر من مصر ليمثل لنا الروايات المربية التي نحن بأشد الحاجة إليها، ولكن مع كل أسف أقول أن مدير هذا الجوق لم ينظر بعين الحكمة ولم يراع الزمن والمكان. إن بقاء أجر الدخول على ما هي عليه هو غلط كبير. حيث أن المتفرجين ليسوا من طبقة واحدة في الثروة، وعادة الأجواق أن تجعل الأجر مختلف باختلاف الموقع، ولكننا نرى جوق الشيخ سلامة جعل أجرة الدخول خمسة بشالك إلى جميع المتفرجين، وهذا يعود على الجوق بالخسارة كما أنه يحرم كثيراً من الأهالي حضور الروايات التي يمثلها. فلو قسموا المقاعد إلى ثلاثة أقسام، موقع أول وثان وثالث، وجعلوا أجرة الأول خمسة بشالك والثاني ثلاثة والثالث بشلكين لاستفادوا وأفادوا، بحيث لا يحرم الخباز واللحام وغيرهم من الأصناف من الفرج على رواياتهم الواعظة، وأملي عظيم أن مدير الجوق يعمل بكلمتي هذه، ولا يحرم أحداً من الفرج على جوقته. كما أني أرجو أن لا ينسى طلبة المدارس ولا يحرمهم من هذه الفرصة التي سنحت لهم بقدوم هذا الجوق حاضرتنا، وليبق لهم حقهم بالدخول إلى مرسحه بنصف الأجرة كما هي العادة في جميع البلدان والسلام" (4).
لم يكتف المتفرج "أبو الحسن" بتعليقه السابق بل قام بإبداء رأيه في تنظيم أحد العروض التي حضرها كما وصف سلوك الجمهور الحي أثناء التلقي ونقد بشكل عفوي ما شاهد مؤكداً على ضرورة مشابهة العرض لتفاصيل الواقع، ولم ينس أن يقدم توصياته لصالح الطلبة.
"التمثيـل فـي دمشـق: ذهبت البارحة إلى مسرح زهرة دمشق للتفرج على روايات (تلماك) الشهيرة وإلى القارئ بعض ما شاهدته في هذه الليلة.
أولاً: عدم انتظام المقاعد، وذلك ناشئ عن سببين، أحدهما تهاون صاحب المسرح بعدم وضع حواجز بين المقاعد لإراحة المتفرجين في خروجهم ودخولهم بين كل فصل وفصل، والسبب الآخر هو عدم مراعاة المتفرجين هذه القاعدة، فتراهم يزاحم بعضهم بعضاً عند الجلوس ويقدمون المقاعد حتى يسدون بها الممرات. ولا تسل عما يقاسيه المتفرج الذي سبق وأخذ مكاناً قريباً من الملعب، وإذا كان المتفرج مريضاً بأحد الأمراض البولية، فإنه لا شك ستكون تلك الليلة هي القاضية عليه لعدم تمكنه من الخروج والدخول إلى مكانه لما يلاقيه من العناء بتحمل هذا الأذى، لأنه لو أراد أن يقوم من مكانه لا يقدر أن يعود إليه حتى يقاسي أمر العذاب من الزحام والنكش واللكش، هذا فضلاً عن الكلام الذي يسمعه من المتفرجين الذين سدوا عليه طريقه، فإن سكت على الإهانة التي لا يسكت عنها أحد مهما كان منحطاً ووصمه كل من سمع إهانته بالجبانة، وإن رد عن نفسه وتكلم كلمة واحدة إلتفتت إليه جميع الأنظار من كل جهة، وهناك يا أرض انشقي وابتلعيه.
ثانياً: تأخر الجوق عن التمثيل ثلاثة أرباع الساعة، وهذا غير جائز بوجه من الوجوه، والعذر الذي اعتذر به الجوق لا يخلصه من تبعة هذا الخطأ الذي طالما وقع به من قبل. إن تمنع بعض المتفرجين عن دفع ثمن أوراق الدخول لا يؤخر الجوق عن التمثيل، حيث يوجد بواب من قبل الجوق أمام باب المسرح لا يسمح لأحد أن يدخل دون تذكرة، وهذه عادة جميع مسارح الدنيا، فكيف ترك البواب هؤلاء الأشخاص أن يدخلوا إلى المسرح قبل قطع التذاكر، فإن قلتم دخلوا غصباً عنه، قلنا لم يحدث ضجة أمام الباب، ولم تجر ممانعة من البواب الذي هو أحد أفراد الجوق، ولماذا لم يستدع البوليس لمنعهم من الدخول، وأما الضجة التي قامت بين هؤلاء ورجال الجوق والشرطة داخل المسرح فإنا نلقي تبعتها على نفس الجوق، لأن بوابه مكن هؤلاء من الدخول دون أن يكون بيدهم تذاكر، فعلى الجوق أن يعتذر عن خطأًه هذا. وأن لا يترك فيما بعد سبباً لمثل هذه الحادثة الطفيفة التي كدرت أكثر المتفرجين من تطاول خطيب الجوق في خطابه الشديد، وعلى ما فهمنا أن الذين كانوا سبباً لهذه الحادثة هم تلامذة المدارس، وأنهم لم يتمنعوا عن تأدية التذاكر بتاتاً لكنهم أرادوا دفع نصف الأجرة كما هي العادة في غير هذه البلدة، وهذا حق صراح لهم لا يقدر أن يمنعهم إياه أحد.
أما الرواية فإنها غاية في الإتقان، وكلمتي لحضرة مدير التمثيل أن يلاحظ ملابس الرواية وأدواتها، فقد سمحنا للممثلات أن يبقين حليهن عليهن وقت التمثيل لعدم وجود من يحفظ لهن إياها، كما أنا نسمح لتلماك أن يلبس حذائه العصري (بوط ولستيك) لأنه مضرور، ولكن ما عذر خادم العراف بحمله الحقيبة الجلدية التي يحملها السائحون في هذه الأيام، وكتابته بقلم الرصاص على ورق ثقيل لم يكن معلوماً في تلك الأيام التي تمثلونها لنا. ثم مقاعد الملوك ومفروشات الغرف كلها على آخر طراز، فما معنى هذا التمثيل إذا كنتم لا تستحضرون جميع معداته، ولماذا تأخذون هذه الأجور ثمن تذاكر الدخول.
هذا ما أحببت أن أذكره الآن ولعل به الكفاية، فلا يقوم خطيب الجوق مرة أخرى ويجرح قلوب التلامذة الذين يجدر بنا أن نعلمهم دروساً لم يدرسوها في المدارس والسلام" .(5)

منع عرض مسرحية "جريح بيروت" الشـعرية
كتب الشاعران المصريان اسماعيل صبري (1854 - 1923) وحافظ ابراهيم (1871 - 1932) مسرحية "جريح بيروت" الشعرية تضامناً مع المنكوبين في مدينة بيروت بسبب قصف السفن الحربية الإيطالية لسواحلها عام 1912 بعد احتلالهم لليبيا، وقدم عرض الافتتاح في القاهرة في مسرح الأوبرا الخديوية مساء الثلاثاء 19 آذار 1912.
و قد ذكرت مجلة الزهور بضعة تفاصيل حول الموضوع:
"لما نكبت بيروت نكبتها الأخيرة في 24 شباط هزت الأريحية والمروءة دولة الأمير النبيل محمد علي باشا، شقيق الجناب العالي الخديوي، ونخبة من سراة مصر وكرمائها، فتألفت لجنة رئيسها دولة الأمير، وقوامها أصحاب السعادة والوجاهة: محمد شرابي، ومحمود رياض باشا، وعزيز عزت باشا، واسماعيل باشا صبري، وحسن باشا مدكور، واسماعيل باشا أباظة، وحسين باشا واصف، وعبد الرحمن باشا صبري، وخليل باشا خياط، ونجيب شكور، وسليم أيوب ثابت، ورفيق العظم، وحبيب أفندي لطف الله، فحتفلوا بإحياء ليلة خيرية في تياترو الأوبرا الخديوية... لإعانة المنكوبين في تلك الحادثة الأليمة، فضمت الليلة أوجه وجهاء المصريين والسوريين يتقدمهم صاحبا الدولة الأميران محمد علي باشا، وحسين باشا كامل (عم سمو الجناب العالي) وصاحب العطوفة محمد سعيد باشا رئيس مجلس النظار وأصحاب السعادة النظار الكرام. فرأى الحاضرون في تلك الحفلة الأنيقة أحسن ما يرى، وسمعوا خير ما يسمع" (6).
من بين قائمة منظمي الحفل، التي عنيت بتدوين أسماء أعضائها مجلة "الزهور" نتوقف عند رفيق العظم (1865 - 1922)، وسليم ثابت (؟).
رفيق العظم، دمشقي المولد، عرف بصلاته مع حلقة المصلح طاهر الجزائري في دمشق قبل أن يتركها إلى مصر تحت ضغط سياسة السلطات العثمانية وهناك التحق بحلقة المصلح محمد عبده.
عرف عن رفيق العظم تأييده لحكمٍ ذاتي يتمتع به العرب تحت سلطة الدولة العثمانية، ورفض إنكار حكومة الاتحاد والترقي الدستورية للغة العربية كواحدة من اللغات الرسمية في البلاد.
ساهم كل من رفيق العظم وسليم ثابت في النشاطات الثقافية التي كانت تربط بين الديار المصرية و"الديار السورية"، ودعما حركة القومية العربية وشاركا فيها كناشطين سياسين. ومع اقتراب نهاية عام 1912 قام بعض "الشوام" المقيمين في القاهرة بـ تأسيس "حزب اللامركزية الإدارية العثماني" برئاسة رفيق العظم. جاهد أعضاء "حزب اللامركزية" لافتتاح فروع له في أغلب مدن "الديار السورية" بهدف توحيد العمل العربي السياسي المعارض لحكومة النظام العثماني المركزية. أرسل أعضاء لجنة المؤتمر العربي الأول، أثناء فترة التحضير لمؤتمرهم في نيسان عام 1913، برسالة تأييد لرئاسة وأعضاء "حزب اللامركزية" في مصر معبرين عن ارتباطهم الرسمي ببرنامجهم السياسي ونشاطاتهم المتنوعة.
في عام 1916، يتهم كلٍ من رفيق العظم وسليم ثابت من قبل الحكومة المركزية بالتحريض والعمل على "إنفصال" الولايات العربية عن السلطنة العثمانية، ويحاكمان غيابياً ويصدر بحقهما حكم الإعدام (7).
تتكون مسرحية "جريح بيروت" من فصل واحد، وأربع شخصيات:
ـ جريح من بيروت.
ـ ليلى زوجة الجريح.
ـ العربي.
ـ الطبيب المصري.
تتجاهل المسرحية، كلياً، الرابطة العثمانية بسمتها الدينية، وتشير بوضوح للرابطة العربية التي تجمع المسلمين والمسيحيين في بيروت، وتعتز بتاريخ ومجد العرب الأوائل، وتتنبأ بمستقبل عربي مشرق يتحدى الغرب الاستعماري ويؤكد انهياره بمنجزاته الذاتية حينما ينهض "الشرق" ويمتلك منجزات المدنيّة و"طبائع العمران". تصاغ الشخوص وفق رمزية واضحة، فـ "الطبيب المصري" يهب لنجدة "الجريح البيروتي" في إشارة للإعانة المصرية المقدمة لسكان بيروت خلال نكبتهم؛ بينما ليلى تلخص في شخصها مدينة بيروت التي وقع في عشقها الجريح منذ الطفولة؛ وشخص "العربي" مجاز يعقد الصلة بين شخوص المسرحية.
عرفت مجلة "الزهور" بدورها التنويري ومتابعتها الصحفية الشيقة، أسسها أنطون الجميل (1887 - 1948) وأدارها أمين تقي الدين (1884 - 1937). وبالطبع لم يكن ليفوت المجلة عرض مسرحي مثل "جريح بيروت"، فقامت بطبع كراس يحتوي نص المسرحية والقصائد التي تليت في حفلة الافتتاح، باستثناء خطبة سليم ثابت التي ألقاها ارتجالاً في ختام الحفل، وقد جاء في تقديمها لمجريات الحفل:
"و لما كانت "الزهور" منذ نشأتها إلى يومها الحاضر، عاملة أبداً على إحكام الروابط الأدبية بين القطرين الشقيقين - مصر وسوريا - وطالما كتبت واستكتبت في هذا الموضوع المقالات والقصائد التي كانت صحف هذين البلدين تردد صداها، وتعزّر مبدأها، رأت من الواجب عليها أن يكون لها يد في تلك الحفلة التي أقامها أبناء أحد القطرين لإعانة أبناء القطر الآخر في بلواه. فتقدمت إلى اللجنة بلسان سعادة السري الأمثل سليم بك أيوب ثابت، فأذن لها وحدها في نشر ما أعد لتلك الليلة، فجمعته في كراس خاص ... وقدمت منه عدداً كبيراً إلى اللجنة، ليلة الاحتفال، ليضاف ثمنه إلى مبرات المتبرعين، وقد ارتأت "الزهور" ألا تحرم قراءها من تلك النفثات الشائقة، فأودعتها في هذا الجزء(8) ليبقى لديهم أثراً لروح التآخي والتضامن" (9).
أثناء جولة فرقة جورج أبيض في "الديار السورية" عام 1913 عرضت مسرحية "جريح بيروت" الشعرية دون أية مشاكل تذكر في كل من يافا وحيفا وبيروت وحلب، وما إن وصلت إلى دمشق، وقرر عرضها، حتى منعت في اللحظة الأخيرة على خشبة المسرح. إن الظرف الاجتماعي المحافظ في دمشق لا يختلف بدرجة كبيرة جداً عن غيره في أية مدينة عربية أخرى، انفتاح أكثر أو أقل لن يغير من جوهر الموضوع، وفرقة جورج أبيض وسلامة حجازي كانت قد قدمت عروضها الأخرى دون أية مشاكل تذكر في نفس المدينة. هذا ما يدعو لحصر سبب المنع في موضوع المسرحية ودرجة مرونة السلطة السياسية المحلية في التعامل معه، وإلى قوة الحياة الفنية التي تفرض حضورها في فضاء المدينة. صحيح أن الحياة الفنية المسرحية في دمشق كانت ضعيفة بمقارنتها مع مدن كالقاهرة وبيروت ويافا وحلب، إلا أن تاريخ التجربة المسرحية في دمشق، من أيام القباني، يشير باستمرار إلى أن للسلطة أسبابها الخاصة وأساليبها القسرية أيضاً. وقبل تناول الأسباب المحتملة للمنع نترك المجال مفتوحاً لجريدة القبس التي تابعت على أرض الواقع مجريات الموضوع ورصدت حلقات الحادثة قبل وأثناء وبعد المنع:

جوق جورج أبيض المشمول برعاية الحضرة الفخيمة الخديوية
إنه نظراً لتلك الحفاوة المتناهية التي قوبل بها الجوق في مدينة دمشق الزاهرة، وذلك الإقبال العظيم الذي صادفه من كرام الدمشقيين مدة إقامته بينهم، قد رأت إدارة الجوق قياماً بالواجب عليها أمام هذه المنة الكبيرة أن يكون شكرها عليها تنسيق حفلة باهرة في مرسح زهرة دمشق وجعل ليلة الوداع الأخيرة فيه بالغة حد الإتقان وجامعة لكل بواعث السرور. فقررت أن تمثل روايتين في ليلة واحدة، يظهر فيهما النابغان جورج أفندي أبيض والشيخ سلامة أفندي حجازي، حيث تمثل رواية جريح بيروت المتضمنة لحادثة بيروت الشهيرة أيام الحرب الطرابلسية، وهي ذات فصل واحد من نظم شاعر مصر العظيم حافظ بك ابراهيم (10)، ورواية روميو وجوليت الشهيرة ذات خمسة فصول، تعريب فقيد النظم المرحوم الشيخ نجيب الحداد.
زيادة في مسرة الدمشقيين سيلقي الأستاذ سلامة أفندي حجازي مونولوجاً تلحينيأً جميلاً، ويلقي الأستاذ جورج أفندي أبيض مونولوجاَ تمثيلياً باللغة الفرنساوية. فإدارة الجوق تدعو أفاضل الدمشقيين، الذين شرفوها بإقبالهم، أن يتفضلوا بالحضور في تلك الليلة الوداعية الأخيرة، وتغتنم هذه الفرصة لتقديم واجبات الشكر إليهم جميعاً على ما صادفته عندهم من فايق الرعاية وبالغ الإكرام" (11).

"جـريح بيـروت" فـي دمشـق: أعلن جوق الممثل الشهير جورج أفندي أبيض أنه سيلقي على مسرح زهرة دمشق ليلة أمس تلك القصيدة المشهورة التي نظمها الطائر الصيت حافظ بك ابراهيم على أثر ضرب الأسطول الطلياني لمدينة بيروت، وتليت لأول مرة في مسرح (الاوبرا الخديوية) في مصر في تلك الحفلة التي أقامها البرنس عمر طوسون باشا المعروف بخيراته ومبراته وإعانة المنكوبين من أهالي بيروت في تلك الكارثة، ونظراً لشهرة ناظمها وشهرة من سيلقيها ازدحم الناس في هذه الليلة في المسرح المذكور حتى اضطر صاحبه لجلب كراسي من قهاوي المدينة وقد أغلق الباب في الساعة الواحدة عربية مع أن الابتداء بالتمثيل في الساعة الثالثة. وبعد أن مثلت رواية (روميو وجوليت)، ظهر عبد الله أفندي عكاشة من أركان الجوق واعتذر للحاضرين قائلاً أنهم أعلنوا تلاوة القصيدة المذكورة وهم لا يعلمون أنها ممنوعة.
فقال الناس أنها ليست بممنوعة، لأنه لم يصدر قرار من مجلس الوكلاء العثماني بمنع ديوان حافظ بك ابراهيم وأشعاره من الدخول والانتشار بباقي الممالك العثمانية، مع أن هذه القصيدة قد ألقيت في يافا وحيفا وبيروت وزحلة وحلب وحماة وحمص. مما دعا الأهلين إلى استنكار هذا المنع، فقال إذ ذاك عبد الله عكاشة أفندي أن الوالي أمر بمنعها فقال الناس أتينا بالأمر الرسمي فقال إن (الأمر شفاهي). فحينئذ علت الضوضاء. فقال خطيب من الحاضرين أنه كان يجب على الجوق أن يعلن ذلك قبل أن يدخل الناس إلى المسرح لأن أكثر الناس جاؤوا لسماع تلك القصيدة.
ولما علم الناس أن ليس من أمر رسمي، أخذوا يطلبون بالحاح تلاوة القصيدة فاعتذر جورج أفندي بأنه لا يمكنه مخالفة أمر الحكومة. ثم جاء بعد ذلك رئيس مفوضي الشرطة وعبد الله أفندي عكاشة وقالا للأهلين أنه استؤذن من حضرة الوالي مرة ثانية، فمنعها لأنها محزنة تثير العواطف، فعلت الضوضاء اكثر من قبل.
وقرر الحاضرون ابراق الكيفية إلى نظارة الداخلية (و قد بلغنا أنهم أبرقوا برقية عليها مئات من التواقيع). وقد تدارك الأمر بعض العقلاء فرجوا جورج أبيض أن يتعهد للحاضرين بتلاوتها في فرصة أخرى أو إعادة ما دفعوه من الدراهم. فقام جورج أفندي وقال إنه مستعد لدفع ما ذكر فقال الناس إذ ذاك إنهم ليسوا أقل كرماً منه، وأنهم تركوا تلك الدراهم، واكتفوا بالاعتراف بحقوقهم، وخرجوا من المسرح آسفين، راجين ومتمنين أن تراعى حقوق الشعب، ويحافظ على حرية التمثيل والتأليف، الضامن لهما القانون الأساسي" (12).
حتى بدايات ثلاثينات القرن العشرين لم يستطع المسرح في دمشق أن يمتلك قوة ذاتية. وبقيت الحركة المسرحية تتغذى بعروض الفرق الزائرة، عربية وأجنبية، وبالمسرحيات القليلة التي قدمتها فرق الهواة والمدارس والجمعيات. في كل الأحوال نص الوثيقة السابق يدل دون أدنى شك على حيوية مميزة للجمهورفي دمشق. جمهور لا يعترف بتراتبية ترفع خشبة المسرح وتبعدها عن حقوقه الفنية التي دفع ثمنها قبل الدخول. في يافا دفع غياب الشيخ سلامة حجازي عن أحد العروض بسبب المرض وتعب السفر النظارة التي جاءت لسماعه للانتظار إلى أن يوقظ الشيخ من فراشه ويقاد لخشبة المسرح كي يصدح يصوته ويطرب بين الفصول الدرامية. كذلك في دمشق كانت جموع المتفرجين تنتظر في الصالة بين أخذ ورد حتى يصدر أمر الوالي بمتابعة العرض المسرحي والأذن لها مرة أخرى باستعادة التمسرح في فضاء المكان.
من يقرأ الوثائق التي تدون مجريات هذه الأحداث، لا بد أن يتسائل عن الوقت الذي يصرف في الانقطاع، والمطالبة، والمحاولة، والانتظار وكأن التوق للتمسرح ينصر زمن الوهم المسرحي على حساب زمن الواقع العياني.
راقبت جريدة "الإصلاح" البيروتية ما يجري في دمشق، وراعها أن يحكم بسوء نية على عرض يمس مدينتها، فأبدت رأيها وعملت على نقل ما سردته جريدة القبس بتصرف. جريدة القبس بدورها قامت بنقل ما كانت قد نقلته صحيفة "الإصلاح" تحت عنوان "صدى جريح بيروت في بيروت":
"قالت الإصلاح ما نصة: "جريح بيروت". عنوان قصيدة عصماء نظمها حافظ أفندي ابراهيم على إثر اعتداء البوارج الطليانية على بيروت، وأودعها وصف حالة الجريح المحزنة وشكره منة البرنس عمر باشا طوسون وسائر الذين أحسنوا إلى المنكوبين، وقد سبق لنا فنشرنا هذه القصيدة في حينها. فاستحسن جوق أبيض وسلامة أن يتلو هذه القصيدة في أثناء تمثيله، فنالت استحسان الجمهور في مصر وفي سائر المدن السورية كبيروت وحيفا ويافا وحلب. ولما مر الجوق بدمشق لم يشاً أن يحرم الدمشقيين منها. فأعلن أنه سيتلوها بتلحين جميل بعد رواية روميو وجوليت، واكتظ المرسح بالخلق لسماعها.
ولكن حدث ما عكر صفو تلك الليلة، فإن الجوق أعلن أن والي سورية منع إلقاء القصيدة، فضج الناس وطلبوا صورة أمر المنع، فأجاب أنه شفاهي، وجاء أحد قوميسرية البوليس، فأيد صحة الأمر. وأعلن مدير الجوق أنه راجع الوالي فأصر على رفضه، فطلب الناس إعادة بدلات دخولهم، فقبل مدير الجوق بإرجاعها، ولكن كرم أخلاق الدمشقيين منعهم من قبولها. أما حجة والي سورية فكانت أن القصيدة تحدث تهيجاً مع أن منعها هو الذي أحدث الشغب وسوء التأثير. ويظهر أن امتداح إحسان البرنس عمر باشا طوسون كان سبب المصادرة للقصيدة، فنحن نجلّ طوسون باشا ولا ننسى له خدماته وكرمه الحاتمي في سبيل الدولة أثناء الحربين الأخيرتين، وغيرته نحو منكويي بيروت خاصة. ولسنا نرى في إشاعة تكليفه لولاية سورية ما يدفع إلى انتهاج هذه الخطة التي نرجو تعديلها، والسلام" (13).
من الإعلان عن حفل اختتام البرنامج المسرحي من قبل فرقة أبيض وحجازي نتعرف إلى أن المقصود بـ "جريح بيروت" هو المسرحية الشعرية التي تحمل هذا الاسم، ولا يتعلق الأمر بأية قصيدة شعرية. وأكدت "القبس" أنها ذات المسرحية التي قدمت لأول مرة في دار الأوبرا الخيديوية. لعل أمرالحديث المتكرر عن قصيدة حافظ ابراهيم يعود لالتباس يتعلق بالمصطلح المسرحي المناسب. رغم ذلك نترك الباب مفتوحاً لاحتمال أن يكون لحافظ ابراهيم قصيدة تحمل نفس عنوان المسرحية، ويمتدح فيها الأمير عمر طوسون، وكان مخططاً لها أن تتلى خلال العرض المسرحي. أما بالنسبة لموضوع الأمير عمر طوسون (1872 - 1943) فمجلة "الزهور" التي رافق مندوبها الخطوات التحضيرية لعرض الافتتاح في القاهرة لم تنشر اسمه بين المشاركين في تنظيم أو رعاية الحفلة، وما ورد في جريدة القبس حول هذه النقطة ليس له أساس من الصحة ويعود لاعتبارات أخرى.
لعل ما دفع جريدة "القبس" لإدخال اسم الأمير عمر طوسون في قضية "جريح بيروت" في دمشق، هي الإشاعات التي كانت تدور حينها بأن الحكومة كانت تريد تنصيب الأمير طوسون والياً لدمشق، فخيل لها أن هناك علاقة ما بين الأمير المصري وبين منع العرض، خاصة أنه كان قد قدّم إعانة سخية لمنكوبي بيروت ولاقى عمله هذا ترحيباً واسعاً بين السكان العرب. والي دمشق حينئذ، محمد عارف، كذب إشاعة ولاية عمر طوسون على صفحات "القبس" نفسها، قائلاً: "قرأنا في جريدتكم ... مقالة تحت عنوان تكليف ولاية سورية تتضمن شائعة تكليف البرنس عمر طوسون باشا ولاية سورية، نقلاً عن المقطم ولما كان هذا الخبر عار عن الصحة فيلزم تكذيب هذه الإشاعة في أول عدد يصدر من جريدتكم" (14). حتى لو صح الخبر فهذا لا يبرر أن يكون هو السبب كما ارتأت جريدة "الإصلاح"، أو أن يكون السبب الوحيد على الأقل. ومن جهة أخرى لم يكن لقضية "جمعية نهضة التمثيل الأدبي" الحيفاوية ومحاولاتها افتتاح فرع لها في دمشق من صلة تذكر مع إشاعة ولاية الأمير عمر طوسون وصدر الحكم بمنع عملها الفني في دمشق في ذات العام. في نفس العمود وتحت خبر التكذيب الذي أرسله الوالي محمد عارف باشا، والذي نشرته "القبس"، خبر آخر عن توقيف واعتقال النهضوي أحمد كرد علي، أحد موقعي رسالة التأييد الدمشقية للمؤتمر العربي الأول في باريس. جرى الاعتقال في "مرسح قهوة الجنينة" دون إغفال السب والشتم والضرب أثناء إتمام العملية البولبسية.
في تشرين الأول 1913، قبل عروض فرقة أبيض وحجازي كانت قد أرسلت شخصيات من مثقفي وسياسيي دمشق برقية إلى العاصمة تطالب فيها بالإصلاح. من بين الموقعين أسماء من أمثال: أحمد كرد علي، محمد كرد علي، شكري العسلي، فارس الخوري، عارف الشهابي، خليل مشاقة، عبد الرحمن الشهبندر، خير الدين الزركلي، جرجي الحداد، فخري بارودي، سليم البخاري، عبد الوهاب الإنكليزي،...إلخ. بمعنى أن المناخ السياسي العام في المدينة كان يتنفس روح معارضة قوية بتأثير الأجواء السياسية المتوترة التي كانت تمر بها المنطقة ككل مما دفع المفكرين والمثقفين العرب لعقد الصلات الوطنية فيما بينهم في المدن العربية المختلفة خاصة في شرق المتوسط.
يبدو أن الحكومة كانت تتهيب أي نشاط أو تأكيد على العروبة بين هذه المدن لاسيما بعد أن خمدت حماسة الأيام الأولى التي رافقت إعلان دستور 1908، لتبدأ الأصوات المطالبة بالإصلاح واللامركزية تعلو كل يوم أكثر فأكثر. ليس بخاف أن عرض العمل الفني "جريح بيروت" هو خير دليل ثقافي وفني على التواصل بين المدن العربية، والنص يستبطن وحدة المصير أمام القصف الاستعماري الذي يقف على ناصية شارع التاريخ. تجمع المسرحية المبادئ الأساسية لفكرة ومشاعر القومية العربية لتلك المرحلة، فتحتوي على مفاهيم الوطن بمواطنيه فـ "الدين لله والوطن للجميع"، اللغة العربية، التاريخ العربي، النهضة العربية، الشخصية العربية، التضامن العربي، التوجس من الغرب الاستعماري. فما كان أسهل من أن تمنع في مدينة كدمشق حركتها المسرحية ضعيفة وسلطتها السياسية مستبدة.


1- نشرت هذه المقالة في كتاب "يوميات مسرحية في الصحافة العربية (1897 - 1933)" ضمن مطبوعات مهرجان ممشق المسرحي الثالث عشر لعام 2006.
2- القبس، س 1، ع (35 - 1335)، دمشق، 8 تشرين الثاني 1913.
3- القبس، س 1، ع (36 - 1336)، دمشق، 9 تشرين الثاني 1913.
4- القبس، س 1، ع (36 - 1336)، دمشق، 9 تشرين الثاني، 1913.
5- القبس، س 1، ع (44 - 1344)، دمشق، 25 تشرين الثاني، 1913.
6- الزهور، س 3، ع 2، نيسان 1912.
7- صدر حكم الاعدام غيابياً بحق كثير من الأحرار والمثقفين والعلماء المتنورين العرب من أمثال رشيد رضا، حقي العظم، فارس نمر، شبلي الشميل، خليل مطران، خليل مشاقة، فؤاد الخطيب، حسن حماد، قسطنطين يني... راجع آل الجندي، أدهم، شهداء الحرب العالمية الكبرى، د. م، 1960.
8- أي العدد.
9- الزهور، س 3، ع 2، نيسان 1912.
10- نعرف من مجلة الزهور أن المسرحية من نظم كل من اسماعيل صبري وحافظ ابراهيم.
11- القبس، س 1، ع (43 - 1343)، دمشق، 24 تشرين الثاني، 1913.
12- القبس، س 1، ع (45 - 1345)، دمشق، 26 تشرين الثاني، 1913.
13- القبس، س 1، ع (48 - 1348)، دمشق، 30 تشرين الثاني 1913.
14- القبس، س 1، ع (43 - 1343)، دمشق، 24 تشرين الثاني 1913.